عندما بدأت قناة الجزيرة الفضائية بالبث, استبشر الناس خيراً بأمل أن تعبر عن الرأي الآخر في منطقة تسيطر عليها حكومات جائرة. إذ أن شعوب المنطقة كانت وما تزال تعاني من عجز عن إيصال صوتها إلى الرأي العام العالمي وتبصيره بما يجري في منطقة الشرق الأوسط من أحداث وتجاوزات على حرية الفرد والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
لقد كان جمهرة واسعة من المواطنات والمواطنين تتطلع إلى قناة جديدة, فهل وفت قناة الجزيرة بذلك التطلع؟ لم يدم هذا الحلم بوجود صوت عقلاني وإنساني يعبر عن طموحات الإنسان البسيط والمثقف طويلاً, إذ سرعان ما رسمت هذه القناة لنفسها نهجاً آخر ومارست سياسات إعلامية تعبر عن اتجاهات بعيدة كل البعد عن حاجات وطموحات التحول الديمقراطي الحر في دول المنطقة ومواجهة تحديات المستقبل, وسعت إلى خلط الأوراق بما يفقد الرؤية السليمة بالنسبة للإنسان البسيط ويزيد من ضبابية الأحداث. فما هي السمات المميزة للنشاط الإعلامي لهذه القناة الناطقة بالعربية؟
1. سعيها الدؤوب إلى مخاطبة العاطفة عند العرب بعيداً عن العقل. وهي صيغة سهلة يقبل بها عقل غالبية العرب, إذ ما يزال البؤس الفكري والسياسي سيد الموقف نتيجة للسياسات التي مارسها المستعمرون والحكام الرجعيون والدكتاتوريون إزاء شعوب المنطقة طيلة عقود طويلة, والكثير منها ما يزال متواصلاً.
2. إشاعة الفوضى والهستيريا والمهاترات بين المتحاورين, وتتجلى في برامج الاتجاه المعاكس أو الرأي الآخر, كما أن اختيار الأشخاص وأسلوب الإثارة مقصودان لا يعلمان على التحضر والعقلانية بل يسهمان في تعميق الحقد المتبادل والكراهية, كما أن في تلك الحوارات الكثير من الديماغوغية ولي رقبة الحقائق والوقائع, إضافة إلى الفوضى الفكرية والسياسية التي تثيرها.
3. الانحياز الكامل للاتجاهات الفكرية والسياسية القومية العربية ذات الاتجاه اليميني والشوفيني
4. الدفاع عن الدكتاتور صدام وطغمته قبل وبعد سقوط النظام من منطلق قومي شوفيني بعيد كل البعد عن مصالح الناس وعن إشاعة الاعتراف المتبادل واحترام التعددية القومية والدينية والمذهبية والفكرية والسياسية في العراق.
5. الدمج الصارخ بين التعصب المذهبي (الطائفي) السياسي والتطرف القومي الشوفيني وما ينجم عنهما من خطاب فكري وسياسي غير عقلاني يثير العاطفة وينهي دور العقل والتفكير.
6. الادعاء بمحاربة الإمبريالية الأميركية, في حين أن قطر, وهي صاحبة وراعية العاملين السابقين في ألـ BBC وقناة الجزيرة الجديدة, تشكل موقعاً أساسياً متقدماً للقوات الأميركية وأكبر مستودع للسلاح الأمريكي في المنطقة. إن ازدواجية المعايير لن تدوم طويلاً, إذ أن حبل الكذب قصير وقصير جداً.
7. عرض العمليات الإرهابية الدموية الجارية في العراق, التي تقتل وتجرح يومياً عشرات العراقيات والعراقيين والكثير جداً من الأطفال, وكأنها عمليات مسلحة تمارسها "مقاومة وطنية عراقية", وهو تبرير فظ لما يجري في العراق ومخالف للوقائع على أرض الواقع. ويبدو لي ولغيري من الناس وكأنها تمارس صيغة تحريضية بهدف مواصلة الهدم!
ولا شك في أن الأسلوب الذي يمارس في قناة الجزيرة إزاء الوضع في العراق يذكر المجتمع العراقي بنشرات وبيانات وأحاديث الإذاعي المصري البائس أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب السيئة الصيت الذي أساء, كما أساءت إذاعته, إلى حركة التحرر الوطني العربية كثيراً وأكثر من ذلك إلى الحركة الوطنية العراقية خلال المدة التي أعقبت سقوط الملكية في العراق وتعميق الخلاف والصراع في الساحة السياسية العراقية. إن قنوات التلفزة والفضائيات التي تحترم نفسها وتحترم مشاهديها وتسعى إلى نشر الحقائق وتعزيز مصداقيتها لدى الناس, تنأى بنفسها عن تلك السمات المشار إليها في أعلاه وتسعى للتخلص منها, وتعمل على طرح الوقائع كما هي.
ومن حقها طبعاً أن تبدي رأيها الخاص بما يجري في هذا البلد أو ذاك, ولكن من واجبها في الوقت نفسه الاسهام في رفع مستوى وعي الإنسان ودفعه للتفكير بعقلانية في الأحداث الجارية وألا تعمد إلى إثارة العواطف البدائية السمجة ونشر الكراهية وتشديد الصراعات القومية والدينية والطائفية التي تسهم في تكريس التخلف والتعصب والعنف ولا تساعد على خروج مجتمعاتنا من مرحلة التخلف الفكري والسياسي والحضاري الراهنة.
إن من واجب الإعلام الديمقراطي أن يتابع العملية السياسية الجارية في العراق بجوانبها السلبية والإيجابية وأن يسهم في تشخيص ما يفترض أن يتعزز وما يجب التخلص منه وليس من مهمته تكريس العكس، وشهد العراق خلال العامين المنصرمين الكثير من الأخطاء الفاحشة والتجاوزات الفظة على حقوق الإنسان ويعاني من البطالة, ولكنه حقق الكثير من المنجزات أيضاً التي يفترض ألا تغيب عن بال المنصفين.
إن المجتمع العراقي, الذي عاش طيلة 35 عاماً تحت دكتاتورية البعث العفلقي - الصدامي, وقبلها تحت هيمنة واستبداد القوميين العرب الشوفينيين, يحتاج إلى مدة طويلة للخلاص من فكر الإقصاء والاستئصال ومن إرث الممارسات الإرهابية والقمعية والسياسات العنصرية والمقابر الجماعية والتهجير القسري للسكان العرب والكرد الفيليين ومجازر الأنفال وحلبچة والتعريب, والطائفية السياسية المقيتة التي مارسها رأس النظام وأجهزته المختلفة.
ولن تسهم قناة الجزيرة ببرامجها الراهنة في دفع العراقيات والعراقيين إلى درب الحرية والديمقراطية واحترام وممارسة حقوق الإنسان وحقوق القوميات العادلة والمشــروعة والعدالة الاجتماعية, بل تشجع على اتجاه أخر لم يكن ولم يعد مقبولاً من جانب الشعب العراقي, ولكن هذه الوجهة مطلوبة من أقلية ضئيلة بعثية وقومية بائسة تحمل سلاح الإرهاب ومتحالفة مع قوى الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية من عصابات بن لادن والظواهري والزرقاوي وأنصار الإسلام الكرد ومن لف لفهم.
إلا أن عمر هؤلاء وعمر الإعلام الذي يساندهم لن يكون طويلاً وسيدرك الناس الأهداف الشريرة التي يسعى إليها هؤلاء الناس.