نعيم عبد مهلهل

[align=justify]تم تجفيف الأهوار وبحوزتي نسخة من الفليم على شريط صغير . علمت أن سكان الأهوار قد هجروا إلى الحدود الإيرانية وقد أقيمت لهم مخيمات على ضفاف هور الحويزة . لقد فكرت في أن أعمل فليماً يحمل عنوان < مخرج يبحث عن شخصياته > وكان هدفي أن أعرض عليهم فليم الأهوار وأحاول أن أكتشف شخوصهم في الفليم بعد سبعة عشر عاما حيث الصغار الذين في الفليم كبروا أو اقتيدوا للحرب وماتوا . كنت أريد أن أعرف مصيرهم وقد يكون بعض منهم من المهجرين .كنت أريد أن أصور العلاقة بين الشاشة والشخص خارجها بعد سبعة عشر عاما لكن المحاولات باءت بالفشل }
* المخرج قاسم حول من مذاكرة له معي حول فيلم الأهوار

{ وأنت تدلف إلى ذلك العالم الغرائبي عليك أن تعرف .. أنهم يعيشون بوعي ويحبون بوعي ويموتون بوعي ويوم بدأت عمليات قص القصب ونحر طبيعتهم قال أحدهم : من يبتسم منكم بعد الآن فهو يخدع نفسه }

شهادة صحفي أمريكي

على مرمى البصر والذاكرة تمتد مياه الأهوار ترقد في أعماق هذه المياه القليلة العمق والشاسعة المساحة أزمنة لا تحصى من حياة العصور المتقلبة . سلالات ، ممالك ، إمارات ، دويلات ، مشايخ ، نظم اجتماعية توحدها البيئة وطبيعة المكان الجغرافي والطوبغرافي ، فتحكم التضاريس والمناخات بنمط حياتي يعتمد أساسا على ما يوفره الماء لساكني هذه المناطق المائية . ورؤى المكان تدفع المتأمل إلى أحاسيس لا تحصى من صناعة الثقافة الوجدانية لتاريخية المكان وعناصره ، الماء ، الطير ، السمك ، القصب ، الإنسان . ولكي أرى ما حوت ذاكرة البط من تهاويم الحلم الجنوبي لهذا المدى السحيق استعنت بذاكرة السينما لأدقق في تفاصيل ربما غابت عن رؤاي وأنا أمر بالمكان صعودا من ناحية الطار شمال مدينة سوق الشيوخ وانتهاء بهور المدينة الذي يتصل بأزل لاينتهي بأهوار الحويزة ومجنون عن طريق مدينة القرنة بعد أن يسقي ظمأه من آخر الكؤوس التي يصنع خمرها لقاء نهري دجلة والفرات . أزور الأمكنة ومعي ذكريات المخرج العراقي الكبير قاسم حول الذي طبع على جبين المكان ذاكرة مشهدية لعدسة وثقت هامشا لا يستهان به من حياة أولئك الناس في أدراك منه أن هذه الأمكنة ملكت السحر والطهر البريئين بفطرة ليس لها مثيل في كل الأمكنة الأخرى ولربما دفعت قاسم حول أصول محسوسة للمكان بفعل الانتماء حيث طفولته في ناحية المدينة التي هي واحدة من مدن الأهوار الواقعة في محافظة البصرة . وقد عكست تلك الإيماءات الأولى على ذاكرته مشاهد يحس أنها ظلت باقية في وجدانه وهي ملهمته الأولى في نسج حكاية الأزل للمكان المائي في فيلمه الأهوار وكبداية لتأثير المكان يتذكر المخرج : { كنا صغارا وكنا نعبر النهر بالمشاحيف ونتجه صوب البساتين مقتربين من نهر الفرات .كان النهر يمتلئ بالورود الصفر والزرق والبيض فكان الزورق يمشي على نهر من الورد . وكان أبناء الأهوار يأتون من هور الجبايش إلى القرى وكانوا يغنون بصوت شجي الأبوذية وبين كل مقطع يجدفون ونسمع صوت المجداف يموسق الغناء .بقيت هذه الصورة والصوت منطبعة في ذاتي } تثير هذه المشاهد عاطفة الصورة عند ذاكرة حية مثل ذاكرة قاسم حول ، ولأني أتبع ما كنت أتخيله في صباي أيام كانت العربات السينمائية تعرض الفيلم ليلا في شوارع وساحات المدينة ، بدأت أتخيل حجم الرؤى التي أمتلكها ذهن المخرج وهو يحاول أن يربط سعاداته الطفولية بصباحات الشروع ببدء تصوير فيلم الأهوار فأعود إلى المقطع أعلاه المجتزأ من ذاكرته وأحاول أن أتصور تأثيرات الحس الطفولية على لحظة البحث عن الثر القديم ساعة إطلاق كلمة بدء التصوير الذي تعرض إلى أحراجات السياسة والدعاية الإعلامية المقصودة . لكن رغبة المخرج بجعل الفيلم بريئا كالطبيعة التي ينتمي أليها مكان مثل الهور جعلته ينتصر في مشادات لا تحصى مع الجهة المنتجة التي ملات مكان التصوير وعلى شبة كل بيت ومضيف صورة الرئيس البكر ونائبه . يقول قاسم حول : تنحيت بالكاميرا بعيدا . لقد اختلطت صورة زفاف البط في السماء الفسيحة كابتسامة القمر المنتشر بكامل جسده على الماء مع بدلتي الرجلين البيضاويتين وهما يبتسمان بسعادة مخادعة أمام كاميرا أرشاك مصور بابل . حتى البط ذعر من ابتسامتهما فقررت وقف التصوير وقلت : أنا أصور فيلما عن الأهوار وليس فليما كرنفاليا . في استعادة ذهنية وبصرية للفيلم بعد عشرات السنوات من إنتاجه وأخراجه أتصور قدرة الرائي الذي هو المخرج على صنع مادة لأرشفة زمن قدر له أن ينحر لسنين طويلة وتغيب فيه الحياة ، لهذا كان الفيلم الجثة الأخرى الحية التي ظلت شاهدا على حياة كانت هنا حيث شغلت المخيلة السينمائية ذاكرة الرجل ليتحسس بمودة وبراءة وألتصاق حياة ذلك المكان عبر مساجلات تحاول أن تصل إلى تعشق منظور يرتمي حسيا إلى طفولات سومرية عاشها بشغف المكان والتنقل فيه . لهذا هو لم يكف عن تذكر تلك الساحات البريئة أيام طفولة مدينة المدينة التي كانت تقع ضمن خارطة الأهوار مع رفيق طفولته الشاعر العراقي المعروف عبد الأمير الحصيري وطفلة صغيرة أخرى ماتت بلدغة أفعى وهم يعبرون سوية مستعمرات المياه الضحلة عابرين إلى غابات النخيل في بهجة خضراء يتأملون من خلالها سنادين الورد الملون الممتدة على المياه ومتلذذين بأكل التمر والجمار* وبقول الحقول الخضر للبلاد التي قالت عنها أساطير سومر أنها : << تحوي مياها لانهاية لها وقصبا لانهاية لطوله وسفن لن تغرق ورجالا تحميهم الآلهة وسمكا فضيا كعناقيد الضوء أنهم أهل المدن التي سكنت الماء كما سكنت الآلهة قلب ناسخ لوح المعبد فصار حريا به أن يغسل رأسه وقلبه بمياه الأهوار ثم يعود إلى مدينته سعيدا مدينة كوديا ملكنا العظيم >> خلقت تلك المرجعيات الروحية التي كست طفولة المخرج حنينا ورغبة بتجسيد تلك الأحلام إلى واقع فكان هذا الفيلم الوثيقة الذي يسجل برؤيته الحية تفاصيل الحياة وشيئا من التغيب الذي مورس عليها مذ أن فارقها أهلها السومريون وحد تحرك زاوية الكاميرا بزوايا ثنائية لتكتشف الحياة بطبيعتها وليكون الشريط التسجيلي ناقلا أمينا لحياة شعب طالما نظر أليه بشيء من الاستغراب والمتعة نتاج خصوصية الحياة التي يعيشها وهي حياة طافية على الماء مثل ورقة صفصاف خضراء قطعها الخريف للتو ورماها إلى الماء تمشي إلى قدرها غير عابئة بشيء . هكذا سجلت كاميرا المخرج قاسم حول ، وهو في جرأة وجمالية الفعل وحتى تقنيته الحرفية الكبيرة يمثل وعيا جديدا في التراث السينمائي العراقي التسجيلي ، لم يكن قاسم متأثرا كثيرا بالرؤى الفنية لدى كبار المخرجين التسجيلين لأنه ربما قرأ أو سمع جملة فرانسيس كابولا القائلة : أن الفن السابع يحضر للحياة بالطريقة التي يراها المخرج . فيما يعقبه كازان بمقولته الشهيرة : أنني أرى من خلال الكاميرا الحقيقة المفقودة .. وربما فيلم الأهوار كان بحثا جديا وواقعيا عن هذه الحقيقة التي استدارت مع إشارة المخرج لتصور بدء الخليقة في أول اللقطات ومن ثم يبدأ مارثون البحث عن الزمن الضائع كما وصفه مارسيل بروست : ويصف قاسم هذا البدء بعبارات لما تخنها ذاكرة الزمن ويقول : { وصلنا إلى الأهوار وأستأجرنا فندقا عائما وطلبت جملة ما طلبت من الجهة المنتجة طائرة هليكوبتر ، ولكنهم امتنعوا عن تزويدي بالطائرة فأستعضت عن اللقطة المزمع تصويرها بالطائرة بأن أضع الكاميرا على مناضد خشبية في سقف الفندق العائم العالي وحددت اللقطة لأصور الأهوار فجرا مع أول الضوء ، فأنا أعشق الساعات الفضية الصباحية والذهبية المسائية عند غروب الشمس فهي تمنح للصورة ألوانا باردة تقترب من تونات الأسود والأبيض بألوان ليست قاسية أو صارخة .} أذن الفيلم أبتدأ بتقنية المشهد الاستهلالي مادام هو فكرة مصاغة في ذاكرة وكأن المخرج أراد أن يضع أرضية لنبوءة ما سيحدث في هذا المكان الذي تعرض عبر شكلين من الزمن إلى تغيرين متناقضين ، الأول هو غرق المنطقة بطوفان نوح ع والذي ارتبط بذهن الخليقة في المدونات والكتب المقدسة وأساطير الميثولوجيا ، والثاني التجفيف الذي تعرضت له هذه البيئة الساحرة في أوار حرب السنوات الثمان بين العراق وإيران واشتدت قسوة التجفيف في مطلع التسعينيات بعد حرب الخليج الأولى عام 1990 . ويبدو أن روح التوثيق عند قاسم حول ذهبت إلى هكذا زاوية لتراه إزاء هكذا فعل جمالي وأخلاقي يتحدى المضايقات الحزبية والحكومية التي افتعلتها الجهة المنتجة لجعل الفيلم مادة إعلامية مسيسة عندما ملاوا المكان الذي أبتدأ فيه التصوير بصور الرئيس البكر ونائبه ويصف قاسم حول أحراجات تلك اللحظة عندما استدارت الكاميرا لتغطي بحرية المشهد وفضاءه الصباحي صور يقظة القصب وتلاوين الموج والحركة المباغتة لسرب البط وهو ينهض من بين زوايا غابات القصب لتفاجأ الكاميرا بالرئيس ونائبه ببدلتيهما البيضاويتين وأبتسامتيهما المأخوذة في أستوديو بابل وهو مصور أرمني شهير له محترف للتصوير في شارع الرشيد كان ملوك ووزراء الدولة العراقية وأعيان بغداد يصورون عنده ويصف قاسم تلك اللحظات المحرجة وموقفها الذي نم عن الروح الشجاعة له بالتالي : { عندما نهضت فجراً وصعدت فوق سطح الفندق العائم لأحرك الكاميرا بحركة استعراضية للأهوار ، شاهدت صور رئيس البلاد أحمد حسن البكر والى جانبه صدام حسين بملابس بيض في صور ملصقة على كافة بيوت القصب ، امتنعت عن التصوير وطلبت رفع الصور عن كافة البيوت القصبية العائمة ، وكان طلبي هذا يعادل الكفر فتم اجتماع لفريق التصوير وفريق الإنتاج وأغلبهم من حزب السلطة الحاكمة وأرسلوا شخصا إلى بغداد وتم استدعائي إلى مؤسسة السينما وأجراء التحقيق معي . بدأت روح النبوءة تنمو في ذاكرة قاسم حول منذ أن تحرر من الغايات الأخرى التي أريدت أن تفرض عليه وسار الفيلم في الطرقات حددتها له زوايا النظر في الكاميرا وما يتبعه الكادر من تعليمات المخرج ليظهر لنا الفيلم نمطا تسجيليا في تعقب حياة الآخرين في بيئة نادرة وقد شمل التسجيل الصوري والفني لهذه الحياة شتى المفازات بدءًا من الولادة وانتهاءً بالموت في الفيلم مشهد حقيقي لموت سيدة من أهل الأهوار في المكان الأسطوري الذي ولدت فيه وعاشت ثم تصادفها بقدرية نادرة كاميرا الفيلم لتصور المشهد على طبيعته ولتكون أغماضة السيدة وهي تعكس علامات القدر برغبتها الدينية والميثولوجية أن تكون إلى جانب خالقها دون ذنوب كبيرة يمثل في ثقافة السينما الحدث الملتصق بالحقيقة الأخرى التي تصورها السينما على انه كشف سحري لما نمتلكه من قدر وأرادة واستكانة إلى الحدث الأبدي الطاغي على حياتنا وهو الموت وتصوير هذا المشهد بمثل ذلك الإيقاع وغير محسوب في سكريب السيناريو أعطى للفيلم نضوجا روحيا وتوثيقا للحياة ليست كما تولد فقط بل كما تموت وتبدأ مرة أخرى في مكان وروح جديدة وهذه الصدفة جعلت من تسجيلية فيلم الأهوار رسالة توثيقية وواقعية لترفع من قيمة الفيلم في منجزه الإبداعي والسينمائي وليكون التوثيق للحظة موت في الهور هي توثيق للتفكير الغابر الذي ملك جلجامش وقاده ليبحث عن خلوده وربما في هذه الاماكن دون الأنسان القديم الأسطورة الخالدة { جلجامش وزهرة الخلود } وهو ما يصفه المخرج قاسم حول في مقطع عنوانه : الموت متوسدا على سجادة الماء والقصب : { يوما وأنا أجدف في الزورق أستطلع الأمكنة قبل التصوير شاهدت تجمعا غير طبيعي على جزيرة من القصب وقليل من اليابسة فعدت إلى فريق العمل وطلبت المصور سريعا مع معدات العاكسات الضوئية والصوت ، وعندما وصلنا وجدنا أمراة تريد الحياة أن تفارقها وقد ألتف حولها الناس ولا يعرفون كيف سيوصلونها إلى المستوصف البعيد . كانت حيرة أهلها كبيرة وهي مستلقية على البردي اليابس فمسكت بالعاكسة قرب وجهها وأعطيت الإشارة للمصور أن يوثق كل شئ ..كيف يموت الناس في هذا المكان الجميل وكان مشهداً غرائبياً . المخرج يمسك بالإضاءة قرب وجه المرأة الجنوبية وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة وسجلنا كل اللحظات حتى فارقت الحياة وسجلنا وجوه الناس الذين حولها من أهلها وأبناء الأهوار } في السينما التسجيلية مثل هذه الوقائع تشكل روح المعنى في خاصية هكذا فأن هكذا مشاهد تخلقها عفوية الصدفة وليس السيناريو المعد سلفاً تمثل صدقاً يضيف الى الفيلم قوة عندما تكون اليد الإخراجية محترفة وماهرة لهذا يذهب فيلم الأهوار إلى ساحة الصدق والبراءة التي صنعتها أساطير الأمس والتي مورست عليها قسوة طاغية أرادت أن تقتل فيها الحياة من الجذور فلم تستطع لأن المكان الذي حدقت فيه كاميرا قاسم حول هو مكان أثري ولكنه مكان حي يتجدد بتجدد الأزمنة والنقل الذي مارسته عدسة المخرج كان نقلا حرفيا اشتغلت به روح الفن وقوة الأداء الفطري والبساطة أكدتها الوقائع التي تحدث عنها فيلم الأهوار ونقلها بشفافية لنرى أن أداء المشاهد والمتغيرات الصورية ملاها شيء من سعة الرؤية وأشغال المكان بكل ما أراده المخرج وتمناه منذ طفولته وحتى عودته من منفاه البيروتي وتكليفه بإخراج فيلم الأهوار الذي وصف في أدبيات النقد السينمائي على انه واحدا من أهم الأفلام التسجيلية العراقية وعليه نال المخرج قاسم حول الكثير من الجوائز على المستوى العربي والعالمي وفي وصف القاص والناقد العراقي عدنان حسين احمد في دراسته عن الأهوار تعبير يهدف إلى كشف ماهية الفيلم ورسالته الإنسانية عندما يقول : { أن فيلما تسجيليا من هذا النوع لا يهدف إلى تحقيق الربح المادي وهو شأن كل الأفلام التسجيلية ، لكنه يسعى إلى أرخنة هذا النمط الحياتي لسكان الأهوار ، ويتوق إلى حفظ عاداتهم وتقاليدهم وتراثهم وثقافتهم وتأريخهم . أن فيلم الأهوار هو وثيقة عن هذا المكان الشاسع تأريخياً وجغرافياً مثلما هو توثيق لنبض حياتهم } رفعت موسيقى الفيلم من مستوى أداء الوقائع وبدا لي أن التعاون بين مخرج الفيلم قاسم حول والموسيقى التصويرية التي وضعها عبد الأمير الصراف وهو من متذوقي الموسيقى الشعبية والكلاسيكية ومن متقني حرفية تعشيق المشهد في اللحن قد خلق توافقاً جيدا أدت به الموسيقى شيئا من التجانس بين المشهد وتلك الإيقاعات التي تداخلت بها روح القصد ومارست فيها أشجان الطبيعة رغبات مفعمة بالإحساس بالمكان وجماليته ليبدو صباح الهور في اللقطة الأولى بداية نداء الكمانات والمزامير والطبول التي توقظ البشر لبدء يوم جديد كما كانت أور تفعلها قبل آلاف الأعوام . الموسيقى في فيلم الأهوار هي ليست موسيقى لذات المخرج الذي يحاول في بعض فلسفته أن يصبغ شيئا من وجوده داخل العمل الذي ينجزه ليسمى من قبلنا البصمات أي تفرد وخصوصية ، لقد شاغلت الموسيقى المكان وانطلقت بسليقة الحس لتآلف الموجود الذي هو أصلا مغروس فيها منذ حقب بعيدة ، حتى أنك تحس كأن قيثارة شبعاد هي من تعطي للمساء الأهواري جمالية الضوء وفتنة الماء وهو يستقبل بخمول نهارا كاملا من الصيد وزراعة دايات الشلب وقص القصب ومرات تصحبك الموسيقى إلى إيقاعات فرحها وهي تريك من الفيلم مشاهد في غاية الطرافة والتفرد كالذي يصفه المخرج قاسم حول في هذا المشهد : { بدأت الشمس تميل إلى المغيب ، إلى ساعات التصوير الذهبية حيث تلامس الشمس المائلة بضوئها البارد أكواخ القصب ووجوه المعدان . شاهدت بيتاً صغيراً جداً من القصب والسعف الجاف على جزيرة صغيرة من < الجبيشة >* ولمحت أمراة مسنة داخل الكوخ الصغير جداً ، وصلنا عندها ، لاحظت أن الجزيرة التي بنت عليها الكوخ لا تتجاوز المترين . جلست وأمامها { طشت }* يطوف على الماء الذي أمام كوخها وعلى الطشت وضعت منقلة وفي داخل المنقلة { المطال } الذي يعملونه من روث الأبقار ليكون وقودا ، وفوق المطال المشتعل وضعت المرأة رغيفا من الخبز ، بعد أن أحمر الخبز أو أسود في حقيقة الأمر سحبته من النار وقسمت منه نصفاً وقدمته لنا . كان من الصعب رفض الضيافة ومن الصعب قبولها لأنها وجبة طعامها . لم يكن بحوزتها طعام لكي تقدمه لنا ، صورناها وقدمنا لها خمسة دنانير أجور الموافقة على التصوير فاندهشت وقلنا لها : هذه هدية منا لكي تشترين السكر والشاي . قررت مع نفسي أن أصور كل ما أستطيع تصويره حتى وان كان خارجاً عن خط الفيلم الذي رسمته ، كان ثمة شعور خفي أنني قد أحتاج لهذه الوثائق يوماً } .. مثل تلك المشاهد الإنسانية تكون الموسيقى المصاحبة لها تشبه في سجيتها المرهفة تراتيل المعابد ، فمثل هذا الكائن المسن الطيب الذي لا يملك سوى أن يقسم رغيفه إلى نصفين فأن أي مصاحبة إيقاعية وجمالية لمبادرته يجب أن تكون شجنا يخلط الرومانسية بتلك الآهات القديمة التي كان يطلقها المغيبون من أبناء سومر يوم يشعرون بان الآلهة والسماء قد تخلت عنهم ، وسكان الأهوار ينتمون بالسليقة وخيط من ضوء التأريخ إلى تلك الامكنة التي دونت على ألواحها الطينية أول الحان الموسيقى لهذا كانت روح التعبير الموحية إلى تلك الأزمنة تصاحب مثل هذا المشهد وتعكس في روح المخرج رغبة الذهاب إلى باطن تلك الحياة من أجل كشف نقاء المدن الذي جبل عليه أبناء هذه المناطق ومنهم السيدة المسنة التي قاسمتهم رغيف الخبز الأسود ..ليمر على خاطري وأنا أستعرض بهجة اللقطة في مشاهدات قاسم لصباحية الأهوار المذهبة بالحاجة إلى عالم يقودنا إلى مثل تلك البراءة البدائية والنقية ، شيء من شعر سومر الذي تحدث عن القصب والموسيقى ورغبة كوديا الملك الحالم بجلب القصب بالسفن من تلك المناطق لبناء المعبد الذي أمرته الآلهة ببنائه : { دع المزامير تقول حكمتها إزاء ما تطرحه روحك المعذبة ياسليل الآلهة دع الماء يحدث القصب عن رغبة الملك ببناء بيت للآلهة الطيبة والسفن ستذهب إلى هناك .. صباحات كثيرة وتعود ألينا .. من الأرض المغطاة بالماء والقصب .. حيث السمك الوفير والمجاديف الطويلة يدفعها رجالنا إلى الأمام كي يحصلوا على ما أمرتهم به بيتا لها نقيم قربه عيدنا المجيد باكتمال دورة القمر} تلك روح الموسيقى لمثل تلك البلاد أستشرق فيها واضع موسيقى الفيلم وخرج ذلك الأزل حتى تحس في مشاهدتك المتأنية للانتقالات المكانية أن الموسيقى تحكمك بفيض لاينتهي من ذاكرة المكان وسعة الفطنة به ولكي أتذكر مدى رقة إحساس الوتريات وإيقاعات الطبل المتصاعد مع إيقاع الموج أعيد ذهني إلى زمن العروض الأولى في السيارات الجوالة لمديرية الثقافة الفلاحية التي كانت تعرض الفيلم في الهواء الطلق في ساحات وشوارع مدينة الناصرية وكنت وقتها لم أتعدعتبة الابتدائية بعد حين مسكت ببراءتي شجن أولئك الناس الذين نقل قاسم حول حياتهم ألينا وارانا ما كنا نعتقده عالما غامضا يعج بالطانطل* وعبد الشط* وغابات القصب الكثيفة والتي ارتبطت بهاجس الرهبة عندما تقص علينا جداتنا حكايات خرافية من ذلك المكان ليس لأجل تسليتنا بل لإرغامنا على النوم . كان الوقت صيفا حين عرض الفيلم بالسيارات السينمائية المتجولة وكنا ننظر الى الفيلم على انه شئ من تثقيف بدائي لجغرافية البلاد التي لم ندرك روحها وذاتها الا عندما تقدمت بنا السنون الجديدة لهذا ارتبط فيلم الأهوار بتلك الخيالات الثقافية البسيطة والبريئة ولكنها حتما كانت أساسات لوعينا الجديد وحين أتذكر الآن اشتغال الموسيقى المصاحبة للفيلم مع صفاء الليل والإحداق المشدودة الى حيف وهي تخط على صدر الماء قصائد الحياة أمتلئ برغبة المشاهدة الجديدة للفن الذي ولدت فكرته على شئ من هاجس نبوءه لدى المخرج قاسم حول المنشغل بطبيعة الحياة المائية وتلك الأغوار البريئة والصافية في { يوافيخ }* أولئك الناس البسطاء وهذا الاشتغال لخصه قاسم حول بالكلمات التالية : { كان همي حقيقة أن أوثق ما تراه عيني وما رأته وأنا صغير ، وعندما سادني الوعي وعشقتني القراءة وعشقتها صرت أفكر بتأريخ هؤلاء القوام < المعدان >* الذين يحتاجون الى معايشة حقيقية لكي تسبر أغوارهم . هم قوم باطنيون ، يبدون واضحين وبسطاء وطيبين وهم فعلاً طيبون وكرماء ولكن ثمة حسرة في وجدانهم ، حسرة أرثية تحتاج الى قراءة مختلفة وبحرية مختلفة لأصورهم أولاً ..وهذا ما أخفيته لوقت آخر وأنا أصور .. قلت : ربما سيأتي يوم أعود إليهم بحالة مختلفة وبحرية مختلفة لأصورهم أولاً .. لقد خطر ببالي الكثير ولكن لم يكن يخطر ببالي أن يصار الى تجفيف المنطقة وطرد سكانها الى المنافي والى حدود البلدان المجاورة ، وقتلت السمك والورد والقصب والطيور التي ستموت عندما تجد الماء الذي تركن أليه ..تجده خراباً } . وبعيدا عن سحر الموسيقى التي قادت الفيلم ليرتقي بهاجس أولئك الباطنيين المقيدين بهبة الطبيعة لحياتهم ووجدانهم يذهب الفيلم الى شغل يتقن فلسفة التسجيل بحرفية مصاغة بذات مبدعة ولأني أتكلم عن فيلم شاهدته أكثر مرة في صباي ولأني في أصول إمداداتي القبلية بعض من هاجس المكان حيث تتكرر زيارات أميالى بيت جدي قي الهور ، يقودني التصوير الواقعي لحياة الناس الى ما تختزنه ذاكرتي عن طبيعة ما يؤديه البشر والحيوان والماء والنبات من أعمال وهي تتجمع الآن تحت رؤية قاسم حول لتتحدث عن قصيدة كونية هي بعض من براءة الكون وطهارته تلك الأمكنة التي نظر أليها الفيلم على أنها أمكنة كانت مسرحا للقهر والاستلاب الدائم ولكنها من الأماكن النادرة في هذا العالم التي لاتفقد الأمل بالحياة القادمة وهذا ربما صلب الهاجس الذي سكن ذات المخرج وجعله يترك منفاه ويغامر ويأتي ليخرج فيلما تحت هيمنة سلطة لاتوده ولاتحبة لكن منظمة التحرير الفلسطينية كفلت عودته ليعود إلى منفاه سالما وهو ما حصل بعد أن تلاحقت أحداث كثيرة كاد قاسم حول يدفع حياته ثمناً لها. يؤرشف الفيلم حياة شعب سومري موغل في الأصول الرافدينية ، وهؤلاء الناس المدفوعون الى الزاوية المائية الضيقة من الكون يعيشون الحياة بصوفية عجيبة حيث لا يفصلهم عن الوجود السماوي أي حاجز ، فلا بيوت كونكريتية ولا ناطحات سحاب أو أسوار دوائر أمن أو حكومة أو تضاريس شاهقة ، انهم مدفوعون الى الأعلى برغبة خلقتها طبيعة الانتماء الى المكان وأحبوها بصدق وأرادوها أن تظل ديمومتهم ، لأن حياة الأهوار تخلصهم من عقد تشبه أفتك الأمراض وهي ما جلبته الحضارة الجديدة للمجتمعات المتمدنة ورغم أن الرعاية الصحية والاجتماعية تكاد تكون معدومة إلا أن متوسط العمر يكاد يكون جيدا حين تطل على الكاميرا وجوه شيوخ ومسنين أكلوا من العمر كل قناعة بالحياة وما تبقى لهم ليس الا ذاكرة الحياة التي لم يتبدل بها شئ إلا عندما قرر النظام تجفيف الهور ودفع أولئك الذين يمسكون أعمارهم بعصا مجداف الشختورة*الى أن يسافروا بعيدا الى مدن لم يألفوها فأضطر معظمهمالى أن يتطوع في الجيش أو يشتغل عامل بناء أو عتالا في خان من خانات التمر . لقد رصد الفيلم مثل تلك الظاهرة بعناية وتاريخية استطاع فيها أداء الضوء الذي ترصده الكاميرا وهي تنقل للعالم أجزاء منتخبة لحياة أولئك الناس ومصادر عيشهم ومايشتغلونه لكي يديموا الحياة بالحياة وأن يخلق لدى المشاهد قناعات وجودية بأن هذا الشعب السومري المتفرد قد قاده خياله الى أزلية من التصوف والغنوصية عندما نعلم أن هذه المناطق أصلا هي موطن أزلي لأولى الديانات الغنوصية في الوجود وهي الديانة الصابئية ـ المندائية ـ وفات الفيلم أو المخرج أن يعرج بدقة ويرصد شيئا من حياة أولئك الأقوام المائيين الذين يتمسكون في أدبياتهم ما يجعلهم منتمين الى الأهوار منذ أيام سومر وربما قبلها كقولهم في إحدى أدبياتهم : {نحن نبتهج بنورك أيها الماء وأنت تحتضن القصب ببراءة البط زيوا* سيشكرك حين تعمد كاهنه بالبركات والطير سيعطي عنقه لسكين الكنز فرا * بطيبة وخاطر فيما القصب والنخل وشجرة الآس سيبتهجون لأن التعميد قد تم وأهلنا الفقراء قد فرحوا لأن الواجد قد رضى تماما عن تلك الطقوس الدينية وهو في العلا يرسل نوره إلينا فيتعانق النجم والماء والسمك ليكونوا الحياة السعيدة ..} هذه الرؤية الغنوصية لم يعرج عليها الفيلم وربما كان في ذاكرة قاسم حول ما يتمناه لكي يرصد في يوم ما طقوس أولئك المندائيين المائيين الذين يقولون أن الماء مانح الطهارة الأول بعد الصلاة الى الرب . لقد رصد الفيلم قوة انتماء الإنسان الى مثل تلك الأماكن وكانت الكاميرا في تنقلها تقابل بعفوية صادقة ورغبة من أهل المكان بالتشبث بكل مفردة من مفردات الحياة ، لهذا فان عفوية مشهد طقوس العرس ظلت على حالها وموت المرأة المسنة ظل على حاله ومفاصل العمل اليومي في معمل الورق أو جني القصب أو دفع المشحوف الى الأمام في صباحات ومساءات الهور ظلت على حالها وكذلك لحظات العلم والتعلم لدى الصغار الذين أكدوا روح الانتماء الى المكان وعدم حبهم لمغادرته وفق تلك الحادثة التي وصفها لي المخرج نفسه وهذا المشهد الوجداني قد تم بعد تصوير حياة دراسية يومية في مدرسة في الهور حين كرمهم المخرج بأن عمل لهم سفرة مدرسية الى مدينة العمارة على حساب إنتاج الفيلم : { بعد التصوير أخذنا استراحة وأطعمنا الأطفال وأعطيناهم حسب طلب المعلم فرصة القيام بجولة حرة في المدينة وأن يشتروا بعض { الحامض حلو }* وبعض الأقلام .وكان أهلهم قد زودوهم ببعض الدراهم ليتمتعوا في سفرتهم ..شئ من قبيل خمسين فلساً . وعندما ذهبوا أنزوى طفل صغير في دار الأستراحه وعندما طلب منه المعلم الذهاب مع رفاقه رفض . ذهبت الى المعلم وسألته ، قال لي : {أن هذا الطفل يتيم ويعيش في بيت خالته ولم يحمل معه نقوداً كبقية الطلاب } . أخذته معي وأعطيته خمسة دنانير وقلت له : هذه أجور التصوير التي صورناك فيها للفيلم وذهبنا نشتري الحلوى والدفاتر والأقلام وعندما اشترينا كل شيء وشربنا قنينتين بيبسي كولا قال لي : { أريد أروح الهلي } قلت : لماذا ؟ قال : لقد مليت ! كلمة مليت والتي تعني في الفصحى السأم والملل تعني في مدلولها الروحي والاجتماعي والتاريخي عدم رغبة إنسان الهورفي الابتعاد عن بيئته فترة طويلة ورغم أن الفترة لم تكن سوى لساعات قليلة إلا أن هذا الطفل اليتيم لم يحتمل الحضارة وضجيجها ولأنها وضعت حاجزا بيته وبين السماء كتلك البيوت العالية ومسقفات الأسواق التي لم يألفها في حياته يوما ما . لقد امتلك فيلم الأهوار للمخرج العراقي قاسم حول روحا إنسانية عالية الأداء وأشتغل الفيلم بأداء جمالي مبدع صاغ الجميع فيه جمل وملاحظات المخرج صياغة حسنه بدءا من المصورين ومرورا بواضع الموسيقى والماكيير وكادر أستوديو تحميض وأنتاج النسخة النهائية في روما التي أستغرق في أرشفتها الأولى تسع ساعات سينمائية وهو عمل احترافي متميز نال عنه المخرج العديد من الجوائز في المهرجانات السينمائية رغم ما تعرض له الفيلم من حجب ومضايقة رغم أنه كان مرشحا في إحدى المهرجانات إلى ست جوائز ذهبية وما تعرض له الفيلم من قرصنة على يد القوات الإسرائيلية عند دخولها بيروت عام 1982 حيث داهمت منزل المخرج قاسم حول وصادرت ما في قبو البيت من أغراض ومنها النسخة الأصلية من الفيلم الوثيقة الأهوار والى حد هذه الساعة تنتظر من يفرج عنها . كان فيلم الأهوار صورة حية لنقل واقع حياة أقوام كادت تتعرض لأبادة جماعية من خلال مسح بيئتها عن الوجود وأتلافها وكانت هذه الوثيقة الفيلم أرشفة لما كان يتوقعه المخرج من قسر وقسوة اتجاه تلك البيئة وأهلها وقدر ما حفل الفيلم من رؤى جمالية وإبداعية ترتقي بهاجس التسجيل في الفن السابع فانه كان وثيقة صادقة حفلت بالأمانة التاريخية والفنية وهي تنقل بحس وأدراك أخلاقي عال حياة أهل الأهوار وتكشف شيئا من معدنهم الرافديني الأصيل .
[/align]

الهوامش :

*ماكان بين الأقواس هو من نصوص رسائل المخرج قاسم حول إلى كاتب المقال .
*الجمار : لب النخلة.
*الجبيشة : مكان يبنى من القصب وسط الماء .
*الطشت : آنية تصنع من النحاس أو الألمنيوم تكون كبيرة ودائرية وغير عميقة تستخدم لغسل الملابس غير أن سكان الأهوار ولأنها تشبه الزورق يستخدمونها في الماء .
*الطنطل : حيوان خرافي يتصف بالبشاعة في الشكل والبلادة والغباء. *عبد الشط : حيوان خرافي يقال أنه يسكن الماء فقط وربما تصوروا الرفش وهو سلحفاة ضخمة من النوع الذكر هو عبد الشط الذي يقال أنه يتصيد الأطفال الجالسين على ضفاف الهور ويسحبهم الى الماء ويأكلهم هناك .
*اليافوخ : وهي منطقة الرأس في العامية حيث الدماغ .
*المعدان : وهو ما يطلق على سكان الأهوار وبالأخص مربي الجاموس وهذه التسمية متداولة منذ العصر العباسي .
*الشختورة : نوع من الزوارق يمتاز بالخفة والصغر والنحافة يستخدم في الأهوار بسبب وجود غابات القصب الكثيفة وبأمكانه السير بسهولة في مثل هذه المناطق .