الدكتور احمد راسم النفيس
النخبة المختارة
قال امير المؤمنين، الامام علي بن ابي طالب (ع): «اللهم بلى، لا تخلو الارض من قائم للّه بحجة، اما ظاهرا مشهورا، اوخائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج اللّه وبيناته، وكم ذا واين اولئك؟ واللّه الاقلون عددا، الاعظمون عند اللّه قدرا، يحفظ اللّهبهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب اشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشرواروح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وانسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بابدان ارواحها معلقة‏بالمحل الاعلى، اولئك خلفاء اللّه في ارضه والدعاة الى دينه، آه آه شوقا الى رؤيتهم!»

يتحدث الامام علي (ع) عن نخبة فريدة تحمل هموم الامة المسلمة، انهم نخبة، بالمصطلح المعاصر، لانهم الاقلون‏عددا، ولكنهم نخبة ربانية اختارتها الارادة الالهية لتحمل عب‏ء الحفاظ على حجج اللّه وبيناته حتى يودعوها ويزرعوهافي قلوب اشباههم. تلك النخبة المختارة المتحلقة حول امام الزمان المنصوب من عند اللّه هي واسطة العقد في اطروحة التغيير عند اتباع‏مدرسة اهل البيت، ولا شك في ان كميل بن زياد النخعي كان واحدا من هذه النخبة العظيمة التي هجم بها العلم الرباني‏على حقيقة البصيرة، وباشرت روح اليقين، فاستلانت ما استوعره
المترفون من معارف ثقيلة على نفس لم تخبت للّه ولم‏تخشع لرب الارض والسماء نفس مترفة (واتبع الذين ظلموا ما اترفوا فيه وكانوا مجرمين) [هود 11/116].

انها ليست وعورة الملبس والفراش، انها وعورة الطريق الى اللّه وصعوبة احتمال الحق والصدع به في مواجهة مجتمعات ‏فسق فيها مترفوها فحق عليها القول: (واذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناهاتدميرا) [الاسراء: 17/16].

لا نشك في ان كميل بن زياد النخعي، صاحب الرواية وتلميذ امير المؤمنين (ع)، كان من طلائع هذه النخبة المتقدمة ‏ممن هجم بهم العلم الحقيقي على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وانسوا بمااستوحش منه الجاهلون. ومن ثم، فالتاريخ لقضية التغيير، في مدرسة اهل البيت، يبدا في موعد مبكر عن التاريخ للمسالة نفسها في فكر سيدقطب، ولاسباب تختلف تماما عن الاسباب المودعة في ملف تلك القضية عند مدرسة «الاخوان المسلمين‏» التي نبت‏فيها سيد قطب زاد ام نقص، فالكل يسقى بماء واحد، وان اختلف بعضها على بعض في الاكل. من هنا نلج الى قضية التغيير عند الامام الشهيد محمد باقر الصدر مقارنة بما اورده سيد قطب ممثلا للمدرسة
الفكرية‏المقابلة.

ركائز مفهوم سيد قطب

1- حتمية اعادة وجود الامة الاسلامية

يرى سيد قطب ان الامة الاسلامية قد انقطع وجودها منذ قرون كثيرة، لانها ليست ارضا كان يعيش فيها الاسلام، وليست‏قوما كان اجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الاسلامي، فالامة المسلمة جماعة من البشر تنبثق‏حياتهم وتصوراتهم واوضاعهم وانظمتهم وقيمهم
جميعها من المنهج الاسلامي. وهذه الامة، بهذه المواصفات، قدانقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة اللّه من فوق ظهر الارض جميعا، ولا بد من اعادة وجود هذه الامة لكي يؤدي‏الاسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة اخرى .

2- العالم يعيش اليوم في جاهلية معاصرة

ان العالم كله يعيش اليوم، من ناحية الاصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وانظمتها، في جاهلية لا تخفف منها شيئاهذه‏التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الابداع المادي الهائل .

3- طريق بعث الامة الاسلامية

يرى سيد قطب انه لا بد من بعث اسلامي، وانه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة وتمضي في الطريق، تمضي في خضم‏الجاهلية الضاربة الاطناب في ارجاء الارض جميعا، تمضي وهي تزاول نوعا من العزلة، من جانب، ونوعا من الاتصال‏من جانب آخر بالجاهلية المحيطة.
ويمضي سيد قطب ليزيد الامور ايضاحا فيقول: «لا بد لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من معالم في الطريق، معالم‏تعرف منها طبيعة دورها وحقيقة وظيفتها وصلب غايتها ونقطة البدء في الرحلة الطويلة، كما تعرف منها طبيعة موقفهامن الجاهلية الضاربة الاطناب في الرحلة الطويلة‏» . اذن فالامة كانت موجودة ولم تعد، متى انقطع وجودها؟؟ يجيبنا سيد قطب فيقول: «يوم ان توقف العمل باحكام‏الشريعة الاسلامية‏». متى توقف العمل باحكام الشريعة الاسلامية؟ لا يجيبنا سيد قطب عن هذا السؤال، ولا اجابنا غيره،بالرغم من
اهمية هذا السؤال المطلقة. وبناء على ما تقرر، ولا ندري كيف تقرر، فاننا نعيش في جاهلية معاصرة. ولانه، رحمه اللّه، لم يجبنا عن السؤال الاول:متى انتهى العمل باحكام الشريعة الاسلامية؟ فلا هو ولا تلامذته بامكانهم الاجابة على معنى كلمة «معاصرة‏»، وعلينا ان‏نبقيها
الى مفاوضات الحل النهائي، هذا اذا ما بقي شي‏ء نتفاوض عليه.

4- المثل الاعلى للامة الاسلامية‏ و الصحابة جيل قرآني فريد

ينطلق سيد قطب، رحمه اللّه، في تصوره للامة التي كانت، وللطليعة التي ينبغي ان تكون حتى تعود الامة للوجود من‏جديد، من رؤيته للصدر الاول للاسلام، فهو يرى ان رجالات تلك المرحلة، اي الصحابة، كانوا يشكلون جيلا قرآنيافريدا لابد من السير على خطاه من اجل بعث الامة الاسلامية الفقيدة من جديد، فيقول: «لقد خرجت هذه الدعوة جيلا من الناس، جيل الصحابة رضوان اللّه عليهم، جيلا مميزا في تاريخ الاسلام كله وفي تاريخ‏البشرية جميعه، ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة اخرى. نعم وجد افراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ، ولكن لم‏يحدث قط ان
تجمع مثل ذلك العدد الضخم في مكان واحد، كما وقع في الفترة الاولى من حياة هذه الدعوة‏» .ما هو سبب هذا التفرد؟ السبب يتمثل في ان النبع الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن.. القرآن وحده، اذن، هوالنبع الذي يستقون منه ويتخرجون عليه ذلك الجيل
استقى اذن من ذلك النبع وحده، فكان له في التاريخ ذلك‏الشان الفريد.. ثم ما الذي حدث؟ اختلطت الينابيع بفلسفة الاغريق واساطير الفرس وتصوراتهم واسرائيليات اليهودولاهوت النصارى، وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الاجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل ابدا.

العامل الاخر هو ان الصحابة، اي الجيل الاول، كانوا يقراون القرآن، كمن يتلقى الامر ليعمل به فور سماعه كما يتلقى‏الجندي في الميدان الامر اليومي ليعمل به فور تلقيه، وهو ما اسماه منهج التلقي العامل الثالث لتفرد هذا الجيل، من وجهة نظر سيد قطب، هو
العزلة الشعورية الكاملة بين ماضي المسلم في جاهليته‏وحاضره في اسلامه، تنشا عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل‏تماما عن بيئته الجاهلية، واتصل نهائيا ببيئته الاسلامية، حتى ولو كان ياخذ من بعض المشركين ويعط‏ي في عالم التجارة‏والتعامل اليومي، فالعزلة الشعورية شي‏ء والتعامل شي‏ء آخر . ثم يخلص سيد قطب الى القول: «نحن، اليوم، في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الاسلام او اظلم، فلا بد اذن من ان‏نرجع ابتداء الى النبع الخالص الذي استمد منه اولئك الرجال، النبع المضمون، انه لم يختلط ولم تشبه شائبة، نرجع اليه ‏نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الانساني، ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل للحق‏» .

5- اعادة اعتناق لا اله الا اللّه من جديد

ثم ينتقل سيد قطب الى تقرير نقطة البدء في العمل الاسلامي المعاصر، فيقول: «كذلك ينبغي ان يكون مفهومالاصحاب‏الدعوة الاسلامية انهم حين يدعون الناس لاعادة انشاء هذا الدين يجب ان يدعوهم، اولا، الى اعتناق العقيدة حتى لوكانوا يدعون انفسهم مسلمين وتشهد لهم شهادات الميلاد انهم مسلمون، يجب ان يعلموهم ان الاسلام هو، اولا، اقرارعقيدة لا اله الا اللّه بمدلوله الحقيقي، وهو رد الحاكمية للّه في امرهم كله وطرد المعتدين على سلطان اللّه بادعاء هذاالحق لانفسهم. ولتكن هذه القضية هي اساس دعوة الناس الى الاسلام اول مرة، فاذا دخل في هذا الدين، بمفهومه هذاالاصيل، عصبة من الناس فهذه العصبة هي التي يطلق عليهم اسم المجتمع المسلم، الذي يصلح لمزاولة النظام‏الاسلامي في حياته الاجتماعية، لانه قرر بينه وبين نفسه ان تقوم حياته كلها على هذا الاساس والا يحكم في حياته كلهاالا اللّه» .

6- ضرورة تبلور هذا المشروع العقدي في اطار تنظيمي وحركي

يقول سيد قطب: «ان العقيدة الاسلامية يجب ان تتمثل في نفوس حية وفي تنظيم واقعي، وفي تجمع عضوي، وفي‏حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها، كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس اصحابها، بوصفهم كانوا من اهل‏الجاهلية قبل ان تدخل العقيدة الى نفوسهم وتنتزعها من الوسط الجاهلي‏». ويضيف: «ومرة اخرى، اكرر ان التصور الاعتقادي يجب ان يتمثل من فوره في تجمع حركي، وان يكون التجمع
الحركي،في الوقت ذاته، تمثيلا صحيحا وترجمة للتصور الاعتقادي‏» . ويكرر سيد قطب، بعد ذلك، اصراره على ان تتمثل نظريته عن الحاكمية في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الاولى:«لم يكن بد من ان ينشا تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع
الجاهلي منفصل ومستقل عن التجمع العضوي‏الحركي...تجمع يخدم الفكرة الاساس، وهي عودة العباد لرب العباد واخراجهم من عبادة العباد الى عبادة اللّه وحده،باخراجهم من سلطان العباد في حاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم الى سلطان اللّه وحاكميته وشريعته وحده في‏كل شان من
شؤون الحياة‏».

7- تطبيق الشريعة الاسلامية امر سهل وميسور

ثم يفصل لنا رؤيته عن طبيعة الحاكمية وطريقة الوصول اليها فيقول: «ومملكة اللّه في الارض لا تقوم بان يتولى الحاكمية‏في الارض رجال باعيانهم، ورجال الدين كما كان الامر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الالهة كما كان الحال‏في ما يعرف باسم الثيوقراطية، او الحكم الالهي المقدس، ولكنها تقوم بان تكون شريعة اللّه هي الحاكمة وان يكون‏مردالامر الى اللّه وفق ما قرره من شريعة مبينة‏». ودين اللّه ليس غامضا ومنهجه في الحياة ليس مائعا، فهو محدد بشطر الشهادة الثاني: «محمد رسول اللّه»، في ما بلغه‏رسول اللّه (ص) من النصوص والاصول، فان كان هناك نص فالنص هو الحكم ولا اجتهاد مع النص، وان لم يكن هناك نص، فهنا يجي‏ء دور الاجتهاد وفق الاصول المقررة في منهج اللّه نفسه لا وفق الاهواء والرغبات (فان تنازعتم في‏شي‏ءفردوه الى اللّه والرسول) [النساء: 4/59]. والاصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة كذلك ومعروفة وليست‏غامضة ولا مائعة . كيف نحكم بما انزل اللّه؟ ان الالحاح على قضية الحاكمية الالهية، وانها وحدها التي تجعل من شهادة ان «لا اله الا اللّه» ذات مفهوم حقيقي،واي‏مفهوم غير ذلك هو جاهلية معاصرة، يستغرق القسم الاكبر من كتاب سيد قطب: «معالم في الطريق‏». اما الجانب‏العملي من هذه القضية، وهو: كيف نحكم بما انزل اللّه؟ فهذه مسالة لا تحتاج اكثر من ثلاثة اسطر من فكر رجل، كان ولايزال، من اهم الشخصيات في التاريخ الاسلامي المعاصر.

رحم اللّه سيد قطب، فقد اتعبنا واوجع قلوبنا على الاسلام السليب، واثار فينا الحماسة لاقامة الحكومة الاسلامية،وعندما وصلنا الى نقطة الحسم وقمة الاثارة لم نجد شيئا، وكان الجواب: ان شريعة الاسلام واضحة ومعروفة، وقواعدالاسلام مقررة، ولا اجتهاد مع النص، والاسلام هو الحل .. فها نحن مضطرون، اذا اردنا ان نعمل باحكام الشريعة الاسلامية لتصبح الحاكمية للّه وتزول دولة الطواغيت، لان
نرجع‏الى «وعاظ السلاطين‏» الذين جعلوا القرآن عضين، لنسالهم عن حكم اللّه في هذه المسالة او تلك، فماساة الامة‏الاسلامية اقتصرت على الحكام وحدهم، ولم تمتد على الاطلاق الى مباني الامة الفقهية والاخلاقية، والمشكلة محصورة في «الطواغيت‏» الذين يمنعون تطبيق
الشريعة الاسلامية التي يقوم على حراستها كوكبة من «وعاظ السلاطين‏»الذين لم يفتوا يوما بالباطل، ولا اسهموا في ارساء
بناء الطواغيت ولا تسويغ افعالهم وجرائمهم ولا وضعوا الاحاديث‏ولا كذبوا على اللّه ورسوله!؟ انه تصور في غاية السذاجة والتبسيط يغفل حركة الامة الاسلامية ومسارها التاريخي منذ بعثة محمد بن عبداللّه (ص)والى يومنا هذا، ويختصر اوجاع الامة وآلامها في كلمة
واحدة هي غياب الشريعة الاسلامية من الساحة، ويقترح‏حلامكونا من عبارة واحدة هي «تطبيق الشريعة الاسلامية‏»، ولا نقلل من قيمة الشريعة ولا من اهمية تطبيقها، ولكننا لايمكننا ان نتغاضى عن تلك العوامل المعقدة والمتعددة التي اوصلت الامة الى حالتها الراهنة.

اهمية قراءة فكر الشهيد الصدر انه، ايضا، تصور يغفل ان الامة الاسلامية كانت حلقة من حلقات التطور والتغيير في مسار البشرية كلها. من هنا تاتي‏اهمية قراءة الشهيد الصدر فكرا واسلوبا وفلسفة لا تستخدم تلك المصطلحات المباشرة التي استخدمها سيد قطب‏حتى انه يخيل للقارى انه يتعامل مع مادة مختلفة، فماذا قال الشهيد الصدر في كتابه: «المدرسة القرآنية‏»؟ نظرية التغيير عند الشهيد الصدر تستند نظرية التغيير عند الشهيد الصدر الى عدة ركائز، نتحدث عنها في ما ياتي:

1- حركة التاريخ غائية سببية

تتميز حركة التاريخ عن جميع الحركات الاخرى بانها حركة غائية لا سببية فقط، انها ليست مشدودة الى سببها، الى‏ماضيها فحسب، بل هي مشدودة الى الغاية، لانها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة الى المستقبل، فالمستقبل هوالمحرك لاي نشاط من النشاطات التاريخية، والمستقبل معدوم فعلا، وانما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي‏يتمثل فيه هذا المستقبل .

2- اهمية المحتوى الداخلي للانسان

يرى الشهيد الصدر(قدس سره) ان المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس لحركة التاريخ والبناء الاجتماعي العلوي‏بكل ما يضم من علاقات، ومن انظمة، ومن افكار وتفاصيل. هذا البناء العلوي يرتبط بهذه القاعدة ويكون تغيره وتطوره‏تابعا لتغير هذه القاعدة وتطورها، فاذا تغير الاساس تغير البناء العلوي، واذا بقي الاساس ثابتا بقي البناء العلوي ثابتا.فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للانسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع هي علاقة تبعية، علاقة سبب بسبب (ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم) [الرعد: 13/11]، فالاية تتحدث عن تغييرين: احدهما

تغيير القوم (ان اللّه لا يغيرما بقوم) يعني تغيير اوضاع القوم، شؤون القوم، الابنية العلوية للقوم، ظواهر القوم، وهي لا تتغير حتى يتغير ما بانفسهم. فالمحتوى النفسي والداخلي للامة، بوصفها امة، لا لهذا الفرد او ذاك، هو الذي يعد اساسا وقاعدة للتغييرات في البناءالعلوي
للحركة التاريخية كلها. والاسلام والقرآن الكريم يؤكدان ان البناء الداخلي للانسان يجب ان يسير جنبا الى جنب مع البناء الخارجي، مع بناءالابنية العلوية. ولهذا سمى الاسلام عملية بناء المحتوى الداخلي، اذا اتجهت اتجاها صالحا، بالجهاد الاكبر، وسمى عملية البناءالخارجي
بالجهاد الاصغر، وربط بين الجهاد الاصغر والجهاد الاكبر، فاذا فصل الجهاد الاصغر عن الجهاد الاكبر فقد محتواه وفقد مضمونه وفقد قدرته على التغيير الحقيقي على الساحة التاريخية والاجتماعية .

3- المثل الاعلى

ان الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الاعلى، وهي تنبثق عن وجهة نظر رئيسية الى مثل اعلى للانسان في‏حياته، وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية، وينبثق عنه الهدف الجزئي. فالغايات بنفسها محركات‏للتاريخ، وهي بدورها نتاج لقاعدة اعمق منها في المحتوى الداخلي للانسان، وهو المثل الاعلى الذي تتمحور فيه‏جميع تلك الغايات، وتعود اليه جميع تلك الاهداف. اذن المثل الاعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية، والقرآن الكريم يطلق على المثل الاعلى‏في جملة من الحالات اسم الاله، باعتبار ان المثل الاعلى هو القائد
الامر المطاع والموجه .

تباين الرؤيتين
هذه الركائز الثلاث تتباين بوضوح تام مع ما يطرحه «سيد قطب‏» في معالمه للطريق، ويتمثل هذا التباين في ما ياتي:

اولا: ان الحركة الغائية للتاريخ تختلف بصورة جذرية عن التصور القائل بالعودة الى ما كانت عليه الامة في عصر ذلك‏الجيل القرآني الفريد (جيل الصحابة)، فمسيرة الامة مسيرة تكاملية متواصلة، والعودة الى الوراء، او الى نماذج تاريخية‏ذاهبة، امر مستحيل، فنحن في انتظار عودة جديدة للدين لا ترتبط حرفيا بذلك الانموذج الذاهب، بل هي عودة جديدة‏بقيادة جديدة واساليب جديدة، وان بقي المضمون واحدا، وهو الاسلام.

ثانيا: ان علة انهيار «الدولة الاسلامية‏» تكمن في العطب الذي اصاب البناء الداخلي لهذه الامة وليست في الغزو الثقافي‏الخارجي، ولا في اختلاط الثقافات الفارسية والاغريقية او اليهودية الى آخر هذا الكلام الساذج الذي يفتقر الى دليل،فعملية تمزيق الامة الاسلامية بدات على ايدي اناس من ذلك (الجيل القرآني الفريد) الذي يتحدث عنه سيد قطب،وقد تم ذلك يوم الجمل ويوم صفين، لان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ويزحزحوا مبادئهم واخلاقياتهم لتصبح ذات‏افانين والوان، مثلما فعل قادة حزب الجمل، ونعني بكل تاكيد قادة الناكثين لبيعتهم، فضلا عن اولئك الساكتين‏والمعوقين والمرجفين في المدينة والقائلين لاخوانهم: «هلموا الينا»، ولا ياتون الباس الا قليلا، والقائلين: «لا مساس‏»،على شاكلة ابي موسى الاشعري والاشعث بن قيس، وجميعهم، وفقا لنظرية سيد قطب، من ذلك الجيل القرآني الفريدالذي تربى من ذلك النبع الصافي، وكانوا يتلقون الامر القرآني تلقي الجندي لامر القتال اليومي! انه بناء داخلي قد انهار على يد اصحابه، ولا بد من مواجهة الحقائق كما هي، لا كما نتمنى ان نراها.
ومن هذه النقطة(البناء الداخلي) لا بد من ان يبدا الانطلاق. ثالثا: قضية المثل الاعلى ترتبط ارتباطا متسلسلا بالركيزتين:
غائية الحركة والمحتوى الداخلي، فالامة الاسلامية التي‏نعتقد نحن انها بقيت اسلامية ولم تختف من الوجود قد تبنت مثلا عليا من النوع الاول في تصنيف الشهيد الصدر(رضوان اللّه عليه) «الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه، ويكون منتزعا من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظروف‏وملابسات‏»

وهذا ما حدث بالفعل بعد استيلاء بني امية على مقاليد السلطة في العالم الاسلامي، حيث نجحوا في خلق قيم‏ومعايير، بل وعقائد دينية، تخدم اغراضهم المتدنية في ادامة الهيمنة على رقاب المسلمين. ومن هنا تسللت الى كتب‏الحديث تلك الروايات المعطوبة التي تجعل طاعة الطواغيت مقدمة على طاعة اللّه ورسوله من الناحية الواقعية، مهمافعلوا او ارتكبوا من جرائم وآثام، والتي جعلت من الشريعة الاسلامية الواضحة اصلا
مسالة مليئة بالالغاز، والتي طمست‏مدرسة اهل البيت وجعلت من شيعتهم واتباعهم مجرمين ومنحرفين عقائديا لدى الكثرة الكاثرة من المسلمين‏البسطاء. ومع ذلك ظل هؤلاء الخلفاء متمتعين بالسمع والطاعة، باعتبار ذلك واجبا شرعيا ورمزا لوحدة المسلمين‏سقط بسقوط الخلافة العثمانية السنية.

انه الانموذج الاول الذي طرحه الشهيد الصدر، المثل الاعلى المنخفض الذي استمر بحكم الالفة والعادة. والسبب الثاني لاستمرار قيادة هذا النوع المتدني هو التسلط الفرعوني على مر التاريخ الذي يحاول دائما ان يحول هذاالواقع المحدد الى مطلق، ويحاصر الجماعة البشرية في اطار هذه الحدود (الطاغوت). ويستعرض الشهيد الصدر النوع الثاني من المثل العليا، او من الالهة، ويرى انها مثل عليا مشتقة من طموح الامة، من‏تطلعها للمستقبل. انها قبضة يقبضها الانسان من المطلق، هذه الكومة المحدودة، هذه الومضة من النور التي يقبضها من‏هذا المطلق
يحولها الى نور السماوات والارض، يحولها الى مثل اعلى، يحولها الى مطلق. اي ان الانسان يصنع مثله الاعلى، وينتزع هذا المثل الاعلى من
تصور ذهني محدود للمستقبل، ثم يتحول هذا التصورالذهني المحدود الى مطلق بقدر امكاناته المستقبلية، لكنه سرعان ما يصل الى حدوده القصوى، الى حدود هذا المثل‏الاعلى. وحينئذ يصبح هذا المثل نفسه الى قيد للمسيرة، الى عائق عن التطور، الى مجمد لحركة الانسان لانه اصبح‏واقعا قائما، يومها يصبح عقبة امام استمرار زحف الانسان نحو كماله الحقيقي.

وهذا ما نعتقده بالنسبة لحالة تلك‏الجماعات والاحزاب الاسلامية بما فيها التيار القطبي، فقد قبضت قبضة من المطلق، او الحقيقة، قبضت بالفعل قبضة‏من نور اللّه بدعوتها الى الحاكمية الالهية، ولكنها افتقدت الصلة بالمثل الاعلى الحقيقي الممنوح من نور اللّه ونفحته الى‏رسول اللّه (ص) والى الائمة من ولده (ع)، فقد عجزت حتى عن تحديد معنى واضح للحاكمية الالهية، فضلا عن كيلهاالتهم جزافا للظالم والمظلوم، القاتل والضحية، بل انها ادانت الضحية، اي الامة الاسلامية، ونفت وجودها وتسامحت‏مع القتلة الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا، واحلوا قومهم دار البوار، ولم تتجه الى ادانتهم الا بعد دخولهم في دائرة النفوذالغربي، كان الظلم والاجرام وسفك الدماء وتبديل احكام اللّه لا ينبغي ادانتها اذا جاءت من «حكام مسلمين‏» باركهم‏ويباركهم «وعاظ السلاطين‏». اما النوع الثالث من المثل العليا فهو المثل الاعلى الحقيقي، وهو اللّه سبحانه وتعالى. ان الحديث عن المثل‏الاعلى الحقيقي، وهو اللّه سبحانه وتعالى، يحتاج الى تدقيق وتخصيص من خلال الاستمساك بنهج رسول اللّه (ص)والائمة (ع) من بعده. ومن هنا يكون للحديث عن المثل الاعلى معنى واضح، وهذا ما ابرزه الشهيد الصدر بعدهذا. الجهاد في سبيل اللّه بمن؟ وفي مواجهة من؟ اتساقا مع منهجه السابح في بحار الانفعال ينتقل سيد قطب من تقريراته عن الجاهلية المعاصرة وضرورة اعادة
اعتناق‏الاسلام من جديد، ليحدد لنا ما ينبغي عمله، انه الجهاد والكفاح المسلح. فالجهاد في سبيل اللّه، كما يقول: «هو الشان‏الدائم لا الحالة العارضة، الشان الدائم ان لا يتعايش الحق والباطل في هذه الارض، وانه متى قام الاسلام باعلانه‏العام‏لاقامة ربوبية اللّه للعالمين وتحرير الانسان من العبودية للعباد، رماه المغتصبون لسلطان اللّه في الارض ولم يسالموه‏قط، وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من
سلطانهم ويدفع عن الانسان في الارض ذلك السلطان الغاصب،انها حالة دائمة لا يقف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله للّه».
ويرى سيد قطب ان مباداة القوى الجاهلية بالقتال واجب شرعي «ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع لا تدع‏مجالا للقول بان الدفاع، بمفهومه الضيق، كان هو قاعدة الحركة الاسلامية كما يقول المهزومون امام الواقع الحاضر وامام‏الهجوم الاستشراقي الماكر».
والمد الاسلامي ليس بحاجة الى مسوغات ادبية له اكثر من المسوغات التي حملتها النصوص القرآنية. انها مسوغات‏تقرير الوهية اللّه في الارض وتحقيق منهجه في حياة الناس ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين وتحطيم سلطان البشرالذي يتعبد الناس، والناس عبيد اللّه وحده لا يجوز ان يحكمهم احد من عباده بسلطان من عند اللّه، انها مسوغات‏التحرير العام للانسان في الارض باخراج الناس من العبودية للعباد الى العبودية للّه وحده بلا شريك، وهذه وحدهاتكفي.
وهنا يطرح السؤال الاتي: بمن يكون الجهاد في سبيل اللّه؟ وفي مواجهة من؟ ما هي القضية التي عجزت الوسائل‏الاخرى عن حلها، فلم يعد هناك بد من اعلان الجهاد ورفع السلاح؟ لا يختلف اثنان من المسلمين، او غير المسلمين، على ان القوة هي احدى الوسائل المتعارف عليها من اجل تحقيق‏الاهداف والغايات. ليس المسلمون وحدهم هم الذين اخترعوا هذا المبدا، ولكن يبقى السؤال: بمن والى من؟ من‏يقاتل من وتحت
اي شعار؟ وهل يكفي ان تعلن جماعة ما انها اعادت اعتناق الاسلام من جديد، بشقه الاهم، وهوالحاكمية، لتعط‏ي لنفسها
ولاية عامة على الامة المسلمة تحكم في اموالها ودمائها بما ترى انه هو الحق؟ لقد اعلنت‏حروب كثيرة بموجب هذا المبدا
ضد «الانظمة الطاغوتية‏»، ثم عاد هؤلاء المجاهدون ليعلنوا المبادرات السلمية‏التاريخية لحقن دماء «المسلمين‏» والحفاظ على مصالح «الامة الاسلامية‏» التي اعلنوا وفاتها قبل اعلان الجهاد! اننا نتفق مع سيد قطب في ان الاسلام لا يستبعد القوة والجهاد
في مواجهة اعدائه، ولكننا ننظر الى التغيير نظرة اشمل‏واعم من هذه النظرة الانفعالية الضيقة، فالقتال في سبيل اللّه، على علو قيمته، ليس دواء لكل داء، فالقضية اكبر من هذابكثير، ولو ان سيد قطب كان هادئا في انفعاله، وحاول ان يتعرف الى الاسباب التي اوصلت ؤلاء «الطواغيت‏» الى سدة‏الحكم، ومكنتهم من الهيمنة على رقاب المسلمين وممارسة الفرعنة، بدلا من القاء اللوم على اسباب وهمية مثل‏الفلسفات الرومانية والاغريقية الى آخر هذه الاتهامات، لاختلفت النتائج عما توصل اليه من نتائج سطرها في كتيباته‏التي تلقفتها اجيال من الشباب المتحمس والثائر بحرفيتها، واقامت تنظيمات واشعلت معارك احرقتها بلهيبها من دون‏ان تمس «الطاغوت‏» باي اذى. ان الملاحظ، على اسلوب سيد قطب، هو غلبة الاسلوب الخطابي عليه، اما بالنسبة للشهيد الصدر، فاللغة السائدة هي‏مزج الفلسفة بتفسير القرآن وومضات من التاريخ، فالكارثة
التي يعيشها المسلمون ذات اعماق متجذرة في عمق‏تاريخهم، وهي كارثة متعددة الاسباب، انها ليست مجرد غياب تطبيق الشريعة الاسلامية، انها مسيرة تاريخية‏متراكمة.

هل كان عمرو بن العاص، صاحب خدعة التحكيم، متاثرا بالفلسفات الرومانية او الفارسية؟ الاجابة معروفة، وهي ان‏عمرو بن العاص كان واحدا من «ذلك الجيل القرآني الفريد». ما هي علاقة تلك الفلسفات «المظلومة‏» بالقبلية والنعرة العنصرية، ضاربة الجذور في العقل العربي؟ وما هو جواب سيدقطب عن الاسلوب الذي تم به اختيار الحكمين في واقعة التحكيم الشهيرة واصرار القبليين والعنصريين، من ذلك‏الجيل القرآني الفريد، على ان لا يكون الحكمان من مضر قائلين: «لئن يحكم فينا الحكمان، واحدهما من مضر ببعض‏الحق احب الينا من ان يحكما بكل الحق وهما من مضر» .

اذن فانحدار الامة الى هذه الهاوية السحيقة التي نحن فيها الان هو انتاج ذاتي متعدد المراحل اسهمت فيه طبقات الامة‏المختلفة، وكانت تعبيرا عن وعي اجتماعي وثقافي وسياسي ونفسي عام لم يطق البقاء في وضع مرتفع كذلك الوضع‏الذي عاشه مع رسول اللّه (ص). وهو، بعبارة الشهيد الصدر: «المحتوى الداخلي للامة‏» (ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى‏يغيروا ما بانفسهم). وهي حالة افرزت نماذج مختلة وفاسدة من المثل العليا، اما من النوع الاول من «الطواغيت‏» او من‏النوع الثاني «قبضة محدودة من النور المطلق تحاول ان تحاكي الحق والحقيقة وتتشبه بها وتصادر عليه‏»، وهي حالة‏الكثير من تلك «الحركات الاسلامية المعاصرة‏». الطريق الوحيد للامة ويبقى المخرج الوحيد للامة، من هذه الظلمات المتراكمة، هو مواصلة السير نحو اللّه عز وجل (يا ايها الانسان انك‏كادح‏الى ربك كدحا فملاقيه) [الانشقاق: 8/6]. يقول الشهيد الصدر: هذه الاية الكريمة تضع اللّه سبحانه وتعالى هدفااعلى للانسانية كلها. والكدح يعني السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة، لان هذا السير ليس سيرا اعتياديا، بل‏هو سير ارتقائي، هو تصاعد وتكامل، هو سير تسلق، فالانسانية حينما تكدح نحو اللّه، فانها تتسلق الى قمم مالهاوتكاملها وتطورها الى الافضل باستمرار.

وهذا السير الذي يحتوي على المعاناة باستمرار يفترض طريقا لا محالة هو سبيل اللّه الصراط صراط اللّه. هذا التقدم،بقدر فاعليته، وبقدر زخمه، هو اقتراب نحو اللّه، سبحانه وتعالى، ولكن فرق بين تقدم مسؤول وتقدم غير مسؤول،فحينما تتقدم الانسانية في هذا المسار واعية المثل الاعلى وعيا موضوعيا، يكون التقدم تقدما مسؤولا، اما حينما يكون‏التقدم منفصلا عن وعي ذلك المثل فهو تقدم على اي حال...، سير نحو اللّه، ولكنه تقدم غير مسؤول. واللّه، سبحانه وتعالى، هو نهاية هذا الطريق، ولكنه ليس نهاية جغرافية، فاللّه، سبحانه وتعالى، هو المطلق، هو المثل‏الاعلى، اي المطلق الحقيقي العيني. وبحكم ان اللّه، سبحانه وتعالى، هو المطلق، اذن فالطريق ايضا لا ينتهي، انه اقتراب مستمر بقدر التقدم الحقيقي نحواللّه، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقترابا نسبيا، يبقى مجرد خطوات على الطريق لا يمكن ان تصل الى اللامتناهي، فالفسحة‏الممتدة بين الانسان وبين المثل الاعلى هنا فسحة لا متناهية.

اي انه ترك له مجال الابداع الى اللانهاية، مجال التطور التكاملي الى اللانهاية، فالمسيرة الانسانية، حينما توفق بين‏وعيها على المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة، بوصفها سائرة ومتجهة نحو اللّه، سوف يحدث تغيير كمي وكيفي‏لها. التغيير الكمي، حينما يكون الطريق الى المثل الاعلى الحق غير متناه يبقى مجال التطور والابداع والنمو قائما،ابداودائما ، ومفتوحا للانسان من دون توقف. هذا المثل الاعلى حينما يتبنى سوف تمسح من الطريق جميع الالهة‏المزورة، جميع الاصنام، وجميع الاقزام المتصنمة على طريق الانسان، والتي تقف عقبة بين الانسان وبين وصوله الى‏اللّه سبحانه. اما التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الاعلى على هذه المسيرة، فهو اعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الانساني،للتناقض الانساني. ومن ثم ينشا لديه شعور معمق بالمسؤولية تجاه هذا المثل الاعلى، لان المسؤولية الحقيقية لا تقوم‏الا بين جهتين: مسؤول ومسؤول لديه. ان المثل الاعلى يحدث تغييرا كيفيا في المسيرة، لانه يعطي الشعور بالمسؤولية، وهذا الشعور هو شرط اساسي في‏امكان انجاح هذه المسيرة، وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الانساني، للجدل الانساني في تركيبته الداخلية من تراب‏ونفحة من روح اللّه سبحانه. حفنة التراب تجره الى الشهوات، وروح اللّه سبحانه التي نفخها فيه تقوده الى اعلى، تتسامى‏بانسانيته الى حيث صفات اللّه، الى حيث اخلاق اللّه.

بين اصول الدين وعملية التغيير المتواصلة

ثم ينتقل الشهيد الصدر (رضوان اللّه عليه) ليلقي نظرة علمية على العلاقة بين اصول الدين الخمسة وعملية التغييرالمتواصلة التي يجب على لبشرية المؤمنة ان تسير في طريقها:
1- التوحيد هو الذي يعط‏ي الرؤية الواضحة، فكريا وايديولوجيا، هو الذي يجمع ويعبى جميع الطموحات وجميع‏الغايات في
مثل اعلى واحد، وهو اللّه سبحانه وتعالى.

2- العدل، وهو جانب من التوحيد، لانه صفة من صفات اللّه سبحانه وتعالى، ولكنه خص بالذكر، لانه الصفة التي تعط‏ى‏للمسيرة الاجتماعية وتغنيها، وهي بحاجة اليه اكثر من اي امر آخر.

3- النبوة التي توفر الصلة الموضوعية بين الانسان والمثل الاعلى، اللّه عز وجل.

4- الامامة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة، النبي امام ايضا، ولكن الامامة لا تنتهي بانتهاء النبي اذا كانت المعركة‏قائمة، واذا كانت الرسالة لا تزال بحاجة الى قائد يواصل المعركة فسوف يستمر هذا الجانب من الدور من خلال‏الامامة.

5- الايمان بيوم القيامة هو الذي يعط‏ي تلك الطاقة الروحية ذلك الوقود الرباني الذي يجدد دائما ارادة الانسان وقدرته،ويوفر الشعور المسؤولية والضمانات الاجتماعية.

مدرستان
اذن فنحن امام مدرستين: مدرسة ترى ان العلة التي ضربت الامة الاسلامية، بعد كمالها وتمامها، انما تنبع من تبنيهالمفاهيم خاطئة لشهادة لا اله الا اللّه وتنحية الشريعة الاسلامية جانبا، ومن ثم فقد انقطع وجود الامة الاسلامية، واصبحنانعيش في جاهلية معاصرة، ولا خروج من هذا لظلام الا بظهور طليعة تعيد اعتناق الاسلام من جديد وتجعل اعلان‏الشهادتين معلقا بتاكيد مفهوم الحاكمية واعتباره ركنا اساسيا من اركان الشهادتين. وان هذه الطليعة عليها ان تواجه‏البشرية كما واجهتها الطليعة الاولى من المسلمين التي التفت حول رسول اللّه (ص)، استعلاء على الجاهلية المعاصرة‏ومواجهة لها بالقوة والجهاد الهجومي لازالة جميع العوائق. وبالنسبة للامور الفقهية ومسائل الاجتهاد، فهي مسائل سهلة
وميسرة، ويمكن الاستعانة باي كتاب فقهي في مكتبة‏المجاهدين لتحقيق الغرض، وبخاصة انه لا اجتهاد مع النص، انها وصفة سهلة ومبسطة!

اما في مدرسة الشهيد الصدر، فالامة الاسلامية تمضي في مسيرة تكاملية تتحرك نحو غاية مطلقة هي اللّه عز وجل،وهي في مسيرها الطويل المستمر نحو المثل الاعلى، ستواجهها المثل المنخفضة من حكام ذلك الزمان وحكام هذاالزمان، ومن «وعاظ السلاطين‏»، فضلا عن مواجهتها ل‏«مثل عليا» اخرى من صنع البشر، من الاخسرين اعمالا الذين ضل‏سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا. فالمسالة اذن ليست مجرد قرار باعلان الثورة، او اعادة اعتناق «لا اله الا اللّه» من جديد، او مواجهة المجتمع المسلم‏بتكفيره، بل هي مسالة مسير متواصل نحو اللّه لا تحده حدود ولا تقيده قيود نحو المطلق في اطار اصول الدين الخمسة:التوحيد والنبوة والامامة والعدل والمعاد. تلك الاصول التي لم يتطرق سيد قطب الى الحديث عنها، باعتبار ان العامل‏الاساس في فكره هو مسالة تطبيق الشريعة الاسلامية، ومع ذلك لاحظنا مدى البساطة التي تعامل من خلالها مع تلك‏القضية الجوهرية.

تطبيق الشريعة وقضية الامامة

ان تطبيق الشريعة الاسلامية يرتبط ارتباطا وثيقا بقضية الامامة، ذلك الغائب في فكر نصف الامة الغربي والحاضرواقعافي ساحة المواجهة بين الحق والباطل بين الاسلام والكفر، وفي مواجهة التيارات المنحرفة التي تريد ان تاخذالامة بعيدا في صحراء اهوائها. لقد وصلت تلك الحركات الاسلامية الى نهاية المطاف في مشوارها الجهادي. وجلها،ان لم يكن كلها، قد قامت على هذا المشروع القطبي واخذت منه
اغلب ملامحها، وهو مشروع سلفي في جوهره يعتمدالقراءة الحكومية (الطاغوتية) للتاريخ الاسلامي الذي يرى ان الجيل الاول كله ولد وعاش ومات مع النبيين والصديقين‏والشهداء والصالحين، وان تاريخ المسلمين كان ياقوتة خضراء في شمس الصحراء، وان «ام المسي‏» كانت بسبب الغزوالاجنبي الثقافي، ولولا ذلك لاستمر حكم السلطان عبد الحميد ولاستمرت «الحضارة العثمانية البهية‏»! تقود المسلمين‏نحو مزيد من
الحضارة والرقي!

في موقف التامل
لم يكن سيد قطب صاحب مشروع ثوري بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، انها ثورية ناقصة تخاصم آلهة المرحلة الراهنة،وتثني على آلهة المراحل السابقة خير الثناء، وتكيل لهم جميع اصناف المديح كما اسلفنا من قبل. وعلى كل حال، فقدظهرت ثمار ذلك الزرع واخفقت تلك الحركات في
الوصول الى اي نتيجة نافعة لها، او للمجتمعات التي تحركت فيها.ونحن نقول هذا من موقف الاعتبار والتامل الحقيقي، لان المراجعة الجذرية تثبت ان الخلل الرئيسي كان بسبب موقف‏هؤلاء السلبي من قضية الامامة، بوصفها حجر الزاوية والركن الاساس في بناء الامة ومحاولة اعادة وجودها الفاعل الى ساحة التاريخ.