* هادي الشيخ طه
02 / 10 / 2005
إن الكتابة في موضوع تاريخي غالبا ما تخضع لضغوط كبيرة ومن اتجاهات متعددة فلو كتبت في الفن فالذي يضغط عليك وتضع له حسابا خاصا هم أهل الفن ,ولو كتبت في العلوم المادية فالذي يضغط عليك عادة هم علماء تلك العلوم ممن يعرف ما تكتب ويتذوق ذلك ولو كتبت في الموسيقى فمن يضغط عليك وتضعه في الحسبان هم أهل الطرب ومن يعرف النوتة والسلم الموسيقي ,أما التاريخ فأنت تتعرض به لمختلف الضغوط من أهل التاريخ ومن أقرباء ومحبي من تكتب عنهم ,ومن الكتاب الذين سبقوك ولو بقرون ,ومن صدق ما تكتب عنه أو كذبه ,ومن ..ومن 00 ومن 00فما بالك إذا كان التاريخ الذي تكتب عنه هو التاريخ الإسلامي ,وما أدراك ما التاريخ الإسلامي ؟وهو الذي كتب وما زال يكتب مشحونا بالعواطف والأهواء وبدون أي منهج من المناهج العلمية المعروفة إلا ما ندر ,فالكتابة فيه تقتضي كثيرا من الاحتراز والتحذر والانتباه العميق لما يملأ طريقه من ألغام ومتفجرات معدة سلفا ولا يمكن تجاوزها بسهولة 0
إن كتابة التاريخ بعد إن تطورت وأصبحت توضع على طاولة التشريح وتتناولها مشارط البحث في كل صغيرة وكبيرة وبمعونةِ من العلوم الأخرى , مازالت تخضع لمزاجات صاحبها ومزاجات السلطات الحاكمة ,فلا بد من ان يكون البحث مفصلا على مقاسات الجهة المشرفة على كتابة التاريخ ,وتصوروا معي كيف قد استمرت هذه الخاصية منذ مئات السنين في المناطق الإسلامية على وجه العموم ,وتصوروا كيف سيخرج التاريخ وفق هذه مزاج هذه السلطات المتغيرة دوما بين اليمين واليسار ؟لابد ان يكون المولود مشوها بصورة مرعبة ومرعبة جدا ,فما الذي خلّفه التاريخيون لنا ؟يكفي ان تتصفح أي موسوعة تاريخية قديمة متحصنا ببعض المعلومات التاريخية وسترى مقدار التهافت بين كتاب وآخر لنفس المؤلف ولو كنت من المطلعين على الكتابات الغربية للتاريخ لرأيت الفرق الشاسع بين ما يسمى كتابة تاريخية وبين المذكرات الشخصية ,
وموضوع خيانة ابن العلقمي من المواضيع التي كانت ضحية لهذه الإسقاطات الطائفية والمذهبية والآراء المزاجية التي لم تستطع التجرد عن هذه الصبغة ولو للأمانة التاريخية وهكذا نرى المؤرخين المسلمين بين من يضع اللوم كله على هذا الشخص وبين من يحاول التخفيف من دوره مع اتفاقهم على مسؤوليته التي لم يحاول احد من المؤرخين سبر سر هذه الشخصية والكتابة عنها بتجرد ,نعم كتب الكثير عنه ولكن معظم هذه الكتابات اجترار وتكرار لروايات سيقت مساق النصوص المقدسة ,وما أشبه اليوم بالبارحة ,فعندما سقطت بغداد على أيدي الأمريكيين انبرى أحفاد أولئك المؤرخين الأول للحديث عن خيانة بعض القادة العراقيين وشراء ذممهم من قبل ال(سي أي ايه),وهذا مما أدى بدوره الى سقوط المدينة الحصينة التي لولا الخيانة العظمى للقادة لما سقطت ,لكن هؤلاء الأحفاد نسواان يبّينوا لنا كيف سقطت ام قصر ,والناصرية والنجف وغيرها ,وهل سقطت أيضا بخيانة القادة العظام ؟وان كان للخيانة دور في ما جرى فلماذا دائما نقوم بهذا الدور ,وما هي أسباب خيانة أجدادنا ؟من الواضح ان من يكتب بهذه الطريقة ما زال مصرا على ممارسة دور النعامة التي تدفن رأسها في التراب ,ولا يريد ان يضع الإصبع على الجرح الحقيقي 0
في الكتابة عن ابن العلقمي أرى إن البحث يدور في مستويين ,
المستوى الأول :ما اتفق عليه المؤرخون ,حيث يكاد يجمع معظم من كتب عن ابن العلقمي انه كان وزيرا بحق وبكل ما تحمل تلك الكلمة من معنى :
فهذا صلاح الدين ألصفدي صاحب كتاب الوافي بالوفيات يقول ( وكان وزيرا كافيا خبيرا بتدبير الملك ولم يزل ناصحا لأستاذه حتى وقع بينه وبسين الدويدار –لأنه كان يغالي في السنة وعضده ابن الخليفة 0
وهذا الغساني صاحب العسجد المسبوك يثني عليه فيقول (دمث الأخلاق كريم الطباع خير النفس كارها للظلم خبيرا بتدبير الملك ,لم يباشر قلع بيت ولا استئصال مال )والغريب إن الغساني من أوائل من اتهمه بالمسؤولية في سقوط بغداد 0
وقد ذكرت موضوعات جمة حول دور الوزير مؤيد الدين بن العلثقمي الذي كان وزيرا لآخر حاكم ,وهي أكثر مما قيل في دورالخواجة نصير الددين في الواقعة المذكورة حتى ان بعض الذين برأوا الخواجة اقرّوا بدور ابن العلقمي 0
تتمثل تهمة ابن العلقمي الرئيسية في انه كاتب هولاكو وحرضه على غزو بغداد ,وممن اتهمه بهذه التهمة ابن كثير في كتابه البداية والنهاية ,وابن خلدون في كتاب العبر ,والذهبي في تاريخ دول الإسلام ,وابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات,وابن الوردي في تاريخه ,والغساني في العسجد المسبوك ,ومنهاج سراج في طبقات ناصري وآخرون غيرهم 0
والظاهر ان هناك عددا من الأسباب يقف وراء بث مثل هذه التهمة وتوسيع رقعتها ,
1- تشيّع الوزير اذ كان رافضيا على حد تعبيرهم وهي من التهم التي تجعل من حاملها موضع تهمة على طول الخط ,وكون الوزير شيعيا غير كاف لاتهامه بهذه التهمة خصوصا وان التاريخ لم يذكر دليلا مقنعا على ذلك 0
2- حدوث كارثة في بغداد قبل غارة المغول بسنة ,إذ تواصلت الاشتباكات والاصطدامات بين الشيعة والسنة ,قال الغساني صاحب العسجد المسبوك (فهجموا عليهم وقتلوا منهم جماعة ونهبوا محالهم وارتكبوا من الشيعة العظائم )وأشار الكثير من المؤرخين المذكورين الى تأثير هذه الجريمة على نفسية ابن العلقمي واعتبروها باعثا على مراسلته هولاكو ,ولكن لاينبغي الشك ان تمتع الوزير بكل تلك الخصال التي ذكرناها تمنع توجيه تهمة الاهتزاز وضعف الشخصية التي تمهد له فعل هكذا أعمال انتقامية 0
3- ان الوزير كان واثقا بعقم العمل العسكري ضد المغول بعد ان حصل على معلومات عن وضعهم وخصوصا بعد سماعه بسقوط (آلموت)القلعة الإسماعيلية الشهيرة في ايرأن ,التي صمدت في وجه كل من هاجمها لمدة 170 سنة لذلك كان يقترح على الحاكم العباسي باستمرار ان يعجل بطرح قضية الصلح حتى يفعل المغول ما فعله السلاجقة ىوالبويهيون فيبقوا اسم الحاكم العباسي –في الاقل- متزامنا مع تولي هم زمام الأمور ,وقد نقل أكثر المؤرخين هذا الاقتراح ,ومجرد طرح هكذا اقتراح لا يوجب الشك في نوايا الوزير واتهامه بالتواطؤ مع هولاكو ,ونحن نعرف ان في مثل هذه الامور وحتى في الوقت الحاضر يجتمع كل من له شأن في تقرير مصير الاوطان ويتدارسوا الأمر الطاريء من جميع جوانبه ولابد ان تكون الاقتراحات محملة بالغث والسمين ,وهناك لراء حماسية وآراء حكمية وآراء جزافية وغيرها ونحن نعرف ان ابن العلقمي كان بمنزلة رئيس الوزراء مع صلاحيات جيدة في اتخاذ القرارات ولم يعرف عنه التهور في طرح المقترحات ما لم تكن مبنية على قراءة دقيقة للواقع السياسي آنذاك ,وقد اثبت التاريخ بعد نظر هذا الوزير ,اذ بعد دخول المغول بغداد بفترة قصيرة اخذ الاسلام يتغلغل بينهم وظهر منهم سلاطين عادلون لهم تأثيرهم الواضح الى الان على الحضارة الاسلامية 0
4- بقاء الوزير حيا واحتفاظه بمنصب الوزارة في عهد هولاكو ,وان كان هذا المنصب قد فقد هويته وحقيقته انذاك ,وهذه التهمة مردودة ببقاء كثير من الشخصيات السياسية والدينية في بغداد ومنهم مبارك بن المستعصم نفسه وجلال الدين نجل الدويدار قائد الجيش العباسي وونظام الدين عبد المنعم قاضي القضاة في بغداد الذي ظل في منصبه بعد غزو بغداد ,وفخر الدين الدامغاني رئيس الديوان الذي استمر في منصبه بعد الغزو ,ويبدو ان تعصب بعض المؤرخين ومجانبة المنهجية والأسلوب العلمي في كتاباتهم أفضت الى رسوخ هذه الفكرة 0
لكنهم غفلوا عن الجذور الحقيقية لهذه التهمة والتي تكمن في توزع القرار السياسي بين الحاكم العباسي وخطين آخرين كانا يمارسان السلطة في بغداد ايضا ,الأول يمثله دويدار قائد الجيش العباسي ,والثاني يمثله الوزير ابن العلقمي الذي كان يعد شيعيا وكان هذان الخطان يتصادمان في القضايا السياسية ,وفي هجوم المغول على بغداد كان الخط الاول يضغط على المستعصم كي يرفض اقتراح الوزير المتمثل بالاستسلام والحصول على امتياز ما ,وقد رفضه طبيعيا وهاجموا المغول ففشلوا فشلا ذريعا أرغم الجميع –بما فيهم الدويدار وابو بكر – على الذهاب عند هولاكو
,وكانت عاقبة الشخصين المذكورين القتل بسبب تعنتهما وكان الخط الاول هو من اثار اتهام الوزير بالمكاتبة مع المغول لكي يزيحوا الوزير عن طريقهم فقد كان حجر عثرة في طريق مآربهم المتمثلة بعزل الحاكم العباسي وتولية نجله مكانه وهذا الأمر شائع جدا في تاريخ الخلافة العباسية ,وكان هذا الوزير دائبا على إطلاع الخليفة على نوايا هؤلاء القوم ,الا ان إلصاق تلك التهمة بابن العلقمي لم تؤثر على علاقة المستعصم بالوزير وبقيت الثقة متبادلة بين الاثنين ,وقد نقل ابن الطقطقي في كتابه الفخري معلومات رائعة عن التهم الملصقة بابن العلقمي والأراجيف المبثوثة عليه ,قال (وكان وزيره مؤيد الدين بن العلقمي يعرف حقيقة الحال في ذلك –في قوة المغول وعدم القدرة على لامواجهنهم –ويكاتبه –أي الخليفة- بالتحذير والتنبيه ,ويشير عليه بالتيقظ والاحتياط والاستعداد ,وهو لا يزداد الا ففولا وكان خواصه يوهمونه انه ليس في هذا كبير خطر ولا هناك محذور ,وان الوزير انما يعظم هذا لينفق سوقه ولتبرز اليه الأموال ليجند بها العساكر فيقتطع منها لنفسه )ومن الجدير ذكره ان هذه المعلومات تدل على ان ابن العلقمي كان في البداية يحرض المستعصم على تعبئة الجنود وإعدادهم للحرب وقال في مكان آخر من كتابه (ونسبه الناس انه خامر ,أي تواطأ وليس ذلك بصحيح ,ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة –أي الدولة المغولية –فان السلطان 0هولاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة وسلم البلد الى الوزير وأحسن اليه وحكمه ,فلو كان خائنا قد خامر على الخليفة لما وقع الوثوق إليه )وهذا الاستدلال الذي ذكره ابن الطقطقي صائب تماما لان دأب الملوك السابقين ومتنهم سلاطين المغول ان لا يولّوا الخونة منصبا ,فمن خان مولاه السابق فسيخون مولاه الجديد مرةاخرى ولكن نزاهة الوزير أثرت على سلطان المغول فأبقاه في منصبه كما أبقى كثيرين غيره 0
وللعلم فان ابن العلقمي لم يلبث طويلا بعد غزو بغداد فلقد مكث شهورا ثم مات في جمادى الاولى سنة 656 ه ونقل المؤرخون المتعصبون انه قتل بأمر هولاكو ولا ادري على ماذا استندوا في ذلك ولعله لأجل تهدئة خواطرهم وخواطر قرّائهم0 0

كتابات