يُـعوِّل البعض من العراقيين وقوة الاحتلال على تشكيل الحكومة المتعثرة منذ شهرين كرافعة للسيطرة على الملفات المفتوحة على مصراعيها بلا أفق ظاهر ،،،،

في حين يعتقد آخرون أن الأمور قد وصلت بالفعل إلى نقطة خطرة، والوضع بات أقرب إلى بدايات حرب أهلية غير معلنة، تنتظر لحظة الإشهار بين المتورطين فيها أو المُجبرين عليها ،،،،

وما بين الفريقين يَحار المراقبون، ويجدون صعوبة عندما يسألون أنفسهم أو يسألهم آخرون، إلى أين يذهب العراق في اللحظة الجارية؟

على صعيد الأخبار الجارية، هناك مؤشرات لكل شيء تقريبا، الحسن منها والسيئ، وكلاهما يسير بجوار الآخر. فقادة الكتل النيابية يواصلون اجتماعاتهم في منزل الرئيس المنتهية ولايته جلال الطالباني، لإنهاء معضلة الحكومة العتيدة على صعيدي البرنامج السياسي من جانب، والمناصب السيادية والعادية من جانب آخر.

وفي الجانب الحسن أيضا، تم الانتهاء من برنامج الحكومة وحُلت معضلة الأمن كرؤية سياسية وكجزء من إدارتها لاحقا عبر الاتفاق على تشكيل المجلس السياسي للأمن الوطني (وهو مجلس استشاري غير منصوص عليه في الدستور)، وأيضا على لجنة أمنية وزارية تضم الدفاع والداخلية والخارجية والعدل والمالية على أن تكون تابعة لرئيس الوزراء.

أما في الجانب الآخر أو بالأحرى السيء، فالملفات ما زالت على مصراعيها. فالعلاقة بين المجلس السياسي للأمن واللجنة الأمنية ليست واضحة بما فيه الكفاية، ويزداد الأمر تعقيدا عند الحديث عن "من" يشغل "ماذا"؟ "من" هنا تعني الأشخاص التابعين للكتل النيابية، و"ماذا"، مفهومة وتعني المناصب. وأولها منصب رئيس الوزراء، وتتبعها المناصب الأهم، الدفاع والداخلية والمالية والنفط.

وما دام المنصب الوزاري الأول بعيد عن الاتفاق بين الكتل الكبرى من غير الائتلاف الذي رشح إبراهيم الجعفري لهذا المنصب، فإن كل شيء يبدو قابلا للتراجع والنكوص لخطوات عديدة، وليس فقط خطوة واحدة، خاصة وأن قدرة الائتلاف على تمرير المنصب في البرلمان ليست قائمة.

فالكتل المعارضة، وهي التحالف الكردستاني وجبهة التوافق والقائمة العراقية والجبهة العراقية للحوار لها 133 مقعدا في البرلمان، في حين أن الائتلاف يستحوذ فقط على 128 مقعدا. ومن ثم فلا يوجد سوى مخرج واحد، وهو التوافق بين الجميع على كل شيء، بداية بهذا المنصب الوزاري الأول، ونهاية بأسلوب العمل الوزاري والحكومي بشكل عام.

أصوات عديدة وفشل مرجح

وبينما بدأت بعض أصوات في داخل الائتلاف تنادي بالبحث عن ترشيح آخر لرئيس الوزراء يكون مقبولا من الكتل البرلمانية الأخرى، وينال بالتالي موافقة الاحتلال الأمريكي الذي يعتبر التأخير في تشكيل الحكومة بمثابة مؤشر فشل غير مقبول لمشروعه السياسي والعسكري في العراق، يتّـجه البعض من الائتلاف أيضا إلى ترك الأمر ليحسمه التصويت داخل البرلمان المنتخب، والبعض الثالث يطالب بالعودة إلى المرجعية الدينية، والقصد هنا آية الله العظمى السيستاني، وهذه الدعوة تحديدا تفصح عن حال بعض السياسيين العراقيين الذين يجدون أن تجاوز فشلهم في الاتفاق السياسي والبرنامجي مرهون بتلقي النصيحة الدينية واجبة الالتزام والغير قابلة للنقض.

المفارقة هنا أن تحقيق التوافق السياسي بين الكتل البرلمانية العراقية يبدو عصيا على كل قدرات الاحتلال الأمريكي والبريطاني في التأثير والهيمنة، كما هو الحال بالنسبة للواقع الأمني الذي اثبت جدارته في التدهور المتتابع، وأضاع أحلام الكثيرين في حالة ديمقراطية مثالية تُـبرر هذه الأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى العراقيين.

والنتيجة المباشرة هنا تتمثل في أن الحرية وحدها، حتى وإن جاءت على أسنة الطائرات والدبابات والصواريخ باهظة التكلفة، لا تعني شيئا كثيرا لجموع المواطنين إذا غاب عنها الأمن والأمان والحق في الحياة كإنسان.

أزمة ليست شخصية

الحق أن أزمة إبراهيم الجعفري، ومن ورائه أزمة المنصب الوزاري الأول وصلاحياته التنفيذية، وكلاهما يلخص جزءا معتبرا من ورطة العراق والولايات المتحدة، هي ليست أزمة شخصية، وإنما أزمة رؤية سياسية لمستقبل العراق وإدارة الدولة وأجهزتها وعلاقاتها الخارجية لمدة أربعة سنوات مقبلة.

والرجل، حسب رصيده في الحكومة الانتقالية السابقة، له انحيازاته السياسية غير المقبولة من باقي الكتل النيابية الأخرى، فضلا عن منهجه في العمل الذي اثبت أنه منهج طائفي وفئوي، وليس منهجا قوميا عراقيا خالصا. فبدلا من دفاعه عن بناء جيش عراقي موحد تنصهر فيه مكونات الشعب العراقي، والأمر نفسه في باقي الأجهزة الأمنية، يدافع الرجل عن دور الميليشيات التابعة لأحزاب شيعية كأبنية غير نظامية ذات صبغة عسكرية تكون بعيدة عن سيطرة الدولة أو أن تدخل كميليشيات وتدمج في بنية الجيش هكذا، وكلاهما يتصادم مع مبدأ قومية المؤسسات الأمنية.

أما أداءه الأمني بوجه عام، فقد أثبت فشله الذريع، ناهيك عن الفشل في باقي الملفات الخدمية والاقتصادية والتنموية. ودلائل الفشل ليست عسيرة على الإدراك. ففي كل يوم تقريبا هناك خبر رئيسي في العراق قِـوامه الخطف والقتل والذبح والجثث المجهولة والمفقودون والانفجارات التي تطيح بحياة عراقيين بسطاء لا ناقة لهم ولا جمل فيما يجري بين السياسيين وبعضهم.

نفوذ إيراني

وطوال فترة رئاسته للحكومة الانتقالية، بات النفوذ الإيراني هو الأبرز في مناطق شاسعة في الجنوب والوسط، بما وصل بأحد قادة الائتلاف الشيعي البارزين، وهو عبد العزيز الحكيم، أن يدعو لحوار إيراني أمريكي من أجل التوصل إلى "حل لمعضلة الأمن في العراق".

والدعوة، وإن وجدت صدى لدى المحتلين الأمريكيين، فهي ببساطة تؤكد وباعتراف عراقي بارز أن من يُـسيطر على الملف الأمني هم الإيرانيين وليسوا الأمريكيين، رغم قواتهم التي تفوق 130 آلف جندي مدججين بالسلاح الحديث، وبالطبع ليسوا العراقيين، الذين يقوم بعضهم بأفعال قذرة ضد إخوانهم في الدين والوطن لحسابات طائفية ومناطقية ضيقة وخطيرة ومدمرة أيضا.

والتقارير التي تتحدث عن نفوذ استخباراتي إيراني، قد توصم بالمبالغة، ولكن جزءا معتبرا منها لابد أن يكون حقيقيا. أما تلك التي تتحدث عن منح الجنسية العراقية لما يقرب من 700 آلف شخص وأكثر من الإيرانيين أو المولودين في إيران، فلا تنقطع. وكلها تشير إلى تأثير هؤلاء المخطط والمنهجي على التوازن السكاني في مناطق بعينها غالبيتها من السُـنة، كما أن تأثيرها السلبي على الوضع الأمني ثابت وشواهده لا تنقطع.

خطف وقتل على الهوية

والتساؤلات حول هوية هؤلاء الذين يرتدُون الزيّ الرسمي للشرطة العراقية المشكّـلة في ظل الاحتلال، سواء كانوا من المغاوير أو القوات الخاصة أو النينجا أو أي شيء آخر، ويستخدمون آلياتها وأسلحتها ضد عراقيين جُلهم من السُـنة الذين يُخطفون ويُعذبون ويُـقتلون وتُـلقى جثثهم في المناطق النائية وحول المدن، وأيضا التساؤلات حول هوية المهاجمين لمساجد السُـنة وقياداتهم وشيوخهم، تساؤلات عديدة وبلا إجابات رسمية ولا حتى محاولة للتحقيق حول من هم هؤلاء الأشباح الشياطين. والحبل ما زال على الغارب.

أما رد الفعل من الجانب الآخر، فمتوقع على نفس الأسس الطائفية والمذهبية بما يزج العراق زجا في آتون حرب أهلية ضروس، لا يأمل أي منصف ومحب للعراق في ذرة منها. وفيما يجادل عراقيون بأن المسألة مجرد تصفيات حسابات عابرة أو هي من فعل قوى شيطانية لا تريد للبلاد خيرا، أو أنها من فعل تكفيريين وزرقاويين وقاعديين، يبدو تصريح أياد علاوي، رئيس قائمة العراقية ذات الخمس وعشرين مقعدا برلمانيا، "إن لم يكن ما يجري في العراق حرب أهلية، فما هي الحرب الأهلية إذن"؟ تساؤل وتعجّـب ومفارقة تغني عن الإجابة، بل هي إجابة صريحة ومباشرة.

سوء إدارة.. أم ماذا؟

والصحيح هنا أن اتهام الرجل، ونعني السيد إبراهيم الجعفري بالخيانة مثلا لوطنه الأم، يبدو أمرا سخيفا ومستهجنا. فهو أحد رموز النضال والتضحية العراقية ضد ديكتاتورية نظام الرئيس صدام المخلوع. بيد أن الصحيح أيضا أن سوء الإدارة وتغليب النزعات الأولية الطائفية أو العرقية يأتي غالبا بنتائج عكسية ومدمرة أيضا، لاسيما في لحظات التحول الكبرى كالتي يعيشها بلد بحجم العراق حاليا.

فالنوايا الحسنة والتضحيات السابقة وحدها لا تكفي لبناء عراق جديد وفق أسس قومية جامعة وموحدة، إذ يظل هناك مساحة لا غنى عنها من الفطنة والقدرة على السيطرة وتغليب المصالح الجامعة للوطن على المرارات الفردية أو الثأرات الفئوية.