نص بيان سماحة السيد المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي
بمناسبة أربعين الامام الحسين (عليه السلام ) لعام 1424 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها. والصلاة والسلام على سيد المرسلين
وخاتم النبيين محمد وعلى آله الميامين، دعاة الحق، وسادات الخلق.
السلام على سبط الرحمة، وإمام الأمة، سيد شباب أهل الجنة، ابي عبد الله الحسين،وعلى أولاده وأصحابه، والسائرين على دربه وشيعته ومواليه، وذاكري مصائبه، والباكين على رزاياه.
وبعد:
لقد إخترق ركب الرسالة بقيادة سبط الرسول صلى الله عليه وآله صحراء الجزيرة العربية إنطلاقا من بيت الله الحرام، فأوغل في عمق الزمان حتى هيمن عليه، وأوغل في أفق المكان لكأنه أحاط بالكائنات، فإذا بكل يوم عاشوراء الحسين، وإذا بكل أرض كربلاء الحسين. أو تعلمون لماذا وكيف؟ لأنه قام لله سبحانه، وانطلق ـ حينما إنطلق ـ من سنن الله التي لن تتغير ولن تتبدل. نهض من أجل الله وإحياء دين الله، فرعى الله قيامه،
ومدَّه في افقي الزمان والمكان مدّاً.. وجعله مصباح هدى لمن استضاء به، وسفينة نجاة لمن ركب فيها.
ولا يزال ركب الرسالة سائراً، وفرصة الالتحاق به متاحة لكل ذي ضمير حي وهمة عالية، أو لا تسمعون نداء السبط الشهيد؟. فإنة لا يزال مدوياً في كل سهل وجبل: أما من ناصر ينصرنا. ولا تزال أفواج الصديقين يستجيبون لهذا النداء الرباني، وفي كل عام، وبالذات عندما تتجدد ذكرى أربعين الامام الحسين (ع) ، حيث يلتحق أعداد هائلة من الناس بهذا الركب ولسان حالهم يقول: (لبيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني عند
استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري ).
فالإمام الحسين عليه السلام كان ولا يزال ضمير وعي، ووجدان تحدي، وسبيل عزة وشموخ، وهو يتجدد بسيرته الوضَّاءة، وبنهجه الشفاف، وسر عظمته يتلخص في كلمة :انه عَبَدَ الله وحده، وخشع لعظمة الخالق، وتحدى كل مخلوق سواه، ورفض كل ولي من دونه.
ولقد جعل الله سبحانه الرسل والأئمة عليهم السلام موازين حق للنهج السليم لكي تتم حجته البالغة على خلقه، فالإمام الحسين عليه السلام فضح المنافقين على اختلاف مشاربهم وأصناف خدعهم:
أولاً: لقد فضح طغاة بني أمية الذين اجتهدوا لإعادة العرب إلى قيم الجاهلية الأولى تحت غطاء مسحة من الدين ظاهرة، حيث كان شيخهم ابو سفيان يحلف باللات والعزى أنه لا جنة ولا نار، وأرادوا إقامة حكومة ضالة قائمة على محور العصبيات القبلية والمصالح المادية وكل ألوان الفساد، وبعد شهادة الإمام الحسين وفضح مكر أولئك، فتح الله على
المسلمين سبل التخلص من بني أمية حتى هلكوا وأصبحوا لعنة التاريخ.
ثانياً: وفضح علماء السوء الذين خدموا تلك السلطة الفاسدة وأرادوا تزييف التاريخ الرسالي، ووضع الأكاذيب على لسان النبي صلى الله عليه وآله تدعو الناس إلى التسليم للسلطات الفاسدة، وسقوط فريضة النهي عن المنكر والبراءة من الظالمين.
وهكذا أصبح سمرة بن جندب وشريح القاضي ومن أشبه منبوذين عند أهل البصائر في الأمة، لأنهم باعوا دينهم وعلمهم بدراهم معدودة، وأصبح الناس يميزون بين عالم يتحدى سلطات البغي وآخر يخدمها.
ثالثاً: وفضح خط الخذلان في الأمة الذي كان يروِّج له الفئات الفاسقة مثل المرجئة، ويقولون مالنا والدخول بين السلاطين. لقد تبين للجميع إن الذي يترك الجهاد مع إمامه طلبا للسلامة، يكون عاقبته خدمة الطغاة وإعانتهم ضد أئمة العدل، كما كان مصير أهل الكوفة الذين خذلوا سفير الإمام الحسين عليه السلام إليهم (مسلم بن عقيل عليه السلام) طلبا للسلامة، فأصبحوا وقودا لمعركة ابن زياد ضد الإمام الحسين. وهكذا مصير الذين يخذلون الحق، إنهم يمسون أنصار الباطل، أو أنهم يصبحون مسرح بغي الظالمين.
رابعاً:و فضح أشباه الزّهاد الذين تستروا ببعض الطقوس الظاهرية وتركوا أهم فرائض الدين، كالذي استنصره الإمام الحسين وهو في المدينة فقال: ان الصلاة بمسجد الرسول أعظم ثوابا من القيام معك ضد جور بني أمية.
لقد خرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة وهو إبنها، وخرج يوم التروية من مكة وهو الإمام فيها، لكي يقيم الحق ويبطل الباطل في الكوفة. كما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله جده من بيت الله الحرام، لنشر الرسالة وإقامة حكم الله في المدينة التي تنورت به، واختار الإمام علي سلام الله عليه الكوفة داراً للخلافة حينما اقتضت المصلحة الدينية.
وهكذا افتضح بقيام السبط الشهيد تيار الخذلان الذي طالما تستر ببعض مظاهر الدين لترك جوهره، كما فعل أصحاب معاوية عند رفع المصاحف لمقارعة إمام زمانهم أمير المؤمنين علي عليه السلام.
خامساً: وفضح السبط الشهيد خط النفاق بين الناهضين ممن يتخذ الثورة وسيلة لبلوغ مآرب دنيوية، كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس.
فالقيام لله يختلف جذرياً عن أية حركة تمرد, إذ لابد أن يكون باسم الله, وتحت راية ولي الله. وخالصا من أية مصلحة ذاتية, ولذلك قال الإمام الحسين عليه السلام:
((إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً, وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ,أريدأن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر..))
وهذه كلمة مستوحاة من آية قرآنية حيث يقول الله سبحانه في صفة الخارجين من ديارهم في سبيل الله ): الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) (الحج 41)
وهكذا تمَّيز على امتداد التاريخ وبعد قيام الإمام الحسين عليه السلام , تميز خطان من الثوار, فالذين يتبعون نهج الرسالات الإلهية في قيامهم ضد الكفر والنفاق والبغي والطغيان هم الحسينيون حقا, قياداتهم ربانية, نهجهم رسالي ,اهدافهم إلهية .أما الآخرون فهم مختلفون في واحدة أو أكثر من هذه الحقائق..
أيها الاخوة المؤمنون :
اليوم ، و حيث يعيش شعبنا بفضل الله التحول الى اجواء التحرر من الطاغوت ، نأمل من ابناء شعبنا الاهتمام بالتوصيات التالية:

1) علينا ان نجدد النظر في تاريخنا ونطهر انفسنا وواقعنا من شوائب الذنوب، فنستغفرالله سبحانه وتعالى انه كان توابا.
ان السلطات الظالمة في كل امة هي تعبير عن الانحراف في تلك الامة، فما تولّى ظالم في بلد الا بسبب ترك اهل البلاد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة الى الخير والاصلاح، حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى: (وما كان ربك مهلك القرى بظلم واهلها مصلحون)، وبسبب انتشار الترف والسرف، والتوجه الى الدنيا وبهارجها وترك وصايا الرب،
حيث يقول سبحانه وتعالى: (واذا اردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميرا).
وقد قال الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام في كلمته الرائعة المعروفة: (لتامرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر والا فسيولىّ عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم).
اذن؛ لابد ان نصحح مسيرتنا ونستغفر الله سبحانه وتعالى انه كان تواباً، وندرس تاريخنا بدقة ونعتبر بالعقود الثلاثة التي مرت بنا كئيبة حزينة ماساوية.
2) ان من وسائل الشيطان الخبيثة لدعم سلطات الطاغوت في كل بلد، هي تفرقة الناس واثارة الضغائن والعصبيات بينهم ونفث الوساوس والشكوك والظنون في نفوس الامة، ونحن اليوم - وقد منّ الله علينا بهذا النصر - احوج ما نكون الى تطهير نفوسنا من هذه الوساوس الشيطانية.. فليكن شعارنا في هذه المرحلة: التسامح والحب والتعاون.
3) ان أمة تعاونت ماذلّت، وقد أمرنا ربنا سبحانه وتعالى بكل صراحة: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان). دعنا نتعاون ونجعل التعاون شعارنا اليومي ومنهجنا السلوكي ولانجعل الشيطان يفرق بيننا وبين بعضنا بأية وسيلة كانت.
4) ان الله سبحانه وتعالى انعم على شعبنا في العراق بنعمة كبيرة هي؛ ولاية محمد وآل بيت محمد (عليهم افضل الصلاة والسلام) وبالذات حب الامام الحسين (ع) والتوجه الى منهجه وسيرته وذكر مصائبه فالحسين (ع): (مصباح هدى وسفينة نجاة)، وفي هذه المرحلة التي نعيشها وفي هذه الظروف الصعبة التي تمر بها امتنا، علينا ان نزداد التصاقا بمنهج الحسين (ع) وبالمزيد من التواصل مع سيرته الوضاءة .
ايها الاخوة: انني ادعوكم الى الالتفاف حول قبر ابي عبد الله الحسين (ع) بمناسبة يوم الاربعين القريب، وهنالك حيث يتوافد ابناؤنا في كل بقعة من بقاع العراق، سيجدون الفرصة المناسبة للتعبير عن مشاعرهم، وعن حقوقهم وآمالهم المستقبلية وكذلك سيجدون الفرصة للتعرف على بعضهم البعض والتعاون من اجل تحقيق هذه المبادئ وهذه الآمال التي
ظلت مكبوتة طيلة عقود من الزمن.
وفي الختام اسأله سبحانه ان يبارك لشعبنا في العراق، بنصرهم ويكمل هذا النصر بان يتعاونوا من اجل بناء بلادهم وان يقرروا مصيرهم انفسهم ويكونوا يداً واحدة ليس فقط على اعدائهم وانما ايضاً لمواجهة المشاكل والصعوبات التي يمرون بها.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد تقي المدرسي الحسيني
15/صفر/1424هـ