------------------------------------
حول أركان الاعتقاد المبتدعة (2 )*

لقد كتب مشايخ الطائفة الشيعية من القدم وحتى يومنا الحاضر في أُصول العقيدة وأساس الاعتقاد عند الشيعة ولم يذكر أحدٌ منهم أنّ الإيمان بمسائل تاريخية معيّنة مهما بلغت أهميتها يعتبر جزء من العقيدة أو الأُصول ، بل لم يوجبوا حتى معرفة السيرة النبوية الشريفة ـ رغم أهميتها ـ فإن عدم الإحاطة بها لا يضرّ المسلم مع اعتقاده الثابت بنبوة سيِّدنا محمد (ص) وخاتميته للرسالات .

فهذا أبان بن تغلب وهو من أعاظم أصحاب الأئمة : السجاد والباقر والصادق (ع) ومفخرة الشيعة في زمانه يعرّف الشيعة لأحد أصحابه فيقول : «يا أبا البلاد ! أتدري ما الشيعة ؟ الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله (ص) أخذو بقول علي (ع) وإذا اختلف الناس عن علي (ع) أخذوا بقول جعفر ابن محمد (ع) » (انظر : رجال النجاشي / ترجمة أبان) .

ومحور التشيع هو القول بوجوب نصب الإمام ـ كما قال الشهرستاني ـ وقال علم الطائفة الشيخ المفيد : «فأما السمة للمذهب بالإمامة ووصف الفريق من الشيعة بالإمامية فهو علم على مَن دان بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان وأوجب النص الجلي والعصمة والكمال لكل إمام ثمّ حصر الإمامة في ولد الحسين بن علي وساقها إلى الرضا علي بن موسى (ع) » (انظر : أوائل المقالات) .

ولا يوجد في كتاب الاعتقادات لشيخ الطائفة الصدوق ، ولا في تعليقات تلميذه المفيد عليها ولا في كتب العقائد الأخرى أيّة إشارة إلى أنّ التصديق بالحوادث التاريخية جزء من الاعتقاد ، وأن مَن عدل عنها أو توقف فيها خرج من الملّة والطائفة وكان ضالاً مضلاً .

علماً بأنّ الشيخ المفيد نفسه تردد في قبول بعض المسائل التاريخية الشائعة عند الشيعة كقضية شهادة جميع الأئمة أو مسألة وجود المحسن وشهادته ، فنسب القول بذلك إلى بعض الشيعة فراجع كتابه : الإرشاد كما نجد غيره كثيرون اختلفوا في مسائل تاريخية كثيرة ، ولم يقدح أحد بذلك في إيمانهم كما لم يجرح أحد في عقيدتهم ، وتأمل .

هذا الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وهو من كبار مراجع الطائفة في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) يصرِّح بأن أهم ما امتازت به الشيعة عن سائر فرق المسلمين هو القول بإمامة الأئمة الإثنى عشر به سميت هذه «الطائفة إمامية» وأضاف : «وهو فرق جوهري أصلي وما عداه من الفروق فرعية عرضية كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعي وغيرها» .

وعدّ أُصول الشيعة ، ولم يذكر ما عدّه الشيخ التبريزي أصلاً ، بل المعلوم أ نّه كان متوقفاً في مسألة كسر الضلع ولا يتقبّل صحّة ما يوصف من الوصف الذي يعتقده الشيخ التبريزي وأضرابه .

وكذلك نجد الشيخ المظفر في عقائد الإمامية فإنّه مع استغراقه في البحث وتفصيله في المسائل الفرعية لم يذكر التصديق بوقائع التاريخ وما جرى كجزء من العقائد أو وجوب الاعتقاد والتصديق بها .

وبالتالي فإن عدّ مسألة كسر ضلع الزهراء من أركان الإيمان بالولاية ومن أسس الاعتقاد عند الشيعة ـ كما ذهب إلى ذلك التبريزي ومَن يذهب مذهبه ـ أمرٌ مبتدع لم يأت به سوى الشيخ التبريزي ، ولم يقل به أحد من زعماء الشيعة وعلمائهم .

المسألة الأُخرى : هي أنّ المراجع لكتب الإمامية في العقائد يجد أنّ الاختلاف في المسائل التفصيلية بين شيوخ الطائفة وأعلامها أمراً عادياً ، فهم يختلفون فيما بينهم ، وكل ينتقد رأي الآخر ويقيم الدليل على رأيه دون أن يطعن فيه أو يغمز في دينه ومعتقده ، مع أن اختلافاتهم كانت في مسائل أساسية وهامة وليست اختلافات بسيطة ، أمّا طريقة التكفير والاتهام بالضلال فلم تكن هي منهج مراجع الشيعة المحققين أو أعلامهم وعلمائهم الربّانيين ، ولذا كان من المستغرب بمكان أن نجد بروز هذا المنهج عند الشيخ التبريزي وبعض معاصريه خلافاً لطريقة السلف الصالح من المراجع والعلماء .

فهذا زعيم الطائفة الشيخ المفيد يكتب نقداً تحت عنوان تجريد الاعتقاد ، ينقد فيه كتاب أستاذه الشيخ الصدوق وهو أحد مشايخ الطائفة ومؤلف أحد كتبها الأربعة ، ينتقد فيه مباني أستاذه وينقحها وكثيراً ما نجده يختلف مع أستاذه ، مع ترضّيه وترحّمه عليه كلما ذكره .

والمتصفح لكتاب الشيخ المفيد يجد اختلافه مع أستاذه في الرأي في معظم مسائل الكتاب ، فكثيراً ما يختلف معه في التفصيل والتأويل ، وقد يختلف معه في أصل المسألة ، والاختلاف في العلم مسألة طبيعية تنتج عن تطور العلم ونموه وظهور اجتهادات فكرية جديدة وعن الاختلاف في المسائل الدينية لاختلافهم في مستندهم من قبول حديث أو ردّه ، تصحيحاً له أو تضعيفاً لرجاله ، فمن نماذج ذلك ما ذكره الشيخ المفيد من فصل خلق أفعال العباد ، قال : قال الشيخ أبو جعفر (ره) : أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين ، ومعنى ذلك أ نّه لم يزل عالماً بمقاديرها .

قال الشيخ أبو عبدالله (ره) : «الصحيح عن آل محمد (ص) : إن أفعال العباد مخلوقة لله . والذي ذكره أبو جعفر قد جاء به حديث غير معمول به ولا مرضي الإسناد ، والأخبار الصحيحة بخلافه ... وكتاب الله تعالى مقدّم على الأحاديث والروايات وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها ، فما قضى به فهو الحق دون ما سواه ... » .

وفي فصل (المشيئة والإرادة) ذكر المفيد رأي الصدوق ثم عقّب عليه منتقداً منهجه بشدّة : «الذي ذكره الشيخ أبو جعفر (ره) في هذا الباب لا يتحصل ومعانيه تختلف وتتناقض ، والسبب في ذلك : انّه عمل على ظواهر الأحاديث المختلفة ولم يكن ممّن يرى النظر فيميز بين الحق منها والباطل ويعمل على ما يوجب الحجة ، ومَن عوّل في مذهبه على الأقاويل المختلفة وتقليد الرواة كانت حاله في الضعف ما وصفناه ... » .

والواقع أنّ الاختلاف الذي وصفه الشيخ المفيد بين منهجه في الرجوع إلى القرآن ومحاكمة الروايات ، والمنهج الذي ينتقده من اتباع الروايات دون نظر فحص وتحقيق لا زال اليوم قائماً ، وإليه ترجع الكثير من موارد الاختلاف ، فالبعض يتمسك برواية أو روايتين ويجعلها فيصلاً في معتقده وأحكامه ، وآخرين يذهبون إلى ضرورة عرض الروايات على القرآن ـ عملاً بدستور النبي (ص) والأئمة (ع) ـ ويعملون على تمحيص الروايات عقلياً ونقلياً للوصول إلى ما تطمئن إليه النفس وتثق بصدوره عن المعصوم (ع) .

ويستمر جدل المفيد مع أستاذه ، فهو في باب القضاء والقدر نقل قول أستاذه : «والكلام في القدر منهي عنه» ، ثمّ قال : «عمل أبو جعفر في هذا الباب على أحاديث شواذ لها وجوه يعرفها العلماء متى صحت وثبت إسنادها ولم يقل فيه قولاً محصلاً» .

وقال في فصل (معنى الاستطاعة) : الذي رواه أبو جعفر عن أبي الحسن موسى (ع) في الاستطاعة حديث شاذ .

وقد تزداد حدة النقد وشدّته في الرأي إلاّ أنّها في نفس الوقت تتلطف في طلب الرحمة لصاحبه والاعتذار له ، ففي فصل (في النفوس والأرواح) بعد أن بيّن الشيخ المفيد آراء الصدوق في معاني الروح ، انتقد أستاذه وشيخه في عدّة مواطن ، ثمّ عقب في وصف الرأي الذي جاء في البحث بأ نّه : «ما لا يذهب إليه عاقل وما كان ينبغي لمن لا معرفة له بحقائق الأُمور أن يتكلم فيها على خبط عشواءه والذي صرّح به أبو جعفر (ره) في معنى الروح والنفس هو قول التناسخية بعينه من غير أن يعلم أ نّه قولهم فالجناية بذلك على نفسه وعلى غيره عظيمة ..

فأمّا ما ذكره من أنّ الأنفس باقية فعبارة مذمومة ولفظ يضاد ألفاظ القرآن ، قال الله تعالى : (كل مَن عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام ) (الرّحمن / 26 ـ 27) والذي حكاه وتوهمه هو مذهب كثير من الفلاسفة الملحدين الذين زعموا أنّ النفس لا يلحقها الكون والفساد وإنّها باقية .. » .

ولا نريد هنا ترجيح رأي دون آخر ، ولكن بيان مدى حرّية النقد العلمي وتضارب الآراء دون أن يؤدي ذلك إلى سوء الظن بالقائلين وتوجيه التهم إليهم .

ولا يعني هذا أيضاً أ نّهما يختلفان في كل شيء ، فكثيراً ما يتطرق المفيد إلى آراء أستاذه متناولاً إيّاها بالشرح والتفصيل دون الرد ، ومثاله كثير في أبواب مختلفة كأبواب (الموت) ، (المسائلة في القبر) و (العدل) وغيرها .

ويستمر الجدل بين الشيخين إلى مسائل خاصة بالتشيع ، ففي فصل (في الغلو والتفويض) عقب المفيد على موضوع شهادة الأئمة (ع) بالقتل أو السم بقوله : «فصل : فأمّا ذكره أبو جعفر من مضي نبينا والأئمة (ع) بالسم والقتل ، فمنه ما ثبت ومنه ما لم يثبت . والمقطوع أن أمير المؤمنين والحسن والحسين (ع) خرجوا من الدنيا بالقتل ، ولم يمت أحدهم حتف أنفه .

وممّن مضى بعدهم مسموماً موسى بن جعفر (ع) ويقوى في النفس أمر الرضا (ع) وإن كان فيه شك فلا طريق إلى الحكم فيمن عداهم بأ نّهم سمّوا أو اغتيلوا أو قتلوا صبراً . فالخبر بذلك يجري مجرى الإرجاف وليس إلى تيقنه سبيل» .

قال المصحح في الهامش : أرجف : خاض في الأخبار السيِّئة والفتنة قصد أن يهيّج الناس ـ انظر مجمع البحرين .

وفي باب التقية ، ينتقد الشيخ المفيد طريقة أصحاب الحديث في قبول الأخبار دون التأمل فيها ، مما قد يوقعهم في التناقض والاشتباه ، فقالب: «ولو وضع القول في التقية موضعه وقيد من لفظه فيه ما أطلقه ، لسَلُمَ من المناقضة وتبيّن للمسترشدين حقيقة الأمر فيها ، ولم يرتج عليهم بابها ، ويشكل بما ورد فيها معناها ، لكنه على مذهب أصحاب الحديث في العمل على ظواهر الألفاظ ، والعدول عن طرق الاعتبار ، وهذا رأي يضرّ صاحبه في دينه ويمنعه المقام عليه من الاستبصار» .

وهو بذلك يوضح خطورة المنهج القائم على الأخذ بظواهر الروايات دون التحقيق في متونها والتأكد من معانيها ، خصوصاً مع كثرة الوضع على الأئمة (ع) ودس الغلاة الكثير من الروايات في أحاديث أصحابهم ، ويؤكد هذا المعنى في موضع آخر في باب (الأحاديث المختلفة) فيقول : «وجملة الأمر أ نّه ليس كل حديث عُزِيَ إلى الصادقين (ع) حقاً عنهم ، وقد أضيف إليهم ما ليس بحق عنهم ، ومَن لا معرفة له لا يفرق بين الحق والباطل ... » .

لذا فهو يؤكد ضرورة عرض الأحاديث على القرآن كمنهج أساسي للتأكد من سلامتها وصحّتها ، فيقول : «ومتى وجدنا حديثاً بما يخالفه الكتاب ولا يصح وفاقه له على حال أطرحناه لقضاء الكتاب بذلك وإجماع الأئمة (ع) عليه» .

كما يؤكد دور العقل أيضاً في هذا المجال مخالفاً بذلك المنهج الأخباري في قبول كل الأحاديث دون توقف فيقول : «وكذلك إن وجدنا حديثاً يخالف أحكام العقول طرحناه لقضية العقول بفساده ... ».

وكمثال على توقفه عن بعض مصادر الحديث ، توقف الشيخ المفيد في كتاب سليم بن قيس لاضطراب رواياته ووقوع التحريف فيها ، فيقول : «وأمّا ما تعلّق به أبو جعفر من حديث سليم الذي رجع فيه إلى الكتاب المضاف إليه برواية أبان بن عياش ، فالمعنى فيه صحيح غير أنّ الكتاب غير موثوق به ولا يجوز العمل على أكثره ، وقد حصل فيه تخليط وتدليس فينبغي للمتدين أن يجتنب العمل بكل ما فيه ولا يعوّل على جملته والتقليد لروايته ، وليفزع إلى العلماء فيما تضمنه من الأحاديث ليوقفوه على الصحيح منها والفاسد ... » .

جدير ذكره أن كتاب سليم المذكور أحد المصادر الأساسية للوقائع التي يذكرونها عن قضية «كسر الضلع» .

وهنا لا بدّ لنا أن نقف وقفة تأمل واستعبار للمقارنة بين منهج مشايخ الطائفة من مواضع الاختلاف وتعاملهم النقدي العلمي دون التجريح أو التشكيك بإيمان بعضهم بعضاً أو تكفيرهم ، وكيف أ نّهم لم يعتبروا المسائل التايخية كشهادة الأئمة (ع) من قبيل المسائل الاعتقادية الأساسية التي تطعن في الدين أو تفرق المسلمين .

وبين موقف بعض المعاصرين من اتهام الناس بالضلال لمجرد الاختلاف معهم في مسألة تاريخية ، أو لمجرد التوقف فيها دون الاختلاف .

ففي الوقت الذي يقرّ التبريزي نفسه بعدم وجوب معرفة هذه المسائل التاريخية ، وإنّما يرى : أ نّه ينبغي معرفتها ، أي يفضل معرفتها ، وهو تعبير يستعمل فقهياً في الإجابة عن أمر لم يرد نص بوجوبه ولا استحبابه ، لأ نّها ليست مسألة عقيدية يجب الاعتقاد بها ، ولا حكماً لمسألة شرعية يكثر الابتلاء بها . فهو تعبير في التفضيل غير الواجب ، فكيف تكون مسألة لا تجب معرفتها موجبة لضلال البعض ممّن لا يرى وقوعها ، أو يتوقف فيها .

ففي جواب على سؤال موجه له وموجود على موقعه :

س : هل يجب على المؤمن أن يعرف قصص أهل البيت (ع) كقصة مظلومية الزهراء (ع) ؟

يجيب الشيخ التبريزي :

«بسمه تعالى ، ينبغي للمؤمن أن يعرف ذلك تفصيلاً ، والله العالم» .

ولكن التبريزي نفسه يحكم في مكان آخر بخروج مَن ينكر بعض المصائب عن المذهب تارة ، ويفتي بضلاله تارة أخرى ، ففي سؤال تجده في موقع الشيخ التبريزي ، ما يلي :

س : ما حكم المنكر لمصائب أهل البيت (ع) :

ج : إذا علم هذا الشخص أنّ المصائب ثابتة عن طريق أهل البيت (ع) فانكاره يرجع إلى تكذيب الأئمة (ع) وتكذيب الإمام المعصوم خروج عن المذهب ، والله العالم .

فكيف نوفق بين الاستفتائين : بين عدم الوجود وحرمة الإنكار ، والحكم بخروج مَن ينكر أمراً لا تجب معرفته فضل عن الاعتقاد به ؟

فأنت ترى أن منهج الصدوق والمفيد الاعتذار لصاحب الرأي والاجتماع حتى مع الاختلاف ، أمّا هذا المنهج التبريزي فهو يقوم على روح الشك وسوء الظن ودفع الآخرين وإخراجهم من المذهب ، وهي طريقة لا تستقيم بأي حال مع روح الدين في السماحة وحسن الظن وقبول الأعذار .

------------------------------------------------------------------------
* هذا موضوع قيم للاستاذ / حسن احمد علي حول اراء وفتاوي التبريزي التضليلية في سماحة اية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (دام ظله) ومن ايده من العلماء والمؤمنين حفظهم الله تعالى0(1) -
-------------------------------------------------------------------------
الموضوع القادم انشاء الله سيكون ( مع الشيخ التبريزي في آرائه وفتاواه (3 )) فترقبوه00