المرجعية الدينية والحوزة العلمية في العراق تاريخ ومواقف
[email protected]
[email protected]
http://www.al-kawther.net/6lee3a/index.htm
حزب الطليعة الإسلامي
دراسات معاصرة
إعداد مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية لحزب الطليعة الاسلامي - بغداد -

الحوزات العلمية في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمين وسامراء وبقية المدارس الدينية في محافظات العراق كانت ومنذ عدة قرون مراكز للعلم والاجتهاد ونشر العلوم والمعارف الاسلامية وتعاليم أهل البيت"ع" الرسالية. ولم يدخر أعداء الاسلام على إمتداد القرون والأعصار وسعا لهدم هذه الصروح ، خصوصا الحوزة العلمية في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمين وسامراء. وجسد أعداء الاسلام أعمالهم بقتل العلماء والمفكرين البارزين لهذه الحوزات والمدارس الدينية. النظام البعثي الديكتاتوري الشمولي الذي حكم العراق عبر إنقلاب عسكري أسود عام 1968م ، قد مارس أبشع الأعمال الاجرامية بحق الحوزات العلمية والمدارس الدينية والعلماء ورجال الدين ، من أجل القضاء على الحركة الشيعية في العراق وإرجاع العراق الى القرون الوسطى من التخلف والابتعاد عن العلوم والمعارف الالهية التي تنبض وتزخر بها هذه الحوزات ، خصوصا الحوزة العلمية في النجف الأشرف. لذلك عمل نظام البعث بقانون الموت والقتل والإغتيال لعرقلة المشروع الديني والاصلاحي للحوزات العلمية وعلمائها ومفكريها. في بداية مجي الحكم البعثي العفلقي قام هذا النظام عام 1972م بسلسلة إعتقالات لقادة الحركة الاسلامية في العراق شملت إعتقال آية الله السيد محمد باقر الصدر وآية الله السيد محمد محمد صادق الصدر وآية الله السيد محمد باقر الحكيم (شهيد المحراب) الذي أستشهد بعد سقوط النظام البائد. وتتابعت الاعتقالات لأبناء الطائفة الشيعية وقادة الحركة الاسلامية في العراق ، ففي كربلاء المقدسة قام النظام السابق بتشديد الخناق على الحوزة العلمية فيها بالتضييق على آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي ، وشن الكثير من الاعتقالات ونفذ الكثير من الاعدامات بحق الشباب المؤمن الرسالي الذي كان يسير على خط المرجعية الدينية في كربلاء المقدسة. لقد تنامت الحركة المرجعية في كربلاء المقدسة بتصدي آية الله الشيرازي للمرجعية خلفا لوالده المرجع الديني المقدس آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي ، وقام النظام البعثي بإعتقال المفكر الاسلامي آية الله السيد حسن الشيرازي وهم بإعدامه لولا تدخل المرجعية في النجف الأشرف والرأي العام الاسلامي والعالمي. لقد كان للحوزة العلمية في كربلاء المقدسة الدور الكبير في مناهضة النظام البعثي العفلقي وتحدى علمائها وخطبائها المد البعثي بشجاعة وإقدام ، ولذلك قام النظام البعثي بإصدار حكم الاعدام بحق المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي وأخيه المرجع الحي والذي يسكن في مدينة قم المقدسة حاليا سماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي ، وتوقفت الحوزة العلمية والمدارس الدينية ومدارس حفاظ القرآن من مواصلة النشاط الديني والثقافي والعلمي لقساوة النظام الديكتاتوري البائد ، وإستقر قادة الحركة المرجعية في كربلاء في المنفى ليواصلوا كفاحهم ونضالهم وجهادهم ضد النظام الصدامي وقام حزب البعث الكافر بإغتيال المفكر الاسلامي آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي في بيروت وهو في طريقه لحضور المجلس التأبيني للمرجع الشهيد الامام الصدر الأول. وقد خرجت الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة علماء وخطباء وشخصيات قيادية بارزة أثروا الحركة الاسلامية المرجعية بجهادهم وقلمهم وتراثهم الفكري الثوري ، منهم سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي الذي كان قد أسس منظمة العمل الاسلامي في العراق مع رفاقه الرساليين كانت من الحركات الاسلامية التي إنضوت تحت لواء الحركة المرجعية ، وبعد ملاحقة البعث له ، خرج الى المنفى لواصل الجهاد والعمل الاسلامي ضد نظام البعث الى أن رجع الى مسقط رأسه وهو متصدي للمرجعية الدينية في كربلاء المقدسة ، بالاضافة الى شقيقه سماحة آية الله السيد هادي المدرسي المعروف ببلاغة خطابه وتصديه للعمل الاسلامي والرسالي في الساحة الاسلامية. كذلك أرفدت الحركة المرجعية في كربلاء للساحة الاسلامية الكثير من العلماء والخطباء يأتي على رأسهم آية الله السيد مرتضى القزويني والعلامة الحجة السيد عبد الحسين القزويني والعلامة الحجة الخطيب المفوه الشيخ عبد الحميد المهاجر والعلامة الحجة الشيخ ضياء الزبيدي ، وآخرون الذين قارعوا النظام البعثي الكافر ودافعوا عن الاسلام والتشيع والحوزة العلمية في كربلاء ودافعوا عن الحركة الاسلامية. أما الحوزة العلمية في الكاظمية فقد ربت أجيال رسالية مؤمنة منهم العلماء والفقهاء والمدرسين للحوزات العلمية من آل الحيدري وآل الخالصي وآل الصدر ، وإن الشهداء من آل الصدر هم خريجيها ، فآية الله السيد حيد الصدر رضوان الله تعالى عليه هو والد آية الله السيد إسماعيل الصدر والسيد الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر ، ولابد من التعمق في دراسة تاريخ هذه الحوزة العلمية العريقة المجاورة للإمامين الجوادين ، ودراسة حياة آية الله السيد حيدر الصدر ، حيث سنكمل هذه الدراسة وهذا البحث عن تاريخ الحوزات العلمية الشيعية في العراق في مكان آخر بعد المطالعة والبحث والتدقيق ، كما سنتطرق الى دور المرحوم الشيخ مهدي الخالصي الكبير (الجد) "قدس سره الشريف "والذي خرج للجهاد في ثورة العشرين جنبا الى جنب السيد حيدر (جد السادة آل الحيدري) والذي كان من العلماء والمجتهدين وآل الحيدري هذه العائلة العريقة لا زالت تخرج العلماء والمجاهدين والخطباء والمنبريين وعلى رأسهم حجة الاسلام والمسلمين السيد محمد الحيدري إمام جمعة مسجد الخلاني في بغداد ولهم في الوقت الحاضر مدارس علمية نموذجية في بغداد والكاظمية وحسينياتهم التي بنوها لا زالت مجاورة لحرم الكاظمين ولا زالوا يثروا الساحة الاسلامية بالعطاء. يضاف الى ذلك أننا وفي بحثنا حول الحوزات العلمية سوف نسعى لتناول تراث آية الله السيد مرتضى العسكري وآية الله العظمى السيد أبو الحسن الاصفهاني الذين كانوا يتراوحون بين مدينتي الكاظمية وسامراء ، وكذلك سوف نتناول آثار السيد عبد الهادي الشيرازي وأعماله الجليلة في مدينة سامراء والتي لو قدر لها الاستدامة لكانت حال سامراء المذهبية على غير صورتها التي نراها الآن. لقد كان المشروع البعثي الصدامي بشعا جدا ، حيث سعى النظام البائد لتغيير ثقافي وعقائدي شامل داخل الأمة بأفكاره الضالة والانتقائية التي جاء بها ميشيل عفلق من أجل إبعاد الأمة عن هويتها وتاريخها الاسلامي الناصع. وقد بلغت شدة البطش والطغيان والقتل والاغتيالات ذروتها بعد مجيء صدام الكافر على السلطة في العراق ، بعد تنامي الحركة الثورية الشعبية للثورة الاسلامية في إيران بقيادة الامام الخميني قدس سره الشريف. لقد أوعزت الدوائر الاستكبارية العالمية لعميلها صدام حسين بتنحية أحمد حسن البكر عن السلطة وتسلم زمام الأمور من أجل تنفيذ مهام تاريخية أراد الاستعمار والاستكبار إيعازها لعميلهم اللقيط ، فأقصى صدام البكر وتسلم الحكم وأعدم الكثير من أتباع الرئيس السابق ، وبدأ بحملة شديدة وشرسة ضد معارضيه الشيعة وقام بحملة إعتقالات في صفوف العلماء طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمين بالاضافة الى الألآف من أبناء الطائفة الشيعية وزجهم في السجون والمعتقلات والزنزانات الرهيبة. وتنفيذا لأوامر أسياده الأجانب قام صدام بشن حرب إستنزاف شامل مفروضة ضد الجمهورية الاسلامية في إيران إستمرت لأكثر من ثمان سنوات لتصدير أزمته الداخلية أولا ، لأن العراق كان على أعتاب ثورة إسلامية شاملة ضد البعث بعد إنتصار الثورة الاسلامية في إيران ، ومن أجل تنفيذ مخططات أسياده الأميركان والدول الأوروبية والدول الرجعية في المنطقة وعلى رأسهم النظام السعودي والنظام الأردني والنظام المصري وبقية الأنظمة الرجعية الخليجية في المنطقة ثانيا ، الذي كان هدفهم الرئيسي والأساس إسقاط النظام الاسلامي الفتي في إيران وخنق شيعة العراق لكي لا يتحرروا من ربقة النظام الصدامي ويكون لهم دور في المعادلة السياسية العالمية والاقليمية ، إضافة الى خنق الروح الثورية عند بقية الشيعة في البلدان العربية مثل السعودية والبحرين والكويت لكي لا يطالبوا بحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المسحوقة. ولمعرفة النظام البعثي البائد لما لدور الحوزة العلمية والعلماء والمرجعيات الدينية من أثر بالغ في التأثير على الشعب وتنمية الشعور الديني والاسلامي داخل الأمة لمقاومة الأفكار الانحرافية والإنتقائية لحزبه قام بمحاربة الاسلام السياسي المتنامي داخل العراق وذلك بالتضييق على الامام السيد محسن الحكيم أولا والذي مات مغموما مهموما من أعمال حزب البعث ، ومن ثم قام حزب البعث بالتضييق على الامام الشهيد الصدر الأول الذي كان يحمل مشروعا دينيا إصلاحيا داخل الأمة ، فقام بإعدامه مع شقيقته العلوية بنت الهدى ، ومجموعة من العلماء والمجاهدين على رأسهم آية الله الشيخ مهدي السماوي وقادة وعلماء آخرون في حزب الدعوة الاسلامية. ولكن الحوزة العلمية ومراجع الدين لم يستسلموا للأموية والعباسية الجديدة التي سعت الى طمس الدين وعلوم الدين والتاريخ الشيعي ، وبذل العلماء جهدهم في سبيل إستمرار الحوزات العلمية في رفد الأمة بالثقافة الاسلامية الأصيلة وتربية العلماء والفضلاء والمجتهدين والخطباء ، وعلى الرغم من الارهاب والقمع الا أن الحوزة العلمية في النجف الأشرف ومرجعياتها الدينية وقفت صامدة شامخة في وجه الارهاب الأرعن لنظام صدام الكافر وقدمت الكثير من الشهداء من آل الحكيم وآل الصدر وغيرهم. وقد دفع بالنظام الطاغي في بغداد بعد تصدي آية الله الشهيد السيد محمد باقر الحكيم للمعارضة الشيعية ضد نظامه الى أن يشن حملة إعتقالات شملت أكثر من تسعين شخصا من العلماء والفضلاء والمجتهدين والمؤمنين الرساليين من عائلة آل الحكيم الذين أعدموا وأستشهدوا تحت التعذيب في سجون النظام البائد ، كان بينهم آية الله السيد علاء الحكيم الذي كان فقيها وعالما ومجتهدا متألقا في الفقه والأصول ، ولو بقي حيا لتصدى للمرجعية العليا في النجف الأشرف. إستمرت الحوزة العلمية في النجف الأشرف تنهج المشروع الاصلاحي المرجعي الذي أسس له المرجع الشهيد الصدر الأول ، وتابع آية الله العظمى الشهيد محمد محمد صادق الصدر(المعروف بالصدر الثاني) المشروع الاصلاحي داخل الأمة مستلهما الفكر والعطاء من أستاذه المرجع الشهيد آية الله العظمى الامام السيد محمد باقر الصدر "رضوان الله تعالى عليه" ، الى أن قام النظام البعثي الكافر بإغتياله مع نجليه الشهيدين. والشهيد الصدر الثاني تربى في أسرة علمية معروفة بالتقوى والعلم والفضل ، ضمت مجموعة من فطاحل العلماء منهم جده لأمه آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين "قد سره" ومنهم والده السيد محمد صادق الصدر"قدس الله نفسه الزكية" الذي كان آية في التقوى والتواضع والزهد والورع. المرجعية السياسية والحوزة الناطقة لقساوة الظروف السياسية والقمع والارهاب السياسي للنظام البائد ضد الشعب العراقي وخصوصا الحوزة العلمية في النجف الأشرف ، ذهب الكثير من العلماء والفقهاء الى التقية والسكوت وملازمة منازلهم وبيوتهم لشدة القمع والاضطهاد ، وإكتفوا بالتدريس لعلوم الفقه والاصول وتربية طلبة العلوم الدينية ، الا أن الشهيد الصدر الثاني الذي تخرج من كلية الفقه في النجف الأشرف عام 1964م وكان من المتفوقين في دروسه الحوزية ، حيث كان من أبرز طلاب الشهيد الصدر الثاني رضوان الله تعالى عليه ومقررا لأبحاثه الفقهية والأصولية ، تصدى للتغيير الاصلاحي والسياسي في العراق على الرغم من الاستبداد البعثي القاسي. ومن المعروف أن مدرسة السيد محمد باقر الصدر كانت تعتبر أرقى مدرسة علمية في المعرفة الفقهية والأصولية عمقا وشمولا ودقة وإبداعا وكان الشهيد الصدر الثاني علما من أعلام تلك المدرسة المتفوقة والمتميزة. وقد تتلمذ الصدر الثاني في علومه ومعارفه الدينية والحوزوية على يد المرحوم الحجة محمد رضا المظفر صاحب كتاب أصول الفقه ، والعلامة الحجة السيد محمد تقي الحكيم ، والملا صدر البادكوبي. وعندما إرتقى الى أعلى مستوى دراسي حوزوي حضر عند أساتذة الحوزة العلمية وهم الامام السيد محسن الحكيم وأية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر والامام الخميني وآية الله العظمى السيد أبوالقاسم الخوئي ، ونال على أيدي هؤلاء مرتبة الاجتهاد والفتوى أهلته للمرجعية والتصدي للنظام الفاشي بتصديه للإصلاح والتغيير عبر مفاهيم الحوزة الناطقة. لقد إستلهم الشهيد الصدر الثاني الفكر الثوري من تجربة ودروس الامام الخميني التي كان يدرسها في حوزة النجف الأشرف حيث كان السيد الامام يدرس دروس ولاية الفقيه والحكومة الاسلامية ، وبعد ذلك إستلهم هم المشروع التغييري في العراق من تجربة ودروس ونظريات الشهيد الصدر الأول الذي كان يعد أكبر مفكر إسلامي في العصر الحديث. ولذا يمكن القول ، أن السيد محمد محمد صادق الصدر قد وظف بالاضافة الى قدراته الفقهية التقليدية تجربتين في تجربته ، التجربة الخمينية ، والتجربة الصدرية الاولى ، فهو توجه بكل جهوده الى الجانب الاصلاحي العملي من أجل أن يحقق حضورا تغييريا في وسط الأمة ، وأنجز أول تجربة عملية تغييرية يقودها فقيه في بلد مثل العراق بحركة إنتاج فقهي عملي أيضا ، أي بمعنى فقه يواكب حركة الحياة ، بتطوراتها ، ومستجداتها ، وآفاقها المستقبلية ، إذ أنه أراد أن يربط الفقه بالواقع وأن يبعث فيه روح التجديد ، وبهذا الاستنتاج يمكن القول إن السيد الشهيد الصدر الثاني كان فقيها عمليا واقعيا معاصرا ثوريا وضمن الظروف التي عاشها إستطاع أن يقرب بين النظرية الخمينية والنظرية الصدرية الاولى وأن يوظف منهجهما المرجعي وأن يتأثر بتجربتهما ، وأن يصوغ ملامح تجربته الخاصة ، هذه التجربة التي كانت تنبع من كونها عراقية بكل إستثناءات العراق المعروفة ، المتعلقة بالسلطة والجو السياسي ، والأمة ، وموقع الحوزة. وخلال العقدين الأخيرين من تاريخ النظام البعثي الدموي البائد ، تعرض هذا النظام لهزات سياسية عميقة حيث قام صدام المخلوع بغزو الكويت مما أدى الى إضعاف حكمه وسطوته ، وتصدى الشهيد الصدر الثاني لمشروع تغييري داخل الأمة رغم قساوة النظام البائد وباشر في مشروعه التغييري في الأمة على رغم سكوت البعض من المراجع في النجف الأشرف ، فتصدى للمرجعية الدينية الناطقة ونهض بذلك الدور الكبير والضخم والمهم والخطير في مرحلة من أكثر مراحل المسار السياسي العراقي حساسية وتعقيدا ، إذ بدا عليه قبل هذا التصدي للمرجعية التواضع والزهد والمثابرة والبحث والجد في دراسته والتأثر بثورة جده الامام الحسين عليه السلام. لقد إستطاع الشهيد محمد صادق الصدر على بساطة شخصيته وتواضعها أن ينجز تحولا كبيرا في المسار الاسلامي الشيعي في العراق ، وهو تحول أثبت الكثير من الذكاء والبراعة والابداع. وقد كان زمان مشروعه التغييري ، زمان لا يكاد يستوعب ضخامة هذا المشروع وأبعاده ومفرداته ومجالاته ، ففي بضع سنوات إستطاع الصدر الثاني إنجاز ما لا يمكن إنجازه في عقود وقد كان تصديه للنظام البعثي وبتلك الشدة قد عجل في سقوط نظام طاغية بغداد. لقد بدأ الشهيد الصدر الثاني داخل الحوزة العلمية في النجف الأشرف مشروعه الاصلاحي التغييري ، وحملته الايمانية للعودة الى الدين والقيم الالهية في العراق المحكوم بأعتى ديكتاتورية في العالم وفي ظل قيود سياسية هائلة وتجاربها السياسية الهائلة في خنق المعارضين السياسيين ، تلك الأجواء التي لا يمكن أن تشجع أحدا على الاطلاق أن يفكر بالقدرة على تحييد السلطة ومن ثم الانطلاق برحلة تأسيسية متسارعة لعمل إسلامي كان قبل سنوات يستفز السلطة في أبسط مظاهره. إن التجربة الصدرية الثانية في العراق مثلت صورة تصاعدية من صور حركة "الاسلام الشيعي السياسي" في المسيرة الاسلامية العامة في العالم الاسلامي وفي العالم أجمع ، وبقدر ما عكست هذه الصورة ، وهذا المشروع التغييري للصدر الثاني من خصوصية نابعة من الظروف والجغرافيا والابداع الذاتي الفقهي الثوري ، فإنها عكست من خلال الأداء العام لهذا المشروع وأدبياته ، تواصلا مع الحركة الاسلامية العالمية بكل صورها ومظاهرها الأخرى. آية الله السيستاني مرجعية أفشلت مخططات الاستكبار العالمي بعد أن شعرت الولايات المتحدة الأميركية بأن النظام البعثي الصدامي قد فقد مصداقيته ومشروعيته في الحياة ضمن المنظومة الدولية ، إذ أنه وبعد غزوه للكويت أصبح في عزلة سياسية تامة عن العالم الخارجي ، فكرت أميركا في إيجاد النظام البديل لهذا النظام. وعلى الرغم من أن الانتفاضة الشعبانية المجيدة كادت أن تسقط النظام الصدامي في العراق ، الا أن أميركا أبت الا أن تبقي نظامه الديكتاتوري بعد ضغوط سعودية وعربية مورست من أجل الابقاء على صدام الذي إرتكب بعد ذلك الكثير من الجنايات بحق أبناء الطائفة الشيعية في العراق حيث أصبح العراق ، عراق المقابر الجماعية. وبعد عقد كامل من بقاء النظام البعثي إستطاعت بعض القوى الليبرالية وعلى رأسها الدكتور أحمد الجلبي الأمين العام للمؤتمر الوطني العراقي أن يقنعوا قادة الولايات المتحدة الأميركية بضرورة إسقاط نظام صدام لإمتلاكه أسلحة الدمار الشامل. ولابد من الاشادة بالدور الكبير الذي لعبه الاستاذ الدكتور الجلبي وهو شيعي ليبرالي علماني متعصب لحقوق الطائفة الشيعية المسحوقة ، ولولا دوره الكبير في إقناع ساسة الولايات المتحدة والبنتاغون لاسقاط نظام صدام ، لبقي هذا النظام لأكثر من ألف سنة ، وإن المعادلات الجديدة في العراق والتحول الجديد قد خدم التشيع والشيعة في العراق الذين كانوا مغيبين عن الساحة السياسية لأكثر من سبعة قرون ، خصوصا في ظل الدولة العراقية الحديثة التي إستمرت لأكثر من ثمانين عاما ، كان أصعبها مرارة على الشيعة في العراق هي الفترة التي حكم فيها البعث المنحل لبلاد الرافدين. جاءت الولايات المتحدة الأميركية بجيوشها الى العراق وأسقطت نظام البعث وإعتقلت أزلامه وجلاوزته وعلى رأسهم صدام الذي أخرج من حجر الجردان ذليلا ، وقامت بتأسيس مجلس الحكم الانتقالي بعد حكومة الحاكم العسكري جي غارنر ، ونصبت بول بريمر حاكما سياسيا لها في العراق ، وأعدت العدة لكرزاي آخر جديد في العراق ، كما في أفغانستان ، وحكومة ليبرالية لا دينية ، الا أنها أخطئت في معرفة العراق وحوزاته العلمية ومرجعياته الدينية الشيعية. لقد لزم الامام السيستاني السكوت في بداية دخول القوات الأميركية للعراق ، وكانت أميركا تعتقد بأن سكوته سيكون سكوتا الى الأبد ، وإذا بها تجد تصديا مرجعيا شيعيا قل نظيره في تاريخ الشيعة في العراق ، هذا التصدي المبارك والمسدد من قبل الامام المهدي المنتظر صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ، فتصدى المرجع السيستاني لقضايا الأمة في العراق وطالب الولايات المتحدة بالاسراع في إجراء الانتخابات التشريعية للجمعية الوطنية الأولى وإنتخاب رئيس للوزراء ورئيسا للجمهورية ، وجابت المظاهرات المليونية شوارع العراق ممتثلة لأوامر المرجعية ، ولذلك أذعنت الولايات المتحدة لمطالب آية الله السيستاني. وتواصلت دعوات المرجعية الدينية من أجل إجراء الانتخابات للدرة الثانية للحكومة الانتقالية وضرورة الاسراع في تدوين الدستور العراقي ، وحث المرجع السيستاني الشعب العراقي الى العمل بتكليفه الشرعي ، ولبى الشعب العراقي بأكثريته النداء وشارك في الانتخابات التشريعية للجمعية الوطنية الثانية حيث إنتخب القائمة التي حصلت على ثقة المرجعية وجاء الاسلاميين المهمشين عن الحكم الى صدر الحكومة بعد أن سعت حكومة الدكتور آياد علاوي الى تهميشهم عن المواقع السيادية في السلطة ، وإنحسر الدور العلماني الليرالي للعلمانيين الذين سعوا أن يأتوا عبر القطار البعثي القديم الى السلطة. بعد ذلك وبأوامر من المرجعية الدينية بضرورة الاسراع في إقرار الدستور العراقي قامت الحكومة الانتقالية بزعامة دولة رئيس الوزراء السيد الدكتور إبراهيم الجعفري بإعداد مسودة الدستور والبدء بإجراء الاستفتاء الذي نجح في إقرار الدستور بنسبة 78% ، مما أدى الى الاسراع في إجراء الانتخابات النيابية الدائمة التي تستمر لأربع سنوات قادمة. وباشرت الحكومة العراقية التحضير للإنتخابات البرلمانية وإستعدت كل القوى السياسية للمشاركة في الانتخابات النيابية ، وحتى بعد أن أعلنت المرجعية الدينية حياديتها في الانتخابات الا أن الأكثرية الشيعية وبحكم تخوفها على مستقبل العراق السياسي من المتربصين وأعداء الاسلام والتشيع قاموا بأكثريتهم للإدلاء بأصواتهم الى قائمة الائتلاف العراقي الموحد ، وإن أصوات الأكثرية الشيعية في الانتخابات كانت لمرجعية آية الله السيستاني ، وإن القوى التي تحالفت في قائمة 555 لا زالت مدينة للمرجعية ، فلو دخل أي فصيل شيعي عراقي كحزب الدعوة الاسلامية أو المجلس الاعلى للثورة الاسلامية أو أي تيار آخر بمفرده في الانتخابات لما حصل على أصوات كما حصلوا عليها في ظل إئتلافهم في قائمة الاتئلاف العراقي الموحد. وهنا لابد من الاشارة الى نقطة هامة وهي إن على القوى الدينية السياسية التي حصلت على ثقة الشعب العراقي في المجلس النيابي عليها أن تستعد لمرحلة تاريخية هامة تحدد فيها مصيرها وموقعها داخل المجتمع العراقي ، فإما أن تقوم بقفزة نوعية في إدارة العراق وإيصاله الى مصاف الدول المتقدمة والمتطورة برفع معاناة الشعب العراقي وخدمة المستضعفين من أبنائه وشهدائه وأيتامه وإيجاد الفرص العادلة للعاطلين عن العمل وإدارة البلاد إدراة جماعية بعيدة كل البعد عن الادارة الاستبدادية والديكتاتورية وبعيدا عن التلاعب بالثروات والمناصب والكراسي ، والا فإنه وبعد الأربع سنوات القادمة سوف يعطي الشعب العراقي رأيه للقوى الليبرالية والعلمانية ، وعندها لن تقف المرجعية الدينية الى جانب القوى الاسلامية كما وقفت في دورة الجمعية الوطنية الثانية وهذه الدورة الدائمة. إن المرجعية الدينية تقف الى جانب القوى المؤمنة الرسالية المخلصة للشعب التي تعمل على خدمة الشعب ورفاهه وأمنه وإستقراره ، وهذه فرصة تاريخية جاءت للشعب العراقي وقواه الشيعية التي يتعين عليها شكر هذه النعمة الالهية لترتيب أوراقها وتثبيت قواعدها السياسية وتوطيد دعائمها داخل مؤسسات المجتمع المدني لكي تستقيم أمام مؤامرات الأعداء والطامعين. إن بعض القوى العلمانية وغيرها تسعى جاهدة الى الانقضاض على الحكم والسلطة بالاستفادة من البعثيين القدامى بإعادة تأهيلهم وإرجاعهم في مفاصل الحكم سواء في الجمعية الوطنية أو الدوائر والمؤسسات الرسمية أو في مؤسسات وزارة الداخلية والجيش والأمن والشرطة ، لذلك فإن من الحكمة إتحاد كل القوى الاسلامية الشيعية والترفع عن خلافاتها الجانبية والحزبية الضيقة وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وأن تسعى القوى الاسلامية الشيعية الرئيسية أن تستوعب وتستقطب بقية القوى الاسلامية الشيعية وخصوصا مجاهدي الداخل في العملية السياسية ، وأن لا تسعى كما سعت في الماضي الى سياسة التهميش وإحتكار المرجعية الدينية والسياسية للطائفة الشيعية ، فإن الظروف السياسية التي تحكم العراق هي ظروف سياسية دقيقة وحساسة جدا. لقد أفشلت المرجعية الدينية العليا للطائفة الشيعية مخططات الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تسعى لإيجاد الأرضية المناسبة لمجيء القوى العلمانية والليرالية على السلطة في العراق ، وذلك من أجل إفساد الشعب العراقي وتمييعه وإشاعة ثقافة الانحراف والرذيلة والثقافة الغربية والانحطاط الخلقي والفكري داخل المجتمع العراقي. وتسعى بعض المؤسسات الغربية داخل العراق وبإيعاز من الحكومات الغربية لأستقطاب أبناء المجتمع العراقي لتعليمهم بعض الحرف والصناعات والعلوم الجديدة مجانا وخلال الدورات التي تقام لأبناء الشعب العراقي تقوم هذه المؤسسات بتعليم الدروس المسيحية لأبناء المجتمع العراقي في مؤامرة من أجل تطبيع المجتمع العراقي بالثقافة الغربية لتسهيل إحتوائه وإبعاده عن قيمه ومبادئه ومرجعياته الدينية. وعلى القوى الاسلامية الشيعية أن تعي الى مؤامرات الأعداء وخصوصا القوى الصهيونية العالمية التي تسعى للتغلغل داخل المجتمع العراقي وإشاعة ثقافة الرذيلة والانحطاط والفساد الاخلاقي داخل المجتمع وذلك ببناء الجيل الرسالي المناقبي وتأهيل الحوزات العلمية في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمين وبقية المدارس العلمية والدينية في سائر محافظات العراق لترسيخ القيم والمبادىء وأساسيات الدين الاسلامي والثقافة الشيعية داخل المجتمع العراقي لمقاومة الغزو الفكري والثقافي القادم من الغرب عبر القوى العلمانية واليبرالية والمؤسسات الغربية.