جراحة الإمام ثم أخرجه وإذا عليه بياض الدماغ فقال الطبيب بعد أن استعبر وبكى: إعهد عهدك يا أمير المؤمنين، فان الضربة وصلت إلى الدماغ(12).
قال محمد بن الحنفية: لما كانت ليلة إحدى وعشرين، جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم، ثم قال لهم: الله خليفتي عليكم، وهو حسبي ونعم الوكيل. وتزايد ولوج السم في جسده حتى نظرنا إلى قدميه وقد احمرتا جميعا، فكبر ذلك علينا وأيسنا منه. ثم عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبى أن يشرب، فنظرنا إلى شفتيه يختلجان بذكر الله، ثم نادى أولاده كلهم بأسمائهم واحدا بعد واحد، وجعل يودعهم وهم يبكون، فقال الحسن: ما دعاك إلى هذا؟ فقال أمير المؤمنين: يا بني إني رأيت جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله) في منامي قبل هذه الكائنة بليلة، فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذى من هذه الأمة، فقال لي: ادع عليهم. فقلت: اللهم أبدلهم بي شراً مني، وأبدلني بهم خيرا منهم، فقال لي رسول الله: قد استجاب الله دعاك، سينقلك إلينا بعد ثلاث. وقد مضت الثلاث، يا أبا محمد أوصيك ويا أبا عبد الله خيرا، فأنتما مني وأنا منكما. ثم التفت إلى أولاده الذين من غير فاطمة (عليها السلام) وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسين (عليه السلام) ثم قال: احسن الله لكم العزاء، ألا وإني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه، ولاحق بحبيبي محمد (صلى الله عليه وآله) كما وعدني، فإذا أنا مت فغسلني وكفني وحنطني ببقية حنوط جدك رسول الله، فإنه من كافور الجنة، جاء به جبرائيل إليه، ثم ضعني على سريري، ولا يتقدم أحد منكم مقدم السرير، واحملوا مؤخره واتبعوا مقدمه، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر، فحيث قام سريري فهو قبري، ثم تقدم يا أبا محمد وصل علي وكبر علي سبعا، واعلم أنه لا يحل ذلك على أحد غيري إلا على رجل يخرج من آخر الزمان اسمه القائم المهدي من ولد أخيك الحسين يقيم اعوجاج الحق. فإذا أنت صليت علي فنح السرير عن موضعه ثم اكشف التراب عنه، فترى قبرا محفورا، ولحدا مثقوبا وساجة منقوبة، فأضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري، فتفقدني فإنك لا تجدني وإني لاحق بجدك رسول الله (صلى الله عليه وآله) واعلم يا بني ما من نبي يموت وإن كان مدفونا بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا ويجمع الله عز وجل بين روحيهما وجسديهما، ثم يفترقان فيرجع كل واحد منهما إلى موضع قبره وإلى موضعه الذي حط فيه، ثم أشرج اللحد باللبن وأهِل التراب علي ثم غيب قبري.
وللإمام أمير المؤمنين وصية أخرى أوصى بها أولاده فقد روى الشيخ الصدوق في (من لا يحضره الفقيه) عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت وصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين أوصى إلى ابنه الحسن، واشهد على وصيته الحسين ومحمد بن الحنفية وجميع ولده ورؤساء أهل بيته وشيعته ودفع إليه الكتب والسلاح ثم قال: يا بني أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إلي رسول الله ودفع إلي كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعه إلى أخيك الحسين.
ثم أقبل على ابنه الحسين فقال: وأمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تدفعه إلى ابنك علي بن الحسين. ثم اقبل إلى ابنه علي بن الحسين فقال له: وأمرك رسول الله أن تدفع وصيتك إلى ابنك محمد بن علي، فأقرأه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومني السلام. ثم أقبل على ابنه الحسن فقال: يا بني أنت ولي الأمر بعدي وولي الدم فإن عفوت فلك، وإن قتلت فضربة مكان ضربة، ثم قال اكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصى(13) به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.. ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
أوصيكما بتقوى الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للأجر وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا.
أوصيكما.. وجميع ولدي وأهل بيتي، ومن بلغهم كتابي هذا من المؤمنين بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم.
أوصيكم بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن البغضة حالقة الدين ولا قوة إلا بالله، انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام لا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من عال يتيما حتى يستغني أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار، الله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، الله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، الله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروا، الله الله في الصلاة فإنها خير العمل وإنها عمود دينكم، الله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب ربكم، الله الله في صيام شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام هدى، ومطيع له مقتد بهداه، الله الله في ذرية نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم وأنتم تقدرون على المنع عنهم، الله الله في أصحاب نبيكم الذين لم يحدثوا حدثا ولم يؤوا محدثا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى بهم، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم، والمؤوي للمحدث، الله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، الله الله في النساء وما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن قال: أوصيكم بالضعيفين: نسائكم وما ملكت أيمانكم، ثم قال: الصلاة، الصلاة، الصلاة، ولا تخافن في الله لومة لائم، يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، قولوا للناس حسنا كما أمركم الله عز وجل، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم أشراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتباذل والتبار وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم، واستودعكم الله خير مستودع، واقرأ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
يا بني عبد المطلب: لا ألفيكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن بي إلاّ قاتلي انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور(14).
ثم عرق جبين الإمام فجعل يمسح العرق بيده، فقالت ابنته زينب: يا أبه أراك تمسح جبينك؟
قال: يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته، عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب وسكن أنينه.
فقامت (عليها السلام) وألقت بنفسها على صدر أبيها وقالت: يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء، وقد أحببت أن اسمعه منك.
فقال: يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً.
ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحسين (عليه السلام) وقال: يا أبا محمد ويا أبا عبد الله، كأني بكما وقد خرجت عليكما من بعدي الفتن من هاهنا وهاهنا فأصبرا حتى يحكم الله وهــو خيـــر الحاكمين، يا أبا عبد الله أنت شهيد هذه الأمة، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه.
ثم أغمي عليه وأفاق وقال: هذا رسول الله، وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله، كلهم يقولون: عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون.
ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال: استودعكم الله جميعاً،حفظكم الله، سددكم الله جميعاً، وهو خليفتي عليكم، وكفى بالله خليفة، ثم قال: وعليكم السلام يا رسل ربي،(لمثل هذا فليعمل العاملون)(15)، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)(16).
ومازال يذكر الله، ويتشهد الشهادتين، ثم استقبل القبلة، وغمض عينيه ومدد رجليه ويديه وقال: أشـــهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
ثم قضى نحبه وفاضت روحه الطاهرة، ولقي ربه شهيدا مظلوما. رحم الله من نادى وا إماماه وا علياه وا سيداه.
لهفـــــي لزيــــنب تـــدعو وهي حاسرة***قد غاب واسوء حالي في الثرى قمري
لهـــــفي لشـــــبليه كـــــلا بــــاكيا ولها***مـــــن بــــعد جـــودك في الدنيا لمفتقر
يــــا نــفس ذوبي أسا يا قلب ذب كمدا***يــا أرض موري عـليه يا سما انفطري
وألقت بناته بأنفسهن عليه ونادين: وا أبتاه وا علياه.
فعند ذلك صرخت زينب بنت علي وأم كلثوم وجميع نسائه وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود، وارتفعت الصيحة، فعلم أهل الكوفة أن أمير المؤمنين قد فارق الحياة، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجا، وصاحوا صيحة عظيمة فارتجت الكوفة بأهلها، وكثر البكاء والنحيب والضجيج بالكوفة وقبائلها وجميع بيوتها، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتغير أفق السماء، وسمع الناس أصواتا وتسبيحا في الهواء، واشتغلوا بالنياحة على الإمام.
روى العلامة المجلسي في بحار الأنوار عن محمد بن الحنفية انه قال: ثم أخذنا بجهازه ليلاً وكان الحسن يغسله والحسين يصب الماء عليه وكان لا يحتاج إلى من يقلبه بل كان يتقلب كما يريد الغاسل يمينا وشمالا وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك والعنبر، ثم نادى الإمام الحسن أخته زينب وقال: يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم لفوا الإمام (عليه السلام) بخمسة أثواب كما أمر، ثم وضعوه على السرير وتقدم الحسن والحسين (عليه السلام) إلى السرير من مؤخره، وإذا مقدمه قد ارتفع ولا يرى حامله، وكان حامله من مقدمه جبرائيل وميكائيل وسارا يتعقبان مقدمه.
ولــــم أدر لمــــا أن ســــرى في نعشه***وحـــــفت بـــه إبــــــنا لــؤي بن غالب
هــــو الــمرتضى في نـــعشه يحملونه***أم العرش ســـــاروا فـيه فوق المناكب
قال محمد بن الحنفية: لقد نظرت إلى السرير فما مر بشيء على وجه الأرض إلا انحنى له، ومضوا به إلى النجف إلى موضع قبره الآن، وضجت الكوفة بالبكاء والعويل وخرجت النساء يتبعنه لاطمات حاسرات، فمنعهن الحسن وردهن إلى أماكنهن، هذا والحسين ينادي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، وا أبتاه وا انقطاع ظهراه من أجلك تعلمت البكاء إلى الله المشتكى.
فلما انتهيا إلى قبره وإذا مقدم السرير قد وضع فوضع الحسن والحسين مؤخره، ثم قام الحسن وصلى عليه والجماعة خلفه وكبر سبعا كما أمره أبوه (عليه السلام). ثم زحزحنا سريره وكشفنا التراب وإذا نحن بقبر محفور ولحد مشقوق وساجة منقورة، مكتوب عليها: هذا ما ادخره له جده نوح النبي للعبد الصالح الطاهر المطهر(17). فلما أرادوا إنزاله سمعوا هاتفا: أنزلوه إلى التربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب. فدهش الناس وألحدوا أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل طلوع الفجر.
وقـــد دفـــــنوا فــي قـبره الدين والتقى***وبــــــدرا يجـــــلي داجـــيات الـغياهب
وضـــــلت يـــــتامى المـــسلمين نوادبا***تحـــــن حـــــنـــين اليعملات السواغب
ولما فرغوا من دفن أمير المؤمنين (عليه السلام) قام صعصعة بن صوحان يؤبن الإمام بهذه الكلمات، فوقف على القبر ووضع إحدى يديه على فؤاده والأخرى قد أخذ بها التراب وضرب به رأسه ثم قال: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين، هنيئا لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم جهادك، وظفرت برأيك، وربحت تجارتك، وقدمت على خالقك فتلقاك ببشارته، وحفتك ملائكته، واستقررت في جوار المصطفى، فأكرمك الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيك المصطفى، وشربت بكأسه الأوفى فاسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرك، والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك، فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه أحد، وجاهدت في سبيل ربك بين يدي أخيك المصطفى حق جهاده، وقمت بدين الله حق القيام حتى أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام وانتظم الإيمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام، بك اعتدل ظهر المؤمنين واتضحت أعلام الســــبل، وأقيمت الســـنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك، سبقت إلى إجابة النبي (صلى الله عليه وآله) مقدما مؤثرا، وسارعت إلى نصرته، ووقيته بنفسك ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بك كل جبار عنيد، وذل بك كل ذي بأس شديد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى، وقتل بك أهل الضلال من العدى، فهنيئا لك يا أمير المؤمنين كنت اقرب الناس من رسول الله قربى وأولهم سلما وأكثرهم علما وفهما.
فهنيئا لك يا أبا الحسن، لقد شرف الله مقامك، وكنت اقرب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) نسبا، وأولهم إسلاما، وأوفاهم يقينا، وأشدهم قلبا، وأبذلهم لنفسه مجاهدا، وأعظمهم في الخير نصيبا، فلا حرمنا الله أجرك، ولا ذلنا بعدك، فوالله لقد كانت حياتك مفاتح للخير ومغالق للشر، وإن يومك هذا مفتاح كل شر ومغلاق كل خير، ولو أن الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة.
ثم رثا أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذه الأبيات:
ألا، مــــــن لــــــي بــــــأنـــسك يا أخيا***ومـــــن لـــــــي أن أبـــــثك مـــــا لــديا
طوتــــــك خــــــطوب دهــــر قـــد تولى***لــــــذاك خطــــــوبه نـــــــشرا وطـــــيا
فـــــلو نـــــشرت قـــــواك لــي المــنايا***شــــــكوت إليـــــــك مـــــا صــنعت إليا
بــكيـــــتك يــــــا عــــــلي بــــدر عيـني***فــــــلم يـــــغن الـــــبكاء عـــــليك شـيا
كــــــفى حـــــزنا بدفــــــنك ثــــم إنـــي***نفـــــضت تـــراب قبـــــرك مــــن يــديا
وكـــــانت فـــي حـــــــياتك لـــي عــظاة***وأنــــــت اليــــــوم أوعـــــظ مــنك حيا
فــــــيا أســـــفي علـــــيك وطول شوقي***ألا لــــــــو أن ذلــــــــــك رد شــــــيــــا
بعد دفن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) رجع الحسنان ومعهما من خواصهما وأهل بيتهما جماعة، فمروا على خربة في الكوفة فسمعوا أنينا فاقتفوا أثره، فإذا به رجل قد توسد لبنة وهو يحن حنين الثكلى الوالهة؛ فوقف عنده الحسن والحسين وسألاه عن حاله فقال: إني رجل غريب، لا أهل لي قد أعوزتني المعيشة وأتيت إلى هذه البلدة منذ سنة، وكل ليلة يأتيني شخص إذا هدأت العيون، بما اقتات به من طعام وشراب ويجلس معي يؤنسني ويسليني عما أنا فيه من الهم والحزن، وقد فقدته منذ ثلاثة أيام.
فقالا له وهما يبكيان: صفه لنا.
فقال: إني مكفوف البصر لا أبصره.
فقالا: ما اسمه؟
قال: كنت أسأله عن اسمه فيقول: إنما أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة.
فقال: اسمعنا من حديثه.
قال: دأبه التسبيح والتقديس والتكبير والتهليل، وإن الأحجار والحيطان تجيب بإجابته وتسبح بتسبيحه.
فقالا: هذه صفات سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).
عــــليـــك أميـــــر المــــؤمنين تـأسفي***وحزنــــــي وإن طــــــال الـزمان طويل
مصـــــاب أصيـــــب الــدين منه بفادح***تــــــكاد لــــــه شــــــــم الجـــبال تزول
فــــليـــس بمجد فيك وجـــدي ولا البكا***مفـــــــيد ولا الصــــــبر الجــميل جميل
فقال الرجل: ما فعل الله به.
فقالا (عليهما السلام) وهما يبكيان: قد افجعنا فيه أشقى الأشقياء ابن ملجم، وها نحن راجعون من دفنه.
فلما سمع الرجل ذلك منهما لم يتمالك دون أن رمى بنفسه على الأرض وجعل يضرب برأسه الصخور، ويحثو على رأسه التراب، ويصرخ صراخ المعولة الفاقدة، فأبكى من كان حاضرا.
وإن ســــــئم الــــباكون فــــيك بكاءهم***مـــــلالا فـــــــإني للــــــبكاء مطـــــــيل
ومـــــا هـــي إلا فـــــيك نــــفس نفيسة***يجــــــللها حــــــر الأســـــى فــــتسـيل
علــــــيك ســـلام الله ما اتضح الضحى***ومـــــا عـــاقبت شمـــس الأصيل أفول
ثم قال لهم: بالله ما اسمكما واسم أبيكما؟
فقالا له: أبونا أمير المؤمنين (عليه السلام) علي بن أبي طالب، وأنا الحسن وهذا أخي الحسين وهؤلاء بقية أولاده وأقربائه، وجملة من أصحابه راجعين من دفنه.
فقال: سألتكما بالله وبجدكما رسول الله وأبيكما ولي الله إلا ما عرجتما بي على قبره لأجدد به عهدا فقد تنغص عيشي بقتله، وتكدرت حياتي بعد دفنه.
فأخذه الحسن (عليه السلام) بيده اليمنى والحسين بيده اليسرى والناس من وراءهما بالبكاء والعويل، حتى أتوا إلى قبره المنور، فجثى عليه ذلك الرجل وجعل يمرغ جسمه عليه، ويحثو التراب على رأسه حتى غشي عليه، وهم حوله يبكون وقد أشرفوا على الهلاك من كثرة البكاء والنحيب.
فلما أفاق من غشوته رفع كفيه إلى السماء وقال: اللهم إني أسألك بحق من سكن هذه الحفرة المنورة أن تلحقني به وتقبض روحي إليك، فإني لا أقدر على فراقه. فاستجــاب الله دعاءه، فما وجدوه إلا مثل الخشبة الملقاة، فجهزوه ودفنوه بجنب أمير المؤمنين (عليه السلام) (18).
وجاء في ناسخ التواريخ:لما توفي أمير المؤمنين خرج الإمام الحسن (عليه السلام) واعتلى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لقد قبض الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، ولم يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقيه بنفسه، وكان رسول الله يوجهه برايته، فيكفيه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه، ولقد توفي في الليلة التي نزل فيها القرآن، وعرج فيها بعيسى ابن مريم، والتي قبض فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطيته أراد أن يبتاع بها خادما لأهله. ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
عــــليك أميـــــر المـــــؤمنين تـــأسفي***وحزنـــــي وان طـــــال الـــزمان طويل
جلـــــلت فجـــل الرزء فيك على الورى***كــــــذا كـــــل رزءٍ للجــــلــيل جـــــليل
مصــــاب أصيــــب الــــدين منه بفادح***تـكـــــاد شـــــــم الجـــــــبال تــــــــزول
فلـــــيس بمـــــجد فيك وجدي ولا البكا***مفــــــيد ولا الصـــــبر الجــــميل جميل
وان ســــــئم البـــــاكون فيــــك بـكائهم***مــــــلالاً فـــــإني لـــلبــــــكاء مطـــــيل
فمـــــا خــف مـــن حزني عليك تفجعي***ولا جـــــف مـــــن دمــعي عليك مسيل
ويــــــنكر دمـــــعي فـــيك من بات قبله***خـــــلياً ومـــا دمــــع الخــــلي هطــول
الهوامش
1 - السيد جعفر الحلّي.
2 - وفاة الإمام أمير المؤمنين: للشيخ علي الخطي.
3 - وفاة الإمام أمير المؤمنين.
4 - نفس المصدر.
5 - وفاة الإمام أمير المؤمنين.
6 - سورة طه: الآية 55.
7 - سورة الأحزاب: الآية 22.
8 - مجموعة وفيات الأئمة.
9 - أصول الكافي للكليني.
10 - وفاة الإمام أمير المؤمنين.
11 - بحار الأنوار: ج42 ص204.
12 - وفاة الإمام أمير المؤمنين.
13 - إن الوصية ذكرها أصحاب السير والمؤرخون منهم: أبو الفرج الإصفهاني في مقاتل الطالبيين والطبري في تاريخه، والمجلسي في بحار الأنوار والأميني في أعيان الشيعة وابن شعبة في تحف العقول وغيرهم ونذكر هنا بعد الجمع بين هذه الكتب مع اختلاف بسيط في الألفاظ والعبارات.
14 - نهج البلاغة.
15 - سورة الصافات: الآية 61.
16 - سورة النحل: الآية 128.
17 - بحار الأنوار.
18 - وفاة الإمام أمير المؤمنين.