هل تضيع دماء الأبرياء بين عرب صدام وعراقيي بوش؟
2003/06/18

علاء اللامي
بلغت المأساة العراقية طويلة العمر ذروتها في حالة الاحتلال العسكري المباشر والبشع لهذا البلد من قبل القوة الأعظم عسكريا واقتصاديا وتقنيا علي وجه الأرض أي الولايات المتحدة الأمريكية وذيلها البريطاني الصغير. حدث ذلك في أعقاب الانهيار المهين لنظام البعث الشمولي، فبعد دفاع مجيد عن العراق وشعبه شارك فيه العسكريون والمدنيون في جبهات الجنوب والفرات الأوسط تمكن الغزاة من احتلال العاصمة وتبخر النظام بمجرد دخول دبابتين أمريكيتين إلي وسط بغداد ثم فاحت روائح خيانات ارتكبها ذوو المقامات العليا في الحكم بل وفي أسرة صدام حسين ذاتها. هذه الذروة للمأساة العراقية التي بلغ عمرها أربعة عقود صارت مصدرا لالتباسات شتي وانطلاقات فكرية وسياسية مختلفة المضامين وفي جميع الاتجاهات سواء بين العراقيين أنفسهم أو علي المستوي العربي الرسمي والشعبي.
ومن أكثر تلك الالتباسات رواجا في الوقت الحاضر هو موضوع ماضي النظام البعثي الشمولي وممارساته البربرية والوحشية بحق العراقيين والتي تكشفت بعض أوجهها من خلال ما قالته تفاصيل المقابر الجماعية الرهيبة التي اكتشفت في شتي أنحاء العراق. لقد سارع الكثيرون من أفراد النخبة علي المستوي العربي كتابا ومحللين وسياسيين إلي الدفاع عن نظام صدام حسين في عملية شخصنة قديمة تحاول الخلط عن عمد بين التضامن المطلوب مع شعب عربي قدم الكثير من التضحيات لقضايا العرب المعاصرة وبين التضامن المريب والأخرق مع طاغية أذاق هذا الشعب الويل والثبور طوال فترة حكم حزبه التي بلغت أربعة عقود بالتمام والكمال ومنذ انقلاب 1963 وحتي 2003.
ورغم أن التفاصيل والمعطيات ليست مجهولة فيما يخص موضوع المجازر والمقابر الجماعية في العراق، ولكن البعض يحاول حل أزمته علي طريقة النعامة فيخفي رأسه في تراب المقابر لكي لا يري الحقيقة، أو علي طريقة رمي القاذورات علي الجيران حيث شكك البعض بوجود هذه المقابر جملة وتفصيلا، فيما ذهب آخرون إلي احتمال أن تكون تلك المقابر هي للعراقيين العرب السنة الذين قتلهم متسللون جاؤوا من إيران سنة 1991 كما ذكر شخص ذو ميول طائفية صريحة من فلسطين في برنامج الاتجاه المعاكس الشهير ، فيما ذكر أحد القراء مغفور سلامة القدس العربي 6/6/ 2003 احتمال أن تكون هذه المقابر لجنود عراقيين سقطوا خلال حرب الخليج الأولي أو لمدنيين سقطوا جراء العدوان الأمريكي علما بأن أغلب المقابر الجماعية اكتشفت في المناطق الغربية من العراق والتي لم تشهد أية أعمال حربية خلال حرب الثماني سنوات مع إيران التي تحد العراق من جهة الشرق وليس الغرب.
وقد استقر قرار قارئ آخر ( أحمد سرور القدس العربي 28/5/2003 ) علي أن الأمة العربية أذكي مما يتصور كاتب هذه السطور، و لو كان ما يتحدث عنه الكاتب أمرا يستدعي انتباه الأمة لفعلت ذلك وبذات العفوية والاندفاع. ولأحمد سرور أقول : إذا كان مقتل مئات الآلاف من الأبرياء العراقيين ومئات الأطنان من عظام وجماجم الضحايا التي نقلت صورها وسائل الإعلام العربية والعالمية لا يسترعي انتباه هذه الأمة الذكية فعلي الدنيا السلام !
توفر لنا هذه المناسبة فرصة بليغة للوقوف عند حالة خطيرة من التشوه المفاهيمي واختلال الرؤية عند النظر في قضايا إنسانية كانت موضع التضامن البديهي و العفوي بين العرب علي امتداد العالم العربي. وقد كان العراقيون أساتذة حقا في مدرسة التضامن هذه، حيث لا توجد مناسبة استهدف فيها شعب عربي إلا واقترنت بانتفاضة شعبية في العراق ومن أبرز الأمثلة علي ذلك انتفاضة بغداد بعد احتلال الإيطاليين لطرابلس الغرب، و مظاهرات التضامن مع مصر خلال العدوان الثلاثي، والانتفاضات العديدة ضد وعد بلفور واغتصاب فلسطين، و خلال حرب التحرير الجزائرية، و عندما ضربت دمشق بالقنابل من قبل طائرات الاحتلال الفرنسي و غير ذلك كثير، فهل يجازي العراقيين اليوم من قبل العرب (وأقصد عرب النخبة السائدين إعلاميا أكثر مما أقصد بعض العرب المظلَلين والبسطاء المخدوعين بصراخ الزعماء المستبدين وشعاراتهم الرنانة) جزاء سنمار، فيقف الجميع مع نظام القتل والمقابر الجماعية وليس مع العراقيين ومع شهدائهم ؟
إن بحثا معمقا لهذه الظاهرة المخزية التي يتخذ فيها التضامن شكلا نسقيا مزيفا لأنه يقوم علي الشخصنة التي خلاصتها (صدام هو العراق والعراق هو صدام) أما الشعب العراقي فسوف يتم إخفاؤه عمليا تحت الأرض (بالمعني الحرفي للعبارة أي في المقابر الجماعية وزنزانات السجون البعثية) مثلما يتم إخفاؤه في خطاب أنصار النظام واستبداله بحشود هلامية مصفقة للطاغية حينا أو موصومة من قبل هذا الخطاب في حالة هزيمة النظام بالخيانة والعمالة للأجانب حينا آخر، ويصل هذا الفعل غير الإنساني ذروته حين يصف أحدهم انتفاضة ملايين العراقيين ضد النظام بأنهم مجرد متسللين من دولة مجاورة، أقول: أما ذلك البحث المعمق المنشود فيتطلب جهودا خاصة وإمكانيات كبيرة قد لا يتيحها هذا التعقيب السريع ونأمل أن نقدم إسهامة في هذا البحث في مناسبة أخري، أما الآن فسنحاول تبديد الغموض الذي يحاول المدافعون عن صدام ونظامه إثارته حول الموضوع :
فأولا لم تعد جرائم النظام موضع شك من ناحية الجهة المنفذة والمسؤولة، وقد اعترف مؤخرا أحد كبار المسؤولين الأمنيين البعثيين وهو حميد عثمان مدير الشرطة العام والصديق الشخصي لصدام حسين في لقاء صحافي أجرته معه جريدة واشنطن بوست بمسؤولية النظام عن جرائم الإعدامات الجماعية ودافع عن القيام بها، وننقل أدناه فقرات ضافية من اللقاء الصحافي مع عثمان الذي مازال حرا طليقا يتمتع بحماية الأمريكان ويعيش في قصره المنيف كان اللواء حميد عثمان، الذي يحب الشعر ورسوم المناظر الطبيعية مسؤولا عن الشرطة علي مستوي العراق من 1997 وحتي سنة.2001 وهو من البعثيين ذوي المراكز المتقدمة في الحزب وتشكل وجهات نظره قلقا للولايات المتحدة وحلفائها...وهو يتحدث بنبرة احترام عن الرئيس صدام حسين . وحول الكشف عن المقابر السرية الجماعية المنتشرة في أنحاء العراق يقول حميد عثمان إن ذلك نتيجة طبيعية لحملة التطهير التي شنها الجيش العراقي لإنهاء التمرد الذي وقع ضد السلطة الشرعية في البلاد. وقال معلقا: ما الذي يجب عليّ أن أفعله إذا رفع شخص ما السلاح ضد الحكومة؟ تحيته أو مواجهته بنفس قوة السلاح؟ . ولا يستقبل اللواء عثمان إلا بالضحك تلك الأخبار القائلة إن شرطة صدام حسين السرية قتلت الأبرياء الذين حاولوا الإطاحة بالاستبداد سنة 1991. أما تلك التقارير التي تقول أن النظام قتل مئات الآلاف من العراقيين ضمن عمليات إعدام سرية خلال العقود الثلاثة فهو لا يعتبرها سوي كلام فارغ . ويواصل شرح وجهة نظره قائلا: إذا جاء أمر من النظام لتنفيذ مهمة ما فانه لن يكون بإمكان أي شخص رفض التنفيذ. فطبيعة عمل الشرطة هو تنفيذ الأوامر لكن القيادة هي المسؤولة عن القرارات نفسها . انتهي الاقتباس من جريدة النيويورك تايمز الذي نشرته بالعربية أيضا جريدة الشرق الأوسط (عدد 20 اذار (مارس) 2003).
و كلام حميد عثمان لا يحتاج إلي أي تأويل، فهو واضح و دقيق وصريح، وحري بمن يدافع عن النظام وجرائمه أن يحترم عقول وأحزان العراقيين ويكف عن الإساءة إلي شهدائهم فيكرمنا بسكوته إن لم يجد في نفسه الشجاعة الكافية للتضامن مع أشقائه في العراق ويشجب ويدين القتلة.
أما الذين يشككون في هوية القتلي والمدفونين في تلك المقابر الجماعية التي ارتكبها بطلهم القومي ونظامه فقد نشرت المواقع العراقية علي الإنترنت والصحافة في الداخل العديد من قوائم الشهداء من رجال عسكريين ومدنيين ونساء وأطفال، بعضهم دفنوا بملابس النوم، وآخرون دفنوا وعيونهم معصوبة وأيديهم موثوقة إلي الخلف وهناك العشرات من القصص المأساوية المروعة و التي تقشعر لهولها الأبدان يتناقلها العراقيون هذه الأيام عن عمليات القتل والإبادة الوحشية التي كانوا يتعرضون لها. وسوف أرفق مع تعقيبي هذا قائمة بأسماء وأرقام وثائق تخص ألف وخمسمئة وسبعة وأربعين مواطنا عراقيا تم التعرف علي جثثهم في مقبرة واحدة هي مقبرة المحاويل في محافظة الحلة (بابل) والتي ضمت أكثر من عشرة آلاف جثة وقد تمكن الأهالي من التعرف علي أسماء هذه المجموعة من الشهداء أو ذكروا أرقام بطاقات تعريف ووثائق شخصية أخري لم يتمكنوا من قراءة أسماء أصحابها بسبب ما أصابها من ضرر. ويلاحظ أن بين الشهداء عشرات الناس والأطفال الصغار وقد دفنوا في أكوام وبعض الجثث كان محترقا، كما عثر علي جثة أم مع طفليها ومازالت الكرات الزجاجية الملونة التي يلعب بها الصبية في العراق في جيب أحد الطفلين.
إن هذه القائمة الموثقة بالأسماء والوثائق الشخصية لعراقيين معروفي الإقامة هي مجرد مثال أرسله رفقة تعقيبي هذا للاطلاع عليه وإذا لم يكن ممكنا نشر القائمة لطولها فهي في حوزة القدس العربي ويمكن للقراء أن يطلبوها مباشرة منها أو من كاتب هذه السطور علي العنوان الإلكتروني في نهاية هذه المقالة. مع العلم بأنني أقدم شهادة شخصية هنا عبر مقالتي هذه بصفتي من ذوي شهداء المقابر والإعدامات الجماعية حيث إن لي بينهم اثنين من أشقائي المباشرين وعددا من الأقارب الآخرين الذين اختفت آثارهم منذ سنة 1991.
بالعودة إلي جوهر الموضوع المتعلق بالموقف من هذه الكارثة المأساوية نلاحظ إن بعض الأخوة العرب والفلسطينيين خصوصا يركزون علي مسألة علاقة بعض أطراف المعارضة العراقية بالمحتلين الأمريكان، ويحاولون أن يجعلوا منها ـ بقصد أو بدونه ـ تعلة لرفضهم إدانة عمليات قمع الشعب العراقي من قبل نظام صدام حسين وهذه محاولة لحرف الموضوع عن وجهته الحقيقية فلا أحد يمكنه أن يشكك في وطنية هذه الطائفة العراقية أو تلك خصوصا و أن الجميع يعلمون تفاصيل الدفاع الشجاع والأسطوري عن العراق و تحديدا في الجنوب والفرات الأوسط في حين سُلمت العاصمة دون قتال تقريبا وشاهد الناس أفراد قوات النخبة المقربة من النظام والمدللة جدا وهم يرمون أسلحتهم وملابسهم العسكرية في نهر دجلة ويولون الأدبار وهم شبه عراة.
ومن ناحية أخري فلا أحد يمكنه أن يزايد علي العراقيين الاستقلاليين والمعادين بداهة وبعمق للاحتلال الأمريكي ولخيار الغزو والاحتلال وتشهد علي ذلك عشرات إن لم تكن مئات المقالات والدراسات التي نشرها هؤلاء العراقيين ومنهم كاتب هذه السطور وفي جريدة القدس العربي قبل غيرها. إن عملاء الاحتلال من عراقيي بوش حاولوا ويحاولون تبرير وضعهم ونشاطهم الحالي بممارسات النظام القمعية ويجعلون من أنفسهم جسرا لحالة الاحتلال الذي لا يقل دموية عن النظام المتخلف الهمجي وهذا هو الوجه الآخر للعملة أما وجهها الأول فقد تعرفنا عليه من خلال الدفاع الأعمي عن النظام ورموزه الذي يقوم به من يسميهم العراقيون عرب صدام ويظل الفاجع وغير الإنساني في كلا الموقفين هو الإساءة إلي مئات الآلاف من ضحايا القمع والاضطهاد لتضيع دماؤهم في المزايدات السياسية والشعارات الجوفاء التي لا تخلو من الميل الطائفي الرجعي.
إن الحقيقة التي تبعث علي التفاؤل وسط هذا الرماد والدمار ومآسي الحكم البعثي والاحتلال الإنكلو أمريكي الذي تلاه هي أن العراق قد خرج فعلا من القمقم الذي ُحبس فيه طوال أربعين عاما، وتحول في خاتمتها إلي بلد محتل ومدمر ومدين بمئات المليارات، وإن هذا الخروج سيكون بكل تأكيد انعطافة هامة علي طريق الخلاص واستعادة العافية لهذا البلد المهم والثري اقتصاديا وحضاريا، وسوف لن توقف عملية تقدم العراق واستعادته لدوره الكبير في صنع تاريخ المنطقة لا قوي الاحتلال ولا المعارضة العميلة حتي لو أفلح الأمريكان في تسليمها السلطة عاجلا أو آجلا ولنا في الثورة العراقية الكبري في 1920 خير درس فقد اندلعت هذه الثورة الشعبية بعد ثلاث سنوات علي سقوط العاصمة بغداد بيد القوات البريطانية الغازية وقاتل العراقيون في الجنوب والوسط لوحدهم ومرغوا التاج البريطاني في الوحل وأجبروه علي تشكيل دولة عراقية ذات استقلال مزيف بعد عام واحد علي إغراق ثورة العشرين بالدماء فهل سيصبر العراقيون ثلاثة أعوام أخري علي الوجود الأمريكي لينقضوا عليه بعدها ويمزقونه شر تمزيق ؟ أعتقد شخصيا بأن الصبر العراقي لن يدوم ثلاثة أعوام بل أقل من ذلك بكثير ليبدأ بعد ذلك الصِدام المزلزل مع المحتلين الجدد ليتحرر العراق من الكابوسين الاحتلال الأجنبي والاستبداد الوحشي الداخلي.
نعم، لقد خرج العملاق العراقي من القمقم بانهيار النظام الدموي و قد تطول عملية خلاصه النهائي من قيوده بعد أن يبدأ الصِدام التحريري، وقد يدفع شعبه أثمانا أخري لحريته وصعوده الحضاري، ولكن التراجع إلي الخلف، إلي الأنظمة الشمولية والاستبدادية، إلي الزعامات المتخلفة بميولها الطائفية والعنصرية ونزعتها لعبادة الفرد والعائلة المالكة الجمهورية، سيكون مستحيلا وهذه الحقيقة هي التي تثير الذعر والرعب لدي القوي الإقليمية عربية وغير عربية ممن استأسدت خلال فترة اختطاف وحبس العراق طول العقود الماضية علي يد صدام حسين ونظامه العشائري. غير إن هذا الكلام لا يتضمن أية معان تهديدية أو ثأرية بل هو توضيح للصورة الراهنة التي تعمل بموجبها آليات الكيانية العراقية التاريخية، والتي بدأت فعلا بالحركة والاشتغال وسيكون منصفا وموضوعيا لو أفاق أصدقاء العراق الشعب لا العراق الحاكم الدموي من أوهامهم وكفَّروا عن خطاياهم السابقة بحق هذا الشعب المذبوح من الوريد إلي الوريد وشرعوا في فهم حقيقة ما جري وما يجري بهدف بناء تقاليد تضامنية إنسانية تستشرف المستقبل و تتخلي عن تقاليد (قفا نبكي من ذكري...).
كاتب من العراق يقيم في جنيف


القدس العربي اللندنية