صدام والحصانة الدستورية أمام القضاء


المساواة أمام القانون مبدأ أساسي من مبادئ الديموقراطية، كرسه الإسلام قبل أربعة عشر قرنا، وعمل به معظم سكان العالم ما عدا العرب والمسلمين.
يحدثنا التاريخ أن الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) وقف في آخر أيام حياته في المسجد وأعلن أنه مستعد لإعطاء القود ممن له حق عليه، فقام رجل من الأنصار وقال: نعم يا رسول الله لقد ضربتني على بطني بعصا في إحدى الحروب وأنت تصف الجيش، وأريد أن أقتص منك! فطلب الرسول العصا وكشف عن بطنه ودعاه للاقتصاص أمام دهشة الأصحاب. ولكن الصحابي بادر إلى تقبيل بطن الرسول وعيونه تدمع.
وقبل ذلك اشتهر عن رسول الله (ص) قوله: والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها.
وبعد ذلك، قام الخليفة عمر بن الخطاب بالاقتصاص من عمرو بن العاص وابنه لأن هذا الأخير ضرب قبطيا على رأسه بعصا، فاستدعى عمر والي مصر وابنه وأمر القبطي بالاقتصاص من ابن عمرو، ثم طلب منه أن يثني برأس الوالي، لأنه سمح لابنه أن يضرب القبطي ولم يقتص منه.
وينقل لنا التاريخ أيضا عن الإمام علي بن أبي طالب ووقوفه أمام القاضي شريح، مع ذمي سرق درع الإمام. ولما لم يستطع الإمام أن يثبت دعواه بملكية الدرع، خضع لحكم القاضي الذي أطلق الذمي مع الدرع المسروقة.
وهذا يؤكد أن المسلمين سواسية كأسنان المشط، ولا يوجد أحد فوق القانون. حتى الحكام لم يكونوا يتمتعون بحصانة خاصة فوق القانون. وعندما حدثت بعض الأخطاء في عهد عثمان بن عفان، قام المسلمون بانتقاده وشكل كبار الصحابة محكمة لمساءلته عن بعض الأمور، ودعوه للتوبة فأعلن أمامهم توبته واستغفر الله.
ولكن عصور الانحطاط شهدت حكاما يدعون العصمة ويتعالون على القانون، ويعطون لأنفسهم الحرية الكاملة في فعل ما يشاءون بعيدا عن المساءلة والمحاكمة والتحقيق في أية جريمة يرتكبونها. وقد ترافق ذلك مع انحسار موضوع الشورى واختيار الأمة للأئمة والحكام، وغياب أهل الحل والعقد، وانقلاب الحياة السياسية إلى ديكتاتورية محضة مشحونة بالعنف والإرهاب. حتى وقف عبد الملك بن مروان وأعلن أمام الملأ: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.
وقد استغرب الرئيس العراقي السابق صدام حسين، في مذكرات مسربة تم نشرها مؤخرا، أن يتم تقديمه للمحاكمة لأنه كان يتمتع كرئيس بحصانة دستورية تشمل عدم المثول أمام القضاء حتى لو كان التشكيل القضائي سليما وصحيحا، حسب قوله. وذلك " لأن الشعب صوت بنعم لصدام حسين رئيسا للجمهورية وصوت أيضا على صلاحيات رئيس الجمهورية والحصانة الدستورية التي ترفض مثوله أمام القضاء". وقال للقاضي رؤوف رشيد في الجلسة الأخيرة للمحكمة بتاريخ 13 /3/ 2006 بأنه لولا الأمريكان لم استطاع القاضي أن يحاكم صدام.
وهذا ما يكشف عن نظرة مستعلية على الشعب والقانون، فللرئيس الحق في أن يعدم من الناس ما يشاء دون محاكمة، وأن يرتكب ما يشاء من الجرائم، ويتخذ ما يشاء من القرارات المهلكة كإشعال الحروب والعدوان على الجيران واحتلال بلاد الغير، دون أن يجوز لأي هيئة شعبية أن تسائله، ولا لأي محكمة أن تحقق معه، لأنه رئيس ومن صلاحيات الرئيس الحصانة أمام القضاء، وكذلك التعالي على البرلمان. وقد ادعى ان الشعب الذي انتخبه بنسبة مائة بالمائة،كان يعرف ذلك حين انتخبه.
وما لم يقله صدام حسين الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري في ليلة ظلماء، أن الدستور الذي أجرى الانتخابات على أساسه كان مصنوعا بيده، وان الانتخابات كانت مزورة مائة بالمائة، وان الشعب لم يعط حرية إبداء رأيه في أية مادة منه. وان كل نظامه كان باطلا بني على باطل، وجورا بني على جور، واغتصابا بني على اغتصاب.
إن صدام حسين لم يكن يصدق بأن الله بالمرصاد، وكان يعتقد بأن السلطة ستدوم له إلى آخر يوم من حياته، ولن يأتي هذا اليوم الذي سيقف فيه أمام القضاء في الدنيا قبل الآخرة. ولذلك ارتكب ما يحلو له من الجرائم دون وازع من ضمير أو ملاحظة لقانون، أو خشية من أي محكمة. وقد فوجئ حقا بسقوط نظامه وهروب جنوده، ولم يكن يعتقد بأن الأمريكان عازمون على إسقاط نظامه حتى بعد دخولهم للعراق وتطويقهم لبغداد، كما كشفت بعض الوثائق مؤخرا.
لقد جمع صدام حسين بين صلاحيات الأنظمة الملكية والجمهورية والعسكرية، فأعطى لنفسه الحصانة القضائيةـ والسياسية التي يتمتع بها الملوك الدستوريون، الذين يمارسون دور السيادة ولا يحكمون، فيعفون أنفسهم عن المساءلة البرلمانية أو القضائية باعتبارهم لا يحكمون. وأعطى لنفسه صلاحيات رؤساء الجمهورية ، أو صلاحيات الحكام العسكريين المستبدين الذين يحكمون بصورة مطلقة بلا سؤال من برلمان أو معارضة من وزارة، وبالطبع بلا حق للمثول أمام أي محكمة حتى لو كانت عادلة ومحايدة. إذ انه يعتبر وقوفه أمام القضاء عارا يتناقض مع حصانته التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ونسي صدام حسين أن الدول العظمى في العالم هي التي يتصاغر حكامها أمام القانون ويقفون أمام القضاء. لأنهم يحترمون شعوبهم ويعتقدون أنهم أبناء الشعب وخدامه وليسوا أسياده وطغاته، ولم يأتوا إلى السلطة إلا لكي ينفذوا القانون ويحققوا رغبات الشعب، وأما صدام، وكل الطغاة في العالم فانهم يعتقدون أنهم فوق القانون وقد استولوا على السلطة بشكل غير قانوني، ويعتبرون السلطة غنيمة والناس عبيدا لهم.
ألم يطلب مسلم بن عقبة من أهل المدينة المنورة الذين ثاروا على يزيد بن معاوية بزعامة عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، بعد واقعة الحرة، أن يبايعوا ليزيد على انهم خول وعبيد ليزيد، يحكم في دمائهم و أموالهم و أهليهم ما شاء؟
والسؤال الآن بعد اعتقال الأمريكان لصدام وإجباره على المثول أمام القضاء، مَن مِن الحكام العرب مستعد للخضوع للشعب والقانون؟ والمثول طواعية أمام القضاء في أيام حكمه، وليس بعد أن يعتقله الأمريكان ويسوقونه للمحاكمة؟
مَن مِن الحكام العرب مستعد للمثول أمام البرلمان والإجابة على أسئلة النواب؟
مَن مِن الحكام العرب مستعد لإعلان أن السلطة حق الأمة، وأنه نائب عنها، وأنه مستعد للتنازل عنها بمجرد شعوره بأنه لا يتمتع برضا الشعب، أو تغيير سياسته بما يتوافق مع إرادة الغالبية العظمى من أبناء شعبه؟
ألم نكن خير أمة أخرجها الله للناس، وأصبحنا اليوم شر أمة على وجه الأرض؟