علمتنا حركة التاريخ أنّ القناعات السياسية والمنطلقات الإيديولوجية قابلة للتغيير و النسخ لكن ليس بالسرعة الزمنية التي نراها في الراهن العربي حيث يصبح المرء إشتراكيا و يمسي رأسماليّا، أو يمسي إسلاميا ويصبح متأمركا، أو يكون مؤمنا في هذه الدقيقة و يتحوّل إلى الكفر والإلحاد بعد نصف دقيقة.
و هذه الإضطرابات الفكريّة و سرعة الإنتقال من رؤية سياسية إلى أخرى مناقضة باتت صفة ملازمة للمسلكية العربية في التفاصيل السياسية والفكرية بل وفي كل التفاصيل.
و تنطبق هذه المقدّمة على العلاقة بين دولة الكويت و حزب الدعوة الإسلامية العراقي التي كانت في وقت سابق محكومة بكثير من التوتّر ثمّ تحوّل هذا التوترّ إلى علاقة تكامل تجسّد في الزيارة التي قام بها إبراهيم الجعفري الداعية رئيس الحكومة العراقيّة إلى الكويت حيث أستقبل بحفاوة بالغة. مبدئيّا تجب الإشارة إلى أنّ بين حزب الدعوة في عهد الشهيد والمفكّر العملاق محمّد باقر الصدر وحزب الدعوة في عهد الجعفري بون شاسع و بالتأكيد فإنّ الشهيد الصدر لو قام من قبره لرأى أنّ الدعاة من أتباعه لم يسمعوا بتاتا إلى محاضرته العملاقة عن حبّ الدنيا والتي يقول فيها بالحرف : لا تذمّوا هارون الرشيد، فلو أنّ أحدكم أتيح له ما أتيح لهارون الرشيد لكان أتعس من الرشيد. فالدعاة الذين أعقبوه لم ينهجوا نهج الرشيد فحسب بل نهجوا النهج الأمريكي الذي كتب عنه محمد باقر الصدر بإستفاضة بالغة في فلسفتنا وإقتصادنا والبنك اللاربوي في الإسلام عندما عرّى المدرسة الليبيرالية والتي تقف أمريكا على رأسها.
كما أنّ الدعوة بعد محمد باقر الصدر أصبحت دعوات، والأخطر من ذلك أنّ الذين قدموا الغالي والنفيس من أجل إسلامية العراق في عهد الطاغية العراقي صدام حسين وجدوا أنفسم في الصفوف الخلفية و إستفاد من الصفراء والبيضاء من كان في المؤخرّة، بل من لا يعتّد بجهاده ونضاله و لا في محنته، والعجيب أنّ محمد باقر الصدر كان إذا دخل على زوجته الفاضلة أم جعفر ويجدها إشترت نوعين من الفاكهة من أسواق النجف يقول لها : يا أمّ جعفر إتقّ الله كيف يكون في بيت محد باقر الصدر نوعان من الفاكهة، فكيف سألقى ربي جلّ في علاه، فماذا يقول دعاة اليوم الذين في بيوتهم ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفي أرصدتهم ما لا يرقى إليه تصوّر.
وقد أتهمّ حزب الدعوة العراقي في الثمانينات بمحاولة إغتيال ملك الكويت جابر الصباح في يوضح النهار وجرى إعتقال عشرات الدعاة وتبث للأجهزة الأمنية الكويتية أنّ حزب الدعوة تورطّ في محاولة إغتيال الملك الكويتي كردّة فعل على تسليم بعض الدعاة الذين كانوا في الكويت للسلطات العراقية التي كانت تربطها بالكويت في ذلك الوقت أوج الأواصر والعلاقات، وقد حاول حزب الدعوة إسترجاع مناضليه بخطف طائرة كويتية إنتهت بصفقة سياسية معروفة.
وإلى ما قبل الغارة الصدامية المشؤومة على الكويت كانت العلاقات متوترة بين الكويت وحزب الدعوة و الذي كان مدرجا في القائمة السوداء حيث فرّ رجالات حزب الدعوة العراقي من الكويت وتوجهّوا إلى لبنان وسوريا و إيران وأوروبا، و تعاطت الأجهزة الأمنية مع رجالات حزب الدعوة تماما كما تعاطت الأجهزة الأمنية البعثية مع عناصر حزب الدعوة الذين كان محكوما عليهم بالإعدام و أعدم المئات منهم بدءا بمؤسس حزب الدعوة المفكرّ والمرجع محمد باقر الصدر ومرورا بالشيخ عارف البصري رحمه الله إلى آخر عنصر في تنظيم الدعوة الذي تشتت بعد ذلك في إيران ولبنان وسوريا وأوروبا.
ويروي بعض عناصر حزب الدعوة الذين سجنوا في الكويت عقب محاولة إغتيال ملك الكويت الشيخ جابر الصباح والذين تمكنوا من الوصول إلى لبنان عقب إطلاق سراحهم أنّهم عذبوا عذابا نكرا لا يقدر عليه أصلب الرجال، و أكدّ هؤلاء عن وجود تنسيق كبير بين الأمن البعثي العراقي والأمن الكويتي في ذلك الوقت.
و بعد الغارة الصدامية المشؤومة على الكويت تقاربت المسافة السياسية بين الكويت وحزب الدعوة، و إحتضنت الكويت مجددا حزب الدعوة و أمدته بكل أسباب العون المادي واللوجستي، وتمّ فتح صفحة جديدة بينهما، حيث تأكدّ للكويت أنّ الخطر الحقيقي عليه هو الطاغية صدام حسين وليس معارضيه الذين ذاقوا الأمريّن على يديه.
ولأجل ذلك رحبّت الكويت بتعيين إبراهيم الجعفري على رأس الحكومة العراقية وإستقبلته بحفاوة بالغة يحظى بها الملوك والرؤساء الذين يزورون الكويت و التي لم تنس من وقف معها أثناء تعرضها للغزو الصدامي الباطل لأراضيها، وقدمّت قرضا بقيمة نصف مليار دولار لحكومة الجعفري الذي يشرف على حزب تورطّ في يوم من الإيام في محاولة إغتيال جابر الصباح في الكويت، أو أقلا تورطّ بعض عناصره في هذه المحاولة و التي لا يمكن للكويتيين أن ينسوها مطلقا بإعتبارها محاولة طاولت رمز الكويت الأوّل.


يحيى ابو زكريا