النتائج 1 إلى 7 من 7
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي التخطيط الحسيني لتغيير أخلاقية الهزيمة - السيد الشهيد محمد باقر الصدر

    الإمام الحسين وقف ليعالج مرضاً من أمراض الاُمّة كما وقف من قبله أخوه الإمام الحسن ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ ليعالج مرضاً آخر من أمراض الاُمّة، بينما قدّر للإمام الحسن أن يعالج مرض الشك في الاُمّة الإسلامية التي بدأت في عهد أمير المؤمنين تشكّ في الخط الرسالي الذي سار عليه قادة أهل البيت، واستفحل لديها هذا الشكّ حتّى تحوّل إلى حالة مرضية في عهد الإمام الحسن عليه السلام، هذه الحالة المرضية التي لم يكن بالإمكان علاجها حتّى بالتضحية، عالج الإمام الحسين عليه السلام حالة مرضية اُخرى هي حالة انعدام الإدارة مع وضوح الطريق، فالاُمّة الإسلامية التي كانت تشكّ (أو التي بدأت تشكّ) في واقع المعركة القائمة داخل الإطار الإسلامي بين الجناحين المتصارعين اتّضح لها بعد هذا الطريق، لكن هذا الطريق اتضحت لها معالمه بعد أن فقدت إرادتها، وبعد أن نامت واستطاع الذين اغتصبوها وسرقوا شخصيّتها وزوّروا إرادتها وأباحوا كرامتها، واستطاعوا أن يخدّروها وأن يجعلوها غير قادرة على مجابهة موقف من هذا القبيل، هذه الحالة المرضية الثانية عالجها الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام بالموقف الذي شرحناه

    الموقف الأوّل: أن يبايع يزيد بن معاوية كما بايع أمير المؤمنين. ابابكر وعمر وعثمان.

    الموقف الثاني: أن يرفض البيعة لكن يبقى في مكة أو المدينة.

    الموقف الثالث: أن يلجأ إلى بلد من بلاد العالم الإسلامي كما اقترح عليه أخوه محمّد بن الحنفية.

    الموقف الرابع: أن يتحرك ويذهب إلى الكوفة مستجيباً للرسائل التي وردته من أهلها ثم يستشهد بالطريقة التي وقعت...].

    وقلنا: إنّه كان بالإمكان عدّة بدائل للموقف الذي اتّخذه الإمام الحسين إلاّ أنّ كلّ البدائل الممكنة والمتصوّرة لم تكن تحقّق الهدف في علاج هذه الحالة المرضيّة، وكان الطريق الوحيد لعلاج هذه الحالة المرضية هو الخطّ الذي سار عليه سيّد الشهداء عليه أفضل الصلاة والسلام.

    مشاهد موت الإرادة في المجتمع الحسيني

    نحاول الآن أن نستعرض عمق هذا المرض في جسم الاُمّة الإسلامية حتّى نعرف أنّه بقدر عمق هذا المرض في جسم الاُمّة الإسلامية لابدّ وأن يفكّر في العلاج أيضاً بتلك الدرجة من العمق، وإذا كان من المقدّر كما فهمنا في محاضرات سابقة أنّ العلاج الوحيد للحالة المرضيّة الثانية هذه هي التضحية، فبقدر ما يكون هذا المرض عميقاً في جسم الاُمّة، يجب أن تكون التضحية ايضاً عميقة مكافئة لدرجة عمق هذا المرض في جسم الأمة وهذا المرض كان يشمل كلّ قطاعات الاُمّة عدا بصيص هنا وهناك تجمّع مع الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام.

    [align=center]المشهد الأول: التخويف بالموت من عقلاء المسلمين [/align]

    خلال خطّ عمله وحركته لاحظنا كيف أنّ الإمام الحسين ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينما قرّر السفر من المدينة إلى مكّة، أو في النهاية حينما قرّر الهجرة من الحجاز متّجهاً إلى العراق، إلى تسلّم مسؤوليّاته كشخص ثائر حاكم على طواغيت بني اُمية كان يتلقّى من كلّ صوب وحدب النصائح من عقلاء المسلمين، أو من يسمّون يومئذٍ بعقلاء المسلمين الذين يؤثرون التعقّل على التهوّر، كيف أنّ هؤلاء العقلاء أجمعت كلمتهم على أنّ هذا التصرف من الإمام الحسين ليس تصرّفاً طبيعياً، كانوا يخوّفونه بالموت، كانوا يقولون له: كيف تثور على بني اُمية وبنو اُميّة بيدهم السلطان، والرجال، والمال وكلّ وسائل الإغراء والترغيب والترهيب؟! كانوا يحدّثونه عن النتائج التي وصل إليها الإمام في صراعه مع بني اُميّة، والتي وصل إليها الإمام الحسن في صراعه مع بني اُميّة، كانوا يمنّونه السلامة، كانوا لا يتصوّرون أنّ التضحية يمكن أن تكون بديلاً لحياة بالإمكان الاحتفاظ بأنفسها مهما كانت هذه الأنفاس، ومهما كانت ملابسات هذه الأنفاس، هذه النصائح لم يتلقّها الإمام الحسين من رعاع، أو من عوام وإنما تلقّاها من سادة المسلمين، من الأشخاص الذين كان بيدهم الحلّ والعقد في المجتمع الإسلامي، تلقّاها من أشخاص من قبيل عبد الله بن عباس وعبد الله ابن عمر بن الخطّاب ، وعبد الله بن جعفر الطيّار، ومن قبل أخيه محمّد بن الحنفية ، ومن قبل غيرهم من سادة الرأي في المجتمع الإسلامي، حتّى أنّ عبد الله بن جعفر. الذي هو ابن عمّه، الذي هو ابن أخي علي بن أبي طالب، بالرغم من ارتباطه النسبي الوثيق بالخطّ كان منهاراً نفسياً إلى الدرجة التي أرسل فيها رسالة إلى الإمام الحسين حينما سمع بعزمه على سرعة الخروج من مكة: أن انتظر حتى ألحق بك، وماذا كان يريد من هذا الانتظار؟ الإمام الحسين لم ينتظره، فحينما وصل عبد الله بن جعفر إلى مكة كان الإمام الشهيد قد خرج منها، فذهب عبد الله بن جعفر رأساً إلى والي بني اُميّة في مكة وأخذ منه كتاب الأمان للحسين، وذهب بالكتاب إلى الحسين وهو يرى أنّه قد استطاع بهذا أن يقضي على كلّ مبرّرات خروج الحسين، لماذا يخرج الحسين من مكة؟ لأنّه خائف فيها وقد جاء الأمان له من سلاطين بني اُميّة.

    هذه النصائح كانت تعبّر عن نوع من الانهيار النفسي الكامل الذي شمل زعماء وسادة المسلمين فضلاً عن الجماهير التي كانت تعيش هذا الانهيار مضاعفاً في اخلاقها وسلوكها واطماعها ورغباتها، هذه السلبية والبرود المطلق الذي كان يواجهه الإمام الحسين، أو تواجهه حركة الإمام الحسين بالرغم من قوّة المثيرات، هذا البرود المطلق في لحظات ترقّب العطاء الحقيقي كان يعبّر عن ذلك الانهيار النفسي على مختلف المستويات.

    [align=center]المشهد الثاني: موقف عبد الله بن الحر الجعفي [/align]

    الحسين عليه الصلاة والسلام بنفسه يقصد عبد الله بن الحرّ الجعفي إلى خيمته ويتوسّل به إلى أن يرتبط بهذا الخطّ، ويتّصل به وهو أعرف الناس بصحّة هذا الخطّ وصوابه، فيعزّ عليه أن يقدّم قطرة من دمه، ويعزّ عليه أن يقدّم شيئاً سوى الفرس . فقط، لم يستطع أن يذوق طعم التضحية إلاّ على مستوى تقديم فرس واحدة فقط.

    [align=center]المشهد الثالث: موقف زعماء البصرة [/align]

    الإمام الحسين يكتب إلى ستّة من زعماء البصرة يختارهم من اُولئك الذين لهم ارتباطات مع خطّ الإمام عليّ عليه السلام فإنّ زعماء البصرة على قسمين: زعماء مرتبطون مع خطّ بني اُميّة وخطّ عائشة وطلحة والزبير، وزعماء يرتبطون مع خطّ الإمام عليّ ومدرسته، فيختار الإمام الشهيد ستة من الاشخاص الذين يرتبطون بمدرسة الإمام عليّ ويشعرون بالولاء لمفاهيم هذه المدرسة وشعاراتها وأهدافها، ويكتب اليهم يستنصرهم ويستصرخهم ويشعرهم بالخطر الدائم الذي تواجهه الاُمّة الإسلامية ممثّلاً في كسرويّة وقيصرية يزيد بن معاوية، فماذا يكون ردّ الفعل لهذه الرسالة؟ يكون رد الفعل ـ إذا استثنينا شخصاً واحداً وهو عبد الله بن مسعود النهشلي الذي كتب مستجيباً ـ هو البرود المطلق، أو الخيانة، إذ يبعث أحدهم برسول الحسين إلى عبيد الله بن زياد وكان وقتئذٍ والياً على البصرة (صدّقوا: أنّ هذا الشخص الذي قام بهذا العمل هو من شيعة عليّ بن أبي طالب، ولم يكن عثمانياً، بل كان علويّاً، ولكنّه علوي فقد كلّ مضمونه، فقد كلّ فقد كل مضمونه، فقد كل معناه، فقد كلّ إرادته) أخذ الرسول مع الرسالة إلى عبيد الله بن زياد لكن لا حبّاً لعبيد الله بن زياد، ولا إيماناً بخطّ عبيد الله بن زياد، بل حفاظاً على نفسه، وإبتعاداً بنفسه عن أقلّ مواطن الخطر، خشية أن يطّلع في يومٍ ما عبيد الله بن زياد على أنّ ابن رسول الله كتب إليه يستصرخه وهو لم يكشف هذه الورقة للسلطة الحاكمة وقتئذٍ، فيُتّخذ هذا نقطة ضعف عليه، فلكي يبتعد عن أقلّ نقاط الضعف، ولكي يوفّر له كلّ عوامل السلامة، وكلّ ضمانات البقاء الذليل أخذ رسول الإمام والرسالة وقدّمهما بين يدي عبيد الله بن زياد، فأمر عبيد الله بن زياد بالرسول فقتل (رضوان الله عليه).

    شخص آخر من هؤلاء الزعماء الأحنف بن قيس الذي عاش مع خطّ جهاد الإمام علي وعاش مع حياة الإمام عليّ عن قرب، وتربّى على يديه، ماذا كان جوابه لابن الإمام عليّ؟ أمره بالتصبّر والتريّث وقال له في رسالة أجاب بها على رسالته: ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون معرّضاً بالطلبات التي كان الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام يتلقّاها من شيعته. وفي الواقع كانت رسالة الأحنف تعبّر عن أخلاقية الاُمّة المهزومة، فإنّ الاُمّة في حالة تعرّضها للهزيمة النفسية، وفي حالة فقدانها لإرادتها وعدم شعورها بوجودها كاُمّة تنشأ لديها بالتدريج أخلاقية معيّنة هي أخلاقية هذه الهزيمة. وأخلاقية هذه الهزيمة تصبح قوّة كبيرة جدّاً بيد صانعي هذه الهزيمة لإبقاء هذه الهزيمة وإمرارها، وتعميقها وتوسيعها، ويصبح العمل الشجاع تهوراً والتفكير في شؤون المسلمين استعجالاً، ويصبح الاهتمام بما يقع على الإسلام والمسلمين من مصائب وكوارث نوعاً من الخفّة، واللاتعقّل، نوعاً من العجلة وقلة الأناة، نوعاً من التسرّع في العمل أو التفكير.

    هذه الأخلاقية هي أخلاقية الهزيمة التي تصطنعها الاُمّة لكي تبرّر هذه الهزيمة حينما تُهزم وتشعر بأنّها قد انتهت مقاومتها، فتنسج بالتدريج مفاهيم غير مفاهيمها الاُولى، وقيماً وأهدافاً ومُثُلاً غير القيم والمثل والأهداف التي كانت تتبنّاها في الأوّل، لكي تبرّر أخلاقياً ومنطقياً وفكرياً الموقف الذي تقفه.

    فالإمام الحسين عليه الصلاة والسلام كان يريد ـ في الواقع ـ أن يبدّل هذه الأخلاقية، ويصنع أخلاقية جديدة لهذه الاُمّة تنسجم مع القدرة على التحرّك، والارادة حينما كان يقول: "لا أرى... والحياة مع الظالمين إلاّ برماً" لم يكن هذا مجرّد شكوى، وإنّما كان عمليّة تغيير لأجل إيجاد أو ـ في الواقع ـ إرجاع هذه الأخلاقية الاُخرى التي فقدها الأحنف بن قيس، وفقدها كل الناس الذين مشوا مع الأحنف بن قيس.
    [align=center][/align]

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    [align=center]المشهد الرابع: مغادرة بني أسد محلّ سكناهم [/align]

    حبيب بن مظاهر يستأذن من الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام أن يذهب ويدعو عشيرته، ويدعو بني أسد للالتحاق بخطّ سيد الشهداء، وكلّ المسلمين يعرفون من هو حبيب بن مظاهر في مواقفه وجهاده، وفي بياض تأريخه وصفاء سيرته، وفي ورعه وتقواه، يذهب حبيب بن مظاهر ليطلب العون والمدد من عشيرة بني أسد للإمام عليه الصلاة والسلام، وتكون النتيجة لذلك أن تغادر عشيرة بني أسد بأجمعها تلك الليلة المنطقة، وتنسحب هذه العشيرة انسحاباً إجماعياً، ويرجع حبيب بن مظاهر ليبلّغ الإمام الحسين هذه النتيجة الغريبة وهي: أنّ عشيرته تخشى أن تبقى بعد اليوم، تخشى أن تبقى حتى حيادية، لأنّه قد لا يكتفي عمر بن سعد بهذا الحياد، فتغادر المنطقة نهائياً ولم يكن جواب سيّد الشهداء على ذلك إلاّ أن قال: «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم»

    هذا البرود والسكون، هذه الهزيمة النفسية قبل الهزيمة الخارجية هي مرض الاُمّة الذي كان يعالجه الإمام الحسين عليه السلام

    [align=center]المشهد الخامس: موقف أهالي الكوفة من مقتل رسول الحسين عليه السلام[/align]


    الصيداوي ـ وأظنّه: قيس بن مسهر . ـ الذي أرسله الإمام الحسين عليه السلام لكي يبلّغ رسالته إلى أهل الكوفة يعطي لهم إشعاراً بأنّه في الطريق، وأنّه على الأبواب ... هذا الرسول يدخل الكوفة بعد أن انقلبت، وبعد أن تغيّرت الكوفة غير الكوفة، وسيطر عبيد الله ابن زياد على كلّ القطاعات العسكرية في الكوفة، يؤخذ (قيس بن مسهر) أسيراً إلى عبيد الله بن زياد، وقبل أن يصل اليه يمزّق الكتاب، ويقف بين يدي عبيد الله بن زياد يقول له: لماذا مزّقت الكتاب؟ يقول: لأني لا اُريد أن تطّلع عليه، يقول له: وماذا كان فيه؟ فيقول: لو كنت اُريد أن اخبرك لما مزّقت الكتاب، يقول له: إنّي أقتلك إلاّ إذا صعدت على هذا المنبر وقلت بالصراحة شيئاً في سبّ عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين، هذا الرسول الأمين يغتنمها فرصة، ويصعد على المنبر في هذه اللحظة الحاسمة، في آخر لحظة من حياته، في هذا الإطار العظيم من البطولة والشجاعة والتضحية أمام عبيد الله بن زياد، وأمام شرطته وجيشه يوجّه خطابه إلى أهل الكوفة ويقول: أنا رسول الحسين اليكم، إنّ الحسين على الأبواب، فيؤدّي هذه الرسالة بكل بطولة، وبكلّ شجاعة، فيأمر عبيد الله بن زياد به فيقتل، وماذا يكون الصدى لمثل هذه الدفعة المثيرة القوّية! الآن رسول الإمام الحسين ـ الذي كتبوا له أهل الكوفة يطلبونه ـ على المنبر بهذا الشكل غير الاعتيادي والسيف فوق رقبته وهو يودّع الحياة في آخر لحظة من اللحظات، وهو يبلّغهم الرسالة بكلّ أمانة وشجاعة، ويضحي في سبيل تقديمها بدمه وبروحه، فماذا يكون أثر ذلك؟

    يكون أثر ذلك: أنّه حينما يأمر عبيد الله بن زياد به أن يُقتل فيُقتل يأتي شخص من أهل الكوفة فيقطع رأسه، فيقال له: لماذا قطعت رأسه؟ فيقول: لكي اريحه بذلك. هذه الاُمّة لا تفكّر إلاّ على هذا المستوى من الشفقة في حياتها، الشفقة التي تشعر بها هي الشفقة على هذا المستوى أما الشفقة على الوجود الكلي، الشفقة على الكيان، الشفقة على العقيدة قد انتزعت من قلوبها لأنّها تكلّف ثمناً غالياً، الشفقة التي لا تكلّف ثمناً هي أن تقطع رقبة هذا الشخص، وأن يريحه من هذه الحياة في ظل عبيد الله بن زياد.

    هذه المظاهر من البرود والسكون بالرغم من قوّة الاثارة هي دليل على عمق ما وصلت اليه الاُمّة من انحلال.
    [align=center][/align]

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    [align=center]المشهد السادس: الاندفاع نحو خطّ السلطة [/align]


    الى جانب ذلك ـ أو في عكس ذلك ـ يوجد الاندفاع المحموم نحو خطّ السلطان، نحو خط الحكم القائم، استطاع عبيد الله بن زياد خلال اسبوعين أو ثلاثة أسابيع ـ على أكثر تقدير ـ بعد مقتل مسلم بن عقيل إلى أوّل المحرّم أن يجنّد عشرات الاُلوف من أبناء هذا البلد الذي كان وما يزال ـ إلى ذلك الوقت ـ يحمل رسالة عليّ، والولاء له، جنّد من هذا البلد عشرات الآلاف، واستجاب له مئات من الأشخاص الذين كانوا قد حاربوا مع الإمام عليّ في صفّين، وحاربوا مع الإمام علي في سائر مراحل جهاده، استجاب له شخص من قبيل عمرو بن الحجّاج، ومن هو عمرو بن الحجّاج؟ هو من اُولئك الذين اضطهدوا في سبيل الإمام عليّ، من أولئك الذين عاشوا المحنة أيّام زياد، ولكنّه لم يستطع أن يواصل المحنة، طلّق عقيدته قبل أن يصل إلى آخر الشوط، لأنّه شعر أنّ هذه العقيدة تكلّف ثمناً غالياً، وأنّه إذا طلقّها أمكنه أن يشتري بدلاً عنها دنيا واسعة. هذا الشخص الذي رافق الإمام عليّ في جهاده انهار أخيراً وانتهت إرادته، انتهت شخصيّته كإنسان مسلم يفكّر في الإسلام. عمرو بن الحجّاج نفسه كلّفه عمر بن سعد بأسوأ عمل يمكن أن يُكلّف به إنسان كلّفه بالحيلولة دون سيّد الشهداء والماء، بقي واقفاً على الماء يمنع ابن رسول الله والبقيّة الباقية من ثقل النبوة عن أن يشربوا من الماء، واستجاب لذلك شبث بن ربعي ، ومن هو شبث بن ربعي؟ هو الرجل الذي عاش مع جهاد أميرالمؤمنين الرجل الذي كان يعي مدلول حرب صفين، وكان يدرك أنّ الإمام علياً في حرب صفين يمثل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في غزوة بدر، ولكنّ الدنيا، الانهيار النفسي، ولكن النفس القصير خنقه في النهاية، فذاب وتميّع، واشتدّ تميّعه بالتدريج إلى أن وصل إلى حدّ: أنّ عبيد الله بن زياد يبعث إليه ليقاتل الحسين ابن رسول الله، فماذا يكون العذر؟ ماذا يكون الجواب؟ لا يملك أن يعتذر بعذرٍ من الأعذار إلاّ أن يقول: «أنا مريض» كلمة باردة جدّاً على مستوى بروده النفسي، عبيد الله بن زياد يبعث اليه الرسول مرّة اُخرى ليقول له: المسألة حدّية، لا مرض في هذا الحالة، إمّا أن تكون معنا، وإمّا أن تكون عدوّنا، وبمجرّد أن يتلقّى هذه الرسالة ـ ويعرف أنّ المسألة حدية ـ يقوم شبث بن ربعي ويلبس ما كان يلبسه، ثم يخرج متّجهاً إلى عبيد الله بن زياد وهو يقول: لبيك... هذه الاستجابات من هذا الطرف، وذاك البرود، وتلك السلبية من ذلك الطرف هم أكبر دليل على هذا المرض.

    [align=center]المشهد السابع: محنة مسلم وهاني [/align]

    والدليل الذي هو أكبر من هذا هي محنة مسلم وهاني التي يقلّ نظيرها في التأريخ، هذه المحنة تصوّر هذا المرض وهو في قمّته، وهو في شدّته بأروع تصوير، أو بأفظع تصوير، قد يذهب وهم الإنسان إلى أنّ مسلم بن عقيل كيف اتّفق له أن يفرّط بكل هذه القوى الضخمة التي كانت بين يديه؟! كيف فرّط بهذه القوى الشعبية التي بين يديه بين عشية وضحاها وبقى وحيداً فريداً يتسكّع في الطرقات؟! كيف لم يستثمر هذه القوى في معركته مع عبيد الله ابن زياد؟!.

    في الواقع: أنّ هذه القوى لم تكن قوىً إلاّ على الورق، لم تكن هذه القوى قوىً إلاّ في سجل تسجيل الأسماء حينما سجّل الأسماء فبلغت ثمانية عشر ألف، أو بلغت عشرين ألف، أو بلغت ثلاثين ألف، كانت قوىً على الورق، وذلك لأنّ هؤلاء الثمانية عشر أو العشرين ألف كانوا جزءاً من هذه الاُمّة الميّتة، من هذه الاُمّة المنهارة هذا الانهيار العجيب المفاجئ في لحظة، هذا الإنهيار العجيب المفاجئ يعكس تلك الهزيمة المسبقة، هزيمة النفس، هزيمة الوجدان، هزيمة الضمير، وتلك الهزيمة، أيّ: هزيمة النفس والوجدان والضمير هي أساس هذه الهزيمة [أي: هزيمة تلك القوى الشعبية الضخمة التي كانت بين يدي مسلم عليه السلام وتشتّتها بين عشيّة وضحاها].

    عبيد الله بن زياد يبعث إلى هاني بن عروة . يقول له: تعال زر الأمير، الأمراء لا يطيقون الجفاء، لماذا أنت منقطع عن الأمير؟ هذا في الوقت الذي كان مسلم بن عقيل في بيت لهاني بن عروة، والشيعة يذهبون اليه متستّرين، هاني بن عروة يأتي إلى عبيد الله بن زياد فيتّهمه بأن مسلماً موجود عندك، وأنّك تفكر في الخروج وشق عصا الطاعة، هاني بن عروة يصطدم مع عبيد الله بن زياد ويقول له بأنّي لا أدري أين مسلم، يقول عبيد الله: لا بدّ لك أن تجده. فيقول هاني: لو أنّ مسلماً كان تحت قدمي لما رفعت قدمي، ثمّ يقدّم هاني له نصيحة بكلّ قوة، وبكل شجاعة ـ هو من الأفراد القلائل الذين استطاعت حركة الحسين أن تكشفهم في مجموع هذه الاُمّة الميّتة ـ فقال: لي نصيحة لك، قال عبيد الله: وما هي هذه النصيحة؟ قال: النصيحة أن تذهب أنت وأهل بيتك، وتحمل معك كلما لديك من أموال إلى الشام سالماً صحيحاً، لا شغل لنا بك. كان يتكلّم هاني بن عروة وهو يتخيّل أنّ له رصيداً، وأنّ عشرات الآلاف من خلفه سوف تنفّذ إرادته إذا أصبحت هذه الإرادة بحاجة إلى التنفيذ حينما اشتدّ غضب عبيد الله بن زياد، وحينما غضب هاني، حينما أمر بأن يحبس هاني انعكس الخبر في الكوفة بأنّ هانياً قتل أو في معرض القتل، جاء عمرو بن الحجّاج وجاء معه أربعة آلاف إنسان من عشيرته لكي يتفقّدوا أحوال هاني بن عروة ووقفوا بباب القصر يطالبون بحياة هاني بن عروة، عبيد الله بن زياد يبعث على شريح القاضي باعتباره قاضياً لا بدّ أن تتوفّر فيه شرائط فهو يعتبر شاهداً ثقة اذا استعمل شهادة،

    فقال له: تعال ادخل إلى الغرفة التي سجن فيها هاني، انظر اليه حيّاً، واشهد أمام هؤلاء بأنّ هانياً حيّ، فدخل شريح القاضي إلى الغرفة فرأى أنّ هانياً حيّ، يقول شريح القاضي ـ لعنة الله عليه ـ بمجرّد أن دخلت إلى الغرفة ورأيت هاني بن عروة صاح في وجهي: أين ذهب المسلمون؟! لو أن عشرة يهجمون على القصر الآن لأنقذوني ، لأنّ القصر ليس فيه شرطة، ليس فيه جيش، يعني لو أنّ عشرة فقط كانوا مستعدين لأنّ يموتوا في سبيل الله لتغيّر وجه الكوفة يومئذٍ لأن البيت ليست فيه شرطة، ولكن الشرطة كانت أوهام هذه الاُمّة التي فقدت شجاعتها وإرادتها. هذه الاُمّة التي فقدت شخصيتها خيّل لها أنّ هذا القصر هو جبروت، هذا القصر هو المعقل الذي لا يمكن اجتيازه، بينما هذا القصر كان أجوف لم يكن فيه شرطة ولا جيش، ولم يكن فيه سلاح بالقدر الكافي الذي يمكن أن يصمد أمام عشرة فقط، لذا قال هاني: أين ذهب المسلمون، عشرة فقط يكفون لانقاذي، يكفون للقضاء على هذا القصر، يكفون لاحتلال هذا القصر،

    شريح القاضي يقول: أنا رجعت إلى عمرو بن الحجّاج وأنا مكلّف بأن اُؤذّي الشهادة الشرعية بأنّ هاني بن عروة حيّ حتى يرجع عمرو بن الحجاج، لان عمرو بن الحجاج والاربعة آلاف الذين جاؤوا معه قصارى همهم أن يكون هذا حيّاً، ليس لهم همّ وراء أن يكون هذا حيّاً، يقول رجعت فهممت أن ابلّغ عبارة هاني ابن عروة لعمرو بن الحجّاج، أن أقول له أنّ هانياً يطلب عشرة فقط، يقول لو أن عشرة يهجمون على هذا (البُعبُع) [يراد بها الأمر المخيف والمرعب].، على هذا الشبح الضئيل الذي يكمن فيه عبيد الله بن زياد، لتمزّق هذا الشبح، وتحطّم هذا (البُعبُع)، يقول: هممت ثم التفت إلى أنّ شرطي عبيد الله بن زياد واقف إلى جنبي فسكتّ. وأدّى الشهادة المطلوبة منه رسميّاً وحكومياً بأنّ هانياً حيّ، ورجع عمرو بن الحجاج، وقتل هاني في اليوم الثاني.

    مسلم بن عقيل بنفسه يخرج مع أربعة آلاف شخص يطوّقون قصر الأمارة وعبيد الله بن زياد ليس معه إلاّ ثلاثون على ما تقول الرواية، وعشرون من أشراط الكوفة. مسلم بن عقيل معه أربعة آلاف لكن أربعة آلاف ليس لهم قلوب، ليس لهم أيدي ليس لهم إرادة، اقرؤوا أسماء قادة مسلم بن عقيل في هذه المعركة هؤلاء الأربعة آلاف فيهم جماعة من كبّار يوم عاشوراء لكنهم انهزموا جميعاً، لم يبق مع مسلم واحداً أبداً، يعني أنّ حركة الحسين هي بنفسها صنعت هؤلاء، هي بنفسها صعّدت هؤلاء، حتى هولاء السبعون الذين استشهدوا مع الحسين عليه السلام كان عدد منهم نتاج محنة حركة سيّد الشهداء، وإلاّ فلماذا انهزموا؟ على الأقلّ يبقى مع مسلم هذا الشخص الذي يعرف الطريق. صلّى في المسجد وتفرمق الناس، يقول التاريخ: كانت تأتي المرأة فتنتزع زوجها وأباها وأخاها وتقول: مالك وعمل السلاطين. هذا نهاية فقدان الارادة، إنّ الرجل يذوب ويتميّع لأنّ امرأة واحدة تأتي وتنتزعه انتزاعاً. هذه المرأة هي نفسها تلك المرأة التي وقفت بعد الإمام الحسين عليه السلام تلك الوقفات العظيمة على طول الخطّ، هذه المرأة هي نفس تلك المرأة التي أحبطت مؤامرة إمارة عمر بن سعد، حينما مات يزيد بن معاوية وبويع من قبل الأمويين في الكوفة لعمر بن سعد موقّتا، فأصبح أميراً على الكوفة، من الذي أسقط إمارته؟ اسقطته تلك المرأة التي كانت تذهب إلى زوجها وأبيها وأخيها تنتزعهم انتزاعاً، وتقول لهم: لا شغل لك مع السلاطين، هذه المرأة بنفسها قامت بمظاهرة وقفت أمام بيت عمر بن سعد تندب الحسين وتصيح: أن قاتل الحسين لا يمكن أن يكون أميراً في الكوفة حتى سقط عمر بن سعد.
    [align=center][/align]

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    2- التحوّل من أخلاقية الهزيمة إلى أخلاقية الإرادة

    الاُمّة حينما تنهزم وينتزع منها شخصيتها وتموت إرادتها تنسج بالتدريج ـ كما قلنا ـ أخلاقية معيّنة تنسجم مع الهزيمة النفسية التي تعيشها بوصفها اُمّة بدون إرادة، اُمّة لا تشعر بكرامتها وشخصيتها. بالرغم من وضوح الطريق وجلاء الأهداف وقدرتها على التميز المنطقي بين الحقّ والباطل، وبالرغم من أن اُطروحة معاوية قد تكشّفت كاُطروحة جاهلية في ثوب الإسلام، وأنّ اُطروحة علي عليه الصلاة والسلام قد اتّضحت أنّها التعبير الاصيل عن الإسلام في معركة ثانية مع الجاهلية، بالرغم من وضوح كل ذلك بعد الهدنة التي أعلنها الإمام الحسن عليه السلام بدأت الاُمّة نتيجة لفقدان إرادتها تنسج أخلاقية معيّنة تنسجم مع هزيمتها النفسية، والروحية والاخلاقية. وبهذا كان الإمام الحسين عليه السلام بين اخلاقيتين بين أخلاقية الهزيمة التي تعيشها الاُمّة الإسلامية قبل ان تهزم فعلياً يوم عاشوراء والاخلاقية الاخرى التي كان يريد ان يبثها وان ينشرها في الاُمّة الإسلامية وهي أخلاقية الارداة والتضحية والعزيمة والكرامة. كان الإمام الحسين عليه السلام يواجه تلك الأخلاقية التي ترسخت، ورسّخت من المفاهيم عن العمل، والسب والايجاب، والاثبات والنفي ما يشلّ طاقات التحرك، وكان يريد أن يغيّر تلك الاخلاقية دون أن يستفزها،

    كان يواجه الأخلاقية التي تمثلت في كلام للأحنف بن قيس حينما وصف المتحركين في ركاب الإمام الحسين بانهم اولئك الذين لا يوقنون. وأولئك الاشخاص الذين يتسرّعون قبل ان يتثبتوا من وضوح الطريق، هذا المفهوم من الأحنف بن قيس كان يعبّر عن موقف أخلاقية الهزيمة من التضحية، إنّ التضحية والاقدام على طريق قد يؤدي إلى الموت نوع من التسرّع وقلة الأناة، والخروج عن العرف المنطقي للسلوك. هذا المفهوم هو معطى أخلاقية الهزيمة. هذا المفهوم الذي تبدد بعد حركة الحسين عليه الصلاة والسلام واحتل بديله مفهوم التضحية الذي على أساسه قامت حركة التوابين، حركة أربعة آلاف لا يرون لهم هدفاً في طريقهم إلاّ التضحية، لكي يكفّروا بذلك عن سيّئاتهم وموقفهم السلبي تجاه الإمام الحسين.

    أخلاقية الهزيمة هي هذه الاخلاقية التي انعكست في كلام لأخي الحسين عمر الأطرف حينما قال للامام الحسين عليه السلام أن تبايع يزيد خير لك من أن تقتل ، من أن تموت. هذه أخلاقية الهزيمة هي التي تبدّلت بعد هذا خلال خطّ حركة الحسين عليه السلام، وانعكست في مفهوم لعلي بن الحسين حينما قال لأبيه: أو لسنا على الحقّ؟ قال: بلى قال: إذن لا نبالي، أوقعنا على الموت أو وقع الموت علينا... اخلاقية الهزيمة التي كان يواجهها الإمام الحسين عليه السلام هي الأخلاقية التي انعكست في كلام لمحمد بن الحنفية حينما كان ينصح الإمام الحسين ويقول له: إنّ أخشى ما أخشى أن تدخل إلى مصر وبلد من بلاد المسلمين فيختلف عليك المسلمون، فبعض يقفون معك وبعض يفقون ضدّك، ويقع القتال بين أنصارك وأعدائك فتكون أضيع الناس دماً، الأفضل من ذلك أن تقف بعيداً عن المعترك، ثم تبثّ رسُلك وعيونك في الناس، فإن استجابوا فهو، وإلاّ كنت في أمن من عقلك ودينك وفضلك ورجاحتك. هذه هي أخلاقية الهزيمة التي تحوّلت فيما بعد، حيث أصبح دم الحسين عليه السلام ـ هذا الدم الذي كان يتصوّره محمد بن الحنفية أنّه سوف يكن أضيع دم ـ مفتاح تحريك الاُمّة حينما قال المختار في سجن عبيد الله بن زياد: إني أعرف كلمة استطيع بها أن أملك العرب، هذا الدم الذي كان يتصوّره أنّه أضيع دم أصبح هو مفتاح السلطات والسيطرة على المنطقة كلها.

    أخلاقية الهزيمة هي الاخلاقية التي عبّر عنها الأمير الأموي يزيد بن معاوية في رسالةٍ له إلى عبيد الله بن زياد، يقول في الرسالة: انّ آل أبي طالب هؤلاء أسرع ما يكونون إلى سفك الدماء. هذا التعبير في الواقع هو ظاهرة من ظواهر أخلاقية الهزيمة، حينما تبرز أخلاقية الهزيمة وتترسخ وتتعمّق تتحوّل كل محاولة جدّية لمقابلة الظلم والظالمين إلى نوع من السفك والقتل في نظر المثبّطين والمجمّدين هذه الأخلاقية التي يريد الإمام الحسين عليه السلام أن يحوّلها إلى أخلاقية التضحية والارادة، إلى الاخلاقية الإسلامية الصحيحة التي تمكن الإنسان المسلم من أن يقف موقفه الايجابي والسلبي وفقاً لما تقرّره الشريعة الإسلامية إيجاباً وسلباً.

    [align=center]دقّة التحرك في عملية التحويل [/align]

    وفي عملية التحويل هذه كان الإمام الحسين يواجه أدقّ مراحل عمله وذلك لانه في نفس الوقت الذي يريد ان يبثّ في جسم الاُمّة وفي ضميرها ووجدانها أخلاقية جديدة كان يحافظ في نفس الوقت على ان لا يخرج خروجاً واضحاً عن الاخلاقية التقليدية التي عاشتها الاُمّة نتيجة لهزيمتها الروحية، كان يحرص على ان لا يخرج بشكل واضح ومثير عن تلك الاخلاقية المنحطّة التي عاشتها الاُمّة، وذلك لأنه كان يريد أن يخلق وينشئ الاخلاقية الجديدة عن طريق هزّ ضمير الاُمة الإسلامية، ولم يكن بامكانه أن يهزّ ضمير الاُمّة الإسلامية الا اذا قام بعمل مشروع في نظر هذه الاُمّة الإسلامية التي ماتت ارادتها وتغيرت أخلاقيتها، والتي أصبحت تعيش هذه المفاهيم التي انعكست في كلمات هؤلاء الذين تحدثنا عنهم. كان لا بد أن يراعي الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام في سيره وتخطيطه هذه الاخلاقية، وان لا يستفزّها لكي يبقى محتفظاً لعمله بطابع المشروعية في نظر المسلمين الذين ماتت أخلاقيتهم الحقيقية وتبدّلت مفاهيمهم عن العمل والسلب والايجاب.

    [align=center] الإمام الحسين عليه السلام يخطط لعملية التحويل: [/align]

    الإمام الحسين عليه السلام في الواقع قد اتّخذ منذ البدء موقفاً ايجابياً واضحاً صريحاً بينه وبين ربّه، كان قد صمّم منذ اللحظة الاُولى على أن يخوض المعركة مهما كلفه الامر وعلى جميع الاحوال والتقادير، وأن يخوضها إلى آخر الشوط والى أن يضحي بآخر قطرة من دمه، كان يفكر تفكيراً إيجابياً مستقلاً في ذلك، لم يكن يتحرّك نتيجة لردود فعل من الاُمّة، بل كان هو يحاول أن يخلق ردود الفعل المناسبة لكي يتحرّك، ومن أدلة ذلك أنّ الإمام الحسين عليه السلام بدأ بنفسه الكتابة إلى زعماء قواعده الشعبية في البصرة. نعم لم يرو لنا التأريخ أنّه كتب ابتداءً بشكل مكشوف واضح إلى زعماء قواعده الشعبية في الكوفة، ولكنّ التأريخ حدّث بأنّه كتب وابتدأ بالحديث والتحريك قواعده الشعبية في البصرة، وأعلن في رسالته لهم أنه قد قرّر الخروج على سلطان بني اُميّة. قال لهم بأنّ هذا الخطّ الذي يمثّله هو ويمثّله أخوه وأبوه هو الحق، إلاّ أنّه سكت وسكت أبوه وأخوه حينما كان الكتاب والسنّة تراعى حُرمتهما. أما حينما انتهكت حرمة الكتاب وحرمة السنّة، حينما اُميتت السنّة، حينما احييت البدع، حينما انتشر الظلم لا بدّ لي أن أتحرك، ولا بدّ لي أن اغيّر، ولا بد لكم أن تحققوا في هذا الموقف درجة تفاعلكم مع رسالتكم. قال ذلك بوضوح،

    وطلب منهم بشكل ابتدائي الالتفاف حول حركته، وهذا يعني أنّ لامام الحسين لم يكن في موقفه يعبّر عن مجرد استجابة لردود فعل عاطفية، أو منطقية في الاُمّة، بل كان هو قد بدأ منذ اللحظة الاُولى في تحريك الاُمة نحو خطّته وخط عمله. موقفه من والي المدينة أيضاً واضح في ذلك حينما استدعي من قبل والي المدينة وعرض عليه الوالي في نصف الليل أن يبايع يزيد بن معاوية، وحينما تكشف لوالي المدينة أنّ امتناع الحسين عليه السلام عن البيعة هو بحسب الحقيقة لون من ألوان الرفض، صرّح بعد هذا الإمام الحسين بكل وضوح عن إيمانه بحقّه في الخلافة، وقال نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة وكان هذا واضحاً في إعلانه العزم والتصميم على حركة مسلّحة ضدّ السلطان القائم وقتئذٍ. هذا التهديد وتلك الرسالة الابتدائية لزعماء قواعده الشعبية في البصرة ـ إلى غير هذا وذاك من القرائن والدلائل ـ يعبّر عن أنّ الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام كان يخطّط تخطيطاً ابتدائياً لتحريك الاُمّة وكان قد صمّم على ان يتحرّك مهما كانت الظروف والأحوال. هذا واقع التخطيط.
    [align=center][/align]

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    [align=center]شعارات الحسين عليه السلام في تبرير مخططه: [/align]

    ولكن الإمام الحسين حينما كان يُلقي شعارات هذا التخطيط على هذه الاُمّة الإسلامية المهزومة أخلاقياً، المهزوزة روحياً، المتميّعة نفسياً، الفاقدة لارادتها، حينما كان يلقي شعارات هذا التحرّك على هذه الاُمّة لم يكن في كل إلقاءاته صريحاً واضحاً

    [align=center]الشعار الأول: حتمية القتل [/align]

    كان الإمام الحسين يُعترض عليه، ويقال: لم تخرج؟ يعترض عليه عبد الله بن الزبير وغيره، فيقول له: بأنّي أنا اُقتل على كلّ حال سواء خرجت أو لم أخرج، إنّ بني اُمية لا يتركونني، ولو كنت في هامة من هذه الهوام لأخرجوني وقتلوني، إنّ بني اُميّة يتعقبوني أينما كنت، فأنا ميّت على أيّ حال سواء بقيت في مكة أو خرجت منها، ومن الافضل أن لا اُقتل في مكة لكي لا تنتهك بذلك حرمة هذا الحرم الشريف.

    فتراه طرح هذا الشعار، وهذا الشعار بالرغم من واقعيّته منسجم مع أخلاقية الاُمّة المعاشة أيضاً، فأخلاقية الهزيمة التي تعيشها الاُمّة الإسلامية لا تجد منطقاً تنفذ منه للتعبير عن نقد مثل هذا التحرك من الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام، فهو عليه السلام يقول: أنا مقتول على كلّ حال، والظواهر كلّها تشهد بذلك، الدلائل والأمارات والملابسات تشهد بأنّ بني اُميّة قد صمّموا على قتل الإمام الحسين عليه السلام ولو عن طريق الاغتيال ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، إذن فطرح مثل هذا الشعار لاجل تفسير هذا الموقف كان مناسباً جدّاً مع إقناع أخلاقية الهزيمة، مع كونه شعاراً واقعياً في نفس الوقت.

    [align=center]الشعار الثاني: غيبية قرار التحرك [/align]

    يأتي أشخاص آخرون اليه يعترضون عليه، يقولون: لم تتحرّك، يأتي محمد بن الحنفية ينصحه في أوّل الليل بنصائح عديدة فيقول له: انظر، افكر فيما تقول فيذهب محمد بن الحنفية وفي آخر الليل يسمع بأنّ الإمام الحسين قد تحرك، فيسرع اليه ويأتي ويأخذ براحلته ويقول له: يا أخي قد وعدتني أن تفكر، قال: نعم، ولكني بتُّ في هذه الليلة فرأيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فقال: إنّك مقتول، فتراه عليه السلام يجيب بهذا الجواب، يجيب بقرار غيبي [صادر] من أعلى، وهذا القرار الغيبي من أعلى لا يمكن لأخلاقية الهزيمة أن تنكره ما دام صاحب هذه الأخلاقية مؤمناً بالحسين، ومؤمناً برؤيا الحسين، طبعاً هو لم يحدث بهذه الرؤيا عبد الله بن الزبير الذي لم يكن مؤمناً برؤيا الحسين، بل حدث بذلك محمد بن الحنفية وأمثال محمد بن الحنفية، فهذا شعار آخر كان يطرحه وهو شعار حتمية الموت [الصادرة] من أعلى، وأنّ هناك قراراً من أعلى يفرض عليه أن يموت، أن يضحي، أن يغامر، أن يقدم على هذه السفرة التي قد تؤديّ إلى القتل، وهذا الشعار أيضاً كان بالرغم من واقعيته ينسجم مع أخلاقية الهزيمة، وهو في نفس الوقت شعار واقعي.

    [align=center] الشعار الثالث: ضرورة إجابة دعوات أهل الكوفة [/align]

    وكان في مرّة ثالثة يطرح شعاراً ثالثاً، كان يقول للاشخاص الذين يمرّ بهم في طريقه من مكة إلى العراق، في منازله المتعدّدة حينما كانوا ينصحونه بعدم التوجّه إلى العراق، كان يقول لهمك إنّي قد تلقّيت من أهالي الكوفة دعوة للذهاب اليهم، وقد تهيأت الظروف الموضوعية في الكوفة لكي أذهب، ولكي اُقيم حقاً وأزيل باطلاً، فكان يعكس ويفسّر سفرته على أساس أنّها استجابة وأنّها ردّ فعل، وأنّها تعبير عن إجابة طلب، أنّ الاُمة تحركت وأرادت، وأنه قد تمّت الحجّة عليه، ولا بدّ له أن يتحرك. الإمام الحسين لم يكن في واقعه يقتصر في مرحلته الجهادية هذه على أن تطلب منه الاُمّة فيتحرّك، والاّ لما راسل ابتداءً زعماء قواعده الشعبية بالبصرة ويطلب منهم التحرّك، ولكنّه في نفس الوقت كان يعكس هذا الجانب أكثر مما يعكس ذاك الجانب، لأنّ هذا الجانب أقرب انسجاماً مع أخلاقية الهزيمة، ماذا تقول أخلاقية الهزيمة أمام شخص يقول لها: بأنّي قد تلقّيت دعوة، وإنّ ظروف هذه الدعوة ملائمة للجواب والتحرك نحو الداعي، وبطبيعة الحال هناك فرق كبير بين إنسان يتحرك تحركاً ابتدائياً وإنسان آخر يتحرّك إجابةً لجماهير آمنت به وبقيادته وزعامته، فهناك قول أخلاقية الهزيمة انّ هذا متسرع، وإنّ هذا لا يفكر في العواقب، وإنّه ألقى بنفسه في المخاطر. أمّا حينما يكون العمل إجابة لدعوة من جماهير قد هيّأت كل الأجواء اللازمة لهذه الدعوة، فهذه الاخلاقية المهزومة لا تقول عن هذا العمل وهذا التحرك: إنّه عمل طائش إنّه عمل صبياني، إنّه عمل غير مدروس.

    هذه الشعارات التي طرحها الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام كانت كلّها واقعية وفي نفس الوقت كانت منسجمة مع أخلاقية الاُمّة المهزومة روحياً وفكرياً ونفسياً.

    [align=center] الشعار الرابع: ضرورة الثورة ضد السلطان الجائر [/align]

    وكان يطرح أيضاً إلى جانب كل هذه الشعارات الشعار الواقعي حينما كان يؤكّد على أنّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً يحكم بغير ما أنزل الله فلم يغيّر من ذلك السلطان بفعل أو قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. فكان إلى جانب تلك الشعارات التي يسبغ بها طابع المشروعية على عمله في مستوى أخلاقية الاُمّة كان يعطي أيضاً باستمرار ودائماً الشعار الواقعي الحي الذي لا بد وأن يكون هو الاساس للاخلاقية الجديدة التي كان يبنيها في كيان هذه الاُمّة الإسلامية.

    [align=center][/align]

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    16

    افتراضي

    وفقك الله سيدي المراقب.. ومأجور منه تعالى (لإنعاشك) أوابد الشهيد السعيد محمد باقر الصدر.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jun 2003
    المشاركات
    817

    افتراضي

    ونسأل الله لكم التوفيق وإن شاءالله يوفقنا الله في السير على طريق السيد الشهيد ونشر نهجه الإسلامي الأصيل.
    [align=center][/align]

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني