النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2004
    المشاركات
    1,139

    Unhappy مطر المربد - مشاهدات، وشهادة عما حدث في المربد الثالث 2006

    مطر المربد - مشاهدات، وشهادة عما حدث في المربد الثالث 2006



    كتابات - عدنان الصائغ



    .... مرّت غيوم المربد، بمدرارها وخلّبها ورعودها، راكضة على أديم البصرة..

    وغادرت قوافل الشعراء، وأنا أولهم، تاركين على أرض البصرة الطيبة ندىً كثيراً من الحكايات والذكريات والحسرات..

    مربد للشعر والجمال والتحدي في واقع ملتبس، هي الجرأة بعينها، وشعراء جميلون ورائعون ضجّت بهم القاعة هذا العام، مربد ظلمه الإعلام العربي والضجيج الذي صاحبه..

    ارهاب الشارع، وليس ارهاب الشاعر.. جناس ناقص، استعيره من شاعر المربد لهذا العام.. لا عمائم بيض وسود في المربد، لكنها تخيّم على المشهد كله، خارج القاعة بأمتار..



    فهل اتضح المشهد..؟

    هل هدأت الزوبعتان اللتان صاحبتا تلك الغيوم: رواتب الوزارة المقطوعة للأدباء، ولسان الشاعر الذي هُدّد بالقطع..!؟



    ومثلما هطلتْ غيوم المربد بالكثير من البوار والنثر الخطابي، هطلت بالكثير من المطر والشعر، وبللت جزءً من الروح، وفتّقت شيئاً من الحنين المنسي إلى سنوات الشعر والتمر والمواويل.. ستينيات العراق وبعض سبعيناته، تلك التي تبدو لنا - نحن الذين فتحنا عيوننا على ثكنات الثمانينات وحصارات التسعينات - أشبه بالحلم رغم ما اختلطت به من كوابيس، قياساً لما رأينا......

    نصوص تعد بالكثير..

    وأرواح تحلم بالكثير..

    كتب يطبعونها على نفقاتهم الشحيحة، ونقاشات جادة في الأدب والفن، وهموم صادقة ومتسائلة وقلقة حول ما يجري في البلد..

    لقد قلتُ مراراً وأقول: إذا كان للعراق أن يفخر بشيء، فبمبدعيه، الذين ظلوا رغم العواصف والحروب كأشجار السنديان العالية والورافة..



    عندما وصلتني دعوة من اتحاد الأدباء العراقيين وأدباء البصرة، سعدتُ للأمر، فهي المرة الثانية التي يدعونني فيها، وأخجل أن لا ألبيها.. فللوطن وللأصدقاء، في روحي، حنين جارف لا يوقفه شيء.. خاصةً وأن دعوة مهرجان "المدى" التي وصلتني قبلها، لا تتعارض مع موعد "المربد".. هكذا خططتُ للأمر رغم مشقة الرحلتين.. دون أن التفت إلى أبي الطيب المتنبي لأرى أن رياح الأحداث والمليشيات، تمشي، بما لا تشتهي سفن الشعر..



    حزمتُ حقائبي وجوازي العراقي نافد المفعول الذي لم أستطع تجديده في لندن لأن السفارة هناك معطلة بسبب وفاة الرسول.. طويته في جيبي لألتحق بالصديق والشاعر المبدع عبد الكريم كاصد، المحتفى به هذا العام، وتأخذنا الطائرة والأحاديث والشعر، لنهبط في الكويت، ويصحبنا السائق إلى السفارة العراقية، أول سفارة ندخلها بعد سقوط النظام بلا خوف، ويجدد القنصل الجواز بسرعة حين علم بدعوة المربد ولم يستوفِ أجوراً..

    الطريق الصحراوي انتهى بسرعة ربما لتسارع دقات الحنين في القلب، أو لدفق الذكريات والأحاديث الذي بدأ يتسارع كلما اقتربنا من حدود الوطن أكثر..

    وفي سفوان كان بعضاً من الأصدقاء في استقبالنا: طالب عبد العزيز، جاسم العايف، جميل الشبيبي، مجيد جاسم العلي، عمار علي كاصد، عبد الباقي فرج...



    وصلنا البصرة 11/4 قبل انعقاد المربد بأربعة أيام.. وقد أتاح لي هذا فرصة واسعة - قبل وصول الشعراء المشاركين من بغداد والمحافظات - لأرى البصرة والأصدقاء عن قرب، وأتوغل في شوارعها حتى آخر ساعات منع التجول..



    الليلة الأولى، في بيت شقيق الشاعر عبد الكريم كاصد. السمك الزبيدي المشهور، وكرم الضيافة والطيبة البصرية لا يغيبان عن ذاكرتك أينما حللت..

    ورغم التعب لم ننم إلاّ في آخر ساعات الليل بسبب فيض الأحاديث التي لا يقطعها إلاّ انقطاع الكهرباء بين فينة وأخرى، من "الوطني" إلى "المولّدة"، وبالعكس.. المواضيع تتغير وتتنقل بسرعة بين الشعر، والنكات، والإنفجارات، والذكريات، وأزمة الوقود، والشهداء الذين عثروا عليهم في المقابر الجماعية، وأخبار التهجيرات الطائفية الجديدة من الطرفين، وسيارات البطة (هكذا تسمى سيارات الاغتيالات)، وأيام زمان، و.. و.. و.. و.. و...



    ["ولما انتهينا عند بغداد أظلمت

    سماءٌ

    وسارت بي خطاي إلى قبري

    وأخفيت آثاري فلا أنا ميت

    ولا أنا حي

    يعتلي هامتي طيري" - عبد الكريم كاصد -]



    اليوم الثاني انتقلنا إلى فندق "عيون" القريب من اتحاد الأدباء البصريين والعشار والكورنيش والسياب..، حيث كنتُ كثيراً ما أقطع المسافة مشياً..

    في الإتحاد، أنتقلُ فجأة من توتر الشارع الذكوري والمليشيات إلى عبق شهي من ابداع وزهد وأحلام مدفونة وبعض صفاء: محمد خضير بهدوءه الجليل، ومحمد عبد الوهاب بضحكته الطيبة، وعناق الأصدقاء الحار: عادل مردان، كاظم الحجاج، مجيد الموسوي، جميل الشبيبي، قصي الخفاجي، مجيد جاسم العلي، عبد الباقي فرج، حسين عبد اللطيف، عمار علي، علي نوير، عبد الله عبد الواحد، مسار رياض، حاتم العقيلي، جاسم العايف، حسن الحيدري، عبد الكريم السامر، د. رياض الاسدي، نبيل جميل، عبد الحليم مهودر، محمد محمد صالح، سلمان الجبوري، محمد عطوان، علي السباعي، خالد البابلي، فرات صالح، حسين جبار، هاشم تايه، فاروق السامر، أمير ناصر، ناصر قوطي، مؤيد حنون، عبد الرحمن سالم، كريم جخيور (بينما كنا جالسين، دق تليفونه، ورأيناه مرتبكاً: لقد هجّروا عائلته وهي الآن وأثاث البيت في "لوري" تعطل بهم في الطريق بين العمارة والبصرة..

    وقبل يوم من المهرجان سمعنا بانفجارين، وأن 13 مهندساً دخل عليهم بعض المسلحين في دائرتهم الحكومية وذبحوهم، في وضح النهار.. مرّ الأمر على شكل تايتل خجول وعجول، على شاشات بعض الفضائيات، وعادت البصرة تبدو للعابر أو للسائر جنب الحياطين آمنة هادئة)..



    سيل من أحاديث، يبدأ ولا ينتهي: كم شابوا وكم شبتُ يا الهي، لكنها الروح لما تزل حيية وملتاعة، تعشبُ فيها الأحلام، بينما تتساقط من أشجارها أوراق السنوات بسرعة ولا أحد يفكر أن يلمّها أو يحصيها..

    وكنتُ أرجع لفندقي محملاً بالمواجع وإهداءات الكتب الجميلة..

    وشارباً الكثير من الشاي...



    14/4 تقاطر المشاركون، على وجبتين، مفترقين: بالطائرة.. وبالباص..

    وانقسموا إلى فندقين: المربد وعيون..

    عادل عبدالله، محي الدين زنكنة، مجاهد أبو الهيل، عارف الساعدي، محمد علي الخفاجي، خضير مري، إبراهيم الخياط، كزار حنتوش، أحمد عبد الحسين، عريان السيد خلف، د. علي الفواز، ناظم السعود، توفيق التميمي، نعمان النقاش، صباح محسن كاظم، ناهض الخياط، أحمد جليل الويس، مهند جمال الدين، د. محمد حسين آل ياسين، محي الدين الجابري، عبد الهادي الفرطوسي، عبد نور داود، علي الشيال، مهدي القريشي، شلال عنوز، هند الجزائري، حمودي السلامي، عبد الحسين حمد، ثامر سعيد، محمد يونس، محمد علوان جبر، مهند عبد الجبار، هادي الناصر، جبار سهم السوداني، مازن الزيدي، نصير الشيخ، خضير اللامي..

    فيض من عناقات وقبلات وعتاب وأشواق وتبادل عناوين و.. و.. و. تخللها احتدام وشجار في بوابة الفندق بسبب قنينة خمر!! يا للهول!! وكأنها قنبلة موقوتة، وُجِدتْ في حقيبة أحد المشاركين، قرر الحراس عدم دخولها!!..

    وهذا الأمر لم يشمل الخمرة بل شمل الشاعرات المشاركات، إذ كما عرفنا ونشرت بعض الصحف أن ثمة قراراً بعدم السماح لسرب القطا بالمشاركة!!

    باستثناء شاعرتين:

    نجاة عبد الله، التي لم تستسلم للقرار وأصرت على الحضور، ورسمية زاير محيبس التي قدمت بصحبة زوجها الشاعر كزار حنتوش..



    ما علاقة منع الخمرة بمنع الشاعرات؟

    هل تذكروا بيت شاعرنا أبي نؤاس:

    تسقيك من عينها خمراً ومن يدها‏

    خمراً، فما لك من سُكْرَيْن من بدِّ



    الأمر لا يتعلق بقرار الاتحاد العام أو الفرعي، ولا بوزارة الثقافة، ولا بالمربد وبعض ما قرأ من شعر.. المسألة أكبر بكثير وكثير..

    وأعرف أن عقلية الأصدقاء القائمين على المربد أرقى من هذا القرارالذي فرضه ارهاب الشارع وانصاعوا له – للأسف - مرغمين..

    انهم مشكورون لاصرارهم على إقامة المربد واصدار جريدته، رغم كل شيء.. وهذه نقطة تسجل لهم بفخر وشجاعة، في هذا الظرف الاستثنائي، رغم الملاحظات وبعض القصائد: صعودها أو هبوطها.. فهذه حالة طبيعية في أغلب مهرجانات العالم. فقد يعلو الغث ويهبط السمين أو قد يعلوان معاً..

    لكن أي غث وأي سمين؟..



    المشكلة أكبر بكثر مما يظن البعض، وممن كتبوا.. أنها منظومة ثقافية هجينة بدأت تزحف على البلد وتفرض أجندتها "الطالبانية" الكريهة والقاتلة.. وتزحف على العقل وتشلّهُ...

    هذه المنظومة السياسية والدينية، بشكل أخص، تضخمت كروشها فجأة بعد سقوط النظام، وازدادت أملاكها ومسلحوها وتنوعت اسلحتها، فسيطروا على الشارع والحياة وحتى على الحكومة، بشكل أو بآخر، حيث لم يتركوا مدرسة أو وزارة أو ساحة أو أو.. إلاّ وملأوها بصورهم وشعاراتهم (معيدين لنا ذكرى تلك الصور الكريهة للقائد المجاهد، بطل التحرير.. والخ، التي خيمت علينا طيلة أكثر من ثلث قرن وسممت حياتنا وهواءنا)

    وطغت المناسابات الدينية على كل شيء، من الدوام الرسمي إلى شؤون الحياة إلى الهواء.. فمن وفاة إمام معصوم، إلى وفاة أبن أو بنت أمام، إلى وفاة وصي أو فقيه، إلى.. إلى...

    والسواد واللطم، سيدا المشهد..

    وبدأوا يتدخلون – بشكل مباشر أو غيره - في مناهج الدرس، وبرامج التلفزيون، وشؤون الثقافة والمجتمع، وسجلات الاقتصاد والنفط.. والخ..

    وانزلْ إلى الشارع تسمع يومياً آلاف القصص التي سيقف عندها أبو الغرائبية ماركيز مذهولاً وقد فاقوا تصوراته بسنوات ضوئية..



    كل هذا، بالاضافة إلى مخلفات النظام المقبور، وسياسة الاحتلال البغيض، اللامبالية بما يحدث، وتداخلات دول الجوار، والوضع الاقتصادي المتردي، ومشاهد الخراب والأزبال المتنائرة في كل مكان، وخواء المكتبات واقفال السينمات والحانات، وقصص الرشاوى والسرقات، والأقتتال الطائفي المستتر، والذبح المجاني اليومي، وقوائم التصفيات، والخ، والخ..

    كل ذلك انعكس بوضوح على الروح واللغة والإبداع (الشعر، الرواية، القصة، التشكيل، المسرح!، السينما!!، الإغنية!!! والخ) .. وهكذا دواليك..



    فبدلت بعض الخطابات عناوينها ومضامينها لتلتحق على عجل بالمشهد اليومي وهو غارق بالزناجيل والسواد أو بدخان المفخخات وأفلام الذبح والكتب السلفية والشعارات الحزبية.. أو راكظاً وراء لقمة لا يهم كيف يحصل عليها.. أو.. أو.. إلى آخر الحكايات التي يلوكها الناس يومياً أكثر مما يلوكون من الخبز....



    المشكلة أو قل الطامة تتعلق بيأس الشارع العراقي من أي تغيير..



    قد يقول قائل: في زمن صدام حدث مثل هذا العنف والخراب. أقول له: وحدث الأكثر والأتعس والـ... لكن هل قدرنا أن لا نرى الحياة الأفضل؟ أن لا ننعم بالأمان والحرية..

    هل قدرنا أن لا نخرج من هذه الطامة..

    هل قدرنا أن نكون أما بيد جيش القدس وفدائيي صدام، أو جيش المهدي والفضيلة وبدر؟

    هل قدرنا: أما صدام، أو الأمريكان..

    أما مقتدى، أو الزرقاوي..

    لماذا هذه الثنائية الحتمية يا إلهي..

    أليس هنالك بديلاً؟ بديلاً واحداً صالحاً للعراق!!



    في أحد الأحياء الشعبية، طالعتني قطعة كبيرة عُلِقتْ على باب أحد البنايات، كُتِبَ عليها: "حسينية باب الحوائج"!.

    قال لي صديق شاعر عانى ما عانى: لقد كانت سابقاً فرقة "أم المعارك"!!..



    حي "القائد" في منطقة القبلة، تحول إلى "حي القائم"!

    مجرد تغيير حرف لا أكثر!!!



    وفي بغداد، بدل أحد الأحياء الشعبية، أسمه ثلاث مرات:

    مدينة الثورة

    مدينة صدام

    مدينة الصدر



    الفرق الساخر بين الزمنين: في الزمن الماضي، لم تكن تستطيع أن تشتم الطاغية ونظامه الدكتاتوري، أو تدين الحرب. قد يكلفك ذلك أكثر من رأسك..

    في الزمن الحاضر، تستطيع أن تشتم الطاغية ونظامه الدكتاتوري، أو تدين الحرب. ولا يكلفك ذلك رأسك.. بل يُصفق لك..

    (تُروى طرفة، انتشرت أيام صدام، أن عراقياً وامريكيا تحدثا عن الديمقراطية في بلديهما. فقال الإمريكي: أنني استطيع أن أقف في الشارع وأشتم الرئيس الامريكي جورش بوش دون أن يحدث لي أي شيء. فأجابه العراقي على الفور: وأنا كذلك، أستطيع شتم الرئيس الامريكي جورج بوش، في بلادي دون أن أتعرض لأي مكروه..!!)

    طرفة رددها الشارع كثيراً في الزمن الماضي، وهو يحلم بحرية حقيقية.. لم يتوقع أن يعيدها – تلك الطرفة - من جديد، في هذا الزمن الجديد..



    نعم يمكنك الآن أن تشتم وتدين وتنتقد الإرهابي والقاتل ورجل الدين والسياسي والحزبي و.. و.. وما تشاء.. لكن شريطة أن تتحدث بلغة العموم، وأن تكتب بلغة العموم، دون أن تسمي أو تشخصّ أحداً..



    - نعم، هناك حرية تستطيع أن تتحدث بها بما تريد.. لكن احذر المواضيع الحساسة!.. لا تمسَّ هذه العمامة ومليشيتها المسلحة!!، أو تمسَّ قائد هذا الحزب وتكشف أعماله واختلاساته وتصفياته!!!..

    هكذا يخبر أو يوصي رئيس التحرير محرره الكاتب في الجريدة..



    - ما هي حدود دائرة المواضيع الحساسة!؟

    إنها تتسع أو تضيق، من مكان إلى مكان، ومن منبر إلى منبر، ومن جريدة إلى جريدة، ومن مزاج إلى مزاج..





    في زمن عدي بن صدام، صدرت ثلاث قوائم تطالب بتصفية الكتاب العراقيين المعادين للنظام..

    في زمن المليشيات الجديدة، صدرت (أو دستْ) قوائم تطالب بتصفية الكتاب العراقيين المؤيدين للنظام..

    قائمة جديدة

    قائمة قديمة

    هكذا – في كلا الحالتين – بلا محكمة.. أو مراجعة أو تدقيق.. أو حتى سؤال..

    ما أسهل التهمة، وما أسهل الذبح..

    والمفارقة الأمرُّ هذه المرة، أن القائمة الجديدة أحتوت على أسماء كانت القائمة القديمة تطالب بتصفيتها!!

    أسماء اتهمت في الزمن الماضي بأنها معادية للنظام، هي الآن متهمة بأنها كانت مؤيدة للنظام!!

    فهل اتحدوا على ذبحنا!!؟





    لكن الفرق الحقيقي، بين الزمنين، والحق يُقال: إنك أصبحت الآن تملك حرية السفر، حرية الهروب! أو الاعتزال!!، فلا أحد يطرق عليك الباب لتلحق بهذه المليشيا أو الحزب، أو يمنعك من مغادرة البلد..

    بالاضافة إلى أمور أخرى كثيرة يعرفها كل من عاش وعانى في سنوات النظام البائد..



    [ يبدو لي كما في السابق أن من لايرقص أو يشارك في أعراس الحزب الفلاني أو الحكومة الفلانية سيصبح بين ليلة وضحاها مشبوهاً ومدسوساً وظلامياً، لا أريد المقارنة هنا بين عهد مضى إلى ما غير رجعة وآخر آت ولكنني لا أستطيع أن اتجاهل مرارة التشابه اللفظي والمعنوي الذي يدفعنا البعض اليه عنوة. - عبد الكريم كاظم - ]..

    و...

    [.."تمر الحمايات وهي تطلق النار من أجل مرور رجل سياسي واحد!

    تمر سيارات الشرطة وهي تطلق النار من أجل التخلص من الإزدحام!

    تمر سيارات الهمر الأمريكية وهي تطلق النار من أجل المرور!

    تمر السيارات السود غير المسجلة في دوائر المرور وهي تطلق النار من أجل (ما أدري شنو)! - وجيه عباس - "]..



    و...

    ["يوم "عادي" في العراق: 45 جثة في الطرقات و30 قتيلاً بتفجيرات" مانشيت لأحد الصحف العربية 8/05/2006]



    و..

    ["لاننا نمتلك النفط

    لابد ان نحترق

    ............

    في احد شوارع بغداد

    سألني عشرة قتلى

    ?لماذا انت حي" - مجاهد ابو الهيل]

    و..

    [..".. وأصيب نحو مئة بانفجار ثلاث سيارات مفخخة فجرها انتحاريون، وفي عبوات ناسفة في بغداد ومناطق متفرقة من العراق. وعثر على اربع جثث في بغداد وخمس في كربلاء، ووقعت ستة تفجيرات في بغداد، بينها تفجيران انتحاريان بسيارتين مفخختين.. وتعرضت ستة مراقد دينية لتفجيرات ليل أول من أمس، طاولت مراقد النبيين فتيان وشنيار، والإمامين عبدالله بن علي الهادي وعلي الجابر، ولدي الإمام علي الهادي (شيعيين) والشيخين احمد السامرائي (ابو حديد) والتميمي (سنيين). وحملت سلطات المحافظة "جماعات تكفيرية"، في مقدمها تنظيم "القاعدة" المسؤولية عن التفجيرات بهدف بث الفتنة بين أبناء المحافظة" - صحيفة "السفير 15/05/2006]

    [.."بغداد ـ رويترز: قال نائب مدير مشرحة بغداد الرئيسية أمس إن المشرحة تتسلم كل يوم ما بين 35 و50 جثة غالبيتها بها طلقات رصاص وان أصحابها هم على الأرجح ضحايا عمليات قتل طائفية.. وشاعت عمليات القاء جثث مكبلة الأيدي وبها اثار تعذيب في الشوارع. وقال الطبيب قيس حسان ان المشرحة تسلمت 1068 جثة في يناير (كانون الثاني) و1110 في فبراير (شباط) و1294 في مارس (آذار) و1115 في ابريل (نيسان). وصرح بأن 90 في المائة من الضحايا قتلوا بالرصاص" – صحيفة الشرق الأوسط 5/5/2006]..

    و...



    ["..حكومات خراف

    صفويون براياتٍ سود

    وإنكشاريون بطرابيش عثمانية

    الإنكليز بمدافعهم

    ومقابرهم أيضاً

    بيانات العقداء

    والتي تبدأ دائماً

    بالرقم واحد

    عجلات الكاز 66

    طائرات الأباتشي

    وفتاوى التفخيخ.." – كريم جخيور]





    و.. ["ونسبت وكالة رويترز الى المتحدث باسم الوزارة ستار نوروز، قوله نزحت آلاف الأسر عن ديارها للهروب من العنف المستمر. ووفقا لأحدث تقرير صدر عن الوزارة، فان قرابة 15 ألف أسرة نزحت عن ديارها. واظهر التقرير أن قرابة 7680 أسرة انتقلت الى محافظات شيعية في جنوب العراق، وان 3200 اسرة انتقلت الى محافظات سنية مثل الأنبار في الغرب وصلاح الدين في الوسط" – صحيفة الشرق الأوسط 8/5/2006 ]..





    [.. "لا يشع حزني

    إلا وفي كدماته غناء

    يا أين الإعشاب المرة

    نحنُ في البدايات دائماً

    فمن أين تأتي الكلمات المشعةّ؟" – عادل مردان]



    أنظرُ إلى الإرهاب الخفي الذي يعم الشارع...

    تصور أن أحد اصدقائي يعمل في صحيفة خارج العراق، وآخر في قناة تلفزيزنية، وآخر وآخر.. لا يعلنون عن ذلك حتى لأصدقائهم خوفاً من تسرب الخبر، فيحصل ما لا يحمد عقباه..



    وأسألُ عن "مروان" أبن صديقنا الشاعر المبدع والوديع خزعل الماجدي "صانع الجماليات" كما يصفه د. الفواز.

    "مروان" الإعلامي الصغير وزميلته الإعلامية اللذان اختطفهما الظلاميون ، أثناء عملهما وفي وضح النهار!! ولم يُطلق سراحمها أو تُعرف أخبارهما حتى هذه الساعة..

    وأسمعُ عن بشاعة خطف الصديقة المذيعة والشاعرة أطوار بهجت، أثناء عملها، وذبحها من الوريد إلى الوريد..

    وأسمعُ عن اغتيال صديقي النبيل الكاتب عباس كاظم مراد، الذي قاده عمله في "لجنة النزاهة" إلى الكشف عن بعض السرقات في إحدى الوزارات، فأردوه قتيلاً..



    [.."كاميرا الهاتف المحمول، التي التقطت مشاهد ذبح وتعذيب الصحافية العراقية أطوار بهجت، والتي عرضت "صنداي تايمز" مؤخراً تفاصيلها المريعة. والرجل الذي يحملها يصرخ "الله أكبر"، أعلى من صراخ الفتاة التي تذبح أمام العدسة الصغيرة. الله أكبر على من؟

    لا أفهم أن نتجاوز فظاعة الحدث نفسه، وعذابات ضحيته، لنركّب المعادلات، ونستخرج الحجج التي تخدم خطابنا السياسي، فتصبح الجريمة شاهداً حاسماً بالنسبة إلى بعضنا على فظاعة الاحتلال الأميركي والفوضى التي أنشأها في العراق، وتصبح بالنسبة إلى بعض آخر شهادة على فظاعة الإرهاب وصوابية الحرب الأميركية ضده. وننسى في غمرة ذلك كله أن هناك من عاش حقاً تلك اللحظات، وربما الساعات، المروعة، هناك حقاً من رأى المثقاب يخترق جسده، ومن عاش لحظة جزّ رأسه لحظة بلحظة. لقد قادنا الإعلام الفضائي العربي الموجّه بامتياز إلى التسليم بهذه المعادلة من دون نقاش.." - سامر أبو هواش/ بيروت – موقع "كيكا" ]



    ["نعد على الأصابع قتلانا،

    نعد أفراحنا المؤجلة بالحصى،

    هكذا..

    نبرعم تاريخا..

    ونحن راحلون.." - الشاعر الشهيد أحمد ادم –

    الذي أُعتيل بوحشية مع زميله الكاتب الصحفي نجم عبد خضير على يد العصابات الطائفية، في منطقة اللطيفية، مع ، على يد 15/5/2005]..



    كم وصل عدد المذبوحين والمختطفين من الصحفيين والكتاب في العراق؟

    مئة، أو أكثر!



    إنك لا ترى قيوداً او منعاً أو ممنوعات..

    إنك لا ترى حرباً ظاهرة ولا دكتاتورية علنية..

    لكنك تحسها وتعيشها في كل لحظة..!





    هذا المشهد العام، في البصرة ومدن العراق كلها (أتحث عن العام، الأعم، مستثنياً الانفرادات النظيفة والجميلة والمبدعة والشجاعة، ومنتشياً بها..) أخذ يزحف بشكل مخيف، فغرق به الكثيرون أو أُغرقوا.. وانتبه له البعض، فحصن نفسه ونصه، أو هرب.. أو اعتزل..





    ["أما الجبل الذي آليت

    ألاّ تبارحه حياًّّ

    تدفّق الأعداء إلى قمته

    وأنزلوا من ثلوجه رايتك الصابرة" – طالب عبد العزيز -]



    في أخريات الليل، بعد ساعات منع التجوال، كنا نجلس في صالة الفندق نقرأ لبعضنا البعض نصوصنا، ونسترجع نصوص الآخرين، فيتجمهر حولنا بعض الأدباء ونزلاء الفندق، فلم أجد إلا ذائقة عالية، وتعطشاً حقيقياً للحرية وللجديد في الثقافة والعالم.. ومثل ذلك تلمسته في جلسات اتحاد الأدباء، والمقهى، وفي شرائح عديدة من المجتمع..

    ليس الخلل في العقل الثقافي العراقي، أنا متأكد من ذلك، هذا العقل الذي لم يستطع النظام بكل جبروته من سحقه أو تغييره، وأنما الخلل في تلك المنظومات السياسية البائسة وبعض المنظومات الدينية الهجينة بطوائفها المتصارعة والمتطرفة التي انتجت هذه المليشات وهذا المناخ..



    لكن أي قصيدة، تقول الذي يجب أن يقال، في هذا المربد، وفي هذا الوضع الدخاني الملتبس..؟

    إن الأمر ليغدو انتحاراً!..



    [.. عن إبراهيم بن فاتك قال: لما أتي بالحسين بن منصور ليصلب رأى الخشبة والمسامير فضحك حتى دمعت عيناه. ثم التفت الى القوم فرأى الشبلي فيما بينهم ، فقال له: يا أبا بكر هل معك سجادتك. فقال: بلى يا شيخ. قال "افرشها لي. ففرشها فصلى الحسين بن منصور عليها ركعتين وكنت قريباً منه... و من بين ما قال: هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك. فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليتُ بما ابتليت. - من كتاب "أخبار الحلاج" - ]





    جلستُ قرب تمثال السياب، يائساً أو شبه يائس.. وأنا أحدّق في أمواج شط العرب الذي كانت تنساب بعذوبة ولحن، كأنها غير عابئة بما يجري، لتؤكد أن الحياة تستمر وستستمر رغم شيء..



    مشهدٌ حدث في صباح اليوم الثاني للمهرجان، أعاد لي عافيتي.. وفرحي.. وقل: أملي.

    كيف حدث ذلك...

    أعتلى مسؤول في وزارة الثقافة منصة المهرجان منتقداً بعض ما كُتب عن وزيره الحميد في الصحافة، ثم عدد خصال الوزير الحميدة، ومنها "المكرمة" الجديدة التي خصصها للأدباء العراقيين. ثم أضاف مخاطباً الحاضرين: إن الكثيرين منكم عندما يرى الدنانير سوف تتغير كتاباته ومواقفه.

    وهنا نهض الأدباء - وكنتُ بينهم – بشجاعة واستنكار، وطالبوه بالإعتذار، أو الخروج من القاعة، وإلا فأنهم سيغادرون المهرجان.

    وعبثاً حاول رئيس الاتحاد العام للأدباء الناقد فاضل ثامر، وبعده وكيل الوزارة الشاعر جابر الجابري "مدين الموسوي"، من تخفيف الموقف، لكن الأدباء ظلوا على اصرارهم وتجمهرهم وتضامنهم..

    (لو حدث هذا في زمن صدام لكان نصف المتجمهرين إن لم أقل أغلبهم في عداد الموتى..)..



    فصعد المسؤول واعتذر.



    هذا المشهد الخلاّب سحرني، بكل ما فيه،... وأحسست لأول مرة في حياتي أن هناك جواً حضارياً صحيحاً رغم مشهد الخراب العام. مشهداً ديمقراطياً واعياً لا يختلف إلا ببعض التفاصيل عما أراه في السويد أو بريطانيا، وهو ما نفتقده – للأسف - في الكثير من أوطاننا العربية مثلما افتقدناه في وطننا طويلاً...



    قراءتي كانت في الجلسة المسائية، من ذلك اليوم العجائبي..

    وقفتُ أمام المنصة، وانطلقتُ أقرأ في القاعة المحتشدة بشعراء العراق التي كانت وجوههم تتخاطف أمامي مثل فلاشات الكاميرات، أو كالنجوم المحلقة في تلك الليلة البصرية..

    قرأت بفرح وحماس لم أتعودهما، وسط تصفيق يتعالى بعد كل مقطع زادني خجلاً وحماساً وارباكاً معاً:



    [ أصعدني الحلاجُ إلى أعلى تلٍّ في بغداد

    وأراني كلَّ مآذنها ومعابدها

    وكنائسها ذات الأجراسْ

    وأشار إلي:

    - أحصِ...

    كم دعوات حرّى

    تتصاعد يومياً من أنفاسِ الناسْ

    لكن لا أحداً

    حاولَ أن يصعدَ

    في معناهُ إلى رؤياهُ

    ليريهِ..

    ما عاثَ طغاةُ الأرضِ

    وما اشتطَّ الفقهاءُ

    وما فعلَ الحراسْ

    *

    خلفاءٌ أربعةٌ

    تركوا التاريخ

    وراءَهمُ

    مفتوحَ الفمْ

    وبقينا، للآن، ننشّفُ عنهم

    بقعَ الدمْ

    عجبي..

    كيف لنصٍّ

    أن يُشغلَ بامرأةٍ تحملُ أحطاباً

    ويغضَّ الطرفَ

    لمَنْ سيؤولُ

    الحكمْ

    *

    ربي واحدْ

    لا سنياً، لا شيعياً

    لا كاثوليكياً، لا بروستانتياً

    مَنْ جزّأهُ

    مَنْ أوّلهُ

    مَنْ قوّلهُ

    مَن صنّفهُ

    وفقَ مذاهبهِ، ومطالبه

    ودساتره، وعساكره

    فهو الجاحدْ

    *

    مَنْ ينقذني من بلواي

    ما في الجبةِ إلاّهُ

    وما في الجبةِ إلاّيْ

    وأنا الواحدُ

    وهو الواحدُ

    كيفَ اتحدا

    كيف انفصلا

    في لحظةِ سكرِ

    بين شكوكي فيهِ

    وتقواي

    *

    لا ناقوسَ

    ولا مئذنةٌ

    - يا عبدُ -

    لماذا لا تسمع ربَكَ

    في الناي

    *

    آياتٌ

    نسختْ

    آياتْ

    وتريدُ لرأسِكَ أن يبقى

    جلموداً

    لا يتغيرُ والسنواتْ

    *

    يا هذا الفانْ

    ولتنظرْ

    كيف تحاورََ ربُّكَ والشيطانْ

    أكثيرٌ أن تتعلمَ

    كيف تحاورُ انسانْ

    *

    لم ترَ ربَكَ

    إلا بالنصلِ وبالدمْ

    وأنا أبصرهُ

    في الكلْمةِ،في النغمةِ

    في زرقةِ عينيها،

    واليمْ

    *

    على رصيفِ شارعِ الحمراء

    يعبرُ رجلُ الدين بمسبحتِهِ الطويلةِ

    يعبرُ الصعلوكُ بأحلامِهِ الحافيةِ

    يعبرُ السياسي مفخّخاً برأسِ المال

    يعبرُ المثقف ضائعاً

    بين ساهو وحي السلّم

    الكلُ يمرُّ مسرعاً ولا يلتفتُ

    للمتسولِ الأعمى

    وحدهُ المطرُ ينقّطُ على راحتِهِ الممدودةِ

    باتجاهِ الله...

    *

    قال أبي:

    لا تقصصْ رؤياكَ على أحدٍ

    فالشارعُ ملغومٌ بالآذانْ

    كلُّ أذنٍ

    يربطها سلكٌ سرّيٌ بالأخرى

    حتى تصلَ السلطانْ

    *

    أطرقُ باباً

    أفتحهُ

    لا أبصر إلا نفسي باباً

    أفتحهُ

    أدخلُ

    لا شيء سوى بابٍ آخر

    يا ربي

    كمْ باباً يفصلني عني

    *

    في وطني

    يجمعني الخوفُ ويقسمني:

    رجلاً يكتبُ

    والآخرَ - خلفَ ستائرِ نافذتي -

    يرقبني

    *

    العراقُ الذي يبتعدْ

    كلما اتسعتْ في المنافي خطاهْ

    والعراقُ الذي يتئدْ

    كلما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ..

    قلتُ: آهْ

    والعراقُ الذي يرتعدْ

    كلما مرَّ ظلٌّ

    تخيلّتُ فوّهةً تترصدني،

    أو متاهْ

    والعراقُ الذي نفتقدْ

    نصفُ تاريخه أغانٍ وكحلٌ..

    ونصفٌ طغاهْ ]

    والخ...



    نزلتُ من المنصة بعد أن انتهيت من قراءتي، متجهاً إلى مقعدي المعتاد في آخر القاعة. لكنني حسبتُ المسافة أطول من أن أصلها وسط تحيات الأصدقاء ومصافحاتهم.. فهرعت إلى أقرب كرسي فارغ.. وجدته..

    جاء بعض الأصدقاء وجلس قربي: د. أثير محمد شهاب، محي الدين الجابري و.. و..

    بعد دقائق، وبينما كنت مسترخياً، أتابع الشاعرة رسمية زاير محيبس التي كانت قراءتها بعدي، تقدم مني أحدهم محتدماً بوجه كالح مصفر، من تلك المليشيات الظلامية المسلحة.. وقف قبالتي بوقاحة وصلف، هامساً في البدء، وعندما لم أسمعه جيداً.. لم يتوان من أن يعيد كلامه بصوت أعلى، على مسمع ومرأى الجالسين، ليبلغني برسالة الموت، لأنني أسأت للدين، مهدداً أياي بقطع لساني! وتصفيتي ليجعلونني درساً..

    أردتُ – يا لسذاجتي – أن أخرج معه بعيداً عن جو القاعة، لأحاوره وأناقشه بهدوء، وأقول له أن نصوص الحلاج والبسطامي والمعري وتراثنا العربي عاج بأجرأ مما قلت، وأنني لم أسيءْ للدين كما تتوهم.. و... و..



    [.. في "قصائد مشاكسة" يعيد عدنان الصائغ تقليدا في القصيدة الحديثة هو الكلام بدون كلفة مع الله. بدون كلفة وأحيانا بلوم، فالقصة هنا في مرجعها الصوفي تغدو شخصية الى حد ما، واذا تمثل الشاعر التجربة الصوفية فثمة مقامات لهذه العلاقة لا تخطر لرجل الدين، لكنها تخطر للمتأثر بالعرفان الصوفي كالخميني. وفي أشعاره التي قرأنا ترجماتها، قصائد لو قرأها الحارس الذي أنذر عدنان الصائغ لما رأى فيها سوى تجديف..(...).. شعر له مراجعه وله أساليبه وطرائفه. وليس رجل الدين الذي أنذر عدنان الصائغ مخولا بقراءته. هو في الأرجح لم يواكبه ولا عرف أصله وفصله، ولربما يستغربه او يشكك فيه من أي وجه أتى، ولربما يجد فيه اعتداء على اللغة وعلى التراث. ويخشى منه على الدين وعلى الكتاب..(...).. إن سلفية كهذه اذا أتيح لها ان تتحكم بالثقافة والأدب والفن فعليها جميعا السلام. لن يقبل واحد كهذا لا قصائد عدنان الصائغ فحسب ولكن روايات محمد خضير ولوحات جواد سليم..(...).. ثم يحصل أن يُعرض تراث خمسين عاما من فن وأدب على رجل كهذا فلا يبالي بأن يلقي به مرة واحدة من النافذة، ولو استطاع لعلق أصحابه من أقدامهم..." - عباس بيضون – صجيفة "السفير" اللبنانية 10/5/2006]..





    غير أن الأصدقاء الذين خبروا تهديداتهم جيداً، تشبثوا بي، وهرع بعضهم هنا وهناك مستنجداً بالمسؤولين عن المهرجان الذين لم يتوانوا عن الاسراع والإحاطة بي وتهدئتي، أنا الذي كنتُ هادئاً أكثر من أي وقت مضى، هدوءً بارداً بارداً، أشبه بالذهول أو بالموت، وسط خبيصة البعض، وصمت البعض، وفزع البعض، واحتجاج البعض، وترقب البعض...



    [.. ".. وتقولين أتدري سأتزوج. ليكن. تزوجي. لا بأس. سأحتمل. انظري إليَّ كم أنا هاديء، هاديء كنبض رجل ميت".

    - مايكوفسكي، من قصيدته "ليلي" التي أحبها، وذكرها في وصيته ،قبل موته منتحراً برصاصة مسدس 1930 -]



    تركتُ للأقدار أن تقودني.. أنا الشاعر الأعزل، الغريب عن وطنه مرتين.. أحد الأصدقاء البصريين الرائعين، جرني إلى سيارة مدججة بالحرس والبنادق، بعد اتصاله بقائد عسكري كبير، وأحاطني وصديق ناقد من بغداد.. واتجها بي إلى جهة لم أسألهما عنها.. فقد سلمتُ زمامي لهم، هم الذين عرفوا جيداً تهديدات فرق الموت نتيجة بقائهم في هذه الوطن أكثر مني....

    تراكضت الأفكار والمواقف والمشاهد والهواجس وتذكرتُ عائلتي وأصدقائي ومخطوطتي التي لم أنتهِ منها بعد..

    بت ليلتي الرهيبة تلك، مع صديقي الشاعر البصري، بحماية هذا القائد الشجاع، الذي كان أحد قواد انتفاضة آذار 1991..

    في الصباح، عندما استيقظنا كان ثمة مطر وغبار، عالقين بالأرض وبحذائينا اللذين تركناهما عند الباب..



    غادرت المهرجان تاركاً وداعات أصدقاء كثر استقبلوني بحفاوة وعناق ودموع.. لكن للأسف لم يمهلني القتلة فرصة الاستمرار في سماعهم أو - في الأقل - وداعهم.. أو حضور تكريم صديقي الشاعر المبدع عبد الكريم كاصد، شخصية المربد المحتفى بها لهذا العام، والذي حملتنا الرحلة إلى هنا معاً..

    لم أشأ أن أبقى، خشية أن أفزع في غسق العيون خبر مقتلي أو قطع لساني..

    فانسللت في صباح اليوم الثالث من المهرجان، اليوم السادس من وصولي البصرة، عائداً إلى منفاي البعيد، قاطعاً آلاف الأميال والحسرات..





    لكن الخبر انتشر بسرعة لم أتوقعها..

    طالعتني به صحيفة "الحياة" اللبنانية 18/4، على صفحتها الأولى، وأنا أقف أمام واجهة أحد المكتبات، في الكويت، أقرأ تفاصيل ما حدث مستسلماً لبرودي وذهولي الذي لم يغادراني بعد، وكأنني أقرأ ما جرى لأحد غيري، غير مصدق نجاتي..

    لم يكن خوفاً وفزعاً، أنا الذي "خرجتُ من الحرب سهواً".. وعشتُ الموت عن قرب أكثر من مرة..

    وانما كان ذهولاً عميقاً، بعمق لغز الموت والحياة نفسيهما....



    اتصلتُ بصديق شاعر شفيف جاء ومعه أحد الصحفيين، رجوتهما أن لا يخبرا أحداً فلي في الكويت أصدقاء كثر، لم أشأ أن أقلقهم بشأني..

    قضينا قسطاً كبيراً من العصر في أحد المقاهي وفي الشوارع نتسكع بلا هدى.. وفي الليل جلسنا القرقصاء على البحر استرجع ما مرّ لي.. كأني أقرأ في الأمواج حسرات السياب قبلي على بلده..

    "ما مرَّ يوم والعراق ليس فيه جوع"

    هل أقول:

    ما مرَّ يوم والعراق ليس فيه حرب

    والعراق ليس فيه موت

    ليس فيه سحل

    خوف

    ف



    وصلت لندن ومطرت علي الإتصالات والأصدقاء وبعض الاذاعات والقنوات والمواقع والصحف.... لم أكن أريد للأمر أن يأخذ مساحة أكبر..

    غير أنه حدث..





    عينان تسرحان بي أمام نافذة غرفتي المطلة على حديقة Royal Crescent في لندن، التي وصلتها ولساني، سالمين – والحمد لله - مستعيداً شريط عمري وقصائدي وخساراتي:

    صبياً يتيماً، وبائع سجائر وعامل طابوق، وجندياً على سواتر الموت، ومصححاً ثم صحفياً في مجلة "حراس الوطن" ومحرراً في "الطليعة الأدبية"، وشاعراً في ملتقى السياب أقرأ قصيدتي "الجنوب" فيغضب منها رئيس اتحاد الأدباء عبد الأمير معلة، فأتركها ومخاوفي يتهاديان على أمواج شط العرب، ورئيساً لمنتدى الأدباء الشباب ومجلته "أسفار" لعددين، لأستقيل منهما بعد عامين، وهارباً من الوطن بسبب مسرحيتي "الذي ظل في هذيانه يقظاً"، ومنفياً أعود إلى الوطن بعد أكثر من عقد ضيفاً على مهرجان المربد، ومُهَدَّداً أعود إلى المنفى هارباً بلساني من القطع بسبب قصيدة قرأتها..



    أنحني على طاولتي، معدلاً بعض الأوراق والكتب التي أمامي..

    أتذكر قصيدة لي قرأتها في أحد مرابد الثمانينات، وسط الطبول، عُدتْ أقصر قصيدة في تاريخه:



    [ دخلَ الشعراءُ الـ"......." إلى القاعةِ

    واكتظَّ الحفلُ

    لكنَّ الشعرَ،... غريباً

    ظلَّ أمامَ البابْ

    بملابسهِ الرثَّةِ

    يمنعهُ البوابْ]



    وأتذكر المقطع الذي ختمت به قصيدتي، في هذا المربد:



    [يـملونني سطوراً

    ويبوبونني فصولاً

    ثم يفهرسونني

    ويطبعونني كاملاً

    ويوزعونني على المكتباتِ

    ويشتمونني في الجرائدِ

    وأنا

    لمْ

    أفتحْ

    فمي

    بعد]





    ساخراً من كل شيء!، وباكياً على كل شيء!..



    ["يســتطيعون أن ينزعوا عني الحيــاة، لكن لـن يطـفئوا غنـائي" – أراغون]



    الكثيرون كتبوا عما حدث، بموضوعية أو بدونها، تضخيماً أو تسفيهاً، ضد أو مع. ما يهمني هنا، ليس هذا، ليس الرد على الردود ومناقشتها.. بقدر ما يهمني توضيح بعض الحقائق من خلال ما رأيتُ وعشتُ..



    ما أتحدث به أبعد من المربد، أو الاتحاد، أو ما حدث لي. أبعد من هذا المسؤول في الوزارة أو هذا الموظف أو ذاك..

    لا أتحدث عن هذا المسكين الذي أرسلوه لتهديد شاعر بقطع لسانه.. ربما لا يفهم أو يعرف معنى الشعر، أنه تماماً كهؤلاء الانتحاريين المخدرين الذين يوجهونهم كالرابوتات إلى هذا التجمع أو العرس أو المأتم أو المدرسة أو السوق، ليفجروا أنفسهم، وقد حشّوا دماغه بأنه يفجر ويقتل أعداء الإسلام والأمة والوطن.. وأن أسراباً من الحور العين والغلمان والخمور في انتظاره..



    لذلك لم اهتم به أو أطالب بمسكه والقصاص منه، فعندما يُمسك أو يقتل، سيأتون بآخر.. المسألة هي أكبر بكثير. هي في الوقوف والتصدي بقوة ووعي ومسؤولية لهذه المنظومة المنتجة والحاضنة لكل هذا الارهاب والخراب واللطم والتفخيخ، أينما وجدت وأياً كان أسمها أو شعارها..



    أعرف أن هذه السطور الصريحة ستكلفني الكثير. وأنهم سيكلفون بعض المرتزقة والعاطلين لشتمي تماماً كما فعل النظام المقبور.. لكن هذه الكلمة لا بد أن أقولها رغم ما ستكلفني... شاكراً وممتناً لمن ساندني بالكلمة أو بالموقف.. وغافراً لمن شتمني ولمن سيشتمني..

    نعم.. سأغفر له، كعادتي..

    لكن هل سيغفر تاريخ الكلمة، لمن وقف إلى جانب القتلة، أو تستر على الجريمة..





    19/5/2006 لندن



    * * *



    [email protected]



    www.adnan.just.nu

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2004
    المشاركات
    1,139

    افتراضي

    هل أن هذا ما يجري في العراق الآن ؟ و في البصرة بوجه التحديد؟

    أتمنى ان أقرأ ممن في البصرة ؟

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني