"والذين صبروا ابتغاءَ وجهِ ربِهم وأقاموا الصلاةَ وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً ويدرءون بالحسنةِ السيئةَ أولئك لهم عقبى الدار* جناتُ عدنٍ يدخلونها ومَن صَلَحَ من آبائِهم وأزواجِهم وذرياتِهم والملائكةُ يدخلون عليهم من كل باب* سلامٌ عليكم بما صبرتم فنِعْمَ عُقْبى الدار*".
نحن الآن على مشارف شهر محرم والذي تكون فيه الذكرى السنوية للفاجعة الأليمة والمصيبة العظيمة التي أقرحت القلوب وأبكت العيون على امتداد الأجيال وعلى مدى السنين المتطاولة، ألا وهي مصيبة أبي الأحرار وأبيِّ الضيم، ريحانة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وغريب فاطمة(عليها السلام) أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، فيحسن بنا ونحن نستقبل هذا الشهر الموشح بالسواد أن نلتفت إلى بعض الأمور بمقدار الممكن وما يساعد عليه الحال لأخذ العظة والعبرة ويكون الكلام ضمن النقاط التالية:
أولاً: إن من أوائل الأمور التي نشعر بها ونلتفت إليها في هذا الشهر لهذه السنة هو أنه يمر علينا من دون وجود الطاغية ونظامه البائد، والذي عانى الجميع من سطوته وظلمه في الكثير من مناحي الحياة بما في ذلك محاربته للشعائر عموماً وللشعائر الحسينية بشكل خاص.
وإننا سوف نمارس هذه الشعائر بعد أن منَّ الله سبحانه وتعالى علينا بزواله إلى حيث لا رجعة، مما يظهر وبشكل واضح انتصار الحسين(عليه السلام) وثورته على كل الطواغيت والظلمة الذين نصبوا له العداء وحاولوا خنق صوته الهادر عبر أجيال المجتمع، وأن مصيرهم إلى زوال لا محالة.
وإننا نجد أن ذكر الحسين ومواقفه الجبارة وعطائه الجم وهدايته التي تنير الدرب على مختلف المستويات، قد بقيت خالدة وستبقى بفضل الله وحسن توفيقه.
وقد بذلت عبر القرون السابقة مختلف السبل والأساليب التي حاولت أن تذوب هذه الثورة في النفوس وأن تعتم على القضية الحسينية فلا تأخذ محلها في القلوب. ولكن هذه المحاولات الخبيثة قد تهاوت أمام عظمة الحسين(عليه السلام)، وكان مصيرها الفشل لا محالة.
مما يعطي العبرة لمن يأتي من بعد ذلك ليأخذ الدرس ممن سبقه، وليلتفت إلى المصير الذي انتهى إليه كل من ناوئ هذا الرجل العملاق الذي أخلص بكل وجوده فانياً في حب الله سبحانه وتعالى ومضحياً بكل ما يملك في سبيل الإسلام، حتى قال عنه الشاعر:
الشمس يا بن رسول الله ظاهرة بنورها غير أن الطرف عنه عمي
لصبرك الملأ الأعلى قضى عجباً والصبر من أحمد الأخلاق والشيم
حتى فنيت بحب الله مبتهجاً وغاية العشق تعطي غاية الكرم
الله أكبر بيت الله يهدمه للكفر سهم به قلب الحسين رمي
فعلينا أن نشعر بنعمة الله سبحانه وتعالى العظيمة بأن جعلنا نشهد زوال النظام المقبور، وأن نرى النصر الإلهي للإمام الحسين(عليه السلام) وثورته وفكره ومدرسته، وعلينا أن نكون على مستوى المسؤولية تجاه هذه النعمة وأن لا نقصر في ذلك بإذن الله وحسن تأييده.
ثانياً: إننا إذا بحثنا عن أسباب بقاء الثورة الحسينية ومقومات خلودها فإننا سوف نجدها كثيرة بطبيعة الحال، ولكننا يمكن أن نلتفت بهذه العجالة إلى سببين مهمين:
السبب الأول: ونستطيع أن نسميه سبب تشريعي، وحاصله ما تواتر عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام) من الروايات التي حثت على إحياء ذكرياتهم بشكل عام، وإحياء ذكرى الإمام الحسين(عليه السلام) بشكل خاص.
فقد ورد في -وسائل الشيعة- للحر العاملي ج 21 ص 20:
عن أبى عبد الله(عليه السلام) قال: تجلسون وتحدثون؟ قلت نعم، قال تلك المجالس احبها، فأحيوا أمرنا. رحم الله من أحيى أمرنا. من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج عن عينيه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر.
وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال لي: أتخلون وتحدثون تقولون ما شئتم؟ فقلت: إي والله، فقال: أما والله لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن.
وكذلك الروايات التي حثت على ذكر الحسين(عليه السلام) وتذكر مصيبته واستحباب البكاء عليه.
فقد ورد في -كامل الزيارات- لجعفر بن محمد بن قولويه ص 201:
عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي(عليهما السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لأذى مسنا من عدونا في الدنيا بوأه الله بها في الجنة مبوأ صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار.
وعن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي(عليهما السلام)، فإنه فيه مأجور.
وعن أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام) في حديث طويل له: ومن ذكر الحسين(عليه السلام) عنده فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله عز وجل، ولم يرض له بدون الجنة.
وعن الربيع بن منذر، عن أبيه قال: سمعت علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول: من قطرت عيناه فينا قطرة ودمعت عيناه فينا دمعة، بوأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقاباً.
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة والطافحة في مختلف المصادر، والتي تشير بشكل كبير إلى أهمية ذكر الحسين(عليه السلام) والاهتمام بمصيبته وتجديد الأحزان لأجله.
مضافاً إلى السيرة العملية التي كان عليها أهل البيت(عليهم السلام) وتعظيمهم لهذه الذكرى وإظهار الحزن والبكاء، حتى روي عن الإمام السجاد(عليه السلام) أنه كان يمزج طعامه أو شرابه بدموع عينه.
وورد في -الأمالي- للشيخ الصدوق ص 190:
عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال الرضا(عليه السلام): إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله(صلى الله عليه وآله) حرمة في أمرنا.
إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء يحط الذنوب العظام.
ثم قال(عليه السلام): كان أبي(صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين(صلوات الله عليه).
وكل ذلك يحفز الفرد المؤمن ويشحذ همته لأجل إحياء ذكرى الحسين(عليه السلام) وتعظيمها والاهتمام بها أكيداً.
السبب الثاني: ونستطيع أن نسميه بالسبب التكويني، وهو عبارة عن الزخم العاطفي الذي يجعله الله سبحانه وتعالى في قلوب المحبين تجاه مصيبة الحسين(عليه السلام) والانجذاب إليها والتفاعل معها وبشكل ملفت للنظر، حتى أننا نجد أن لشهر محرم حرارة خاصة ومشاعر فريدة، وخصوصاً في الأيام العشرة الأولى منه، وهذا واضح بالوجدان، ولا يمكن أن يفسر بغير العناية والتأييد الإلهيين.
وحتى ورد في الرواية عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه قال: "إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً"، وهذا من المعاجز التي أيدت الثورة الحسينية وأمدتها بالدوام والبقاء، وأنها تتجدد عبر الأعوام والدهور، مما لم تعط أي مصيبة أخرى مهما عظمت هذا الزخم من العواطف والأحزان، حتى قال الشاعر:
أنست زيتكم رزايانا التي سلفت وهونت الرزايا الآتية
ثالثاً: إننا يجب أن نستغل هذه الشعائر الحسينية كوسائل مهمة في التربية وتوعية المجتمع وتثقيفهم على كل ما يهم شؤونهم الحياتية والأخلاقية، فإنها تعتبر من الوسائل المهمة والرئيسية والتي استخدمها أهل البيت(عليهم السلام) في توعية الأمة وهدايتها، واستغلها سلفنا الصالح عبر الأجيال لأجل تحصيل هذه النتيجة.
مع الالتفات إلى الهجمات الشرسة التي يحاول بها الأعداء أن يعصفوا بكل ما هو حق وأساسي من ثوابتنا الإسلامية. مضافاً إلى كثرة الإمكانات الدنيوية والوسائل الإعلامية في طرف الباطل وضعفها غالباً في طرف الحق.
فلابد من التمسك بهذه الشعائر وتفعيلها والتكثيف منها لأجل أن تكون قوة فاعلة تجذب الفرد نحو الخير والهداية والسداد، وتبعده عن كل المغريات والسموم الفكرية والأخلاقية التي يريد الاستعمار أن يزرعها في المجتمعات المسلمة وبكل صورة.
رابعاً: إننا وبسبب الحرية النسبية التي أعطيت لنا فإنه من الممكن أن تدخل الكثير من الأفكار الهدامة وبمختلف الأثواب ضمن برنامج تخريبي مدروس ومخطط له، يريد من هذه الأمة أن تفقد هويتها وأن يسير وراء شعارات ومشاريع خاوية تفقد لأي محتوى حقيقي، وليس فيها إلا التقليد الأعمى للغرب الكافر وأخذ القشور الواهية منهم ليس إلا.
فقد تسمع الكثير من المصطلحات التي تخفي خلفها الكثير من النتائج السيئة على المستوى الفردي والاجتماعي. وقد تطرح الكثير من المقترحات والتي تهدف إلى النيل من كل ما هو أصيل عندنا.
فتصل النوبة إلى الشعائر الحسينية لإفقادها وتفريغها من محتواها الحقيقي، فيفسحون المجال لمناقشة الكثير من الأمور التي تساهم في شد المجتمع نحو الثورة الحسينية كالبكاء واللطم وغير ذلك، فيبدأون وبحجة النظرة الواعية لهذه الأمور وتشذيبها بما يتماشى ومتطلبات العصر، وينسجم مع التطور الفكري وغيره. ومن ثم يصلون إلى مرادهم الحقيقي وهو إبعاد الناس عن هذه الأمور المؤثرة بشكل إيجابي ومجرب عبر هذه السنين المتطاولة.
فلابد من الحذر مما يخطط له الأعداء، وعلينا أن نتمسك بالشعائر الحسينية، وأن يتواصل ارتباطنا بثورة الحسين(عليه السلام) لأنها القوة الحقيقية التي تمد المجتمع بمختلف المعاني العظيمة والمهمة بكل تأكيد.
خامساً: إن ما قلناه في النقطة السابقة لا ينفي أننا لابد لنا من أن نضيف إلى هذه الوسائل التربوية وسائل أخرى مبتكرة، بشرط انسجامها مع الخط العام لهذه الشعائر، وبما يتوافق مع الشريعة المقدسة، كالتفلسف بقضية الحسين(عليه السلام) بشكل أدق، وطرح الثورة بأبعادها المعمقة وأهدافها الرئيسية التي نفهمها ونطيقها.
مضافاً إلى إيجاد ومعرفة الجرعات المناسبة للمجتمع، حتى يكون المستوى الفكري الذي يطرح، والوقت المناسب له وحدوده، ومقدار المحاضرات أو المجالس أو غير ذلك مما يرتبط بهذه الشعائر، خاضعاً إلى دراسة موضوعية وهادفة.
فإنه لابد من الالتفات في كل ذلك إلى المستوى النفسي الاجتماعي، وأن يكون ما يطرح على مختلف الآليات خاضعاً إلى دراسة اجتماعية نفسية، أو قل ناظرة إلى ما قد يسمى بعلم النفس الاجتماعي. لكي لا يكون ما يطرح من الأفكار أو يستخدم من الوسائل في هذه الشعائر هو عبارة عن أمور عشوائية مبعثرة.
فإن المسألة أشبه بالدواء الذي يعطى للمريض، فلابد فيه من مراعاة الجرع المناسبة لكي لا ينتج النتائج السلبية في العلاج.
وهذا الأمر بحاجة إلى تصدي جماعة من ذوي الاختصاص ممن يستطيع أن يتكفل دراسة ذلك، ويعطي نتائج هذه الدراسة إلى الحوزة الشريفة أو إلى المتصدين لإقامة الشعائر بشكل عام والشعائر الحسينية بشكل خاص.
سادساً: إن عمق المصيبة التي يشعر بها الفرد تجاه واقعة الطف يحفزه نحو الشعور بحب مواساة الحسين(عليه السلام) والرغبة في إبداء المعونة والنصرة له. وهذا يمكن تحصيله في كل وقت وفي كل جيل، وذلك بالالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى وتطبيق شريعة جده رسول الله(صلى الله عليه وآله).
فإن القيام بأي عمل صالح، والالتزام بأي طاعة من الطاعات لله سبحانه وتعالى إنما هو نصرة للحسين(عليه السلام) وتعظيم وتكريم لتلك التضحيات الجسام التي قدمها على ثرى الطف في كربلاء المقدسة.
وفي قبال ذلك وبعكسه فإن كل من قصر في أداء مسؤوليته أمام الله تعالى وتورط في المعصية مهما صغرت فقد خان الحسين(عليه السلام) وخان الجهود التي بذلها لأجل إصلاح الأمة، والدماء الزاكية التي أريقت منه ومن أهل بيته الميامين وأصحابه المنتجبين.
إلى غير ذلك من الأمور والأفكار التي يمكن أن نستفيدها من ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) والتي لا يسع المجال لاستقصائها، بل لا يمكن الإحاطة الكاملة بها من قبلنا أكيداً.
بسم الله الرحمن الرحيم
والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر*