النتائج 1 إلى 6 من 6
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي المرحوم الأستاذ سعيد ايوب: القرى الظالمة في القرآن الكريم

    الاهداء
    • إلى مصابيح الهدى الذين يقودون الناس إلى الهدى.
    الذين علموا أن الغنى والفقر بعد العرض على الله يوم القيامة.
    والذين صبروا صبر الأحرار.
    والذين ينتظرون يوم العدل على الظالم.
    إلى هؤلاء أهدي هذا الكتاب طمعا في جرعة ماء من حوض النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة. «فما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن. وما هو كائن من الآخرة عما قليل لم يزل. وكل معدود منقص. وكل متوقع آت.
    وكل آت قريب دان»(*).
    ... أيوب
    ____________
    (*) من أقوال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
    المقدمة
    الحمد لله رب العالمين. وصلوات الله وسلامه على محمد النبي الأكرم المبعوث بالشريعة الخاتمة وعلى آله وأصحابه ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.
    وبعد:
    لقد حث كتاب الله تعالى على التدبر في الكون والنظر في تاريخ الأمم السابقة وفحص حركة هذه الأمم والعوامل التي أدت إلى نهاية أجلها. قال تعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (1) فالأجل في هذه الآية الكريمة. أضيف إلى الأمة إلى الوجود المجموعي للناس. فكما أن هناك أجل محدد ومحتوم لكل فرد. فكذلك هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد. للأمة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادئ. فهذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالأمة. له أجل. له موت. له حياة. له حركة. وكما أن الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت. كذلك الأمة تكون حية ثم تموت. وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس.
    كذلك الأمم أيضا لها آجالها المضبوطة (2) من أجل هذا نبه كتاب الله الحاضر لكي
    ____________
    (1) سورة الأعراف، الآية: 34.
    (2) المدرسة القرآنية / باقر الصدر: ص 56.

    ينظر إلى أطلال الجهد البشري في الماضي. ليتجه نحو المستقبل وهو على علم بالإنحراف وما يترتب عليه. ويعلم أن نصر الله لقريب ولكن نصر الله له طريق.
    وما عليه إلا أن يهتد إلى هذا الطريق. وبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحا وعاليا وممتدا تكون الغايات صالحة وممتدة. وعلى امتداد الصلاح يكون نصر الله، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدودا أو منخفضا تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضا ولا يترتب على هذا إلا فتن وعذاب وهلاك.
    وعلى امتداد هذا الكتاب قمنا بتسليط الضوء على الفقه الشيطاني الذي أنجب جميع المثل العليا المنخفضة التي واجهت أنبياء الله ورسله على امتداد التاريخ الإنساني. وكيف واجه الأنبياء هذا الصد عن سبيل الله وهذا الانحراف.
    ومادة هذا البحث طرحت بين يدي القرآن الكريم. وأجوبتها جاءت من القرآن الكريم. فالقرآن هو الطريق الوحيد للحصول على الخطوط الأساسية التي عليها جرت حركة هذه الأمم. ولقد اعتمدنا على العديد من التفاسير لكشف أعماق هذه الخطوط الأساسية وتقديمها للقارئ ليقف بيسر على صفحة الماضي وينطلق بيسر إلى المستقبل إذا شاء ذلك. وفي البداية نقول أنه مما تبين لنا خلال هذا البحث أن حركة الشيطان لم تكن فقط في دورات المياه كما قيل لنا. وإنما كانت حركة مضبوطة منذ طرده الله ولعنه. وهذه الحركة عمودها الفقري ينطلق من رفضه السجود لآدم. فقوله: (أنا خير منه) أرسى قاعدة التحقير التي رفعها المستكبرين ضد البشرية على امتداد التاريخ الإنساني. وحركة الاستكبار على امتداد التاريخ طويت صفحتها ليس من أجل إصابتها بالشيخوخة كما يقول البعض في أسباب سقوط الدول. وإنما طويت صفحتها في دائرة العذاب. عندما رفض أصحابها السجود لله كما أراد الله. وخلال هذا البحث قمنا بطرح ما قصه القرآن عن الأمم السابقة وحتى الرسالة الخاتمة. وعند الحديث عن الرسالة الخاتمة ألقينا بعض من الضوء على أحداث ما سمي " بالفتنة الكبرى ". تلك الأحداث التي يتجنب العديد من الباحثين الخوض فيها. في حين أنهم أمروا بالنظر في الماضي حتى لا ينطلقوا إلى المستقبل وعلى عقولهم بصمات هذه الفتن وهم لا يعرفون أهي بصمات حق. أم بصمات انحراف. وعلى هذا يقعوا في الفتنة الأشد من التي اجتنبوها سأل رجل حذيفة: أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر. لا تدري أيهما تركب (3) ومن الخطأ الشائع أن تاريخ الإسلام هو نفسه تاريخ المسلمين. ولهذا ظن العديد من الباحثين أن نقد تاريخ المسلمون هو نقد لتاريخ الإسلام. ونحن نقول: أن تاريخ الإسلام في الرسالة الخاتمة هو حركة الرسول ودعوته. وهذا التاريخ امتداد طبيعي لتاريخ الدعوة منذ عهد نوح وآل إبراهيم وآل عمران عليهم السلام. تاريخ الإسلام هو نفسه تاريخ الفطرة النقية التي لم تحيد عن الصراط المستقيم. وعلى امتداد هذا التاريخ لا تجد إلا نصر الله قال تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) (4) وتاريخ الإسلام فيه الابتلاء والصبر والنصر. قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله. ألا إن نصر الله قريب) (5) فتاريخ الإسلام تقام فيه الحجج على الذين كفروا. وتكافح فيه الفطرة النقية معسكر الانحراف. أما تاريخ المسلمين فهو يتعلق بحركة المسلمين فما كان منه منطبقا مع آيات الكتاب وحركة الرسول فهو من تاريخ الإسلام. أما ما خرج منه من دوائر الحقد والحسد والاستكبار فلا علاقة للإسلام به. ويبحث عن أصوله في فقه الإغواء والتزيين. تماما كبني إسرائيل. فهم عندما ساروا مع موسى عليه السلام في اتجاه البحر وعبروا معه. كانوا يدونون بذلك تاريخ الإسلام، وعندما عبدوا العجل وأرجلهم لم تجف بعد من ماء البحر، كانوا يدونوا تاريخ بني إسرائيل ولا علاقة للإسلام بهذا التاريخ. لذا نجد هارون عليه السلام يقول لموسى عليه السلام عندما سأله عن هذا الانحراف وعاتبه: (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) (6) لقد وضعهم في دائرة حركتهم التي تحمل العنوان الذي اشتهروا به بين الأمم " بني إسرائيل ". ولم يضعهم في دائرة الإسلام. وكان موسى عليه السلام قد قال لهم وهم تحت المظلة الفرعونية (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) (7) إن حركة الفطرة ضد
    ____________
    (3) أسد الغابة: 1 / 468.
    (4) سورة غافر، الآية: 51.
    (5) سورة البقرة، الآية: 214.
    (6) سورة طه، الآية: 94.
    (7) سورة يونس، الآية: 84.
    الانحراف تحت قيادة الرسل. هي بعينها تاريخ الإسلام الذي رفع عنوانا من اليوم الأول يقول فيه. أن دين الله لا إجبار فيه. أما حركة المال والسلاح والتخويف والتجويع والأهواء والطواغيت إلى غير ذلك. فهذا مدون في تاريخ الناس وهذا التاريخ يقبل الأخذ والرد ويخضع للنقد والبحث العلمي الجاد.

    وعلى ضوء هذا التعريف بحركة التاريخ ناقشنا العديد من الأحداث.
    انطلقنا من القرآن لنصل إلى أعماق الحدث عن طريق القرآن أيضا. ثم نقبنا في الحدث لنرى أين أهداف الدعوة فيه. وأخيرا إذا كان هناك كلمة أخيرة فإنني أتوجه بها إلى الذين يختلفون معي في مفهومي لحركة التاريخ الذي يضع الفطرة في مربع والأفعال التي تأنف منها الفطرة رغم زينتها وزخرفها في مربع آخر. أقول لهؤلاء إن هذا الكتاب لن يفيدكم في شئ. وإنني أشفق عليكم أن تضيعوا أوقاتكم هنا. وبالله نستعين (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين) (8).
    صدق الله العظيم

    سعيد أيوب
    القاهرة في 1 / 7 / 1991
    ____________
    (8) سورة النور، الآية: 54.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البذور والجذور
    نظرات حول الفطرة وفي فقه الشيطان
    مقدمة:
    سبحان الله الواحد الأحد. الذي لم يسبقه وقت. ولم يتقدمه زمان. ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان. ولم يوصف باين ولا بما ولا بمكان. الذي بطن من خفيات الأمور. وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير. الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا نقصان. بل وصفته بأفعاله ودلت عليه بآياته. فسبحان من لا يحد ولا يوصف ولا يشبهه شئ. يصور ما يشاء وليس بمصور. جل ثناؤه وتقدست أسمائه وتعالى أن يكون له شبيه. من شبهه بخلقه فهو مشرك. ومن وصفه بالمكان فهو كافر ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كاذب (1).
    قبل أن يخلق سبحانه آدم عليه السلام قال لملائكته: (إني جاعل في الأرض خليفة) (2) فهو سبحانه خلق آدم ليكون في الأرض لا في السماء.
    وعندما قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء...) (3) لم
    ____________
    (1) من أقوال الإمام علي - توضيح المراد: 498 - 500.
    (2) سورة البقرة، الآية: 30.
    (3) سورة البقرة، الآية: 30.

    ينف سبحانه عن خليفة الأرض الفساد وسفك الدماء. وقال سبحانه: (إني أعلم ما لا تعلمون) (4). فالإنسان قبل أن يخلق قدر الله أن تكون حركته على الأرض. ولأن هذه الحركة لحكمة ومن وراء هذه الحكمة هدف. أقام الله الحجة على هذه الحركة. فإذا اقترف الإنسان المعاصي وسفك الدماء: كانت الحجة شاهد عليه. ولا يوصف بالعدل من نسب إلى الله ذنوب عباده.
    1 - حجة الفطرة:
    وإذا كانت حركة الإنسان قدر لها أن تكون على الأرض. فإن هذه الحركة لا ينبغي لها أن تخرج عن دائرة العبادة لله إذا أراد صاحبها النجاة. أما إذا أراد أن يدلي بدلوه في مربعات الفساد وسفك الدماء. فإنه بحركته هذه يدور في عكس اتجاه النجاة وعندئذ لا يلومن إلا نفسه. قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) (5) قال المفسرون.
    المراد بخلقهم للعبادة، خلقهم على وجه صالح لأن يعبدوا الله بجعلهم ذوي اختيار وعقل واستطاعة، والمعنى: أي ما خلقتهم إلا لأجل العبادة. ولم أرد من جميعهم إلا إياها. والغرض من خلقهم تعريضهم للثواب. وذلك لا يحصل إلا بأداء العبادات. ولما كان الإنسان قد خلق من أجل العبادة وعلى طريق هذه العبادة توجد دوائر للإفساد وسفك الدماء هدفها عرقلة هذه العبادة. فإنه تعالى وضع أصول هذه العبادة في حصن الفطرة الحصين. ليعبر الإنسان بفطرته السليمة تلك العقبات ويصل بعبادته إلى حيث ينال الثواب. فالفطرة شعاع يهدي صاحبه إلى طريق النجاة. والفطرة حجة بذاتها على الإنسان تنطق عليه بالحق يوم يقف أمام الله تعالى يوم القيامة ويقول له: (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
    ومخزون الفطرة الحجة بذاته جاء ذكره في أكثر من موضع من كتاب الله. منه قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني أدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون " (6) قال صاحب الميزان. أي أذكر للناس. موطنا قبل الدنيا أخذ فيه
    ____________
    (4) سورة البقرة، الآية: 30.
    (5) سورة الذاريات، الآيتان: 56 - 57.
    (6) سورة الأعراف، الآيتان: 172 - 173.

    ربك (من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) فما من أحد منهم إلا استقل من غيره وتميز منه. فاجتمعوا هناك جميعا. وهم فرادى. فأراهم ذواتهم المتعلقة بربهم (وأشهدهم على أنفسهم) فلم يحتجبوا عنه. وعاينوا أنه ربهم كما أن كل شئ بفطرته يجد ربه من نفسه من غير أن يحتجب عنه. (ألست بربكم) وهو خطاب حقيقي لهم. لا بيان حال. وتكليم إلهي لهم فإنهم يفهمون مما يشاهدون. أن الله سبحانه يريد به منهم الاعتراف وإعطاء الموثق. وقوله: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الخطاب للمخاطبين بقوله: (ألست بربكم) القائلين (بلى شهدنا) فهم هناك يعاينون الإشهاد والتكليم من الله. والتكلم بالاعتراف من أنفسهم. وإن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة مما عدا المعرفة بالاستدلال. ثم إذا كان يوم البعث وانطوى بساط الدنيا. وانمحت هذه الشواغل والحجب عادوا إلى مشاهدتهم ومعاينتهم. وذكروا ما جرى بينهم وبين ربهم (7).
    والمراد أنا أخذنا ذريتهم من ظهورهم. وأشهدناهم على أنفسهم.
    فاعترفوا بربوبيتنا. فتمت لنا الحجة عليهم يوم القيامة. ولو لم نفعل هذا. ولم نشهد كل فرد منهم على نفسه بعد أخذه. فإن كنا أهملنا الإشهاد من رأس. فلم يشهد أحد أن الله ربه. ولم يعلم ربه. لأقاموا جميعا الحجة علينا يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيتنا. ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة.
    وإن كنا لم نهمل أمر الإشهاد من رأس. وأشهدنا بعضهم على أنفسهم دون بعض بأن أشهدنا الآباء على هذا الأمر الهام العظيم دون ذرياتهم. ثم أشرك الجميع.

    كان شرك الآباء شركا على علم بأن الله هو الرب لا رب غيره. فكانت معصية منهم. وأما الذرية فإنما كان شركهم بمجرد التقليد فيما لا سبيل لهم إلى العلم به لا إجمالا ولا تفصيلا. ومتابعة عملية محضة لآبائهم. فكان آباؤهم هم المشركون بالله العاصون في شركهم لعلمهم بحقيقة الأمر. وقد قادوا ذريتهم الضعاف في سبيل شركهم بتربيتهم عليه وتلقينهم ذلك. ولا سبيل لهم إلى العلم بحقيقة الأمر وإدراك ضلال آبائهم وإضلالهم إياهم. فكانت الحجة لهؤلاء الذرية على الله يوم القيامة. لأن الذين أشركوا وعصوا بذلك وأبطلوا الحق هم الآباء.
    فهم المستحقين للمؤاخذة. والفعل فعلهم. وأما الذرية فلم يعرفوا حقا حتى
    ____________
    (7) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي ط. مؤسسة الأعلمي بيروت: ص 322 / 8.

    يأمروا به فيعصوا بمخالفته. فهم لم يعصوا شيئا ولم يبطلوا حقا. وحينئذ لم تتم حجة على الذرية. فلم تتم الحجة على جميع بني آدم. وهذا معنى قوله تعالى:
    (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) (8).
    ولكي لا يكون للسلف وللخلف حجة على الله يوم القيامة. أخذ سبحانه الميثاق من بني آدم جميعا. وهذا الميثاق هو مخزون الفطرة. وحجة بذاته على الإنسان في كل حركة له على الأرض. وميثاق الفطرة هو العمود الفقري للعبادة التي خلق الله الإنسان لها. وهو الكشاف الذي يهدي إلى الطريق المستقيم ويجنب صاحبه الإنزلاق في منجيات الإفساد وسفك الدماء التي لم ينف الله سبحانه وجودها عندما قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وإذا كانت الفطرة كشاف يهدي إلى الصراط المستقيم فإن حدود هذا الصراط وضوابطه يحددها أنبياء الله عليهم السلام. وأنبياء الله على امتداد التاريخ الإنساني بعثوا بدين الفطرة. أي بالعبادة الحق التي تنسجم مع ميثاق الفطرة وتتكاتف معه على صراط مستقيم. فالأنبياء جاؤوا إلى نوع إنساني واحد ذات مقصد واحد. وهذا النوع له رب واحد. وهو الذي فطر السماوات والأرض.
    والربربية والألوهية ليست من المناصب التشريفية الوضعية. حتى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء وكم يشاء وكيف يشاء بل هي مبدئية تكوينية لتدبير أمره.

    والإنسان حقيقة نوعية واحدة. والنظام الجاري في تدبير أمره نظام واحد متصل مرتبط بعض أجزائه ببعض. ونظام التدبير الواحد لا يقوم به إلا مدبر واحد. لهذا فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الربوبية فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه الآخر. أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون. فالإنسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا. هو رب بحقيقة الربوبية. وهو الله عز اسمه (9) بهذا جاء رسل الله وعلى هذا قامت دعوتهم عليهم السلام.
    2 - بذور الإنحرافات الكبرى:
    لم تظهر بذور الإفساد وسفك الدماء الذي ذكرته الملائكة عندما خاطبهم
    ____________
    (8) المصدر السابق: 309 / 8.
    (9) الميزان: 322 / 14.

    الله بأنه جاعل في الأرض خليفة إلا عندما أمر سبحانه الملائكة بالسجود لآدم.
    ففي هذا الوقت خط إبليس خط الانحراف الذي تنمو عليه بذور الافساد التي وضعها. يقول تعالى: (إذ قال ربك للملائكة أني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين. قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (10).
    لقد ذكرت الآية أن مبدأ خلق الإنسان الطين. وفي سورة الروم التراب.

    وفي سورة الحجر صلصال من حمإ مسنون. وفي سورة الرحمن صلصال كالفخار. ولا ضير فإنها أحوال مختلفة لمادته الأصلية التي منها خلق وقد أشير في كل موضع إلى واحدة منها. وأمر الله تعالى الملائكة. إذا سوى الإنسان بتركيب أعضائه بعضها على بعض وتتميمها صورة إنسان تام. ونفخ الروح فيه أن يقعوا له ساجدين. وسجد الملائكة لأمر الله. ولم يذكر أحد منهم. أي علاقة بين طين ونور. فعندما أمروا بالسجود سجدوا. ولم يشذ في هذا المشهد المهيب سوى إبليس (قال أنا خير منه) لقد علل عدم سجوده بما يدعيه من شرافة ذاته وأنه لكونه خلقه من نار خير من آدم المخلوق من طين. ويظهر للمتدبر الفطن أن رفض إبليس للسجود. هو في نفس الوقت رفض للخضوع للإنسان والعمل في سبيل سعادته. وإعانته على كماله المطلوب. على خلاف ما ظهر من الملائكة. فهو بإيبائه عن السجدة خرج من جموع الملائكة كما يفيده قوله تعالى: (ما لك ألا تكون مع الساجدين) وأظهر الخصومة لنوع الإنسان والبراءة منهم ما حيوا وعاشوا
    * - بذور الإستعلاء والتحقير:
    وإبليس بعد أن لعنه الله وجعله من المطرودين من رحمته. وظف هذا الحقد وهذه الخصومة فيما بعد وذلك أنه وسوس لصنف من الناس وألقى في نفوسهم مقولة أنهم أرقى من البشر وتجري من عروقهم دماء الآلهة. ووفقا لهذا
    ____________
    (10) سورة ص، الآيات: 7 - 76.

    الاعتقاد ادعى هذا الصنف من البشر الألوهية وفي عهودهم اندرج الإنسان إلى مستوى أقل من مستوى البهيمة. فإبليس بهذه المقولة ذل الإنسان على أيدي الإنسان. من منطلق حقده وخصومته لآدم وأبنائه. ولم يقذف الشيطان بفقه (أنا خير منه) على الجبابرة الذين ادعوا الألوهية على امتداد التاريخ فقط. وإنما قذف بفقه (أنا خير منه) على الخاص والعام في الساحة الإنسانية لوقف تقدم دين الفطرة. فما من رسول أو نبي بعثه الله منذ ذرأ الله ذرية آدم إلا رفعت في وجهه لافتة تحقير الإنسان التي انبثقت من فقه (أنا خير منه) الذي يحمل بين طياته الخصومة لبني الإنسان. لقد واجه الخاص والعام رسل الله عليهم السلام بقول واحد على امتداد الرسالات فقالوا: (ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شئ) (11)، وقالوا: (إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدون عما كان يعبد آباؤنا) (12) وقالوا: (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم) (13) لقد قام إبليس بتوظيف خصومته للإنسان. بأن بث ثقافة من شأنها أن تمنع السجود لله. وإذا كان هو أصل هذه الثقافة يوم أن رفض السجود. فإن هذه الثقافة حملها في الدنيا الإنسان ضد الإنسان بعد أن دق الشيطان وتدها في الكيان الإنساني.
    وهذا الوتد كان له أثرا بالغا في الصد عن سبيل الله. يقول تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (14) وتحت مظلة تحقير الإنسان واجه رسول الله أشد الخصومات من الإنسان الذي استحوذ عليه الشيطان. لقد وقف تلاميذ الشيطان أمام الهدى الذي يطالبهم بالسجود لله.
    وأثاروا قضية الشيطان القديمة ولكن في ثوب يستقيم مع عصورهم. فرفضوا النبي لأنه بشر خلقه الله من طين. فإذا كان لا بد من نبي فينبغي أن يكون ملكا رسولا.

    ملكا من نار أو من نور. فهذا وحده الذي ينبغي أن يسمع لقوله. وتحت مظلة التحقير هذه ارتكبت أفظع الجرائم. وارتدت الأنانية أكثر من ثوب. وارتفع الأغيلمة السفهاء فوق الحلماء الأتقياء، وتحت مظلة السفهاء تم تصنيف البشر إلى خدم وأراذل وأشراف، وعلى امتداد التاريخ الإنساني، ضرب الكون سفهاء
    ____________
    (11) سورة يس، الآية: 24.
    (12) سورة إبراهيم، الآية: 10.
    (13) سورة المؤمنون، الآية: 24.
    (14) سورة الإسراء، الآية 140.

    قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم فرعون وغيرهم. وهلك جميع هؤلاء ولكن فقه التحقير لم يهلك معهم لأنه باقي ما بقي الشيطان.
    فالشيطان يطرحه على قوم وعند ذهاب السلف يلقيه الشيطان على الخلف وهكذا حتى تتسع الحلقات ليكون التحقير مألوفا على امتداد القافلة البشرية. تلك هي خطة الشيطان في فقه التحقير الذي يرفض الهدى ليفتح أبواب النار (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) (15).
    * بذور المتاجرة بالدين:
    بعد أن لعن الله أول فاتح فتح باب معصية الله. وعصاه في أمره. طلب إبليس الإنظار إلى يوم يبعثون. فلما أجيب إلى ما سأل. أظهر ما هو كامن في ذاته. وما أبداه كان في حقيقة الأمر خطته الكاملة تجاه آدم وذريته. والخطة الشيطانية لم تترك منفذا إلا وراقبته. وإذا كان إبليس قد استثمر قوله: (أنا خير منه) في وضع فقه التحقير الذي أنتج نوعا من البشر يعمل ضد البشر. فإنه في مكان آخر عمل من أجل عرقلة طريق العبادة التي من أجلها خلق الله الجن والإنس. قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (16). قال المفسرون: إن الغرض العبادة. بمعنى كونهم عابدين لله. لا كونه معبودا. فقد قال. (ليعبدون) ولم يقل: لأعبد أو لأكون معبودا لهم... فالله هو المعبود الحق. وهو سبحانه قد بين للجن والإنس كيف يعبدوه. فالعبادة هي أن تعبد الله كما يريد الله. وإبليس أدلى بدلوه في اتجاهين.. الاتجاه الأول أنه وسوس للإنسان بعيدا عن المعنى المقصود (ليعبدون) ونصب خيمته في مربع، لأكون معبودا لهم. ووفقا لتصورات هذا المربع تم عبادة الأصنام والطاغوت على امتداد المسيرة البشرية. والإتجاه الثاني. وسوس للإنسان ليعرقل المسيرة نحو المعنى المقصود لقوله تعالى: (ليعبدون) فالله تعالى بين لعباده كيفية عبادته على لسان رسله عليهم السلام. ولما كانت دعوة الرسل على صراط مستقيم.
    فإن إبليس نصب له خيمة على هذا الصراط مهمتها الصد عن سبيل الله وعرقلة
    ____________
    (15) سورة الكهف، الآية: 50.
    (16) سورة الذاريات، الآية: 56.

    الطريق أمام العبادة الحقة. وتلاميذ إبليس على هذا الصراط هم المنافقون على امتداد التاريخ الإنساني. فالمنافق يسير على الصراط المستقيم بفقه الشعار وليس بفقه الشعور. وفقه الشعار لا يغني عنه من الله شيئا ولا يحق له أي فوز في موطئ قدم فوق الصراط المستقيم عند العرض على الله يوم القيامة. وعرقلة الطريق على الصراط المستقيم وفقا للخطة الشيطانية جاء في قول الله تعالى: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (17) قال المفسرون: أي لأجلسن لأجلهم على صراطك المستقيم وسبيلك السوي الذي يوصلهم إليك وينتهي بهم إلى سعادتهم. لما أن الجميع سائرون إليك سالكون لا محالة مستقيم صراطك. فالقعود على الصراط المستقيم كناية عن التزامه والترصد لعابريه ليخرجهم منه. وقوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم...) الآية.
    بيان لما يصنعه بهم. وقد كمن لهم قاعدا على الصراط المستقيم. وهو أنه يأتيهم من كل جانب من جوانبهم الأربعة... والمراد بما بين أيديهم: ما يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم. مما يتعلق به الآمال والأماني من الأمور التي تهواه النفوس وتستلذه الطباع. ومما يكرهه الإنسان ويخاف نزوله به. كالفقر يخاف منه لو أنفق المال في سبيل الله. أو ذم الناس ولومهم لو ورد سبيلا من سبل الخير والثواب.
    والمراد بخلفهم: ناحية الأولاد والأعقاب. فللإنسان فيمن يخلفه بعده من الأولاد. أمال وأماني ومخاوف ومكاره. فإنه يخيل إليه. أنه يبقى ببقائهم.

    فيجمع المال من حلاله وحرامه لأجلهم. ويعد لهم ما استطاع من قوة فيهلك نفسه في سبيل حياتهم والمراد باليمين: وهو الجانب القوي الميمون من الإنسان ناحية سعادتهم وهو الدين. وإتيانه من جانب اليمين أن يزين لهم المبالغة في بعض الأمور الدينية، والتكلف بما لم يأمرهم به الله. وهو الذي يسميه الله تعالى بإتباع خطوات الشيطان. والمراد بالشمال: خلاف اليمين. وإتيانه منه أن يزين لهم الفحشاء والمنكر ويدعوهم إلى ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب واتباع الأهواء (18).
    ____________
    (17) سورة الأعراف، الآيتان: 16 - 17.
    (18) الميزان: 31 / 8.
    فكل جهة من هذه الجهات لها في خيام النفاق أساتذة وعباقرة. مهمتهم تمييع القضايا وترقيع الحقائق يرقع الباطل. أو تزيين الباطل بلافتات الحق.
    ليصلوا بالجميع إلى محطة لا يكون فيها الدين إلا اسما ولا يكون كتابه إلا رسما.
    ووفقا لهذا لا يتحقق المقصود من قوله تعالى: (ليعبدون) وفقه الشعار الذي يعمل به أولياء الشيطان. أول من عمل به الشيطان نفسه. ثم ألقاه على عقولهم الصدئة في خيمة النفاق. ليعملوا به ضد البشرية ولكن بأسلوب آخر. واستعمال كالشيطان لفقه الشعار. جاء في قوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما. وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) (19) قال المفسرون: المقاسمة. المبالغة في القسم أي حلف لهما وأغلظ في حلفه أنه لهما لمن الناصحين. وروي عن أبي عبد الله قال لما خرج آدم من الجنة نزل عليه جبرائيل. فقال: يا آدم أليس خلقك الله بيده. ونفخ فيك من روحه.
    وأسجد لك ملائكته. وزوجك حواء أمته. وأسكنك الجنة وأباحها لك. ونهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة. فأكلت منها وعصيت الله؟ فقال آدم: يا جبرائيل إن إبليس حلف لي بالله أنه لي ناصح. فما ظننت أن أحدا من خلق الله يحلف بالله كذبا (20) وقال في المجمع: أن الله تعالى خلق آدم حجة في أرضه.
    ولم يخلقه للجنة. وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض. وعصمته يجب أن تكون في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز وجل. فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) (21).
    والشيطان استعمل فقه الرمز في البداية. ولكن الله عصم آدم في النهاية.
    ثم قام الشيطان بتوسيع هذا الفقه داخل خيمة الانحراف ليتزود منه كل من لم يدخل الإيمان قلبه. لتزل أقدامهم إلى مهابط المغضوب عليهم أو الضالين.
    ومن الذين عملوا بفقه الشعار على الصراط المستقيم ولم تغني عنهم أعمالهم
    ____________
    (19) سورة الأعراف، الآيتان: 20 - 21.
    (20) الميزان: 61 / 8.
    (21) سورة آل عمران، الآية: 33.

    شيئا. زوجتا أنبياء الله نوح ولوط عليهما السلام. لقد تزودت كل منهما بزاد من خيمة النفاق. فكان الزاد عليهما وبال وحسرة. ومن نفس الخيمة تزود تجار الأديان في بني إسرائيل الذين حرفوا الكلم عن مواضعه. ولحق بهم إخوانهم في عصر البعثة الخاتمة. الذين فضحهم القرآن في أكثر من موضع. وإذا كان تلاميذ الشيطان قد وضعوا العراقيل أمام العبادة الحقة. إلا أن هذه العبادة ظلت راسخة في نفوس المؤمنين بها. وفي كل عصر تنهار الأصنام وتسقط الطواغيت. في الوقت الذي تسير فيه طلائع النهار رافعة لأعلام الفطرة التي فيها خلاص الإنسان.

    * بذور المتاجرة بالشهوات
    بعد أن دق الشيطان وتده في نفوس الجبابرة وأوهمهم بأن في عروقهم تجري دماء الآلهة. انطلقوا ليملأوا الأرض ظلما وقاست البشرية من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة. وما من عصر من العصور إلا وعليه بصمة من بصمات هؤلاء رغم رحيلهم. وذلك لأن إبليس يوظف الإنحراف في كل عصر بعد أن يضع عليه ملابس جديدة. وما حدث مع الجبابرة وفقا لأطروحة (أنا خير منه) يحدث مع جبابرة اللسان في عالم النفاق. فشذوذ النفاق لا يموت. ويوظف وفقا للتطور البشري. والانحراف وبشذوذ لا يموتان لأن الشيطان جعل لهما ركوبة تستقيم مع كل عصر. وهذه الركوبة صالحة للخاص والعام. للأمير وللخفير. للشريف وللحقير. والركوبة التي اعتمدها الشيطان تخضع لفقه التزيين والإغواء. فهذا الفقه وحده يحافظ على الشذوذ وينقله من عصر إلى عصر تحت حماية فقه الاحتناك.

    وفقه التزيين والإغواء جاء في قوله: (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) (22) وفقه الاحتناك جاء في قوله: (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا " (23) والفقه الأول يسير في حراسة الفقه الثاني. وفي تزيين الشيطان وإغوائه الناس قال المفسرون: قوله: (لأزينن لهم في الأرض) أي لأزينن لهم الباطل. أو
    ____________
    (22) سورة الحجر، الآية: 39.
    (23) سورة الإسراء، الآية: 62.

    لأزينن لهم المعاصي. والمراد بالتزين لهم في الأرض. غرورهم في هذه الحياة الدنيا وهو السبب القريب للإغواء (24) فالركوبة مزخرفة وتعبير من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وهي تحمل زخارف كل عصر. وفي كل عصر يجري الذين اعتقدوا بأن في عروقهم تجري دماء الآلهة وغيرهم وراء الشهوات التي تستقيم مع كل منهم. وكل فرد فيهم يتحرك نحو شهوته بمقدار الغرس الذي غرسه الشيطان بداخله (وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. ولأضلنهم ولأمنينهم لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) (25) قال المفسرون:
    لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله باقتراف المعاصي ولأغرنهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم وما يهمهم من أمرهم.

    ولآمرنهم بشق آذان الأنعام وتحريم ما أحل الله. ولآمرنهم بتغيير خلق الله وينطبق على مثل الإخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحاق. ولير من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله، الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف (26) فهذه الأشياء غرس الشيطان. وكل من اتخذ الشيطان له وليا ينطلق بغرسه ليصيب به ما يشتهيه في عالم الزينة والإغواء.
    وتسير قافلة الزخرف والشهوات محملة بانحرافاتها وشهواتها بضجيج أو بلا ضجيج في مجتمعات هيمن عليها فقه الاحتناك. والاحتناك: الاقتطاع من الأصل. يقال: احتنك فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله. واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله. وحنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. والمعنى الأخير هو الأصل في الباب. والاحتناك: الإلجام. وقال المفسرون: قوله (لاحتنكن ذريته إلا قليلا) أي لألجمن ذريته إلا قليلا.
    فأتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها. يطيعونني فيما آمرهم.
    ويتوجهون إلى حيث أشير لهم من غير أي عصيان وجماح.. إنه فقه تلجيم العقول وتكميم الأفواه وتعصيب العيون فقه لا يخدم إلا الغوغاء وتجار الشهوات لنشر الانحراف والشذوذ تحت لافتة براقة تنادي بالديمقراطية وحرية الإنسان فيما
    ____________
    (24) الميزان 164 / 12.
    (25) سورة النساء، الآيتان: 118 - 119.
    (26) الميزان: 84 / 85.

    يختار من مزابل الشيطان. إنه فقه يحمي الهجوم بالانحراف لتدمير الجنس البشري بأيدي الجنس البشري.
    3 - الفقه الشيطاني في مهب الريح:

    لقد استثنى الشيطان عباد الله المخلصين من عموم الاغراء والمخلصون - بفتح اللام - هم الذين أخلصهم الله لنفسه بعدما أخلصوا لله، فليس لغيره سبحانه فيهم شركة. ولا في قلوبهم محل فلا يشتغلون بغيره تعالى. والمتدبر فيما عزم الشيطان عليه لتدمير البشر. يجد أن أسلحته وإن كانت تبدو فتاكة إلا أنها أسلحة محاصرة ولا تصيب إلا من دخل في مرماها أو حام حولها. وإذا كان الله قد أعطى إبليس سلاح. فإنه تعالى أعطى للمؤمن السلاح الأقوى. وعلى سبيل المثال. فإن الله تعالى أيد إبليس على الإنسان بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.
    وأيد الإنسان عليه بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا. وأيد إبليس بالتمكين بتزيين الباطل. وأيد الإنسان بأن هداه إلى الحق. وزين الإيمان في قلبه وفطره على التوحيد. وعرفه الفجور والتقوى. وجعل له نورا يمشي به في الناس إن آمن بربه إلى غير ذلك من الأيادي. وبعث إليه الرسل والأنبياء بهداية التشريع الذي يحمي الله تعالى به عبده الصالح المجتنب عما يسخطه ويكرهه عن مضار الدنيا ويجنبه عن مضلات الفتن. ويلطف به ألطافا ظاهرة أو خفية حتى يخرج من الدنيا سالما دينه راضيا عنه ربه.
    وخطوات الشيطان كلها تصب في آخر الزمان في سلة المسيح الدجال بمعنى أن كل انحراف منذ ذرأ الله ذرية آدم وإن بدأ في أول الطريق ضئيلا إلا أن الشيطان يتعهده على امتداد الطريق بإلقائه على المسيرة البشرية وفقا لتطورها.
    ليكون في النهاية له صفة القانون. وتحت حماية الجماهير لهذا القانون يأتي المسيح الدجال رمزا لقاعدة لا تعرف إلا الانحراف والشذوذ. وكما في روايات عديدة أن المسيح الدجال هو سر إبليس وحامل رايته آخر الزمان. وإذا كان الدجال ثمرة لطريق الانحراف. فإن المهدي المنتظر الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو عنوان الفطرة النقية وتحت رايته سينتظم الذين ساروا على الصراط المستقيم ولم تعرقل خيمة الانحراف والنفاق خطواتهم. وبين الحق والباطل ستدور معارك آخر الزمان. ومعسكر الشيطان مهزوم مهزوم. ولقد هزم في كل عصر. هزم يوم أن قتل ابن آدم الأول أخيه بحجر وسيهزم بعد أن قتل ابن آدم أخيه بقنبلة ذرية. إن هزيمة الباطل في كل عصر هي عنوان للحق الأصيل في الوجود ودعوة للسائرين في طريق الانحراف كي يصححوا مسارهم. ويعلموا أن الباطل طارئ لا أصالة فيه. وأنه مطارد من الله. ولا بقاء لشئ يطارده الله.

    ونحن على امتداد هذا الكتاب سنسرد الأحداث كما وقعت ليتبين القارئ بنفسه موطن الانحراف وموطن الدعوة الحق. ثم مصير كل منهما. وسيجد أن الانحراف ضربه الله بالكون كله. ضربه يوما بالطوفان. ويوما بالريح العقيم.

    ويوما بالصيحة ويوما آخر بالحجارة. وعلى امتداد هذه الأيام وهذه الأهوال نجا الله الذين آمنوا من ضربات الكون وأحياهم حياة طيبة. إن القارئ على امتداد صفحات هذا الكتاب سيكتشف أماكن جراح ما زالت تنفجر منها الدماء.

    وسيحيط بجوانب هذه الجرائم التي دخلت بمعسكرات الانحراف إلى عقاب لم يأخذ صورة الطوفان أو الريح أو الصيحة. وإنما أخذ صور أخرى حيث ضنك المعيشة وزخارف الفتن التي لا تحقق لمن تلبس بها أي أمن.

    والفقه الشيطاني هزمه الله في كل عصر من العصور. وكانت هزيمته عنوانا لانتصار الحق. ودعوة للسائرين في الظلام كي يخرجوا من خيام ضربت عليها الهزيمة في الحياة الدنيا ولها في الآخرة عذاب أليم. إلى رحاب الكون الذي يتنفس بمخزون الفطرة ويدور في اتجاه واحد نحو غاية واحدة. إن فقه الشيطان الذي قتل هابيل في أول الزمان بحجر، حمل شذوذه وانحرافه في سفك الدماء، ووقف في الحاضر وبيده قنبلة ذرية ليقتل بها مليون هابيل. هذا الفقه المدجج بالسلاح والعتاد مكتوب عليه الفناء لأنه باطل والباطل طارئ لا أصالة فيه.
    والباطل يطارده الله. ولا بقاء لشئ يطارده الله. ونحن على امتداد هذا الكتاب سنقص قصة الفطرة في مواجهة الباطل. وسنرى جراح ما زالت تتفجر منها الدماء. وسنحيط بجوانب هذه الجرائم لنعلم من المسؤول عن كل هذا.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    انحرافات قوم نوح عليه السلام
    (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)
    سورة الشعراء، الآية: 111
    * الأوائل والطوفان
    أعلام تحقير الإنسان
    مقدمة:
    روي أن بين آدم وبين نوح عليهما السلام عشرة قرون، واختلفوا هل المراد بالقرن مائة سنة، أم المراد بالقرن الجيل من الناس، كما في قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) (1) وبالجملة أن نوحا عليه السلام بعثه الله تعالى عندما شرع الناس في الضلالة والكفر وعبدوا الأصنام والطواغيت. وفي عصر نوح الذي بعث فيه نوح كان قومه قد ابتعدوا عن دين التوحيد وعن سنة العدل الاجتماعي. فاستعلى القوي على الضعيف، وصار الأقوياء بالأموال والأولاد يستبيحون حقوق من دونهم الذين لا يحملون إلا ألقاب المهانة، ولا قيمة لهم في المجتمع. كانت دائرة الأقوياء تضم السادة والأشراف وباقي الطبقة المترفة، وكانت دائرة الضعفاء تضم الأراذل والأخساء ومن لا حظ له من مال أو مكانة.
    وأصحاب هذه الدائرة، كان الملأ الأقوياء ينظرون إليهم على أنهم جنس آدمي منخفض لا بد أن يعمل لينتفع المثل الأعلى الآدمي المرتفع - والذين تمثله دائرة الأقوياء - من عمله وكده.
    وعلى امتداد طريق الانحراف قامت ثقافة المترفين بغرس الخرافات في
    ____________
    (1) سورة آل عمران، الآية: 33.

    عقول القوم، وكانت المقدمة إلى هذا أن المترفين وضعوا قاعدة تقول. بأن أي أمر لو كان حقا نافعا، فإن قيمة هذا الحق وهذا النفع تتحدد في أتباع طبقة الأقوياء له. فإن أعرضت عنه هذه الطبقة، أو اتبعه غيرهم من الضعفاء، فإن الحق مهما كان حجمه يكون لا خير فيه، ووفقا لهذه المقدمة غرس المترفين الأصنام في كل مكان، ودثروها بالخرافات التي تخدم مصالحهم وتحافظ على مسيرة الانحراف. وقد ذكر القرآن من هذه الأصنام: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا. وكان كل صنم له كهان وطقوس ويعبده طائفة من الناس. وأمام جميع الطوائف يتقدم الأشراف والأقوياء. ويلتقي الجميع على طريق الانحراف متخذين أهواءهم وشذوذ آبائهم عن الفطرة هدفا لهم.
    نوح عليه السلام.
    نوح هو أول أولي العزم من الرسل، وهو أول من قام لتعديل الطبقات ورفع التناقض من المجتمع الإنساني. وهو أول من طرح حجج التوحيد أمام الكفار.
    وذكر الله تعالى في كتابه أن نوحا مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما. وروي أنه بعث وله أربع مائة وثمانون سنة، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة (2) وروي غير ذلك. واختلفوا في مقدار سنه يوم بعث! فقيل كان ابن خمسين سنة، وقيل ابن ثلاثمائة وخمسين عاما (3).
    ونوح عليه السلام اصطفاه الله تعالى على العالمين (4)، وسفاه سبحانه في كتابه عبدا شكورا (5)، وعبدا صالحا (6)، كما عده الله سبحانه من عباده المحسنين (7)، ومن عباده المؤمنين (8)، والسور التي تعرضت لقصة نوح عليه
    ____________
    (2) البداية والنهاية: 120 / 1.
    (3) المصدر السابق: 101 / 1.
    (4) سورة الصافات، الآية: 81.
    (5) سورة الإسراء، الآية: 3.
    (6) سورة التحريم، الآية: 10.
    (7) سورة الأنعام، الآية: 84.
    (8) سورة النمل، الآية: 15.

    السلام من القرآن الكريم، هي ثمانية وعشرون سورة في ثلاثة وأربعين موضعا.
    وذكرت قصة نوح عليه السلام مفصلة في سبع سور منها: الأعراف ويونس وهود والمؤمنون والشعراء والقمر ونوح.
    الانذار والصد
    * أولا: الإنذار:
    كان خروج القوم عن سنة العدل الاجتماعي التي أودعها الله في أعماق الفطرة. يعني أن الشيطان يقود قافلة كفارهم، فالشيطان هو صاحب فقه الانتقاص والتحقير، وكفار قوم نوح قطعوا شوطا بعيدا داخل هذا الفقه! فقاموا بتصنيف عباد الله وفقا لما عندهم من أموال وأولاد وجاه أو مكانة. ثم عكفوا على أصنامهم يحيط بهم كهنة مهمتهم الحفاظ على عبادة الأصنام والصد عن سبيل الله. يحافظون على الأصنام تحت لافتة سنة آبائهم القومية. ويصدون عن سبيل الله بطرح عادات وتقاليد وثقافات لا تدع لفكر الفطرة سبيل داخل المجتمع. وأمر مثل هذا ينطلق من ماض معتم، ويدمر حاضر هيمن عليه خدام الأهواء وتلاميذ الشيطان. ويندفع نحو المستقبل من أجل توثيق طريق الفطرة. يكون خطرا على المسيرة البشرية. ويكون أكثر خطورة إذا كان القائمون عليه قوما من أقوام صدر المسيرة البشرية، لأنهم رأس القافلة، والداء عندما يضرب رأس المسيرة البشرية، فإن الانحراف سيتسع شيئا فشيئا حتى لا يصبح هناك أملا في كل مولود جديد إلا من رحم الله.
    وقوم نوح كانوا رأس القافلة البشرية. رأسا أصابها الداء، فبعث الله تعالى إليهم نوحا عليه السلام بالرحمة التي تشفيهم من الداء، لكنهم أبوا إلا أن يزدادوا كفرا، وعندئذ قطعت الرأس وفقا لعذاب الاستئصال.. لقد أغرقهم الله فدفنوا ومعهم انحرافهم في أعماق الطين ليكونوا عبرة للقافلة كلها. لقد دفن انحراف قوم نوح معهم، ولكن أصول الانحراف ما زالت في أيدي الشيطان، فإذا ما لوح الشيطان بها لأي جيل في أي زمان ومكان، كان في الطوفان الذي اجتاح الرأس آية..
    لقد بعث الله تعالى نوحا إلى قومه. بعد أن ساروا في اتجاه العذاب الأليم
    ورفضوا منطق الفطرة الذي يهدي إلى صراط مستقيم قال تعالى: (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم * قال يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * ينفر لكم ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون) قال المفسرون: في الآية دلالة على أن قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم ومعاصيهم. وذلك أن الانذار تخويف، والتخويف إنما يكون من خطر محتمل لا دافع له (9) والله تعالى أمر نوحا عليه السلام أن ينذر قومه بأس الله قبل حلوله بهم فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم (10). فقام عليه السلام بتبليغ رسالته إجمالا بقوله: (إني لكم نذير مبين) وتفصيلا بقوله: (أن اعبدوا الله واتقوه) الآية. وفي قوله: (أن اعبدوا الله) دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته. فإن القوم كانوا يعبدون الأصنام. وفي قوله (واتقوه) دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم وصغائره. وفعل الأعمال الصالحة التي في تركها معصية (11). وفي قوله:
    (وأطيعون) دعوة لهم إلى طاعته فيما يأمرهم به وينهاهم عنه. وأخبرهم أنهم إذا فعلوا ما يأمرهم به وصدقوا ما أرسل به إليهم غفر الله لهم ذنوبهم. ومد في أعمارهم ودرأ عنهم العذاب الذي إن لم يجتنبوا ما نهاهم عنه أوقعه الله بهم.
    وحثهم أن يبادروا بالطاعة قبل حلول النقمة. فإنه إذا أمر الله تعالى بكون ذلك. لا يرد ولا يمانع، فإنه العظيم الذي قد قهر كل شئ، العزيز الذي دانت لعزته:
    جميع المخلوقات (12).
    لقد كان الإنذار من أجل أن تقف القافلة البشرية. لتعيد التفكير بمنطق الفطرة، وتعود إلى رشدها بعبادة ربها ولكن جبهة الكفر والعصيان، وقفوا من الإنذار الموقف الذي يأتيهم، بالعذاب. لقد وجد القوم أن دعوة نوح إليهم لعبادة الله وحده، وأمره إياهم أن يتقوا الله ويطيعوه.. رأوا في هذا خروجا عن نصوص الآباء وسنتهم القومية، ولهذا رموا نوحا عليه السلام بأكثر من تهمة. وكما أنذرهم نوح من قبل أن يأتيهم العذاب الأليم. راح عليه السلام ينذرهم وهم على طريق
    ____________
    (9) الميزان: 26 / 1.
    (10) تفسير ابن كثير: 424 / 4.
    (11) الميزان: 26 / 1.
    (12) تفسير ابن كثير: 424 / 4.

    الانحراف ويخبرهم أنه يخاف عليهم عذاب يوم أليم. فهو أنذرهم قبل أن يأتيهم العذاب الأليم. وعندما عصوا وعاندوا، أنذرهم بأن العذاب الأليم ينحصر في يوم أليم. وهو يخاف عليهم من هذا اليوم الذي وصفه الله بأنه أليم. فإذا كان هذا هو حال اليوم. فكيف يكون حال الذين يعيشون فيه يقول تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) (13) قال المفسرون: دعاهم إلى توحيد الله بتخويفهم من العذاب. وإنما كان يخوفهم لأنهم كانوا يعبدون الأوثان خوفا من سخطهم. فقابلهم نوح عليه السلام بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم. ودبر شؤون حياتهم. وأمور معاشهم بخلق السماوات والأرض. وإشراق الشمس والقمر وإنزال الأمطار وإثبات الأرض وإنشاء الجنات وشق الأنهار. وإذا كان كذلك. كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه، فليخافوا عذابه، وليعبدوه وحده. وبعد أن دعاهم عليه السلام إلى توحيد الله، خوفهم من عذاب يوم وصف بأنه أليم (14). والمراد بعذاب يوم أليم.
    عذاب الاستئصال. ونسبة الإيلام إلى اليوم دون العذاب من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف. ونزول العذاب على الكفار والمستكبرين. مسألة حقيقية يقينية، فإن من النواميس الكلية الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوي. والمتأثر المقهور للمؤثر القاهر. فما قولك في الله الواحد القهار الذي إليه مصير الأمور. وقد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون. وربط بعضها ببعض. ثم أجرى الحوادث على نظام الأسباب. وعلى ذلك يجري كل شئ في نظام وجوده فلو انحرف أي جزء عن خطه المحدد له.. أدى ذلك إلى اختلال نظام الأسباب. وكان ذلك منازعة منه لها. وعند ذلك تنتهض سائر الأسباب الكونية من أجزاء الوجود لتعديل أمره وإرجاعه إلى خط يلائمها. وهي بذلك في مقام من يدفع الشر عن نفسه. فإن استقام هذا الجزء المنحرف على خطه المخطوط له فهو، وإلا حطمته حاطمات الأسباب ونازلات النوائب والبلايا. وهذا أيضا من النواميس الكلية. والإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون له في حياته خط خطه له الصنع والإيجاد، فإن سلكه هداه إلى سعادته. ووافق بذلك سائر أجزاء الكون،
    ____________
    (13) سورة هود، الآية: 26.
    (14) سورة الأعراف الآية: 59.

    وفتحت له أبواب السماء ببركاتها. وسمحت له الأرض بكنوز خيراتها. وهذا هو الإسلام الذي هو الدين عند الله تعالى. المدعو إليه بدعوة نوح ومن بعده من الأنبياء والرسل عليهم السلام. فإذا تخطاه الإنسان وانحرف عنه. فقد نازع أسباب الكون وأجزاء الوجود في نظامها الجاري. وزاحمها في شؤون حياتها، وعلى هذا فليتوقع مر البلاء ولينتظر العذاب والعناء. فإن استقام في أمره.
    وخضع لإرادة الله. وهي ما تحطمه من الأسباب العامة. فمن المرجو أن تتجدد له النعمة بعد النقمة. وإلا فهو الهلاك والفناء. وإن الله لغني عن العالمين (15).
    إن الذي يدور عكس دوران الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، يعرض نفسه لضربات جميع أجزاء الكون، فقوم نوح خرجوا عن خط ميثاق الفطرة الذي يشهد. لله بالربوبية، وأقبل على عبادة الأوثان والطواغيت، وتحت سقفها قام بتدوين سنة الظلم الاجتماعي، ولقد خوفهم نوح عليه السلام من - عذاب يوم أليم، لأنهم بأعمالهم هذه ينازعون أسباب الكون وأجزاء الوجود في نظامها الجاري. وهم بذلك يعرضون أنفسهم للقحط والجدب وللطوفان وقام عليه السلام بردهم إلى الطريق الصحيح الذي عليه تأتيهم البركات والسعادة الحقيقية، وقال: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا) (16) قال المفسرون: محصل المعنى. لا ترجون لله وقارا في ربوبيته. والحال أنه أنشأكم طورا بعد طور يستعقب طورا آخر. فأنشأ الواحد منكم ترابا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم طفلا ثم شابا ثم شيخا، وأنشأ جمعكم مختلفة الأفراد، في الذكورة والأنوثة والألوان والهيئات والقوة والضعف إلى غير ذلك -: وهل هذا إلا التدبير؟ فهو مدبر أمركم. هو ربكم (17). الذي يجب عليكم أن تعبدوه وحده. وقد عد عليه السلام النعم الدنيوية، ووعد قومه توافر النعم وتواترها عليهم إن استغفروا ربهم. فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب والنقمات العامة. وانفتاح أبواب النعم من السماء والأرض أي أن هناك ارتباطا خاصا بين صلاح المجتمع
    ____________
    (15) الميزان 200 / 10.
    (16) سورة نوح، الآيات: 10 - 14.
    (17) ا لميزان 22 / 20.

    الإنساني وفساده وبين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الإنسانية وطيب عيشه ونكده كما يدل عليه قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) (18) وقوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) (19) وقوله: (ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (20).
    لقد أرشدهم نوح عليه السلام إلى الطريق المستقيم، فماذا كان رد القوم عليه بعد أن تلقوا منه الانذار والتخويف؟
    * ثانيا: الصد عن سبيل الله:
    1 - رفض بشرية الرسول:
    لقد دعاهم نوح عليه السلام ليلا ونهارا، والذي دعا إليه هو عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله، دعاهم من غير فتور ولا توان، لكن القوم تثبتوا بخط الانحراف، وأجابوا دعوة نوح بالفرار والتمرد والتأبي، كان يدعوهم ليغفر لهم الله وفي هذا دليل على أنه كان ناصحا لهم في دعوته ولم يرد لهم إلا ما فيه خير دنياهم وعقباهم، لكنهم صدوا المرشد إلى الصراط المستقيم. بوضع أصابعهم في آذانهم حتى لا يستمعوا إلى دعوته. وغطوا بثيابهم رؤوسهم ووجوههم لئلا يروه.
    وألحوا على الامتناع من الاستماع واستكبروا عن قبول دعوته استكبارا عجيبا.
    ولم يواجه نوح عليه السلام استكبارهم هذا بالصمت بل توجه بدعوته إليهم سرا وعلانية. سالكا في دعوته كل مذهب يمكن. وسائرا في كل مسير مرجو. ولقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم حجج نوح عليه السلام التي واجه بها قومه، عندما خرج كفارهم للصد عن سبيل الله، فبعد أن أخبر نوح قومه أنه لهم نذير مبين، وأمرهم بعبادة الله وحده، وخوفهم من عذاب يوم أليم. وخرج إليه أشراف القوم الذين يعتبرون أنفسهم ميزانا لكل ما يدور على أرضهم. وصدوا عن سبيل الله. وفقا لبنود قانونهم الذي خرجوا به عن سنة العدل الاجتماعي وبمقتضاه
    ____________
    (18) سورة الروم، الآية 61.
    (19) سورة الشورى، الآية: 30.
    (20) سورة الأعراف، الآية: 94.

    قاموا بانتقاص وتحقير كل من هو دونهم، يقول تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشر مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) (21).
    لم يتجاوز الرد عيونهم (ما نراك) و (ما نرى) لقد كان لكفار قوم نوح السبق في تدوين فقه النظر الأعمى ما نراك وما نرى، وهذا الفقه الذي وضعت بذرته الأولى على أرضية قوم نوح. أثمر فيما بعد وقامت على ثماره قاعدة عريضة عمودها الفقري (ما أريكم إلا ما أرى) وهذه القاعدة تعهدها فرعون وألقى بها إلى المستقبل لتأخذ الأشكال والوجوه التي تلائم كل عصر من العصور، لقد بدأ كفار قوم نوح بمصادرة النبوة في قولهم: (ما نراك إلا بشر مثلنا) وهذه المصادرة تبتغي في المقام الأول قطع شعاع الهدى عن الناس ليظلوا تحت شعاع الاغواء والتزيين الذي يشرف عليه الشيطان الرجيم. ورفض قوم نوح إطاعة النبي البشر هو من جنس رفض الشيطان السجود لآدم، لأن الله تعالى هو الذي أمر بالطاعة للرسول وهو الذي أمر بالسجود لآدم، فرفض الطاعة هو من حقيبة رفض السجود وصاحب حقيبة رفض السجود يطرح الرفض على أوليائه وفقا للزمان والمكان بمعنى أنه ينتقص ويحقر بما يتلاءم مع كل عصر. فقوم نوح قالوا لرسولهم: (ما نراك إلا بشر مثلنا) ومن تحت أقدامهم أخذ كفار البشر هذه المقولة وألقوا بها أمام كل رسول من عند الله، يقول تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم * ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد) (22).
    لقد طرح الشيطان على عقول أتباعه شبكة الحركة ضد أسباب الكون وجزئياته. كي تعيش البشرية في الضنك وتحت العذاب وهو ما فعل ذلك إلا أنه كاره للبشر وعدوله. ولكن الأغبياء على امتداد المسيرة البشرية لم يتدبروا ذلك، لأنهم وضعوا على عقولهم وعلى عيونهم شباك من زخرف الحياة. صنعت داخل مصانع الاغواء والتزيين الشيطانية. ورفض قوم نوح الرسول البشر، يقابله أن
    ____________
    (21) سورة هود، الآية: 27.
    (22) سورة التغابن، الآيتان 5 - 6.

    يكون الرسول إليهم ملك من الملائكة. وهذا ضد سنة الخلق لأن الملائكة إذا نزلت فإنما تنزل على ملائكة يقول تعالى: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) (23) ولأن الشيطان يعلم أن معيشة الملائكة بين الناس لا تستقيم مع حركة الكون. دق ضرورة وجودهم في عقول أتباعه حتى بقطع الطريق على دعوة الرسل عليهم السلام، فوقف أتباعه على امتداد التاريخ يقولون بأنهم يسيطرون على المجتمع، ولهم الكلمة العليا فيه، والذين يدعون أنهم رسلا من الله لا يملكون الصلاحيات التي تؤهلهم لذلك له لأنهم أولا يماثلونهم في البشرية ولأنهم ثانيا لا يملكون ما يمتلكوه هم. وثالثا أنهم لا يستطيعون قهرهم على عبادة الله. وعلى هذا فإذا كان لا بد من رسول.
    فيجب أن يكون ملكا من الملائكة يفوقهم في كل شئ وتكون له اليد العليا عليهم.. وبالجملة طالبوا بمن يقهرهم على عبادة الله. وهذا الطلب في حد ذاته ضد سنة الله في خلقه. إذ لا إجبار في دين الله منذ خلق الله آدم عليه السلام، حتى يرث الله الأرض.. إن دين الله لا إجبار فيه لأن الله غني عن العالمين.
    لقد قالوا لنوح عليه السلام:! ما نراك إلا بشر مثلنا، أي أنك مثلنا في البشرية. ولو كنت رسولا إلينا لم تكن كذلك ولم يقف الكفار عند هذا الحد، بل وجهوا إلى نوح عليه السلام سيل من الجرائم من بينها التآمر عليهم كما اتهموه عليه السلام بأن به جنة يقول تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين * إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين) (24) قال المفسرون: السباق يدل على أن الملأ كانوا يخاطبون عامة الناس لصرف وجوههم عنه وإغرائهم عليه وتحريضهم على إيذائه وإسكاته. وقولهم: (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم) محصله.. أنه بشر مثلكم فلو كان صادقا فيما يدعيه من الوحي والاتصال بالغيب.. كان نظير ما يدعيه متحققا فيكم، إذ لا تنقصون منه في شئ من البشرية ولوازمها. وبما أنه يدعي ما ليس فيكم فهو كاذب، وكيف يمكن أن يكون هناك كمالا في وسع البشر أن يناله. ثم
    ____________
    (23) سورة الإسراء، الآية 95.
    (24) سورة المؤمنون، الآيتان: 24 - 25.

    لا يناله إلا واحد منهم فقط ثم يدعيه من غير شاهد يشهد عليه؟ وعلى هذا فلم يبق إلا أنه يريد بهذه الدعوة أن يتفضل عليكم، ويترأس فيكم، ويؤيد هذا أنه يدعوكم إلى اتباعه وطاعته. وقولهم: (ولو شاء الله لأنزل ملائكة) محصله:
    أن الله سبحانه لو شاء أن يدعونا بدعوة غيبية.. لاختار لذلك الملائكة الذين هم مقربون عنده والروابط بيننا وبينه فأرسلهم إلينا.. لا بشر ممن لا نسبة بينه وبينه.
    وقولهم: (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) محصله: أنه لو كانت دعوته حقة، لاتفق لها نظير فيما سلف من تاريخ الإنسانية، وآباؤنا كانوا أفضل منا وأعقل، ولم ينقل عنهم ما يناظر هذه الدعوة، وعلى هذا فليست هذه الدعوة إلا بدعة وأحدوثة كاذبة وقولهم: (إن هو إلا رجل به جنة) الجنة إما مصدر، أي به جنون، أو مفرد الجن، أي حل به من الجن من يتكلم على لسانه لأنه يدعي ما لا يقبله العقل السليم. ويقول ما لا يقوله إلا مصاب في عقله فتربصوا وانتظروا به إلى حين ما. لعله يفيق من حالة جنونه أو يموت فنستريح منه (25) وكما رموه بالجنة رموه أيضا بالضلالة ليصرفوا عنه وجوه الناس ويغرونهم عليه ويمدون في ضلالهم قال تعالى: (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين * قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون * أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون) (26).
    قال المفسرون: الملأ هم أشراف القوم وخواصهم. سموا به لأنهم يملأون القلوب هيبة والعيون جمالا وزينة. ولقد رموا نوحا عليه السلام بالضلال المبين. لأنهم لم يكونوا ليتوقعوا أن معترضا يعترض عليهم بالدعوة إلى رفض آلهتهم. وتوجيه العبادة إلى الله سبحانه بالرسالة والإنذار. فعندما فعل نوح ذلك واقتحم عالمهم بدعوته تعجبوا من ذلك وأكدوا لعامتهم ضلالته. ولقد رد عليهم بقوله: (قال يا قوم ليس بي ضلالة) أجابهم بنفي الضلال عن نفسه. وأنه رسول من الله سبحانه. وذكره بوصفه " رب العالمين " ليجمع له سبحانه الربوبية كلها. قبال تقسيمهم إياها بين آلهتهم بتخصيص كل منها بشئ من شؤونها
    ____________
    (25) الميزان: 29 / 15.
    (26) سورة الأعراف، الآيات: 60 - 63.

    وأبوابها كربوبية البحر وربوبية البر وربوبية الأرض وغير ذلك. ثم أخبرهم عليه السلام بأوصاف نفسه. فبين أنه يبلغهم رسالات ربه. وهذا شأن الرسالة ومقتضاها القريب الضروري. ثم ذكر أنه ينصح لهم ليقربهم من طاعة ربهم.
    ويبعدهم عن الاستكبار والاستنكاف عن عبوديته. وأنه يعلم من الله ما لا يعلمون. كوقائع يوم القيامة من الثواب والعقاب وغير ذلك. وما يستتبع الطاعة والمعصية من رضاه تعالى. وسخطه ووجوه نعمه ونقمه (27) ثم قال لهم:
    (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم) لقد أنكر تعجبهم من دعواه الرسالة، ودعوته إياهم إلى الدين الحق، وقال. لا تعجبوا من هذا، فإن هذا ليس بعجب أن يوحي الله إلى رجل منكم. رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم لينذركم. ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به (28).

    ورغم هذا البيان كان الشيطان قد استحوذ على عقول كفار القوم، فلقد ظلوا يروجون لثقافة رفض البشر الرسول، تلك الثقافة التي وضع الشيطان أصولها يوم رفض السجود لآدم. وقام القوم بإضفاء الزينة على ثقافتهم التي وجهوها من أجل الصد عن سبيل الله. فأضافوا أوراق الانتقاص والتحقير إليها متهمين نوحا عليه السلام بالضلالة وأن به جنة، ولقد التقط طابور الشذوذ على امتداد التاريخ الإنساني هذه المقولات وأضافوا إليها. وإذا كان قوم نوح في أول الطريق قد رفضوا البشر الرسول لأنه لا نسب بينه وبين الملائكة. فإن طابور الانحراف في ختام المسيرة البشرية قد اخترع آلهة وادعى أنه بينها وبين الله نسبا. وعلى هذا الادعاء قامت دول ورفعت رايات كان الشيطان لها دليلا.

    إن الشذوذ في أول الطريق يبدو ضئيلا، ثم يتسع شيئا فشيئا. وإذا كان شذوذ قوم نوح قد دفن في طين الطوفان. فإن الشيطان ظل يراقب تجربة الشذوذ، ويلقي بآخر مرحلة من التجربة التي اندثر أصحابها على قارعة الطريق الذي يسير عليه المستكبرين الجدد ليلتقطوها. وهكذا. والله غالب على أمره.
    ____________
    (27) الميزان: 175 / 8.
    (28) تفسير ابن كثير: 223 / 2.

    2 - تحقير أتباع الرسول:
    وفقا لفقه (ما نراك وما نرى) الذي وضع قواعده كفار قوم نوح في بداية المسيرة البشرية، وبعد أن قالوا لنوح عليه السلام: (ما نراك إلا بشر مثلنا) انتقلوا إلى أتباعه الذين آمنوا برسالته وقالوا: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) (29): قال المفسرون: الرذل أي الخسيس الحقير من كل شئ (30) لقد قالوا له ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم، ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا، ثم هؤلاء الذين اتبعوك، لم يكن عن ترو منهم ولا فكر ولا نظر بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك، ولهذا قالوا. (بادي الرأي) (31) لقد نظروا إلى أتباع نوح عليه السلام. بمنظار الطبقة المملوءة الجيوب المنتفخة الأفخاخ والبطون.
    ثم قالوا بعد أن فرغوا من تحقير أتباع نوح: (وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) أي أن دعوتكم لنا ونحن عندنا ما نتمتع به من مزايا الحياة الدنيا كالمال والبنين والقوة. إنما تستقيم لو كان لكم شئ من الفضل تفضلون به علينا من زينة الحياة الدنيا أو علم من الغيب، حتى يوجب ذلك خضوعا منا لكم.
    ونحن لا نرى شيئا من ذلك عندكم، ودعوتكم هذه مع حالكم هذا، تجعلنا نظن بأنكم كاذبون فيما تقولوه لنا، وأنكم في الحقيقة لا تريدون إلا نيل ما بأيدينا من أموال وثروات. والاستعلاء علينا بالحكم والرئاسة (32).
    وهكذا اتهموا نوحا عليه السلام بالتآمر عليهم عندما قالوا: (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم) (33) واتهموه هو وأتباعه بنفس التهمة عندما قالوا: (وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) (34) إن الشذوذ والإنحراف في قانونهم نظام، قاعدة وغيره استثناء، ومن يقترب من القاعدة بماء نظيف فهو خارج عن القانون، لقد اتهموا الدعوة بأنها دعوة الجياع الذين يريدون
    ____________
    (29) سورة هود، الآية 27.
    (30) الميزان: 202 / 10.
    (31) تفسير ابن كثير: 442 / 2.
    (32) الميزان: 204 / 10.
    (33) سورة المؤمنون، الآية: 24.
    (34) سورة هود، الآية: 27.

    الاستيلاء على الطعام وزخرف الحياة. ولوحوا إلى نوح عليه السلام بأن يطرد هؤلاء من حوله. نظرا لخطورتهم على المدى البعيد كما يعتقدون يقول تعالى:
    (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين) (35). قال المفسرون: لقد ذكروا له أن متبعيه من العبيد والفقراء والسفلة وأرباب الحرف الدنيئة. فنفى عليه السلام علمه بأعمالهم قبل إيمانهم به (36) وقال وأي شئ يلزمني من أتباع هؤلاء لي، ولو كانوا على أي شئ كانوا عليه، لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص، إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي وأكل سرائرهم إلى الله عز وجل (37). وقوله: (وما أنا بطارد المؤمنين) كأنهم سألوا منه أن يبعدهم فقال: لا شأن لي إلا الإنذار والدعوة. فلست أطرد من أقبل علي وآمن بي (38) فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني سواء كان شريفا أو وضيعا. جليلا أو حقيرا (39) وفي مجمل رده عليه السلام كما جاء في سورة هود قال: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون) (40) قال المفسرون: لقد أطلق المترفين على أتباعه لفظ الأراذل. فغير عليه السلام اللفظ إلى الذين آمنوا تعظيما لإيمانهم وارتباطهم بربهم. ورفض أن يطردهم من عنده. وعلل ذلك. بأن الذين آمنوا. لهم يوما يرجعون فيه إلى الله. فيحاسبهم على أعمالهم. فالملأ ينظر إلى أتباعه. على أنهم أراذل ولا يملكون مالا أو جاها، وهذه نظرة قاصرة، فالحياة الدنيا عرض زائل وسراب باطل. ولا تخلو من خصال خمس: لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر. وهذه الخصال يتعلق بها أو ببعضها هوى الإنسان، وهي أمور زائلة لا تبقى للإنسان. ولكن تكون النظرة ثاقبة. يجب النظر إلى عمل الإنسان. وهذا العمل سيظهر جليا يوم القيامة.
    ____________
    (35) سورة الشعراء، الآيات: 111 - 115.
    (36) الميزان: 296 / 15.
    (37) ابن كثير: 340 / 2.
    (38) الميز ن: 296 / 15.
    (39) ابن كثير: 34 / 3.
    (40) سورة هود، الآيتان: 29 - 30.

    والذين آمنوا سيعرضون على الله فيحاسبهم، ولا يملك أحد أن يحاسبهم سواه... ثم قال لهم: (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون) أي من يمنعه من عذاب الله إن طردهم من عنده، أفلا يتذكرون أن هذا العمل إذا تم يكون ظلما؟ والله تعالى ينتصر للمظلوم من الظالم وينتقم منه، والعقل جازم بأن الله سبحانه لا يساوي بين الظالم والمظلوم، ولا يدع الظالم يظلم دون أن يجازيه على ظلمه بما يسوءه ويشفي به غليل صدر المظلوم والله عزيز ذو انتقام (41).
    لكن القوم لا يفقهون قولا، فدستور التحقير الذي وضع الشيطان أصوله جرى في عروقهم مجرى الدم، فهم قادة عالم اللعب واللهو والزينة وهم أساتذة في التفاخر، فإذا جاءهم منهج من غيرهم واتبعه عمالهم كان في ذلك شقاؤهم.
    لهذا وقفوا منذ البداية في موقف الصد عن سبيل الله، وتبني الأشراف ثقافة تشربها العامة والغوغاء بسهولة، ثقافة تقول لهم: لا تضيعوا وقتكم أمام دعوة لا طائل من ورائها! ثقافة تحرك لسانها بكلمات عذبة تضمر خدعا معسولة خدع معسولة تلفها أحابيل ماكرة. أحابيل ماكرة ما إن تسمعها آذان الغوغاء حتى تحتضنهما قلوبهم وتدافع عنها سواعدهم، وكفى بالسواعد أن تدافع عن نظام الملأ! ذلك النظام الذي يهدده أراذل إخساء على رأسهم بشر يدعي أنه يوحى إليه. ويطالب القوم باتباعه وطاعته، وهو - أي الرسول - وهم - أي الأراذل - لا يملكون لعبا ولا لهوا ولا زينة. والخلاصة أن فقه التحقير والانتقاص الذي وضعه الشيطان ورعاه كفار قوم نوح في بداية الطريق. كان بجميع المقاييس كارثة على المسيرة البشرية فيما بعد لأنه كان عمود عتيق على طريق الانحراف والصد عن سبيل الله.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    * ثالثا: دفع الصد والتحقير:
    لقد تقدم نوح عليه السلام برسالته التي بعثه الله تعالى بها إلى قومه، وكانت الرسالة في مجملها إنذار: أن لا يعبدوا إلا الله لأنه يخاف عليهم عذاب يوم أليم، وعندما تقدم عليه السلام برسالته إلى قومه صدوه بردود ثلاثة:
    الأول: قولهم: (ما نراك إلا بشر مثلنا).
    ____________
    (41) الميزان: 208 / 10.

    والثاني: قولهم: (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي).

    والثالث: قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل) وانتهى القوم إلى حكم قالوا فيه: (بل نظنكم كاذبين) وهو حكم يحتوي في مضمونه أن الدعوة ما سلكت هذا الطريق إلا لهدف واحد. هو السيطرة على المال والثروات والحكم! فماذا كان رد نوح عليه السلام على هذه الصدود الثلاث؟ وعلى هذا الحكم الذي ترتب على هذه الصدود؟ لقد كان رد نوح عليه السلام ردا شافيا كافيا، وجاء ذلك في قول الله تعالى:
    (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ري وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين) (42).

    قال المفسرون: لما كانت حجتهم مبنية على الحس ونفي ما وراءه، وقد استنتجوا من حجتهم عدم الدليل على وجوب طاعته واتباعه. أجابهم عليه السلام: بإثبات ما حاولوا نفيه من رسالته وما يتبعه، ونفي ما حاولوا إثباته.
    باتهامه واتهام أتباعه بالكذب، غير أنه عليه السلام استعطفهم بقوله: " يا قوم " مرة بعد مرة ليجلبهم إليه. فيقع نصحه موقع القبول منهم. وقد أبدعت الآيات الكريمة في تقرير حجته عليه السلام في جوابهم فقطعت حجتهم فصلا فصلا.

    فقوله: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة...) جواب على قولهم: (ما نراك إلا بشر مثلنا) وقوله: (يا قوم لا أسألكم عليه مالا...) جواب عما اتهموه به من الكذب ولازمه أن تكون دعوته طريقا إلى جلب أموالهم لأنه يريد أن يتفضل عليهم. وقوله: (وما أنا بطارد الذين آمنوا...) جواب عن قولهم: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا...) وقوله: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) جواب عن قولهم: (ولا نرى لكم علينا من فضل).
    ____________
    (42) سورة هود، الآيات: 28 - 31.

    1 - إثبات الرسالة:
    لقد رفضوا الرسول البشر وقالوا: (ولو شاء الله لأنزل ملائكة) (43) فكانت حجته عليه السلام: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) (44) قال المفسرون: كان سندهم في نفي الرسالة أنه بشر، لا أثر ظاهر معه يدل، على الرسالة والاتصال بالغيب. فكان عليه أن يظهر ما يفيد صدقه في دعوى الرسالة.
    وهي الآية المعجزة الدالة على صدق الرسول. في دعوى الرسالة. لأن الرسالة نوع من الاتصال بالغيب خارق للعادة الجارية. لا طريق إلى العلم بتحققه، إلا بوقوع أمر غيبي آخر خارق للعادة، يوقن به كون الرسول صادقا في دعواه الرسالة، ولذلك أشار عليه السلام بقوله: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) إلى أن معه بينة من الله وآية معجزة تدل على صدقه في دعواه. وقوله:
    (وآتاني رحمة من عنده) يشير به إلى ما آتاه الله تعالى من الكتاب والعلم، وقد تكرر في القرآن الكريم تسمية الكتاب وكذا تسمية العلم بالله وآياته رحمة (45).
    أما قوله: (فعميت عليكم) المراد منه: أن ما عندي من العلم والمعرفة أخفاها عليكم جهلكم وكراهتكم للحق. بعد ما ذكرتكم به وبثثته فيكم. وقوله:
    (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) المراد إلزامهم الرحمة وهم لها كارهون.
    والمعنى - والله أعلم - أخبروني إن كانت عندي آية معجزة تصدق رسالتي مع كوني بشر مثلكم، وكانت عندي ما تحتاج إليه الرسالة. من كتاب وعلم يهديكم إلى الحق، لكن لم يلبث دون أن أخفاه عليكم عنادكم واستكباركم..
    أيجب علينا عندئذ أن نجبركم عليها؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته، وقد أوقفتكم عليه. لكنكم لا تؤمنون به. طغيانا واستكبارا. وليس علي أن أجبركم عليها. إذ لا إجبار في دين الله سبحانه...
    ____________
    (43) سورة المؤمنون، الآية: 24.
    (44) سورة هود، الآية: 28.
    (45) قال تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) سورة هود، الآية: 17، وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة) سورة النحل، الآية: 89، وقال تعالى: (فوجد عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا) سورة الكهف، الآية: 65.

    ففي بيانه تعريض لهم أنه قد تمت عليهم الحجة. وبانت لهم الحقيقة.

    فلم يؤمنوا. لكنهم مع ذلك يريدون أمرا يؤمنون لأجله، وليس إلا الإجبار والإلزام على كراهية، فهم في قولهم: لا نراك إلا بشرا مثلنا.. لا يريدون إلا الإجبار، ولا إجبار في دين الله، والآية من جملة الآيات النافية للإكراه في الدين، وتدل على أن ذلك من الأحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع، وهي شريعة نوح عليه السلام، وهذا الحكم باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ (46). وقد ظهر مما تقدم أن الآية (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة...) جواب عن قولهم: (لا نراك إلا بشرا مثلنا...) ويظهر بذلك فساد قول البعض إنه جواب عن قولهم: (بل نظنكم كاذبين) أو قول آخرين إنه جواب: (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) أو غير ذلك (47).

    لقد أقام نوح عليه السلام الحجة عليهم من أول يوم في بعثته. ولكن الذين كفروا لم يكن عندهم استعداد للوقوف في مجرى الرحمة الإلهية، والوقوف في مهب النفحات الربانية، لهذا لم ينفعهم ما يشاهدونه من آيات الله. وما يسمعون من مواعظ نوح. وما تلقنه لهم فطرتهم من الحجة والبينة. لقد نظروا بعيون العناد وفكروا بعقول الاستكبار، ثم طالبوا نوحا أن يثبت لهم أنه مبعوث إليهم. وكيف السبيل إلى ذلك وهم نزلوا بأسماعهم وبأبصارهم وبطونهم المنزلة التي في الأنعام. واستعملوها فيما تستعملها فيه الأنعام وهو التمتع من لذائذ البطن والفرج. ومنزلة الأنعام التي نزلوا إليها أرفع منهم وأقوم، لأن الأنعام مهتدية بحسب تركيبها وخلقها. غير ضالة لأنها تسير على الطريق الذي خلقت لأجله.
    أما هؤلاء فقد قطعوا شوطا طويلا في عالم الضلال والغفلة وألقوا بإنسانيتهم في أسفل سافلين. وكل هذا من أجل حفنة من زخرف الحياة. لونها لهم الشيطان وغواهم بها.
    2 - الدفاع عن الإنسان:
    لقد اتهموا نوحا عليه السلام بأنه يريد بدعوته أن يتفضل عليهم ويترأس فيهم وينال هو وأتباعه ما بأيديهم من أموال وثروات، فكان جوابه على هذا:
    ____________
    (46) الميزان: 207 / 10.
    (47) الميزان: 207 / 10.

    (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله) (48) قال المفسرون: أي أنه إذ لم يسألهم شيئا من أموالهم، لم يكن لهم أن يتهموه بذلك (49) إنهم أبقوا بقضية الأموال وسط الساحة في حين أنه لا توجد له فيها ورقة، ثم اتهموه مع أتباعه أن دعوته لها أهداف أخرى وأشاروا بطرد أتباعه والكف عن دعوته، وعندما رفض هددوه بالرجم قال: (وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين * قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) (50). وعندما ربط القوم بين الأموال والاتباع جاء رده عليه السلام أولا بنفي الأجر ثم بالدفاع عن الأتباع ثم إخبارهم بعد ذلك بأنه لا يملك الخزائن، فهو أولا لم يطمع فيما عندهم من مال، ولا يسألهم على نصحه لهم أجرا، وعلى هذا فالضعفاء الذين يؤمنون به لا يطمعون في مال عنده أخذه من القوم ولا يطمعون في كنوز يخفيها لأنه ليس عنده من هذه الكنوز شيئا... (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين) (51).
    قال المفسرون: بعد دفاعه عن الذين آمنوا وإظهار أنهم ما آمنوا إلا ابتغاء وجه الله، وأن حسابهم على الله، قام بالرد على قولهم: (ولا نرى لكم علينا من فضل، فقال: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله...) الآية. قال المفسرون: يرد عليهم قولهم بأني لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعون مني أن أدعيه. وبما أني أدعي الرسالة فإنكم تزعمون أن على الرسول أن يمتلك خزائن الرحمة الإلهية. فيغني الفقير ويشفي العليل ويحيي الموتى. ويتصرف في السماء والأرض وسائر أجزاء الكون بما شاء وكيف شاء. وأن يملك علم الغيب فيحصل على كل خير محجوب عن العيون.. وأن يرتفع عن درجة البشرية
    ____________
    (48) سورة هود، الآية: 29.
    (49) الميزان: 307 / 10.
    (50) سورة الشعراء، الآيات: 114 - 116.
    (51) سورة هود، الآيات: 29 - 31.

    إلى مقام الملائكة فيكون ملكا منزها من ألواث الطبيعة ومبرئ من حوائج البشرية ونقائصها فلا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا يقع في تعب اكتساب الرزق. فهذه هي جهات الفضل التي تزعمون أن الرسول يجب أن يؤتاها ويمتلكها، وقد أخطأتم، فلبس للرسول إلا الرسالة. وإني لست أدعي شيئا من ذلك، فلا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك، وبالجملة لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعونه حتى تكذبوني بفقده، وإنما أقول فقط: إني على بينة من ربي تصدق رسالتي، وآتاني رحمة من عنده (52).
    وبعد أن حطم عليه السلام الوثنية في أساطيرهم، بدأ في تحطيم ميزانهم الذي أقاموه. بدلا من سنة العدل الاجتماعي، وبه قاموا بتصنيف خلق الله فقال: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم...) قال المفسرون: هذا الفصل إشارة إلى ما كان يعتقده الملأ الذين كفروا من قومه. وبنوا عليه سنة الأشرافية وطريقة السيادة. وهو أن أفراد الإنسان تنقسم إلى قسمين. الأقوياء والضعفاء، أما الأقوياء فهم أولو الطول المعتضدون بالمال والعدة. وأما الضعفاء فهم الباقون. الأقوياء هم السادة في المجتمع الإنساني، ولهم النعمة والكرامة، ولأجلهم انعقد المجتمع، وغيرهم من الضعفاء... مخلوقون لأجلهم، وبالجملة كان معتقدهم أن الضعيف في المجتمع... إنسان منحط أو حيوان في صورة إنسان. وهو داخل المجتمع يشارك في الحياة ليستفيد الشريف من عمله وينتفع من كده، والضعيف في المجتمع محروم من الكرامة، مطرود عن حظيرة الشرافة.. فهذا هو الذي كانوا يرونه، وكان هو المعتمد عليه في مجتمعهم وقد رد نوح عليه السلام ذلك. وبين خطأهم في معتقدهم بقوله: (الله أعلم بما في أنفسهم) أي أن أعينكم إنما تزدريهم وتستحقرهم، وتستهين أمرهم. لما تحس ظاهر ضعفهم وهوانهم، وليس هذا الأساس في إحراز الخير ونيل الكرامة، بل الأساس في ذلك أمر النفس وتحليها بحلي الفضيلة، ولا طريق لي ولا لكم إلى العلم ببواطن النفوس وخبايا القلوب، فلله وحده ذلك، وليس لي ولا لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير
    ____________
    (52) الميزان: 209 / 10.

    والسعادة (53).
    لقد حطم عليه السلام بحججه أصنام التحقير والانتقاص. وبين لهم أنه لا يدعي شيئا مما يتوقعونه من رسالته، فليس للرسول إلا الرسالة وقد قدم لهم ما يثبت صدقه في أنه رسول من الله رب العالمين. لكنهم نظروا إلى البينة والرحمة بعيون الاستكبار فعميت عليهم. ثم أخبرهم أن الضعفاء الذين لهم هوان عندهم لم يؤمنوا طمعا في مال عنده. لأنه لا يملك هذا المال بدليل أنه لم يسألهم أموالهم ولم يدع أنه يملك خزائن الرحمة وعلم الغيب، وبين لهم أن الله تعالى هو العليم بما في الصدور. وأن ملاك الكرامة الدينية والرحمة الإلهية زكاء النفس وسلامة القلب، فمن الجائز أن يعلم الله من نفوس هؤلاء الضعفاء خيرا فيؤتيهم خيرا، ولا ينبغي أن يقال لن يؤت الله هؤلاء خيرا، لأن القول بهذا ظلم يدخل صاحبه في زمرة الظالمين. لقد قال نوح عليه السلام هذا وهو يدعوهم إلى التوحيد، كان يخاصمهم ويحاجهم بفنون الخصام والحجاج حتى قطع جميع معاذيرهم وأنار الحق لهم على امتداد مئات من السنين. ولكن كفار قومه أصروا على التكذيب وعبادة الأوثان وتحقير الإنسان.
    * رابعا: الاضطهاد والتحدي:
    أمام حجج نوح عليه السلام، رفع طابور الكفر لافتة تتهم نوحا بالجنون.
    يقول تعالى: (فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر) (54) قال المفسرون: في التعبير عن نوح عليه السلام بقوله تعالى: (عبدنا) تجليل لمقامه وتعظيم لأمره وإشارة إلى أن تكذيبهم له يرجع إليه تعالى، لأنه عبد لا يملك شيئا، وما له فهو لله، ولم يقتصروا على مجرد التكذيب، بل نسبوه إلى الجنون، فقالوا: هو مجنون، وازدجره الجن، فلا يتكلم إلا عن زجر وليس كلامه من الوحي السماوي في شئ، وقيل المعنى: ازدجره القوم عن الدعوة والتبليغ بأنواع الايذاء والتخويف (55). وأمام سياسة الإرهاب هذه واجه نوح عليه السلام قومه
    ____________
    (53) الميزان: 214 / 10.
    (54) سورة القمر، الآية: 9.
    (55) الميزان: 68 / 19.

    بما يقصم ظهورهم وقرع باستكبارهم في التراب يقول تعالى: (... قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين) (56).

    قال المفسرون: لقد واجه قومه وهو واحد... تحداهم بأن يفعلوا به ما بدا لهم إن قدروا على ذلك، وأتم الحجة على مكذبيه في ذلك: (إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي) ونهضتي لأمر الدعوة إلى التوحيد أو منزلتي من الرسالة (وتذكيري بآيات الله) وهو داعيكم لا محالة إلى قتلي، وإيقاع ما تقدرون عليه من الشر بي، لإراحة أنفسكم مني (فعلى الله توكلت) قبال ما يهددني من تحرج صدوركم وضيق نفوسكم علي بإرجاع أمري إليه، وجعله وكيلا يتصرف في شؤوني ومن غير أن أشتغل بالتدبير (فاجمعوا أمركم وشركاءكم) الذين تزعمون أنهم ينصرونكم في الشدائد، واعزموا علي بما بدا لكم، وهذا أمر تعجيزي (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) إن لم تكونوا اجتهدتم في التوسل إلى كل سبب في دفعي (ثم اقضوا إلي) بدفعي وقتلي (ولا تنظرون) ولا تمهلوني.

    وفي الآية تحديه عليه السلام على قومه بأن يفعلوا به ما بدا لهم، وإظهار أن ربه قدير على دفعهم عنه. وإن أجمعوا عليه وانتصروا بشركائهم وآلهتهم.

    وقوله (فإن توليتم فما سألتكم عليه من أجر) أي فإن توليتم وأعرضتم عن استجابة دعوتي، فلا ضير لي في ذلك فإني لا أتضرر في إعراضكم شيئا، لأني إنما كنت أتضرر بإعراضكم عني لو كنت سألتكم أجرا على ذلك يفوت بالإعراض، وما سألتكم عليه من أجر، إن أجري إلا على الله (57) وبدأ القوم يتذوقون العجز.. لم يستطيعوا القضاء على فرد واحد يقول لهم هيا اقضوا علي ولن تستطيعوا. لأني توكلت على الله ربي وربكم الذي أدعوكم إليه، وعلى
    ____________
    (56) سورة يونس، الآيتان: 71 - 72.
    (57) الميزان: 102 / 10.
    الرغم من وجودهم في دائرة العجز، لم يؤمنوا وكذبوا نوحا عليه السلام.
    1 - استعجال العذاب:
    رغم عجز القوم وعدم تحقيقهم أي تقدم للقضاء على نوح عليه السلام، إلا أن استكبارهم أغراهم للقيام بمهمة أليمة تدفع بهم إلى يوم أليم. وهذه المهمة هي اتفاق الأشراف والكبراء على طلب العذاب من نوح: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فآتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) (58) لقد جاءهم بالبينة ليثبت صدقه، ولكنهم أعرضوا عنها، وجاءهم بالتحدي ليثبت صدقه، فلم يقدروا عليه وكذبوه، وها هم يطالبوه بأن يأتيهم بالعذاب ليثبت صدقه، يقولون هذا وعندما سيأتيهم العذاب لن يستطيعوا حتى التنفس، يقول المفسرون: لقد قالوا هذا بعد أن عجزوا عن دحض حجته، وأخفوا هذا العجز في ثياب الجبابرة، ومعنى قولهم والله أعلم: يا نوح قد جادلتنا. فأكثرت جدالنا، حتى سئمنا ومللنا، وما نحن لك بمؤمنين، فآتنا بما تعدنا من العذاب، أي ما أنذرتنا به في أول دعوتك من عذاب يوم أليم.
    فكان رد نوح عليه السلام على طلبهم للعذاب: (قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين): أي أن الإتيان بالعذاب ليس إليه، فما هو إلا رسول، إنما الإتيان به إلى الله سبحانه، لأنه تعالى هو الذي يملك أمرهم، ولقد وعدهم بالعذاب بأمره تعالى، لأن إليه مرجعهم كله، ولا يرجع إلى نوح من أمر التدبير شيئا، فالله سبحانه إن يشأ يأتيهم بالعذاب، وإن لم يشأ فلا (59).
    2 - الدعاء المستجاب:
    إن المجتمع الذي يصادر الحقائق ويستعبد العباد ويطلب العذاب، لا يمكن أن يقود قافلة إلى الهدى. لقد أعرضوا عن العبادة الحق، وقد دعاهم نوح عليه السلام إليها ليلا ونهارا من غير فتور ولا توان، فقابلوه بجعل أصابعهم في آذانهم وغطوا رؤوسهم ووجوههم بثيابهم لئلا يروا نوحا، واستكبروا عن قبول الدعوة استكبارا عجيبا، كما دعاهم عليه السلام سرا وعلانية، وطالبهم
    ____________
    (58) سورة هود، الآية: 32.
    (59) الميزان: 215 / 10.

    بالاستغفار، لكنهم عصوه. وعلى امتداد الدعوة رموا نوحا عليه السلام بالضلال وبالجنون وهددوه بالرجم. فلم يخرجه ذلك عن حلمه، ولم يرد عليهم إلا بما تمليه أخلاق النبوة، ونوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما.

    وعلى امتداد هذه المدة كان يدعوهم إلى الله، وفي النهاية لم يركب معه في السفينة كما في رواية صحيحة سوى ثمانون رجلا معهم أهلوهم. وفي هذا إشارة إلى أنه عليه السلام قاسى من قومه الكثير، فالذين كان يدعوهم وهم شباب كانوا يقودون حركة الضد عن سبيل الله وهم شيوخ. وذلك لأن ثقافة التوثين كان يسهر عليها الأقوياء وهذه الثقافة حاصرت بقوتها وزينتها وزخرفها الأهواء المتعددة، فهرول كل صاحب هوى إلى هواه، مصادرا كل نداء للفطرة، وكل دعوة تدعوه للنظر والتدبر في الكون.
    ونوح عليه السلام دعا على قومه ولكنه لم يدع عليهم إلا بعد أن تبين أنهم ركبوا طريق الكفر الذي لا عودة فيه، فعندما تبين هذا (قال رب إن قومي كذبون * فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين) (60) قال المفسرون: هذا استفتاح منه عليه السلام. وقدم له قوله: (رب إن قومي كذبون) أي تحقق منهم التكذيب المطلق. الذي لا مطمع في تصديقهم بعده.
    وقوله: (فافتح بيني وبينهم فتحا) كأنه وأتباعه والكفار من قومه قد اختلطوا في مكان واحد، فسأل ربه أن يفتح بينهم بإيجاد فسحة بينه وبين قومه، يبتعد بذلك أحد القبيلين عن الآخر وذلك كناية عن نزول العذاب، ولا يهلك إلا الفاسق الفاجر الكفار، وعندما طلب عليه السلام من ربه أن ينصره ويفرق بينه وبين القوم الظالمين؟ أوحى إليه ربه: (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) (61) وعندما أوحى الله تعالى بهذا إلى نوح.
    دعا عليه السلام على قومه الدعاء القاصم. قال المفسرون: يستفاد من قوله تعالى: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن...) أن عذاب الاستئصال لا يضرب الكفار ما كان الإيمان مرجوا منهم، فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر ورجس الشرك، حق عليهم كلمة العذاب، كما يستفاد أن دعاء نوح عليه السلام:
    ____________
    (60) سورة الشعراء، الآيتان 17 - 18.
    (61) سورة هود، الآية: 36.


    رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) (62) كان واقعا بعد وحي الله له (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) وذلك لأنه لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفار في المستقبل إلا عن طريق الوحي، فهو عليه السلام. علم أولا من وحيه تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وأن أحدا منهم لا يؤمن بعد ذلك ولا في نسلهم من سيؤمن بالله، ثم دعا عليهم بالعذاب، وذكر في دعائه ما أوحي إليه (63).
    دعا نوح عليه السلام ربه بعد أن أصبح القوم لا فائدة في بقائهم. لأنهم أولا يضلون المؤمنين ولأنهم ثانيا لا فائدة فيهم لمن يلدونه من الأولاد، فهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا، والفجور هو الفسق الشديد، والكفار هو الذي يبالغ في الكفر، واستجاب تعالى دعوته، وأمره سبحانه بصنع السفينة وأخبره أنهم مغرقون.
    3 - أوامر النجاة:
    أوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) (64) قال المفسرون والمعنى. واصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملة وتعليمنا إياك، ولا تسألني صرف العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا، فإنهم مقضي عليهم الغرق، قضاء حتم لا مرد له (65). وأوحى الله تعالى إليه: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) (66) قال المفسرون: السياق يشهد على كون فوران التنور بالماء، أمارة نزول العذاب عليهم. وفوران الماء من التنور وهو محل النار من عجيب الأمر. ثم أمره تعالى بأن يدخل في الفلك زوجين اثنين: ذكر وأنثى من كل نوع من الحيوان. وأهله والظاهر أنهم أهل بيته والمؤمنون به، والمراد بمن سبق عليه القول فمنهم امرأته
    ____________
    (62) سورة نوح، الآيتان: 26 - 27.
    (63) الميزان: 222 / 10.
    (64) سورة هود، الآية: 37.
    (65) الميزان: 224 / 10.
    (66) سورة المؤمنون، الآية: 27.

    الكافرة على ما فهم نوح عليه السلام، وابنه الذي أبى ركوب السفينة وقوله تعالى: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) فكأنه قيل: أنهاك عن أصل تكليمي فيهم. فضلا عن أن تشفع لهم. فقد شملهم غضبي شمولا لا يدفعه دافع (67).
    وبعد أن أوحى الله إليه بصنع السفينة وعلامة العذاب وهي فوران التنور، وبعد أن نهاه عن الشفاعة في الذين ظلموا قال تعالى: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) (68) قال المفسرون: علمه أن يحمد الله بعد الاستواء على الفلك. على تنجيته تعالى من القوم الظالمين. وهذا بيان بعد بيان لكونهم هالكين مغرقين حتما. وأن يسأله أن ينجيه من الطوفان وينزله على الأرض إنزالا مباركا. ذا خير كثير ثابت. فإنه خير المنزلين (69).
    4 - يوم الغضب:
    وبدأ نوح عليه السلام في صناعة السفينة يقول تعالى: (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) (70) قال المفسرون: لم يقل عليه السلام إن تسخروا مني فإني أسخر منكم، وفي هذا إشارة إلى أن أهله وأتباعه كانوا يشاركونه في صنع السفينة، وكانت السخرية تتناولهم جميعا، وإن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلا نوحا فقط، والطبع والعادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه أيضا. كما كانوا يسخرون منه، فهم أهل مجتمع واحد. تربط المعاشرة بعضهم ببعض. وإن كانت سخريتهم سخرية منه في الحقيقة. لأنه هو الأصل الذي تقوم به الدعوة ولذا قيل: (سخروا منه) ولم يقل: " سخروا منه ومن المؤمنين " وعندما سخر القوم من نوح وأتباعه قال لهم عليه السلام: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم فنقول لكم: سوف تعلمون من
    ____________
    (67) الميزان: 30 / 15.
    (68) سورة المؤمنون، الآيتان: 28 - 29.
    (69) ا لميزان: 30 / 15.
    (70) سورة هود، الآيتان: 38 - 39.

    يأتيه عذاب يخزيه؟ نحن أو أنتم؟ - والمراد به عذاب الاستئصال في الدنيا - ويحل عليه عذاب مقيم - أي ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق. وهو عذاب النار في الآخرة (71).
    لقد قذفهم بعذابين الأول موصوف بالخزي والثاني موصوف بالإقامة (72) قذفهم بالعذاب القادم لا محالة بعد أن تتابعوا عليه جماعة بعد جماعة، يسخرون منه لأنه يصنع الفلك على وجه الأرض من غير ماء. وكان عليه السلام يصنع الفلك على مرأى منهم وفي ممر عام. لقد كان الصنع بوحي من الله وكان في الصنع معجزة، ولكن القوم لم يجدوا في عالمهم وثقافتهم سوى السخرية والتحقير والانتقاص. وظلوا على هذا الحال. حتى جاء اليوم الأليم. وفار التنور. وبدأ نوح عليه السلام يحمل في السفينة من آمن به. وما آمن بالله مع نوح إلا قليل. وحمل عليه السلام معه من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين، وكان القوم يشاهدون حركة نوح والذين آمنوا معه في اتجاه السفينة. فلا تزيدهم الحركة إلا سخرية. فلم يكن الذين كفروا يعلمون ماذا يعني بالنسبة لهم فوران التنور. وما إن استقر الذين آمنوا مع نوح عليه السلام على ظهر السفينة.
    حتى لاحت بوادر غضب الله على الذين كفروا. فالسماء بدأت تزمجر إعلانا ليوم الغضب. وانهمر الماء من كل مكان. يقول تعالى:
    (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) (73) قال المفسرون: صبت السماء الماء صبا بلا قطر، صبا متواليا كأنه مدخر وراء باب مسدود ثم فتح هذا الباب، فانصب أشد ما يكون أما الأرض فجعلها عيونا متفجرة عن الماء. تجري جريانا متوافقا متتابعا. فالتقى ماء السماء مع ماء الأرض على أهداف محددة، تنفيذا لأمر قدره الله تعالى، من غير نقص ولا زيادة ولا عجل ولا مهل. وفي هذا الهول قال نوح عليه السلام:
    (بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم) (74) قال المفسرون: قوله
    ____________
    (71) الميزان: 225 / 10.
    (72) ابن كثير: 445 / 2.
    (73) سورة القمر، الآيتان: 11 - 12.
    (74) سورة هود، ا لآية: 41.

    هذا تسمية منه عليه السلام. يجلب به الخير والبركة لجري السفينة وإرسائها، فإن في تعليق فعل من الأفعال، أو أمر من الأمور، على اسم الله تعالى وربطه به، صيانة له من الهلاك والفساد، واتقاء من الضلال والخسران، فالله تعالى رفيع الدرجات ومن تعلق به مصون لا محالة من تطرق عارض السوء. وروي أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله. فجرت. وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست.
    وعندما كانت السفينة تجري بهم على وجه الماء الذي جرى في كل مكان، كان الكفار يهرولون إلى كل مرتفع من الأرض طمعا في أن لا يصل الماء إليهم.
    صعدوا فوق سقوف بيوتهم وفوق جذوع النخل وعلى قمم الجبال، ولكن قممهم لم تغن عنهم من الله شيئا، فالأمواج طالت مرتفعاتهم، وصفعت وجوه الظالمين وألقت بهم في أحضان العذاب الأليم، كانوا يشاهدون السفينة التي صنعت من ألواح ودسر وهي تجري في موج كالجبال وعلى متنها الذين وصفهم الأشراف يوما بالأراذل، لقد شاهدوا ما كانوا يسخرون منه. فوجدوا نوحا وأتباعه في رحاب الأمن. بينما هم في أحضان العذاب الأليم يتجرعون عذاب الخزي وهم في طريقهم إلى العذاب المقيم. وبينما كانت السفينة تجري على وجه الماء طلت الأحداث الأليمة في اليوم الأليم يقول تعالى: (وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) (75) قال المفسرون: قيل إن هذا الابن الرابع لنوح عليه السلام (76) وكان هذا الابن قد عزل نفسه عن أبيه والمؤمنين في مكان لا يقرب منهم. ولذلك قال: (ونادى نوح ابنه) ولم يقل: وقال نوح لابنه. والمعنى: ونادى نوح ابنه. وكان ابنه في مكان منعزل بعيد منهم. وقال في ندائه. يا بني - بالتصغير والإضافة دلالة على الاشفاق والرحمة - اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبة وعدم ركوب السفينة. ولم يقل عليه السلام: ولا تكن من الكافرين. لأنه لم يكن يعلم نفاقه
    ____________
    (75) سورة هود، الآيتان: 42 - 43.
    (76) ابن كثير: 246 / 4.

    وأنه غير مؤمن إلا باللفظ ولذلك دعاه إلى الركوب: (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء...) أي سأنضم إلى جبل يعصمني ويقيني من الماء فلا أغرق (قال لا عاصم اليوم من أمر الله) أي قال نوح: لا عاصم اليوم - وهو يوم اشتد غضب الله وقضى بالغرق لأهل الأرض، إلا من التجأ منهم إلى الله - من الله لا جبل ولا غيره. وبعد أن قال نوح ذلك لابنه. حال بينهما الموج فكان ابنه من المغرقين. ولو لم يحل الموج بينهما ولم ينقطع الكلام بذلك. لعرف كفره وتبرأ منه (77).
    إن نوحا عليه السلام. لو كان يعلم إبطان ابنه للكفر ما كان يحزنه أمره لأنه القائل: (فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين) (78) وهو القائل: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) (79) لم يكن نوح عليه السلام يعلم حقيقة ابنه، وعندما حال بينهما الموج توجه عليه السلام بوجدانه وشعوره إلى ربه جل وعلا: (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحكمين) (80) قال المفسرون: رفع صوته بالدعاء.

    كما يدل عليه قوله تعالى: (ونادى نوح ربه) ولم يقل: سأل أو قال أو دعا.

    ورفع الصوت بالاستغاثة من المضطر الذي اشتد به الضر وهاج به الوجد أمر طبيعي. وفي نداء نوح عليه السلام لم يجترئ أن يسأل نجاة ابنه بالتضرع. بل أورد القول كالمستفسر عن حقيقة الأمر. وابتدر بذكر ما وعده الله من نجاة أهله حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له: (احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك) ولذلك قال عليه السلام: (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق)... فذكر وعد ربه وضم إليه أن ابنه من أهله.. فابنه كان مؤمنا به ظاهرا ولم يكن نوح يعلم ما يضمره ابنه في قلبه. فقوله: (إن ابني من أهلي) و (إن وعدك الحق) ينتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه.
    ومعنى الآية: (رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك حق كل الحق، وإن
    ____________
    (77) الميزان: 230 / 10.
    (78) سورة الشعراء، الآية: 118.
    (79) سورة نوح، الآية: 26.
    (80) سورة هود، الآية: 45.

    ذلك يدل على أن لا تأخذه سبحانك بعذاب القوم بالغرق، ومع ذلك فالحكم الحق إليك فأنت سبحانك أحكم الحاكمين، كأنه عليه السلام يستوضح ما هو حقيقة الأمر، ولم يذكر نجاة ابنه. ولا زاد على هذا. وبعد استفسار نوح عليه السلام. قال تعالى: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) (81) قال المفسرون: بين الله سبحانه لنوح عليه السلام وجه الصواب فيما ذكره. فنوح قال: (إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق) فقال تعالى: (إنه ليس من أهلك) فارتفع بذلك أثر حجته. والمراد بكونه ليس من أهله - والله أعلم - أنه ليس من أهله الذين وعده الله بنجاتهم، لأن المراد بالأهل في قوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول) الأهل الصالحون وهو ليس بصالح وإن كان ابنه ومن أهله ولذلك علل قوله: (إنه ليس من أهلك) بقوله: (إنه عمل غير صالح) أي أن ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم.

    ويؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ: (إنه عمل غير مالح) بالفعل الماضي. أي عمل عملا غير صالح. وقوله تعالى: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) أي لكونه عملا غير صالح. وأنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك. فإياك أن تبادر إلى سؤال نجاته لأنه سؤال ما ليس لك به علم، وقوله: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) أي أني أنصح لك في القول أن لا تكون بسؤالك هذا من الجاهلين، وبعد أن نادى نوح ربه في يوم الغضب يوم العذاب الأليم. وبعد أن أخبره ربه بالمخبوء من أمر ابنه قال نوح: (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وألا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) (82) قال المفسرون. لما تبين لنوح عليه السلام. إنه لو ساقه طبع الخطاب الذي خاطب به ربه إلى السؤال، كان سائلا ما ليس له به علم وكان من الجاهلين، وإن عناية الله حالت بينه وبين الهلكة، شكر ربه فاستعاذ بمغفرته ورحمته.
    كانت هذه المشاهد وهذا النداء وإجابته في وقت كان الموج يضرب فيه بكل عنف، وروي أن الماء قد أطبق جميع الأرض. وارتفع على رؤوس الجبال
    ____________
    (81) سورة هود، الآية 46.
    (82) سورة هود، الآية: 47.

    بخمسة عشر ذراعا (83). وكانت السفينة جارية على وجه الماء، سائرة بإذن الله وتحت كنفه وعنايته وحراسته، وروي أن السفينة سارت على وجه الماء بنوح وأتباعه مائة وخمسون يوما (84) وبعد أن غاب وجه الظلم تحت الماء في أعماق الطين. جاء أمر الله (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) (85). (قيل) إن النداء نداء العظمة. والقائل هو الله. والأمر تحمله كلمة (كن) والأمر يترتب عليه من غير فصل. أن تبتلع الأرض. ما على وجهها من الماء وأن تكف السماء عن أمطارها.

    وفي قوله تعالى: (وغيض الماء) لم يذكر الأرض. وفي قوله:

    (واستوت على الجودي) لم يذكر السفينة. وفي قوله: (بعدا للقوم الظالمين) لم يقل بأنهم الظالمين من قوم نوح. إنها العظمة. ومن أراد أسماء النتائج فعليه بالمقدمات. وفي المقدمة قوم ظالمون وعدهم الله بالغرق. وبما أن هناك غرق ونجاة فلا بد من سفينة وماء. وعلى هذا فلو غيض الماء. فإنما تغيضه الأرض ولو استقر شئ واستوى، فإنما هي السفينة، وإذا قيل بعدا للقوم الظالمين، فإن القائل هو الله. والقوم هم المقضي عليهم بالعذاب، ولو قيل:

    قضي الأمر. فإنما القاضي هو الله. والأمر هو ما نهى عنه نوح في مخاطبته في الذين ظلموا. وروي أن السفينة استقرت بهم على الجودي شهر (86) والماء من حولها يذهب شيئا فشيئا بعد أن طهر الأرض من الذين وضعوا بذرة استعباد الإنسان لأخيه الإنسان ودونوا لهذا الاستعباد فقهاء عريضا ذو ثقافة واسعة هدفها تحقير الإنسان وانتقاصه لصالح الأهداف الشيطانية.
    وبعد أن غيض الماء يقول تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) (87) قال
    ____________
    (83) ابن كثير: 446 / 2.
    (84) البداية والنهاية 116 / 1.
    (85) سورة هود، الآية: 44.
    (86) البداية والنهاية: 116 / 1.
    (87) سورة هود، الآية: 48.

    المفسرون: معناه والله أعلم. يا نوح انزل مع سلامة من العذاب - الطوفان - وبركات وخيرات نازلة منا عليك. أو انزل بتحية وبركات نازلة منا عليك. وعلى من معك من المؤمنين ومن سيظهر من نسلهم من الصالحين. وممن معك أمم أو هناك أمم سنمتعهم ثم نعذبهم وهم غير مأذون لهم في التصرف في أمتعة الحياة إذن كرامة وزلفى.. وهذا الخطاب الإلهي تلقاه نوح عليه السلام في وقت لا يوجد فيه متنفس على وجه الأرض من إنسان وحيوان. فقد أغرقوا جميعا. ولم يبق منهم إلا جماعة المؤمنين بالسفينة. وهؤلاء هم الذين قضى الله أن ينزلوا إلى الأرض فيعمرها ويعيشوا فيها إلى حين.
    الخاتمة:
    لقد كان الغرق شاملا وهناك أدلة تثبت أن الطوفان كان شاملا وعم الأرض كلها. ومنها أن الله تعالى أمر نوحا عليه السلام بأن يحمل من كل زوجين اثنين، فلو كان الطوفان في بقعة معينة. لم يكن في حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين، ودعوة نوح عليه السلام كانت دعوة عامة، ولقد قام عليه السلام بالتحرك في المجتمعات البشرية قلت أو كثرت على امتداد دعوته، وعموم الدعوة يقضي بعموم العذاب، لهذا قال في دعائه: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) فالطائفة التي نزلت عند الجودي وهو جبل قيل إنه بديار نكر من الموصل. وقيل إنه شرقي دجلة على جزيرة ابن عمر. هذه الطائفة هي البذرة الأولى للمسيرة البشرية بعد الطوفان. وإلى هذه النواة ينتهي نسل البشر اليوم.
    لقد شاء الله أن يجعل اليوم الأليم فاتحة لاستقرار طائفة المؤمنين على الأرض، لترى البشرية على امتداد مسيرها أن أول لبنة في ماضيها من طين وماء، فأما الطين فباطنه عذاب خزي وعذاب أليم. وأما الماء فعلى صفحته جرت سفينة ذات ألواح ودسر وعلى ظهرها المتقين، لقد جعل الله العذاب الأليم بداية. كي تنظر الأمم في البدايات لتعتبر يقول تعالى: (فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين) (88) قال المفسرون: الضمير للواقعة أو النجاة.
    ____________
    (88) سورة العنكبوت، الآية: 15.

    والعالمين الجماعات الكثيرة المختلفة من الأجيال اللاحقة بهم. فالله جعل الواقعة أو النجاة آية ليتدبر فيها جميع الأجيال قال تعالى: (ثم أغرقنا بعد الباقين) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) (89) وقال (ولقد تركناها آية فهل من مدكر * فكيف كان عذابي ونذر) (90) إن اليوم الأليم الذي ضرب انتفاخ الاستكبار أول الزمان دعوة لكي يكون الإنسان كريما. وهو لن يكون كريما إلا إذا أصبح حرا، والعبودية لله هي الحرية الحقيقية. وقافلة المؤمنين على السفينة الذين كان الانتفاخ الإستكباري يحتقرهم يوما ما. دعوة لكل إنسان على الصراط المستقيم. كي يمسك المؤمن عصيدته الحقة بأسنان الصبر. وأن يقبض على دينه وإن كان كالجمر، وأن يجعل قلبه بيتا للإيمان بالله، وأن يكون على يقين بأن العاقبة للمتقين حتى لو طال الليل ألف سنة إلا خمسين عاما. أو أكثر من ذلك.

    وبعد أن قص الله تعالى قصة نوح عليه السلام في القرآن الكريم. توجه سبحانه بالخطاب إلى نبيه الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) (91) قال المفسرون: أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوح وقومه.
    من هلاك قومه ونجاة من معه. وأن الله تعالى قد أورثهم الأرض على ما صبروا.
    ونصر نوحا على أعدائه على ما صبر. فاصبر على الحق. فإن العاقبة للمتقين.

    وبعد الطوفان اتسعت القافلة البشرية حول الجودي. ثم تفرقت بعد ذلك هنا وهناك. وعندما طال الأمد نشأت أجيال اجتالتهم الشياطين بعد أن ساروا بلا رصيد إيماني في دروب الحياة متبعين أهواءهم. وهذه الأجيال هي الأجيال التي أخبر الله تعالى بها نوحا بأنه سيمتعهم ثم يعذبهم، ولقد هرولوا في طريق الانحراف والشذوذ، وعلى امتداد الطريق زودهم الشيطان بالفقه المعدل لأطروحة رفض الرسول البشر كي ينسجم الفقه مع كل عصر، كما زودهم بأكثر من فقه ينتقصون ويحتقرون به بعضهم بعضا. وعلى امتداد رحلة التحقير خسر حزب الشيطان في كل العصور. وكانت العاقبة للمتقين في كل العصور.
    ____________
    (89) سورة الشعراء، الآيتان 120 - 121.
    (90) سورة القمر، الآيتان: 15 - 16.
    (91) سورة هود، الآية: 49.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    انحرافات عاد قوم هود عليه السلام
    (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة)
    سورة فصلت، الآية: 15
    * عاد! والأعمدة العالية
    إنحراف القوة
    مقدمة:
    بعد الطوفان.. استقرت القافلة البشرية عند الجودي وما حوله، وقام نوح عليه السلام ومن معه بإقامة مدينة ثمانين، نسبة إلى عدد الناجين من قوم نوح (1) وكان نوح عليه السلام يبين للناس ما اختلفوا فيه ويبشر بينهم بنبي يأتي من بعده اسمه هود. وروي أن نوحا عليه السلام قال لأتباعه: إن الله سيبعث هودا وإنه سيدعو قومه وإن قومه سيكذبونه وعندئذ سيهلكهم الله تعالى بالريح. وأوصى نوح عليه السلام بأن على من يدرك هودا أن يؤمن به. كما أمر ابنه سام بأن يتعاهد هذه الوصية وأن يعلنها على الملأ عند رأس كل سنة وأن يكون يوم الاعلان هذا عيدا للقوم يتذكرون فيه بعث هود. وظل سام بن نوح يعمل بوصية والده (2) وتبشير النبي السابق بالنبي اللاحق لطف من الله ورحمة بعباده.. فوضع أوصاف النبي الذي ما زال في علم الغيب في ذاكرة قافلة التوحيد، يجعل الذاكرة تحمل على الدوام الأمل الذي يقاوم كل معاني الكفر والانحراف، ومع هذا الأمل تمتد جذور الفطرة إلى جميع ملكات النفس الإنسانية فتحفظ لها توازنها في عالم يعمل من أجل فرض سياسات التوثين وثقافات التضليل، فالذاكرة عندما تحتضن الأمل يعبر
    ____________
    (1) مروج الذهب / المسعودي: 26 / 1.
    (2) الميزان: / 10.

    صاحبها جميع طرق الانحراف مرتديا رداء الصبر مرتبطا بنبي سابق متجها نحو نبي لاحق إن أدركه آمن به وإن لم يدركه وقع أجره على الله. والذاكرة التي تحتضن الأمل لا تأخذ إلا بالحق ولا تعمل إلا به. لأنها من البداية إلى النهاية انتظمت على الصراط المستقيم ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وعلى امتداد طريقها يكون رداء الصبر تحصين لها من عقائد وثقافات مظلات الشذوذ فالصبر إذا انطلق من عالم المشاهدة إلى عالم الغيب المخبوء ليلتقي بأمل يكون له مذاق خاص لأن الغاية غيب، والغيب في علم الله، فهذا الصبر الممدود يغذي ملكات النفس بالزاد التوحيدي الذي يشعر معه صاحبه بأنه ليس من نسيج قافلة الانحراف لأنه لا يسير على صراطها. وكما أن وضع الأنبياء في الذاكرة تحصين للسمع والبصر والفؤاد، كذلك فإن نسيان هذا الإخبار بالغيب يترتب عليه أن يسير صاحبه في طريق طويل وهو فاقد الذاكرة، وفاقد الذاكرة بعيد عن قافلة الصراط المستقيم قريب من دوائر الأهواء والانحراف والشذوذ وهذه الدوائر لا تلتقط إلا أجيال اللاوعي لتنشئ منهم جدرا يصدون عن سبيل الله. وأجيال اللاوعي هي التي ينتهي بها الطريق بأن تتصدى لأنبياء الله تعالى عندما يبعثهم الله ليضعوا قواعد تستقيم مع الفطرة. ورفضهم للأنبياء ارتكاس للفطرة نتيجة لليل طويل قطعوه وراء اتباع الشياطين الذين يغرسون الأماني المزخرفة في النفوس ويقيمون لها أصناما من كل الألوان والأشكال والأجناس، وعندما يأتي الرسول أو النبي إليهم يجدهم مستعدين للدفاع عن ما ألفته نفوسهم وما أصله فيهم آباؤهم وما تركه لهم أجدادهم.

    لقد غرس نوح عليه السلام اسم النبي الذي سيأتي بعده في ذاكرة قومه.

    كي تتمسك الذاكرة بعلامات التوحيد وتظل عروة التوحيد تمدهم بالزاد، وهم يعبرون من على طرق الذين ظلموا أنفسهم ويمتعهم الله ثم يمسهم منه عذاب أليم. وظل سام بن نوح يعمل بوصية والده، وكان القوم يتعاهدون بعث هود في يوم عيدهم. وعندما طال الأمد وتفرق الناس في الأمصار، اجتالت الشياطين الناس، وظهرت الأهواء التي تمهد للوثنية من جديد، وأصبحت وصية نوح بهود عليهما السلام، لا يهتم بها إلا طلاب العلم الذين عكفوا على كتب العلم وآثار علم النبوة، وظهرت الأمم التي أخبر الله تعالى بها نوحا عليه السلام بقوله: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم
    يمسهم منا عذاب أليم) (3) وكانت عاد من هذه الأمم.


    * أولا: عاد والدعوة إلى الله:
    1 - عاد قوم هود:
    ينتسب قوم عاد إلى عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح (4) وكان عاد يعبد القمر (5). ونزل هو وولده بالأحقاف وقيل إن الأحقاف واد بين عمان وأرض مهرة. وقيل: من عمان إلى حضرموت. وهي رمال مشرفة على البحر بالشحر (6) وبعد عاد جاء من ولده من يعبد الأصنام فأقام في قومه ثلاثة أصنام عبدوها من دون الله وهي: صمود، صداء، الهباء (7). وعاد كانت تتكون من عشر قبائل، كانوا جميعا على هيئة النخل طولا. ولقد خصهم الله تعالى من بين الأقوام ببسطة في الخلق وعظم الهيكل البدني. وبهذه القوة تمتعت عاد بين الأمم برقي في المدينة والحضارة. ويكفي بهم حضارة ما ذكره القرآن الكريم عن مدينتهم. عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، كما كانت أرضهم خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم. فهذه الأشياء وغيرها تستوجب شكر الله عليها. ولكن عادا فتنت بقوتها وسارت في قافلة الكفر مبهورة بشبابها. وعلى امتداد طريق الكفر زين الشيطان لهم أعمالهم، ومحا من ذاكرتهم ليس بعث هود فيهم فحسب، وإنما الأحداث الحقيقية التي أدت إلى الطوفان الذي أطاح بكفار قوم نوح. فبعد أن طال الأمد وانتقلت عاد إلى أرضها الجديدة. كانت الأساطير والخرافات قد دثرت أحداث الطوفان. وعلى امتداد هذه الأساطير وقف العتاة والطغاة في عاد على أن الطوفان يمكن تفادي خسائره البشرية إذا شيدت الدور والأبنية على أعمدة عالية أو فوق قمم الجبال وعلى أي مرتفع من الأرض. ووفقا لهذا الفهم الذي تنتهي أصوله إلى دائرة الآمال الطويلة وحب الحياة، أقامت عاد أول حضارة لها على الأعمدة... يقول تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم
    ____________
    (3) سورة هود، الآية: 48.
    (4) مروج الذهب: 57 / 2، ابن كثير 507 / 4.
    (5) مروج الذهب: 44 / 2.
    (6) الميزان: 307 / 10.
    (7) مروج الذهب: 157 / 2.

    يخلق مثلها في البلاد) (8) ذكر ابن كثير البغوي: أن هؤلاء هم عاد الأولى. وإرم اسم قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها. وكانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد. كما أنهم بنوا عمدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد، وعاد الأولى دمرها الله تعالى لتكون عبرة لعاد التي بعث الله تعالى إليها هودا عليه السلام، ولكن أهل الأحقاف لم يعتبروا، وشيدوا حضارتهم بروح حضارة عاد الأولى، فأقاموا المصانع التي تنحت الأحجار وشيدوا القصور والقلاع على الأرض، ورفعوا فوق كل مرتفع من الأرض مأوى يحمي الناس من عوامل الطبيعة، ومع هذه الأخلاق الحديدية ظهرت الثقافة الحديدية التي تنطلق من منطق القوة، واستكبرت عاد في الأرض استكبارا لا حدود له... يقول تعالى:
    (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة؟ أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون) (9) لقد بغوا وعتوا وعصوا. ولأنهم بلوا بشدة تركيبهم وقواهم اعتقدوا أنهم يمتنعون بها من بأس الله (10) ومع عقيدة كهذه وثقافة كهذه، تشنق الخيول المشلولة بلا أي جريرة.
    وتحت فقه الغطرسة الذي دونته عاد يكون السب والطعن وشتى الإهانات من نصيب كل من يحمل بين جنباته فطرة نقية سليمة، فعاد شيدت الحصون على الأرض وفوق المرتفعات، ووفقا لفقه (من أشد منا قوة) الذي دونه الفقهاء الذين كانوا بآيات الله يجحدون. انطلقت عاد وراء الخلود خوفا من الموت. وأعلام الخلود والأماني والآمال العريضة يحملها الشيطان. بربط الناس بالدنيا وهو من أجل هذا الهدف لا يترك طريقا إلى الأهواء إلا زينه وزخرفه. ومن عالم الزينة تخرج الأقوال التي ما إن تسمعها الآذان حتى تنصت لها، وتتحرك الأشياء التي ما إن تراها العيون حتى تحتضنها، إن عالم عاد هو عالم كفران النعمة ونكران المنعم، الذي يستهان فيه بالقتل ولا يقام فيه للفضيلة أي وزن! وعاد أمسكت بذيل كفار قوم نوح عندما رفضوا بشرية الرسول (قالوا لو شاء الله ربنا لأنزل ملائكة) (11) ورفض الرسول البشر، غرس شيطاني يضمن به عدم قبول أكثر
    ____________
    (8) سورة الفجر، الآيتان: 6 - 7.
    (9) سورة فصلت، الآية: 15.
    (10) ابن كثير 94 / 4.
    (11) سورة فصلت، الآية: 14.

    الناس الهداية التي تأتيهم من رسول يماثلهم في البشرية، فالشيطان رفض البشرية من أساسها وظن في نفسه أنه أعلى منها مقاما، ووفقا لهذا المخزون الذي تحتويه النفس الشيطانية، طرح الشيطان منهج الرفض هذا بما يستقيم مع البشر، فكل صاحب هوى وكل صاحب عدة وجموع سيرى في نفسه أنه أعلى مقاما من الذي يدعوه وعلى هذا ستنحصر الهداية في رقعة. وينطلق الشيطان في الرقعة الأوسع. والشيطان بطابوره الطويل زرع له أولياء مهمتهم الصد عن سبيل الله، معتمدين في ذلك على فقه التحقير بجميع أدواته من سب وطعن وغير ذلك، والله تعالى حذر من سبل هؤلاء الأولياء وسيدهم، وأخبر بأنهم أعداء للبشرية جمعاء ولا يريدون لها الخير. فقال تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو وبئس للظالمين بدلا) (12) لقد حذر سبحانه بأنه لا ينبغي للناس أن يفتتنوا بما يزينه لهم الشيطان وذريته من ملذات الدنيا وشهواتها لكي يعرضوا عن ذكر الله، ولا ينبغي أن يطيعونهم فيما يدعون إليه!

    وعاد افتتنت بما زينه الشيطان لها، وأطاعته فيما يدعي إليه، ورفعت أعلام (من أشد منا قوة؟) وفي زمان الافتتان هذا، وفي عالم الأخلاق الحديدية هذه، بعث الله تعالى هودا عليه السلام إلى عاد. ولقد تعرض القرآن الكريم لقصة عاد والنبي المبعوث فيها هود عليه السلام في عشر سور منه هي: الأعراف، هود، المؤمنون، الشعراء، فصلت، الأحقاف، الذاريات، القمر، الحاقة، الفجر، وعاد الأولى هي إرم ذات العماد. وصاحب إرم غير عاد قوم هود، قال تعالى: (ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) وإنما قال عاد قوم هود ليتميز عن عاد صاحب إرم ذات العماد. وجبار إرم ذات العماد أهلكه الله لتعتبر عاد ولكن عادا أمسكت بذيله وسارت على طريقته فبعث الله فيها هودا عليه السلام، وهود عليه السلام كما يراه القلب من خلال قصته مع عاد، كان إنسانا وقورا رزينا عاقلا واسعا صدره عظيما عقله، كبيرة نفسه، ذا شعور قوي، زاهدا عابدا عفيفا أبيا غيورا، صلب الإيمان خشنا في ذات الله سبحانه وتعالى، على الكافرين عذابا صبا وللمؤمنين أبا رحيما، لا يقابل الشر بمثله بل لا يفارقه العطف
    ____________
    (21) سورة الكهف، الآية: 50.

    واللطف والحنان واستعمال اللين والإخلاص في أقواله مع قومه (13) وكان هود عليه السلام من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا (14) وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسامهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية، وكان عليه السلام ينذر قومه، ويحذرهم بأس الله، ويضرب لهم الأمثال بقوم عاد الأولى وبقوم نوح عليه السلام قبلهم ويذكرهم بنعمة الله عليهم.
    2 - الدعوة إلى الله:
    كان هود عليه السلام أول رسول من الله تعالى بعد نوح عليه السلام. وهو أول رسول بعث إلى قوم افتتنوا بقوتهم وقالوا (من أشد منا قوة؟) وهود عليه السلام تجمعه بقومه. صلة القرابة، ودعوة القوم إلى الهداية بواحد منهم يعرفهم ويعرفونه، يجعل الدعوة تسير بسهولة ويسر، نظرا لأن القوم يعرفون أمانة وصدق المبعوث إليهم. كما أن عنصر القرابة يكون بمثابة مائدة للتعاطف من خلالها يفهمون الرسالة ويدافعون عنها وبث الدعوة أولا بين أهل القوم الواحد، لطف من الله ورحمة بالعباد، فهو سبحانه بعث رسله على أرضية القربى لتفتح) القربى طريق المودة، ووضع الدعوة في أول خطواتها على أرضية التعاطف والقربى والمودة إشارة إلى أن دين الله لا إجبار فيه. دين مقدمته قبل أن يتكلم تقوم على التعاطف. وبهذا كله مما تقبله الفطرة السليمة. ولكن عندما اجتالت الشياطين الناس أصبح أبناء التراب يرفضون أبناء التراب وأبناء الرحم الواحد يقاتلون إخوانهم وكل هذا تحت لافتة (أنا خير منه) تلك اللافتة التي رفضت البشر الرسول ورفضت بعد ذلك جميع الهداة الصادقين على امتداد التاريخ! وفي هذا العالم الذي ألف دق خيام القسوة والظلم كان طريق الدعوة طريقا شاقا، وقام الجبابرة العتاة داخل كل قوم باضطهاد النبي المبعوث فيهم والذين آمنوا معه وهم جميعا من أبناء جلدتهم، فتحت شعار الجبابرة (أنا خير منه) طرد الأنبياء ورجموا بالحجارة، ونتيجة لمقدمة الذين كفروا التي تحمل الحجر، أصبحت الرسالة وأتباعها في جانب وأهل الكفر والأهواء في جانب آخر..

    وعاد أول من دون فقه الغطرسة، وقفت من هود عليه السلام موقف الضد،
    ____________
    (13) الأنبياء - حياتهم وقصصهم / الحسني العاملي: 102.
    (14) ابن كثير: 225 / 2.

    كان يدعوهم بكلمة المودة والتعاطف (يا قوم) فيواجهوه بالشر الجسيم والتمرد العظيم والجرأة الغليظة. وهود عليه السلام ما كان يدعوهم إلا لعبادة الله. وما كان يخاطبهم إلا بلطف وعطف. وكان عليه السلام يعاتبهم على ما يقومون به من البناء فوق كل مرتفع من الأرض وعلى اتخاذهم مصانع تصنع لهم الحصون لعلهم يخلدون، وعلى شدتهم وخشونتهم في تعاملهم مع الناس، وذكرهم بنعم الله تعالى عليهم من أموال وبنين وجنات وعيون، ودعاهم إلى الرجوع إلى الله، لأن عدم الرجوع إليه بالتوبة والعمل الصالح سيترتب عليه عذاب يوم عظيم. يقول تعالى:
    (كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) (15).

    لقد ردهم عليه السلام في دعوته إليهم إلى الحق الذي عليه تقوم الفطرة، قال لهم: (يا قوم) ليلقى خطابه القبول في نفوسهم، ودعاهم إلى تقوى الله، وأخبرهم بأنه أمين لهم وأنه يدلهم على الطريق الذي لا يخيب من سار على هداه. وأمرهم بطاعته لأن طاعته هي طاعة الله، وبين لهم أنه لا مطمع دنيوي له فيما يقوله لهم، فهو لم يسألهم الأجر. فإذا كان هو الأمين الذي يعرفون أمانته.

    وهو أيضا الذي لم يسألهم الأجر. فإن في كل هذا دليل على أنه ناصح لهم فيما يدعوهم إليه.
    كانت هذه مقدمته عليه السلام عندما خاطبهم. ثم بدأ ينتقد حضارة الأخلاق الحديدية فقال: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) قال البغوي: الريع:
    المكان المرتفع (16).. وكانوا يبنون فوق المرتفعات بنيانا محكما هائلا باهرا (17)
    ____________
    (15) سورة الشعراء، الآيات: 123 - 135.
    (16) البغوي: 229 / 6، الميزان.
    (17) تفسير البغوي: 229 / 6

    والآية: العلامة والبناء على الأماكن المرتفعة، اخترعته عاد الأولى هروبا من الطوفان بعد أن شوهت الأساطير حقيقة طوفان قوم نوح، واعتبروه ثورة طبيعية يمكن مقاومتها بالبناء فوق المرتفعات وتحصين المنشآت على الأرض ضد السيول. وبعد أن أهلك الله عادا الأولى، جاءت عاد الثانية إلى الأحقاف، وقاموا بسلخ العمد من الجبال حتى إن العمود الواحد كان بطول الجبل، ثم ينقلون هذه الأعمدة وينصبونها ويبنون عليها القصور (18)، ولقد أخبرهم هود عليه السلام أن هذا العمل لا يدرج إلا تحت عنوان العبث، لأن اليوم العظيم إذا جاء فلن تقف أمامه علامات فوق المرتفعات، ولا حصون وقلاع على الأرض الممهدة، فعملهم هذا عبث لا احتياج إليه، وهو في الحقيقة مجرد لهو وإظهار للقوة (19) ثم انتقل عليه السلام إلى الشطر الثاني من حضارة القوة فقال:
    (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) قيل: المصانع كانت لنحت الجبال وبناء القصور. وقيل: هي البروج المشيدة والبنيان المخلد (20) وكان القوم يعتقدون أن هذه المصانع كافية لحمايتهم من الموت ووقايتهم من مؤثرات الجو ومن غارات الأعداء.. فقال لهم عليه السلام: أتتخذون مصانع لكي تقيموا فيها أبدا.
    وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم كما زال عمن كان قبلكم (21).

    وبعد أن انتقد أعمدة عاد التي أقامت عاد عليها حضارتها وثقافتها الحديدية انتقل من الأعمدة الصخرية إلى الأعمدة التي. تتكون من لحم ودم وعظم وقال لهم: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) لقد وصفهم بالقوة والغلظة والجبروت (22) " إذا بطشتم " أي إذا أخذتم وسطوتم " بطشتم جبارين " أي قتلا بالسيف وضربا بالسوط. والجبار هو الذي يقتل ويضرب على الغضب (23) لقد ربط عليه السلام بين الأعمدة. بين الحجارة والدماء. فأعمدة هناك تنحت من الصخر ليرفع فوقها أعلام التحدي ورجاء الخلود، وأعمدة من لحم ودماء نزلت
    ____________
    (18) كتاب الأنبياء / 96.
    (19) البغوي: 229 / 6.
    (20) البغوي: 229 / 6.
    (21) البغوي 299 / 6.
    (22) البغوي: 229 / 6.
    (23) ابن كثير: 229 / 6.

    بالإنسان إلى أسفل سافلين. فنهش أصحابها أبدان المستضعفين طمعا في امتلاك جلودهم. إن عالم الأعمدة هو عالم الجوع والخوف. لقد كفروا بالنعمة وبالمنعم فألبسهم الله لباس الجوع والخوف. إن القلاع،. والحصون خوف وجوع، وبطش الجبارين خوف وجوع، لأن الاطعام والأمن لا وجود له إلا في دائرة التقوى على الصراط المستقيم. وعاد قفزت من الدائرة وانحرفت عن الصراط. وبعد أن انتقد عليه السلام حضارتهم طالبهم بالدخول في دائرة التقوى وأن يطيعوا الله تعالى فيما يأمرهم به من ترك الترف والاستكبار. لأن الله تعالى هو الذي أمدهم بما يعلمون من بسطة في الخلق وعظم الهيكل البدني، وهذا ظاهر لهم حيث يفوقون الأمم من حولهم في هذا، وهذه القوة زادت من قوتهم، فالواجب عليهم أن يشكروه عليها بوضع النعمة في موضعها، لأن الهلاك سببه كفران النعمة والطغيان بالمعصية، ثم ذكر لهم عليه السلام ما أمدهم الله به وعليه قامت أيضا حضارتهم. فالله تعالى أمدهم بالأموال والأنعام والبنين وجعل لهم الجنات والعيون. فهذا العطاء يجب أن يشكروا الله عليه ويتقوه فيه، لأن عدم شكر الله قد يحول هذا العطاء من مجرى النعمة إلى مجرى النقمة، ومجرى النقمة يكون إذا آثروا المعصية على الطاعة. ثم قال عليه السلام: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) أخبرهم أنه يخاف عليهم لأنهم قومه، ويخاف عليهم لأنه أمين لا يسألهم أجرا، مشفق عليهم من عذاب الجبار خائف عليهم من نقمته وحلول غضبه على من تمرد عليه وبغى، ولم يرحم نفسه بخضوعه لله الواحد الذي له سلطان الدنيا والآخرة.

    كان عليه السلام يتعامل معهم على مائدة القوم، مائدة التعاطف، فماذا كان ردهم؟ لقد جاء الرد بعيدا عن مائدة التعاطف جاء من قوم لا يتعاملون مع الطبيعة ومع الناس إلا تعامل الجبابرة (قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الأولين * وما نحن بمعذبين) (24) لقد قابلوا خطابه الذي اتسم باللطف والعطف والخلق الكريم، قابلوه بقسوة وقالوا: ما يعنينا أن تعظ أو لا تكون أصلا من الواعظين. وأن ما ذكرته من الدعوة إلى التوحيد. وما
    ____________
    (24) سورة الشعراء، الآيات: 136 - 138

    بينته من المواعظ في شأن ما تقوم عليه حياتنا. كل هذا من عادة البشر الأولين الماضين الذين نسمع عنهم في الأساطير والخرافات (25).

    والبشر الأولين بالنسبة لعاد هم قوم نوح بعد الطوفان، فبعد نوح عليه السلام بدأت قوافل التوحيد تتحرك هنا وهناك تدعو إلى الله. وبعد أن طال الأمد طوى النسيان ما كانت تعظ به هذه القوافل. ثم اقتحم الانحراف بثقافته عالم النسيان. واعتبر كل ما كان يعظ به الأوائل شذوذ وهكذا فعلت الأهواء بأصحابها. أنستهم الله فعبدوا الأصنام. وأنستهم معجزات الله يوم الطوفان فأقاموا الأعمدة لتحميهم من الطوفان. وأنستهم صوت الحق والضمير على امتداد الأيام فاعتبروا التوبة والاستغفار رجعية. وإذا كانت عاد أول من قالوا: (إن هذا إلا خلق الأولين)، فلقد أمسك كفار قريش الذين واجهوا الرسالة الخاتمة بذيلهم (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) (26).
    وذكر البغوي وابن كثير أن آخرين قرأوا (إن هذا إلا خلق الأولين) بضم الخاء واللام. يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر، هو دين الأولين من الآباء والأجداد.
    ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا. ولا بعث ولا معاد. ولهذا قالوا: (وما نحن بمعذبين) (27).
    لقد انتفخت عاد بالغطرسة وانتفشوا بالغرور وازدادوا عتوا وتمردا وعنادا أمام رسول الله الذي يدعوهم إلى الإيمان بالله على بصيرة، ومع العتو والغرور. كان كل يوم يمر تشيد عاد المزيد من الحصون والقلاع والمخازن المملوءة بالحبوب وفقا لثقافة (من أشد منا قوة)؟
    * ثانيا: تكبيل القوة:
    لما دعاهم هود عليه السلام إلى الله تعالى وإلى دينه. وبالغ في وعظهم وإرشادهم. وحذرهم سطوة الجبار العلي القدير وعقوبته في الدنيا والآخرة. فلم ينفع معهم ولم يفد شيئا. حبس الله سبحانه عنهم المطر كي يتنبهوا ويرتدعوا
    ____________
    (25) البغوي: 220 / 6.
    (26) ابن كثير.
    (27) ابن كثير: 342 / 1.

    ويرجعوا إلى الطاعة. وإمساك المطر عنهم سيبعد بينهم وبين الترف لأن الترف أصل أصيل في إفساد الفطرة وإفقاد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب، وإمساك المطر يؤدي بالإنسان إلى دائرة التضرع، ليكون التضرع مدخلا إلى التوبة. وروي أن الله تعالى أمسك عنهم المطر ثلاث سنوات حتى جهدوا وأجدبوا وقحطوا. فأبوا إلا تماديا فيما هم عليه، وازدادوا عتوا وتمردا وعنادا (28) وعلى امتداد زمن القحط كان هود عليه السلام يدعوهم كي يستغفروا الله فيرسل سبحانه السماء عليهم مدرارا (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون * يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون * ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) (29).

    لقد دعاهم وقوتهم التي يستندون عليها تئن تحت ضربات القحط. دعاهم إلى عبادة الله وحده وأخبرهم أنه لا يسألهم على ما يدعوهم إليه أجرا حتى يتهموه بأنه يريد بدعوته منفعة تعود إليه أو تضربهم، وهو إنما يبغي ثوابه من الذي فطره، من الله الذي أوجده وأبدعه، ودعاهم إلى تعقل ما يقوله لهم. حتى يتضح لهم أنه ناصح لهم في دعوته، وأنه ما يريد إلا أنه يحملهم على الحق. كما دعاهم إلى طلب المغفرة من الله وأن يتوبوا ويرجعوا إليه بالأعمال الصالحة، حتى يرحمهم بإرسال سحب هاطلة ممطرة يحيي بها الأرض وينبت الزرع والعشب. ويزدهم قوة الإيمان إلى قوة الأبدان، وأخبرهم أن عبادتهم التي اتخذوها من دون الله إحرام منهم ومعصية توجب نزول السخط الإلهي عليهم، وفي الآية دلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب وهذا في قوله: (يرسل السماء عليكم) وكذا قولهم في موضع آخر: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) (30) كما أن الآية بها إشعار أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الإنسانية وبين الحوادث الكونية التي تمر.
    فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات، والأعمال الطالحة تستدعي تتابع البلايا والمحن وتجلب النقمة والشقاوة والهلكة (31).
    ____________
    (28) الميزان: 306 / 10، ابن كثير: 225 / 2.
    (29) سورة هود، الآيات: 50 - 52.
    (30) سورة الأحقاف، الآية: 24.
    كما يشير إليه قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (32).
    لقد دعاهم هود عليه السلام وهم تحت ضربات القحط إلى التعقل، فالكون يخضع لنظام دقيق، وإن الاطعام والأمن بين يدي الذي يملك الجوع والخوف، فمن انحرف عن نظام الاطعام والأمن سقط في دائرة الجوع والخوف والمد والاستدراج فماذا كان رد عاد في عالم القحط والجدب؟ (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) (33) لقد ردوا على هود عليه السلام فيما قاله لهم.

    فلقد طالبهم هود بأمرين هما: أن يتركوا آلهتهم ويعبدوا الله وحده، وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم، فهذه كانت مطالب هود عليه السلام. أما الرد عليه فجاء إجمالا وتفصيلا. (أما إجمالا) فبقولهم: (ما جئتنا ببينة) أي ما جئتنا بحجة وبرهان على ما تدعيه من الرسالة، إن دعوتك لنا خالية من المعجزة. فما هي معجزتك الخارقة للعادة؟ وبما أنه لا توجد معك معجزة. فلا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه (وأما تفصيلا) فلقد رفضوا دعوته التي طالبهم فيها برفض الشركاء فقالوا: (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) كما رفضوا دعوته إياهم إلى الإيمان والطاعة فقالوا: (وما نحن لك بمؤمنين) ووفقا للإجمال والتفصيل فقد آيسوه في كلتا الحالتين،. ثم قالوا له: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) أي نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون.

    لشتمك إياها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك. ومن كان هذا شأنه فلا يعبأ بما يقوله في دعوته (34).
    لقد طالبوه بالمعجزة، وأخبره أنهم لن يتركوا آلهتهم من قوله، أي بمجرد قوله اتركوهم يتركوهم. وأعلنوه بصراحة أنهم له غير مؤمنين. ثم نظروا إلى
    ____________
    (31) الميزان: 300 / 10.
    (32) سورة الأعراف، الآية: 96.
    (33) سورة هود، الآيتان: 53 - 54.
    (34) الميزان: 301 / 10.

    حضارتهم وأعمدتهم وأصنامهم وأخبروه أن ما يقوله لهم ما هو إلا نتيجة لما أصاب عقله من جنون وخبل، ومصدر هذا الجنون تطاوله على الآلهة ونهيه عن عبادتها!

    هكذا تفكر عاد في عالم القحط. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على عمق الحضيض الذي تهاووا فيه بعد انحرافهم عن الصراط المستقيم، إن الإنسان عندما يفقد الماء يتضرع، ولكن أصحاب الأعمدة والصخور كانت لهم قلوب لا تعاني من فقد الماء. قلوب من حجارة. نبتت وترعرعت في خيام الأخلاق الحديدية.


    * معجزة هود عليه السلام:
    لقد انتفخ جبابرة عاد وطالبوه بالمعجزة (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة) ثم قالوا بأن أصنامهم قد مسته بسوء (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) فجاء رد هود عليه السلام بما يريدون. جاء بالمعجزة التي تستقيم مع الذي عند قوم عاد. وعاد عندها القوة وتسير على ثقافة (من أشد منا قوة؟) لهذا جاءتهم المعجزة التي تقصم ظهر قوتهم: قوة الفرد أو القبيلة أو المرتزقة أو الدولة، والمعجزة جاءت في رد هود عليه السلام: (قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) (35).
    لقد أعلن البراءة من شركائهم. ولا ينفي ذلك كونه برئ منها من أول مرة. وإعلانه البراءة هنا ليضع القوم أمام التحدي وأمام المعجزة. فلقد قالوا بأن الأصنام قد مسته بسوء. فرد عليهم بأنه برئ منها لأنها لو كانت آلهة حقا وتتمتع بعلم وقدرة فيجب عليها أن تقهره وتنتقم منه لنفسها وهو يعلن تبرؤه منها فالتبرء حجة بينة على أنها ليست بآلهة وعلى أنها لم تعتره بسوء كما ادعوا. وبعد أن حطم عليه السلام القاعدة الصنمية للأوثان التي من حجر. انتقل إلى القاعدة الصنمية التي من لحم ودم وعظم. وقدم للجبابرة معجزته التي أذلتهم وهم في أزهى لباس للقوة قال: (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) لقد كان في قوله لهم أمر ونهي تعجيزيان لقد طالبهم أن يكيدوا له وفي قوله (جميعا) إشارة إلى أن
    ____________
    (35) سورة هود، الآيات: 54 - 56.

    مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعا، وبهذا التعجيز الشامل يكون قد قدم أتم دلالة على كونه على الحق وكونهم على الباطل (36). لقد قال للعتاة الذين يبطشون بطش الجبارين: (فكيدوني جميعا) ليشاهدوا وليعلموا أنهم بمضارتهم وثقافتهم وقوتهم لن يقدروا عليه بقتل أو بتنكيل. على الرغم من أنهم ذوي شدة وقوة لا يعادلهم فيها غيرهم من أهل الشدة والبطش. فليفعلوا ولن يستطيعوا أن يضروه. وعندما يضربهم العجز. فيجب عليهم أن يصدقوه.

    ويؤمنوا به وبرسالته التي من عند الله. لأنه لولا أنه نبي من عند الله، صادق فيما يقوله، مصون من عند ربه.. لقدروا عليه بكل ما أرادوا من عذاب أو دفع، وأخبرهم بأن معجزة التحدي للقوة لا تعود إلى كونه أشد منهم قوة ولا إلى أنه ينتمي إلى جنس غير جنس البشر، فهو بشر يخاف ويكره، ولكنه لن يخاف من قوتهم الطاغية، ليس لأنه يحمل معجزة التحدي للقوة، وإنما لأنه توكل على الله ربه وربهم، فهو سبحانه الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه. وهو سبحانه المحيط بهم جميعا والقاهر لهم. وهو سبحانه الذي ينصر الحق ويظهره على الباطل إذا تقابلا.

    وأمام معجزة هود عليه السلام ارتدت عاد ثوب المذلة، فآلهتهم لم تفعل لهود عليه السلام شيئا رغم سهر فقهاء الجبابرة أمامها وطلبهم تدخلها، والجبابرة والعتاة لم يستطيعوا أن يضروا هودا وهم أصحاب شعار (من أشد منا قوة؟) إن دولة تحمل شعارا لا تستطيع العمل بمضمونه هو - وفقا لمقاييس أصحاب القمة - مذلة وهو - وفقا لمقاييس أصحاب القاع - مهانة. (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون) (37). وعندما كانت عاد في ثوب المذلة، كان هود عليه السلام بين أتباعه في عافية وسلامة لا يستطيع أحد أن يمسه بسوء أو يناله بشر، وعندما ذاق جبابرة عاد مرارة العجز، انسحبوا من المواجهة، انسحبت الدولة كلها بأوثانها وفقهائها وجبابرتها وجنودها من أمام هود عليه السلام، ووقفوا جميعا في خندق من خنادق الصد عن سبيل الله لا يملكون فيه إلا بذاءة اللسان.
    ____________
    (36) الميزان 302 / 10.
    (37) سورة فصلت، الآية: 15.

    ثالثا: استعجال العذاب:
    ظل هود عليه السلام يدعو قومه، لكن الاستكبار كان يجري في دمائهم.

    رغم ما يعانون من ذل نتيجة لعدم مقدرتهم على الكيد لهود. ولما يعانونه من القحط لإمساك المطر عنهم. والمستكبر المحتاج أكثر خطرا من غيره، لأنه يستعمل جميع أدوات البطش التي لا يستعملها غيره. وإن كان غيره يمكن أن يدمر من حوله من أجل نفسه فإن المستكبر المحتاج يمكن أن يدمر كل من حوله حتى نفسه ولا يتنازل عن هواه وجميع الذين استكبروا قبل أن يضربهم عذاب الاستئصال أوقفهم الله في دائرة الحاجة كي يستغفروا. لكنهم خرجوا من الدائرة وهم يشهرون مخالبهم في وجه كل طاهر، ويغرسون أنيابهم في جسم كل عفيف، طمعا في أن يخنقوا الأرض أو يصيبوها بالوباء. إن الاستكبار بجميع فصائله ينطلق من مملكة الظلم، التي يديرها أصحاب الرؤوس الفارغة والقلوب القاسية، وهؤلاء لا يتنازلون عن هوى من أهوائهم فيه حاجة لهم. وإن ترتب على ذلك الهلاك للجميع. لأنهم ببساطة ألد أعداء الجنس البشري وإن كانوا ينتمون إليه. هم ألد أعداء الإنسانية لأنهم يتصورون أن في عروقهم تجري الدماء النقية، ووفقا لهذا التصور أو الاعتقاد رفضوا قديما النبي البشر، وتطور الرفض فيما بعد إلى كل حامل علم لا يستقيم مع أهوائهم وإن كان حامل العلم معه سلطان وبرهان.

    لقد خرجت عاد من دائرة الاحتياج رافضة للتوبة والاستغفار، وأمام العناد كان هود عليه السلام يبلغ رسالات ربه إليهم (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) (38) لم يحدثهم عن قلاعهم وحصونهم. إنما دعاهم فقط إلى عبادة الله. ولم يضف على ذلك شيئا. فماذا كان ردهم؟ (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) (39) لقد كان جوابهم له فيه احتقار ومهانة. واجهوه أولا بأن فيه سفاهة. وواجهوه ثانيا بأنهم يظنون أنه من الكاذبين.. لتد واجهوه بهذه التهم لأنهم سمعوا منه دعوته أكثر من
    ____________
    (38) سورة الأعراف، الآية: 65 (39) سورة الأعراف، الآية: 66.

    مرة، وفي كل مرة كان يعترض على آلهتهم. فأخرجوا من جعبتهم تهمة السفاهة ورموه بها، والسفاهة: خفة العقل التي تؤدي إلى الخطأ في الآراء. ولقد زادت عاد وقاحة على قوم نوح، فقوم نوح رموا نوحا بالضلال في الرأي، أما عاد فقد رموا هودا بالسفاهة. إنها الغطرسة التي تلقي بالتهم هكذا جزافا بلا تدبر ولا دليل، ثم اتهموه بالكذب في غير تحرج ولا حياء، أنظر إلى قولهم له: (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) ثم انظر إلى جوابه عليه السلام: (يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) (40) لقد رد عليهم ردود الأنبياء. رموه بالسفاهة، فلم يخرجه ذلك عن وقار النبوة، ولم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الإلهية، وأخبرهم أنه ليس به سفاهة، ولكنه رسول من رب العالمين، لا شأن له بما أنه رسول من الله، إلا تبليغ رسالات الله، وإن كانوا يظنون أنه كاذبا. فهو ليس بغاش لهم فيما يريد أن يحملهم عليه، ولا خائن لما عنده من الحق، وكل ما يريده منهم هو التدين بدين التوحيد الذي يراه حقا، لأن هذا الدين هو الذي فيه نفعهم وخيرهم، وقد وصف عليه السلام نفسه بالأمين محاذاة لقولهم " وإنا لنظنك من الكاذبين) (41).

    لم يقابل هود عليه السلام الشر بمثله. ولم يفارقه العطف واللطف والحنان واستعمال اللين والإخلاص في أقواله مع قومه. لقد رموه بالسفاهة، فقال: ليس بي سفاهة، ورموه بالكذب فقال: أنا لكم ناصح أمين، إنه منطق النبوة في الوعظ والإرشاد وهود عليه السلام كان واسع الصدر في دولة ترفع شعار (من أشد منا قوة؟) وكان ذا شعور قوي وزاهدا عابدا عفيفا أبيا غيورا صلب الإيمان في دولة إذا بطشت بطشت بطش الجبارين، وبعد أن نفى عن نفسه ما ألقوه عليه من تهم قال لهم: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) (42). لقد أراد أن يجذبهم من خيمة الأهواء والغطرسة إلى رحاب
    ____________
    (40) سورة الأعراف، الآيتان: 67 - 68.
    (41) الميزان: 178 / 10.
    (42) سورة الأعراف، الآية: 69.

    الشكر والحمد. فقال لهم: لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذلك، واذكروا نعمة الله عليكم في جعلكم من ذرية نوح الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته لما خالفوه وكذبوه، واشكروا الله الذي جعلكم أطول من أبناء جنسكم. واذكروا نعم الله ومنته عليكم لعلكم تفلحون (43).
    لقد طالبهم بالشكر في أربعة مواضع:

    (أولا): أنه سبحانه بعث فيهم رسولا منهم وهذه نعمة تستحق الشكر.

    (ثانيا): أنه سبحانه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح دون غيرهم من الأمم.

    (ثالثا): أنه سبحانه زادهم في الخلق بصطة. وزيادة الخلق تزيد القوة ويترتب على ذلك إقامة المدينة والحضارة.

    (رابعا): أنه سبحانه أعطاهم من النعم ما لا تحصى ولا تعد وكل نعمة من نعم الله يجب شكرها، وشكرها أن توضع في موضعها، فماذا كان رد الجبابرة عندما طالبهم هود عليه السلام بأن يذكروا الله ويشكروه؟ (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) (44) لقد رفضوا الذكر والشكر. وذلك لرفضهم عبادة الله وحده. كما حافظوا في ردهم على عبادة ما وجدوا عليه آباءهم. وفي خاتمة ردهم طالبوا بالعذاب. وهكذا طالب هود بمطالب تنسجم مع الفطرة، فردوا بردود تنسجم مع العذاب العظيم لقد استكبرت عاد! قالوا لهود عليه السلام: (أجئتنا لنعبد الله وحده) لقد وجدوا في التوحيد قيد، وجدوا فيه افعل ولا تفعل. أما ما كان يعبد الآباء فلا قيد فيه. لأن الأصنام لا تأمر ولا تنهى. وعلى هذا تكون أهواء الجبابرة طليقة في عالم الاغواء والتزيين. والقوي فيهم يكون سيدا للغابة، ولا قانون إلا قانونه، وفي عالم الغابة هذا، إذا قدمت ماءا صافيا لإنسان، برزت أنيابه كذئب يعوي!
    وإذا حملت طعاما نقيا للجائعين، لا ينظرون إليه.. بل إليك! ويقتفون أثرك
    ____________
    (43) ابن كثير: 224 / 2.
    (44) سورة الأعراف، الآية: 70.

    كاللصوص ليسرقوك. أو كقطاع طرق ليقتلوك وفي عالم الغابة إذا قدمت فكرة!

    كلمة! ليتأملها عقل، فستدفع ثمن إنسانيتك غاليا، لأن الفكرة رحمة، والذئاب تعتبر الرحمة شذوذا. لقد رفض الجبابرة أن يعبدوا الله وحده، وأرادوا أصنام الآباء وما كان يراه الآباء. فالجماجم تحت التراب تراث. ورفض التراث في قانونهم جريمة. والجماجم تحت التراب على هداها يسير الأحياء والشيطان لهم دليل. إنه عالم الصم البكم العمي، رفضوا الشكر في المقدمة ورفعوا ما كان يعبد آباؤهم في الخاتمة ثم قالوا لهود عليه السلام: (فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) وعندما قالوا ذلك سمعوا الرد الأخير على أقوالهم. الرد الذي ستأتيهم من بعده الخاتمة ليكونوا بعد ذلك أحاديث وعبرة لمن أراد الاعتبار.
    فعندما سألوا هودا عليه السلام أن يأتيهم بالعذاب: (قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين) (45).
    أجابهم عليه السلام: بأنه قد وقع عليهم من ربهم رجس وغضب. لأنهم يحاجونه في هذه الأصنام التي سموها هم وآباؤهم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، ولا جعل الله لهم على عبادتها حجة ولا دليل (46) وبأن إصرارهم على عبادة الأوثان بتقليد آبائهم. أوجب أن يحق عليهم البعد عن الله بالرجس والغضب. ثم هددهم بما يستعجلون من العذاب. وأخبرهم بنزوله عليهم لا محالة، وأمرهم بالإنتظار. وأخبرهم بأنه مثلهم في انتظار العذاب (47).
    وعلى هذا انتهى الجدل، وانتظر الجميع القول الفصل الذي يحمل العذاب الشامل على فريق الجبابرة وأتباعهم. ويكون رحمة شاملة على طائفة المؤمنين مع هود عليه السلام، وجبابرة عاد عندما طلبوا العذاب، ظنوا أن في هذا الطلب تعجيز لهود عليه السلام مقابل تعجيزه لهم في الكيد له. فأمام معجزته التي طرحها عليهم (فكيدوني جميعا) قالوا له: (فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) فقولهم: (إن كنت من الصادقين) يحمل ظنهم في عدم مقدرته
    ____________
    (45) سورة الأعراف، الآية: 71.
    (46) ابن كثير: 225 / 2.
    (47) الميزان

    الإتيان بالعذاب، لأنهم ابتداء يكذبونه في رسالته. وهود عليه السلام عندما حذرهم من عذاب اليوم العظيم. كان في الحقيقة يحذرهم من عذاب الاستئصال، لأن سنة الاستئصال كانت هي الجارية في صدر البشرية. وذلك لأن ظهور المجتمع الشاذ عن سبيل الفطرة في مرحلة تكوين المجتمعات الإنسانية.
    قد يؤدي إلى انتشار الشذوذ والانحراف في المجتمعات الأخرى. لهذا كان بتر العضو المريض الذي لم يتقبل الدواء. رحمة وعبرة وشفاء للإنسانية في كل مكان. رحمة لأن الداء قد بتر ودفن في مكانه ولم يجتحهم، وعبرة كي يعيد المنحرف ترتيب أوراقه على أساس صحيح، وشفاء لقوم مؤمنين وتثبيت وإبلاغ لهم بأن السماء لا يفر من تحتها الظالمون.

    لقد دخلت عاد بأقدامها إلى دائرة الاستئصال، وعندما قالوا لهود عليه السلام: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) (48) لم يزد عليه السلام في رده عن قوله: (إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون) (49) لقد قصر عليه السلام العلم بنزول العذاب في الله تعالى: (إنما العلم عند الله) لأن العذاب من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل. أما هود فلا علم له ما هو العذاب؟ ولا كيف هو؟ ولا متى هو؟ ولذلك عقب عليه السلام بقوله: (وأبلغكم ما أرسلت به) أي أن الذي حملته وأرسلت به إليكم هو الذي أبلغته إليكم، ولا علم لي بالعذاب الذي أمرت بإنذاركم به ما هو؟
    وكيف هو؟ ومتى هو؟ ولا قدرة لي عليه، وإني أراكم قوما تجهلون، فلا تميزون ما ينفعكم مما يضركم وخيركم من شركم. حين تردون دعوة الله وتكذبون بآياته وتستهزؤون بما يوعدكم به من العذاب (50). لقد ظنت عاد أن طلبها للعذاب تعجيز لهود عليه السلام، في الوقت الذي كانوا فيه يسيرون بأقدامهم على طريق العذاب الذي يصل بهم إلى اليوم العظيم. لقد كانت أقدامهم تدب على أرض جدباء أخذ أهلها حذرهم من الطوفان فأذلهم العطش.
    ____________
    (48) سورة الأحقاف، الآية: 22.
    (49) سورة الأحقاف، الآية: 23.
    (50) الميزان: 211 / 18.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    • وجاءت الرياح:

    جلس قضاة الطاغوت في ديار الجبابرة ومن حولهم جنود عاد الذين شربوا من إناء الأخلاق الحديدية في ثقافة (من أشد منا قوة؟) جلسوا تحت السماء التي تمسك عنهم المطر، ومن حولهم نخالة الحبوب الناشفة. وأوراق الأشجار الميتة، لم يرفعوا أكفهم إلى السماء حتى يرفع الله عنهم العقاب، وإنما انطلقوا في يوم عيدهم إلى أكبر أصنامهم وتجمعوا حوله يسألونه الماء أساس حضارة عاد، ففي هذا العيد وكان يوافق دائما يوم الأربعاء. خرج الجبابرة وخدامهم من الفقهاء والجنود ومن حولهم الغوغاء والرعاع أصحاب العيون التي انطفأ منها كل بريق يحمل معنى من معاني الرحمة، وأمام الصنم الأكبر وقفوا يبتهلون ويتضرعون بالآباء تحت لهيب الشمس المحرقة، ولم تكن هناك رياح تسري في الحدائق سريانها البديع. ولم يكن للنسيم الرقيق وجود بينهم يوم زحامهم على أصنامهم. كان الحر شديدا وقطرة الماء أمل للإنسان وللحضارة العريضة التي تتربع عليها عاد، وبينما هم ينظرون في الأفق شاهدوا سحابا ثقيلا يستقبل أوديتهم. يقول تعالى: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) (51) لقد حكموا على العارض بما يعلمون، ولكن الحقيقة لا يعلمها إلا الله فما كل سحاب يأتي بالماء، وما كل رياح تحمل الخير، فعاد وفقا لحضارتها وعقيدتها وثقافتها تحكم على الأشياء بما جرت به العادة، فالأب الأول في قافلة الانحراف ترك صنما، وهذا الصنم عبدته القافلة كلها، فإذا جاءت عاد ووجدته يكون الخروج عن العادة والتقاليد شذوذا. وأمام العادة والتقاليد فليسقط السمع والبصر والفؤاد. ووفقا لهذا المقياس شاهدوا العارض فقالوا بأنه ممطر، لأن علمهم وقف عند الحد الذي يقول بأن السحاب لا يحمل إلا الماء. أما الذين يؤمنون بالله فيعلمون أن العناصر كلها خاضعة لخالقها، وقد تحمل هذه العناصر النعم لقوم بينما تحمل النقم لقوم آخرين، وقد تمطر السماء هنا ماء بينما تمطر في مكان آخر حجارة من سجيل منضود. لهذا كان الإيمان بالله هو روح النظر إلى الأشياء عند الذين آمنوا. وكانت تقوى الله هي المقياس الذي تتحطم عليه العادات والتقاليد، وكان الخوف من مكر الله يجعلهم في ارتعاد دائم، لأنهم بشر
    ____________
    (51) سورة الأحقاف، الآية: 24.

    يعيشون على الأرض. والأرض يجري عليها الاختبار ويجري عليها الاستدراج والاستئصال. ويأتي العذاب للظالمين من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.

    وعندما شاهدت عاد العارض وهي تحت مظلة عقيدة الأصنام وثقافة الاستكبار (قالوا هذا عارض ممطرنا) لكن الحقيقة كانت على خلاف ذلك يقول تعالى: (بل هوما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) (52) فبين سبحانه أولا أنه العذاب الذي استعجلوه حين قالوا لهود: (فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) وزاد سبحانه في البيان ثانيا بقوله: (ريح فيها عذاب أليم) تهلك كل ما مرت عليه من إنسان ودواب وأموال، وفي موضع آخر يقول سبحانه: (أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) (53) والريح العقيم هي المفسدة التي لا تنتج شيئا (54) والتي عقمت أن تأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح. كتنشئة سحاب أو تلقيح أشجار أو نفع حيوان أو تطيب هواء (55) وفي موضع آخر يقول تعالى: (إنا أرسلنا عليها ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) (56) وفسر الصرصر بالريح الشديدة السموم، والشديدة البرودة، والشديدة الصوت، والشديدة الهبوب (57). وقوله تعالى: (في يوم نحس مستمر) المراد باليوم هنا قطعة من الزمن، لا اليوم الذي يساوي سبع الأسبوع. لقوله تعالى في موضع آخر: (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات) (58) وقوله تعالى:
    (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) (59). فتبارك الذي يضرب في كل زمان وكل مكان ويرحم في كل زمان. وكل مكان.
    ____________
    (52) سورة الأحقاف، الآيتان: 24 - 25.
    (53) سورة الذاريات، الآيتان: 41 - 42.
    (54) ابن كثير: 236 / 4، البغوي: 71 / 8.
    (55) الميزان.
    (56) سورة القمر، الآيتان: 19 - 20.
    (57) ابن كثير: 364 / 4، الميزان /، البغوي: 134 / 8.
    (58) سورة فصلت، الآية: 16.
    (59) سورة الحاقة، الآية: 7.

    لقد جاءت الريح لتضرب المرتفعات والأعمدة وتضرب المنخفضات والحصون، جاءت الريح العقيم التي عقمت أن تأتي بفائدة مطلوبة في عالم حضارة عاد، جاءت لتدمر كل شئ (بأمر ربها) فضاع الجبابرة وخدام الجبابرة أصحاب البطش والأخلاق الحديدية. روي أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار. ثم تنكسه على أم رأسه. فيسقط على الأرض فتثلغ رأسه. فيبقى جثة بلا رأس (60) ولهذا قال تعالى: (كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (61) وعلى امتداد أيام العذاب كان الجبابرة والمستكبرين يهرولون في كل مكان هربا من قسوة الرياح حتى إنهم كانوا يتحصنون الجبال والكهوف والمغارات، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم فلم يغن عنهم ذلك من الله شيئا (62) لقد أقاموا الأعمدة إلى أعلى وفقا لحسابات الطوفان، وأسرفوا في هذا العبث إسرافا كبيرا، وعندما جاءتهم الريح جعلوا من أنفسهم أعمدة في بطن الأرض، ولكن هيهات هيهات !
    لقد طحنت الريح قصورهم وحصونهم ومدائنهم. عصفت عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية) وكانت ترفع الرجال والنساء إلى الجو ثم ترمي بهم فيقعون على رؤوسهم منكسين.
    وكانت الريح تقلع الرجال والنساء من تحت أرجلهم ثم ترفعهم إلى السماء ثم تحطمهم حطما، كانت الريح تمر بأهل البادية فحملهم هم ومواشيهم وأموالهم حتى يكونوا بين السماء والأرض وتلقى بأهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة (63) لقد قهرت الريح الذين فشوا في الأرض وقهروا أهلها تحت شعار (من أشد منا قوة؟) أما هود عليه السلام وأتباعه فروي أنه عليه السلام اعتزل ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس (64) (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من
    ____________
    (60) البغوي: 135 / 8، ابن كثير: 265 / 4.
    (61) سورة القمر، الآيات: 20 - 22.
    (62) ابن كثير: 342 / 3، البغوي: 231 / 6.
    (63) ابن كثير: 412 / 4.
    (64) ابن كثير: 226 / 2.

    عذاب غليظ) (65) (فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) (66).
    لقد جاءتهم الريح في يوم نحس كانوا يحتفلون فيه بمجد آبائهم الأوائل.

    ففي اليوم النحس جاءتهم الريح لتكون عليهم في أيام نحسات ذات غبار وتراب لا يرى فيها أحد أحدا. جاءتهم مسخرة من الله عليهم، تضربهم مرة بعد مرة كي يستوعب الجميع الهلاك وذكر المسعودي: أن الريح أتتهم يوم الأربعاء. فما جاءت الأربعاء الثانية وفيهم أحد حي (67). وذهبت عاد وأصبحوا عبرة لمن أراد الاعتبار. وبقيت الريح.. نعم بقيت، فهي على كل مكان من الأرض. وهي في جوف كل إنسان وهي في مخازن الله. وكما ذكرنا أن للمؤمن مقاييس ينظر بها إلى الأحداث من حوله وما يمكن أن يترتب عليها، فليس كل ريح تأتي بخير وليس كل سحاب يأتي بماء. ولقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه. فلما سئل: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر. وإذا رأيته أنت عرفنا في وجهك الكراهية. قال عليه وآله الصلاة والسلام " ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب.

    قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب وقالوا هذا عارض ممطرنا " (68) وذهبت عاد. وقطع دابر الذين كفروا. فلا ترى لهم باقية. ليسر في عصرنا أحد ينتسب إلى عاد بدمائه لأن دابرهم قد قطع. ولكن في عصرنا من هواه على هوى عاد، في عصرنا يوجد من يقول: (من أشد منا قوة؟) وفي عصرنا أعلام ورايات تمارس سياسات التجويع والتخويف، وفي عصرنا فتحت للغطرسة معاهد، وراجت الأخلاق الحديدية التي لا تقيم للفضيلة وزنا. بل ذبحتها تحت المقاصل تحت شعار روح العصر الحديث. وفي عالم الأخلاق الحديدية. زخرف الشيطان كل شئ بما يستقيم مع روح العصر. وفي عالم الزخرف اعتنق الناس فضائل الأهواء وكل فضيلة من حديد. كل فضيلة ظاهرها الرحمة وباطنها يقبع فيه
    ____________
    (65) سورة هود، الآية: 58.
    (66) سورة الأعراف، الآية: 72.
    (67) مروج الذهب: 159 / 2.
    (68) ابن كثير: 161 / 4.

    عمود من أعمدة عاد (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) (69).

    وذهبت عاد. ولما كانت عاد في صدر القافلة البشرية من بعد قوم نوح.
    وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خاتمة القافلة الإنسانية فإن الله تعالى ربط بين البلاء والختام في مواضع من القرآن الكريم. وبين سبحانه أن عادا كانوا من التمكن على درجة عالية لم تكن لكفار مكة. وكان لهم من أدوات الادراك والتمييز ما يستطيع به الإنسان الاحتيال لدفع المكاره والاتقاء من الحوادث المهلكة المبيدة. لكن كل هذا لم يغن عنهم. ولم تنفعهم هذه المشاعر والأفئدة شيئا عندما جحدوا آيات الله. فما الذي يؤمن كفار خاتمة القافلة من عذاب الله وهم جاحدون لآيات الله يقول تعالى بعد أن أخبر عن هلاك عاد (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون * ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) (70) وفي الربط بين البدء والختام أيضا يقول تعالى لرسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) (71) إنها تذكرة إنذارية، ليكون البدء هناك عبرة للخاتمة هنا (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * واتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاد كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) (72).

    * مشهد وحركة:
    لقد جحدت عاد بآيات الله من الحكمة والموعظة والمعجزة التي أظهرت لهم طريق الرشد وميزت لهم الحق من الباطل، جحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم، وعصوا رسول ربهم هودا عليه السلام، ومن قبله من الرسل، لأن عصيان الواحد منهم هو عصيان للجميع. فكلهم يدعون إلى دين واحد، وعلى ذلك فهم عندما يعصون هودا يكونون قد عصوا بعصيانه سائر رسل الله، وسلسلة الأنبياء
    ____________
    (69) سورة إبراهيم، الآية: 42.
    (70) سورة الأحقاف، الآيتان: 26 - 27.
    (71) سورة فصلت، الآية: 13.
    (72) سورة هود، الآيتان: 59 - 60.

    تنتهي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمن سمع به ولم يؤمن بما أنزل معه يكون بعصيانه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد عصى سائر رسل الله، والذين عصوا هودا عليه السلام إلى أين ذهبوا؟ لقد ذهبوا إلى كل جبار يقهر الناس بإرادته ويكرههم على ما أراد واتبعوه. ولم يتبعوا كل جبار فقط ولكنهم اختاروا من بين الجبابرة كل جبار عنيد، والجبار العنيد علاوة على أنه يقهر الناس إلا أنه فوق هذا كثير العناد فلا يقبل الحق. (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد) وهذا الاختيار الذي رفضوا فيه هودا عليه السلام واتبعوا فيه كل جبار عنيد ألقى بهم في دائرة اللعن في الدنيا ويوم القيامة حيث العذاب الخالد، يوم يقف التابع والمتبوع من الذين استكبروا وهم ناكسوا رؤوسهم عند ربهم (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين) (73) في الدنيا كان الجبابرة وخدامهم يضعون الذين آمنوا في مربع المجرمين. أما في الآخرة فسيقولها الجبابرة لحملة أقلامهم وسياطهم وغوغائهم. يا لعدل الله.. تأمل قول الخدام لأئمة الكفر: (لولا أنتم لكنا مؤمنين) يتهمونهم بإجبارهم على الكفر. وأنهم حالوا بينهم وبين الإيمان.

    بالرغيف والشهوة والجاه والمال، بالتخويف والتجويع والترغيب والترهيب. ثم تأمل رد أئمة الكفر في عاد وكل عاد مهما اختلفت الأسماء والأعلام. تأمل ردهم على الخدام الخلان (أنحن صددناكم؟) أنحن صرفناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟! إن بلوغه إليكم بواسطة الرسول أقوى دليل على أننا لم نحل بينه وبينكم لقد سمعتم الدعوة. وكنتم مختارين بين الإيمان وبين الكفر. لكنكم كنتم متلبسين بالإجرام مستمرين عليه، فأجرمتم بالكفر بالإيمان لما جاءكم من غير أن يخبركم عليه، فكفركم منكم ونحن برءاء منه (74) إنه العتاب الذي لا يجدي.
    ويؤدي في النهاية إلى ضعف من العذاب لكل من الأئمة والخدام، إن عادا بداية وعبرة للمجرمين (ولو ترى إذ المجرمين ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا
    ____________
    (73) سورة سبأ، الآيتان: 31 - 32.
    (74) الميزان.

    وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) (75) أنظر إلى المشهد والحركة في النص القرآني (ناكسوا رؤوسهم عند ربهم) لقط أحاط بهم الخزي والذل فنكسوا رؤوسهم واعترفوا بما كانوا ينكرونه في الدنيا. وسألوا ربهم العودة إلى الدنيا عندما تبين لهم أن النجاة في الإيمان والعمل الصالح. لقد سألوا العودة.
    ولن يعودوا.

    لقد اتبع الجبابرة الصغار الجبابرة الكبار في الحياة الدنيا. التف الصغار حول كل جبار عنيد واتخذوه قدوة من يوم نوح عليه السلام وحتى يوم محمد صلى الله عليه وسلم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. ليصدوا عن سبيل الله. ولكن مدارس الصد على امتداد الزمان هي التي تسقط وهي التي تحترق. إن سقوط الباطل في كل زمان يعني انتصار الحق في كل زمان والباطل باطل وإن رفع شعار (من أشد منا قوة؟) وكان معه أكثر الناس، والحق حق وإن قل أتباعه والحق حق وإن وقف في حظيرة على الأرض. والباطل باطل وإن رفع أبنيته على الأعمدة ألم تر أن عادا استأصلهم الله وأن هود أنجاه الله برحمة منه. ألم تر أننا نقص هنا أخبار المجرمين ليرى الحاضر سقوط الباطل المهين في الدنيا والآخرة.
    ____________
    (75) سورة السجدة، الآية: 12.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني