النتائج 1 إلى 8 من 8
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,321

    افتراضي كركوكيات ( هاتوا دليلكم )

    قضايا كردية معاصرة ... كركوك - الأنفال - الكرد وتركيا
    د. جبار قادر
    كركوك بين حقائق التاريخ ومزاعم السياسيين
    الفصل الأول
    كركوك ، تاريخ عريق وواقع مرير

    قد يبدو الحديث عن التاريخ البعيد في قضية معقدة ومتأزمة كقضية كركوك التي تعاني من آثارها الكارثية مئات الالاف من المدنيين ، نوعا من الترف الفكري الذي لا طائل منه . ولكن الذي يبرر تقديمي لهذه الورقة هو طلب القائمين على هذه الفعالية الثقافية - السياسية كي اقدم هذا العرض التاريخي السريع ، وحقيقة أنه يصعب فهم معضلات اليوم دون معرفة خلفياتها التاريخية . لذلك اتمنى ان لاتخلو هذه اللمحات الخاطفة من تاريخ كركوك الطويل من فائدة .
    شهدت سنوات العقد الأخير إهتماما لا بأس به بكركوك و نشر العديد من الكتب و الدراسات و المقالات التي غطت بعض الجوانب التاريخية و السياسية و الجغرافية و الأقتصادية لقضية كركوك ، لذا لم أجد مبررا في إيراد النصوص و المقتبسات المطولة من بطون الكتب و الدراسات بل سأشير و بإختصار شديد الى محطات تاريخية مهمة برأيي، وقد لا تكون كذلك بالنسبة للعديد من الحاضرين و القراء ، و سأكون سعيدا للأستماع الى مداخلاتكم و تعقيباتكم و إستفساراتكم .
    إذا وضعنا جانبا الحكايات الكثيرة و المتضاربة في تفاصيلها والتي ترويها الفئات المختلفة من سكان كركوك عن تاريخ مدينتهم و الأقوام التي شاركت في بناء هذه المستوطنة (الكوتية -الحورية - الميتانية) أو تلك التي سكنتها و سادت فيها، وهي قصص تغطي فترة تاريخية طويلة تمتد الى الألف الثالث قبل الميلاد وأحيانا الى أبعد من ذلك، وتجمع هذه القصص في طياتها أخبارا عن سلسلة من الأقوام والقبائل التي سكنت تلك المنطقة مثل ( اللولوبيين ، السوباريين ، الكوتيين ، الخوريين أو الحوريين ،الكاشيين ، الميتانيين ، الميديين وغيرهم من الأقوام التي لعبت فيما بعد دورا أساسيا في تكوين الشعب الكردي الحالي ، فضلا عن قوى دولية كبرى اغارت عليها و حكمتها سنينا طويلة لتخلف آثارا مهمة كالآشوريين و الساسانيين و السولوقيين و غيرهم)، أقول إذا تجاوزنا هذه الأخبار سنرى بأن التاريخ يشير الى أن عمر كركوك أكثر من خمسة آلاف سنة على أقل تقدير و هي بذلك واحدة من أقدم مدن المنطقة وبنيت شأنها شأن العديد من المدن الأخرى في العالم القديم على شكل قلعة على تلة كبيرة و أحاطت بها الأسوار من كل الجهات لصد هجمات القبائل و الجيوش المغيرة و كانت لها بوابات أربع . وتدلل الآثار التاريخية الغنية التي عثرت عليها قرب كركوك الى هذا التاريخ الطويل ودور المدينة والمنطقة في حضارة بلاد ما بين النهرين .
    وكانت كركوك خلال العصور الوسطى جزءا و في أكثر الأحيان مركزا لإقليم شهرزور، أحد أشهر إقاليم كوردستان الى جانب إقليمي الجزيرة و الجبال على مر العصور الأسلامية حتى أواخر العهد العثماني(1).
    ويهدف ممثلوا الفئات المختلفة من سكان المدينة من وراء تلك الحكايات والقصص والبحث في بطون كتب التاريخ الى الحصول على أكبر قدر ممكن من هذه الروايات أو مايسمونها ب(الشواهد والإثباتات )على تاريخية تواجدهم في المنطقة وتوظيف ذلك في الصراع السياسي الدائر بشأن الهوية التاريخية والقومية والثقافية للمدينة والمحافظة، متناسين في أغلب الأحوال حقيقة أن حقوق المواطنة و التمتع بالحريات الأساسية يجب أن لا تستند لا على القدم التاريخي للناس ولا على كثافتهم العددية ،رغم أهميتهما بطبيعة الحال في تحديد هوية المناطق قوميا أو ثقافيا .
    مع تفكك الدولة العباسية وسيطرة القبائل الرعوية المغولية والتركمانية تعرضت كركوك المدينة و المنطقة كغيرها من المدن والحواضر الشرقية الى حملات التدمير والنهب والفوضى السياسية على أيدي السلاجقة والمغول والأتابكة والقرقوينلو والآق قوينلو والصفويين والعثمانيين الى جانب صراعات الزعماء القبليين والإقطاعيين الكرد المحليين. نجمت عن هذه الصراعات الطويلة التي إستغرقت فترة زمنية تجاوزت ألفية كاملة ، حالة جد مريعة من الركود الإقتصادي و الإجتماعي و الثقافي .
    وجاء الإحتلال العثماني في النصف الأول من القرن السادس عشر ليكرس حالة التخلف والركود والنهب العثماني لأربعة قرون كاملة، شهدت المنطقة خلالها الويلات بسبب الصراع الطويل بين الدولتين العثمانية والأيرانية بخاصة خلال حملات الشاه عباس الأول (عام 1623) و بالأخص أثناء حملة نادر شاه و إحتلاله لكركوك (عام 1743 ) وإستعادة العثمانيين لها في عام (1746 ). لم يكن بالأمكان ان تمر هذه الحملات دون ان تترك آثارا كبيرة على البنى الأقتصادية والأثنية والأجتماعية في كركوك وتوابعها .
    ومنذ القرن الثامن عشر تحولت كركوك الى ساحة لصراع باشوات بغداد و شهرزور من أجل السيادة فيها . وهكذا يمكننا القول بأن كركوك لم تنعم على مدى قرون طويلة بالأمن والسلام . ولكنه ورغم السيطرة الشكلية العثمانية على كركوك خلال العصر الحديث، إلا أن السلطة الفعلية فيها و في غيرها من مناطق كوردستان كانت بأيدي الزعماء القبليين والأقطاعيين المحليين وبخاصة أمراء بابان وأردلان .
    لم تكن كركوك في العصور الوسطى سوى مجموعة من البيوت المحاطة بسور كبير على ربض بين قصبة داقوق ومدينة أربيل، أي أن داقوقا التاريخية، التي أصبحت فيما بعد قضاء تابعا لكركوك ومن ثم ناحية لتعود قضاء مرة أخرى ، كانت أكثر صيتا و أهمية من كركوك نفسها، بل أن الأخيرة ولغاية أواخر القرن أواخر الرابع عشر الميلادي غالبا ما كانت تتبع داقوق اداريا و اقتصاديا ، وكانتا على إتصال بأربيل وشهرزور وإمتداداتهما اوثق من إتصالهما بأية بقعة أخرى في المنطقة من جميع الأوجه(2 ).
    ورد إسم كركوك بصيغته الحالية لأول مرة في التاريخ في العهد التيموري في كتاب شرف الدين علي يزدي ( ظفر نامة ) الذي كتب في حدود سنة 1424 / 1425 م (3 ).
    ويبدو أن القلعة المحاطة بالأسوار بقيت لقرون طويلة المنطقة السكنية الوحيدة في المدينة ولم يتجاوز عدد بيوتها عند منتصف القرن السادس عشر المائة وسبعين بيتا وفق بعض الروايات التاريخية،كانت بيوت باشوات شهرزور حتى منتصف القرن التاسع من أبرز البيوتات التي كانت تضمها قلعة كركوك . وشهدت نفس الفترة التاريخية تقريبا ظهور البيوت و المحلات التجارية خارج القلعة ، إذ لدينا بعض الإشارات تعود الى عام 1548 عن حي إمام قاسم الكردي الشهير في كركوك الذي ضم آنذاك 21 دارا سكنية و شهد جامعه المعروف (جامع امام قاسم ) عمليات الترميم في الأعوام 1614 ، 1691 و 1894 . وشهدت بداية القرن الثامن عشر بناء تكية الشيخ عبدالرحمن التي تعرف بالتكية الطالبانية . كما تشير المصادر نفسها الى الكنيسة على التلة حمراء الى الشرق من القلعة على طريق كركوك- السليمانية الحالي (4).
    وكانت كركوك تدار بعد إستيلاء العثمانيين عليها بموجب نظام إقطاعي (دربكي) ، حيث يتولى (متسلم ) إدارتها مقابل رسوم مقطوعة، ولما ألغي نظام الحكم الإقطاعي عام 1840 ، أعيدت إدارة كركوك الى ولاية شهرزور وكانت كركوك مركزا لها . و في عام 1879 أصبحت هذه الولاية سنجقا أي متصرفية الحقت بولاية الموصل .
    من المناسب أن أشير هنا الى حقيقة تاريخية مهمة وهي أن لواء كركوك كانت تضم حتى نهاية الحرب العالمية الأولى أقضية كركوك، أربيل، رانية، رواندوز، كويسنجق وكفري وجميع توابع هذه البلدات . وفي عام 1918 فقط قام البريطانيون بفصل الأقضية الواقعة الى الشمال من الزاب ليكونوا منها لواء بإسم لواء أربيل. أي أن لواء كركوك كان يضم جميع أراضي كوردستان الحالية بإستثناء الأقضية الكردية التي كانت تتبع الموصل و التي شكلت منها عام 1969 محافظة دهوك وقضاء خانقين وتوابعه التي ألحقت بولاية بغداد لدوافع ترتبط أساس بأهمية موقعها الجغرافي في العلاقة مع إيران . وهكذا فإن إقليم شهرزور يعيش اليوم من دون عاصمته التاريخية . وتشير حقيقة إرتباط هذه المناطق إداريا بكركوك بل وإدارتها إنطلاقا من مركز كركوك الى الهوية التاريخية والجغرافية للمدينة والمحافظة التي يحاول الكثيرون تحريفها هذه الأيام لأغراض سياسية معروفة .
    يبدو أن كركوك شهدت توسعا لا بأس به في ظل حكم الأمارتين الكرديتين الأردلانية والبابانية. فقد أشار أوتير، أول سائح فرنسي زار المدينة في نيسان من عام 1735 و عاد إليها مرة أخرى عام 1739 ، الى مدينة كركوك بأنها كانت في النصف الأول من القرن الثامن عشر مدينة متوسطة الحجم و تقع في منطقة سهلية تتخللها التلال، ولها سور وقلعة حصينة ذات إنحدار حاد وعسير ، وتمر بأسفلها ساقية اسمها (خاصة،وهي كلمة كردية متداولة في منطقة كركوك تعني العذب أو الجيد وقد اشار هذا السائح الى ذلك بوضوح ) أي الماء العذب .
    وأشار بأن القلعة تعود الى عصور قديمة جدا، وكانت المدينة عندما زارها تتكون من قسمين:ضم القسم الأول القلعة وكان يعيش فيها عدد غير كبير من السكان، أما القسم الثاني فقد شكلته المنطقة المحيطة بالقلعة والتي كانت تضم المركز التجاري للمدينة. وأكد أوتير أيضا حقيقة كون كركوك عاصمة لباشالق " باشوية " شهرزور والتي إعتبرها جزء من كوردستان، و ضمت حكومة شهرزور برأيه 32 مقاطعة ، وكان يحد باشوية شهرزور كل من آذربايجان وبلاد بابان وبلاد بغداد والموصل وعمادية وحكاري، وذكر بأن باشا شهرزور جعل من كركوك محلا لإقامته (5).
    شهد القرن الأخير من عمر الدولة العثمانية صراعا كبيرا للسيادة على كركوك بين باشوات بغداد وشهرزور . فقد كان ولاة شهرزور يعينون من الباب العالي مباشرة ويديرون شؤون الولاية من مركزها كركوك بإستقلال تام عن سلطات باشوات المناطق المحيطة بها. لكن باشوات بغداد أخذوا يعينون رجالهم كمتسلمين في كركوك منذ منتصف القرن الثامن عشر. ولم يكن ذلك ليرضي باشوات شهرزور الذين لم يتخلوا عن حقهم في إسترداد عاصمة ولايتهم أبدا ومثلوا على الدوام تهديدا على سيطرة ولاة بغداد على كركوك . ربما يتساءل المرء هل للصراع الدائر حاليا على كركوك بين حكام بغداد و شهرزور علاقة بذلك الصراع القديم أم لا ؟ .
    لم تجذب كركوك إهتمام الرحالة الأجانب كثيرا ، فالرحالة القادم من عاصمة آل عثمان والمتوجه الى بغداد عن طريق الموصل أو العكس كان بإمكانه أن يمر على مسافة عدة من الكيلومترات غرب كركوك ، دون أن يمر بها أو يكتب عنها وذلك عبر طريق الموصل - قصر مشعان - تكريت - سامراء - بغداد ومن ثم الذهاب الى إيران عن طريق خانقين أو غيرها . وهكذا فإن كركوك لم تكن خلال عصر الرحلات مدينة مركزية في ذهن الرحالة و لا مركزا من الصعب أو الخسارة السياسية والإقتصادية أو المعلوماتية تفادي المرور به . بينما كان هناك طريق آخر يزيد حظ كركوك كمحطة رئيسية من محطات السفر ، وهو الذي يمر بوسط كوردستان، أي عبر السليمانية - سنه أو سنندج - همدان ومن ثم اصفهان وطهران إن كان المسافر قادما من بغداد أو الموصل أو عائدا اليهما (6).
    ومن هنا فإن المعلومات المتوفرة عن كركوك بالمقارنة مع المدن والحواضر الشرقية الأخرى التي مر بها الرحالة والتجار والمغامرين تبدو فقيرة ومبعثرة ،لا يستطيع معها الباحثون من رسم صورة عنها خلال القرون التي أعقبت الأحتلال العثماني .
    ولكن في المقابل فأن الطريق المار بكركوك قد جرى أستخدامه من قبل الجيوش المحتلة والقوى المختلفة في حملاتها العسكرية و صراعاتها الطويلة على مدى القرون للسيطرة على هذه المنطقة أو درء الأخطار عن نفسها ، الأمر الذي نجم عنه الخراب والدمار على مختلف الأصعدة السياسية ، الإقتصادية، الإجتماعية ، والثقافية التي لا تزال كركوك تعاني من آثارها المريرة .
    تشكل نهاية القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر ( فترة التنظيمات العثمانية) لحظة تاريخية مهمة بالنسبة لكركوك و كوردستان برمتها. و يرتبط ذلك أساسا بتخلي الدولة العثمانية عن سياستها السابقة في كوردستان ، نقصد بها سياسة ترك إدارة المناطق الكوردية بأيدي الزعماء القبليين والأقطاعيين المحليين الكورد لقاء إرسال الأموال سنويا الى الباب العالي وتقديم المقاتلين أثناء الحروب والحملات العسكرية والخطبة بإسم السلطان في جوامع كوردستان اثناء صلاة الجمعة. وقد إتبعت الدولة العثمانية هذه السياسة في أغلب مناطق كوردستان منذ معركة جالديران 1514 بينها و بين الدولة الصفوية . ولكن مع التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا وإكتشاف الدولة العثمانية لحقيقة تخلفها عن الأولى وقيامها ببعض الإصلاحات بهدف بقاء سيطرتها على المناطق المختلفة، قررت اللجوء الى الإدارة المباشرة للمناطق الخاضعة لسيطرتها بما فيها كوردستان . وقد تركت تلك السياسات العثمانية في كوردستان على مدى قرون ثلاثة أثارا جد عميقة على الأوضاع في كوردستان ، فهي ساهمت من جهة على بقاء الكورد عنصرا سائدا في مواطنه ومحافظا على ثقافته المحلية ولغته، لكنها ساهمت من جهة أخرى في ترسيخ حالة التفتت والتشرذم القبلي والأقطاعي الى حد كبير الأمر الذي لا يزال يعاني المجتمع الكوردي من آثاره الإجتماعية والسياسة والأقتصادية والثقافية المدمرة الى يومنا هذا .
    وقدر تعلق الأمر بكركوك فإنها تحولت منذ منتصف القرن التاسع عشر الى مركز مهم للأدارة والجيش العثمانيين و تجنيد العساكر والموظفين الإداريين . ومع إستقرار الإدارة العثمانية وفئة الموظفين المدنيين والعسكريين فيها، بدأت عثمنة (أقرأ تتريك) جزء من السكان المحليين،لتبدأ بذلك عملية التغييرالديموغرافي القسري للسكان والتي ستصبح على مدى القرن والنصف التالي سمة رئيسية تصطبغ بها الحياة الإجتماعية والأقتصادية والثقافية والسياسية في كركوك المدينة و المنطقة (7) .
    رغم ذلك لا نجد حتى نهاية القرن التاسع عشر مصدرا مهما يشير الى تغييرات كبيرة في التركيبة الأثنية للسكان. وهنا يجب التنويه مباشرة الى أنه لا يمكن التعويل كثيرا على الأرقام الواردة في كتابات الرحالة والمصادر المختلفة لانها تستند في أغلب الأحوال على التخمين لأناس لم يقضوا في أكثر الأحيان سوى أيام معدودة في كركوك أو في احد توابعها ، لذا فإن الإختلاف و التناقض الكبيرين ينتابان هذه الأرقام و المعطيات الى حد كبير . ولعل كليمان الذي زار المدينة عام 1856 أول من يعطينا تخمينا لعدد وتركبية سكان كركوك الذين يقدرهم عددهم بحوالي 25 ألف نسمة ( من دون الجنود العثمانيين الذين كانوا يتمركزون فيها)، مؤكدا في الوقت نفسه أن الكرد يشكلون ثلاثة أرباع سكان كركوك (8) .
    من الجدير بالملاحظة أن أكثر الرحالة الذين مروا بكركوك و تحدثوا عن تركيبة سكانها لم يدخلوا الجنود و في أغلب الأحوال الموظفين المدنيين العثمانيين أيضا ضمن سكان المدينة ، بل عدوهم غرباء عنها سرعان ما يغادرونها بعد إنتهاء خدمتهم فيها ، بإستثناء من يتخلف منهم بسبب الروابط الإجتماعية أو المصالح الإقتصادية . فقد قدر المهندس الروسي يوسيب تشيرنيك الذي زار المدينة عام 1872 - 1873 بهدف دراسة إمكانية الملاحة في حوضي دجلة و الفرات ، قدر عدد سكان المدينة بين 12 - 15 ألف نسمة و أكد بأنهم جميعا من الكرد بإستثناء ( 40 ) عائلة مسيحية إعتبرهم خطأ من الأرمن . وهكذا نرى بأن التناقض تسود هذه المعطيات خاصة فيما يتعلق بعدد السكان و بقدر أقل قدر تعلق الأمر بتركبيتهم الأثنية . و يحدد شمس الدين سامي ، وهو مؤلف عثماني معروف من أصول ألبانية و من رواد الأدب التركي الحديث، في مصدر معتبر هو قاموس الأعلام العثماني عدد سكان كركوك ب 30 الفا في منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر مؤكدا في الوقت نفسه بأن الكرد يشكلون ثلاثة ارباعهم (9) .
    سيشهد القرن العشرين أكبر عملية عبث بالديموغرافيا في كركوك على أيدي الحكومات العراقية المتعاقبة لتصل الى مرحلة التطهير العرقي بأبشع صوره على يد نظام صدام حسين ولتنحسر نسبة الكرد في كركوك الى 48 % في أواخر العهد المكلي و أقل من ذلك بكثير في العقود اللاحقة. لقد ساهمت ثروة كركوك النفطية في تعميق هذه التغييرات الديموغرافية، فقد تحولت المدينة الى مركز جذب مهم للسكان بعد إستخراج النفط فيها منذ منتصف الثلاثينات و بلغت الزيادة السكانية فيها نسبا عالية جدا بسبب الهجرة المستمرة اليها من مناطق الطرد السكاني. فقد بلغ عدد سكان مركز قضاء كركوك عام 1947 (67756 ) شخصا،كان أكثر من 18 ألفا منهم من مواليد الألوية الأخرى، بينما وصل هذا الرقم الى حوالي 20 ألفا حسب إحصاء عام 1957 بينهم عدد من مواليد الدول العربية أيضا .
    من المفيد أن نشير هنا الى أنه وبعد إنقضاء أربعة عقود كاملة من زوال الحكم العثماني عن العراق كان لا يزال في مركز قضاء كركوك 1353 شخصا من مواليد تركيا حسب إحصاء عام 1957. ويؤكد الرقم الأخير حقيقة طالما حاولت جهات عديدة أن تنكرها لأسباب غير منطقية ونقصد بها سياسة إسكان الموظفين المدنيين والعسكريين الترك في المدينة من قبل سلطات الإحتلال البريطاني بعد هزيمة الدولة العثمانية وإحتلال الأنجليز للمدينة(10 ). لقد برر
    البريطانيون الأمر بحاجتهم الى اولئك الموظفين و الأستعانة بهم لإدارة امور اللواء . لقد استغل الأنجليز هذا الأمر بطريقة كانت تهدف دوما الى تهميش السكان الكرد في المدينة و اضعاف دورهم في ادارتها و في الحياة الأقتصادية و السياسية و الثقافية فيها بسبب مطالبة الكرد انذاك بالدولة الكردية المستقلة . استمرت عمليات الهجرة الى كركوك خلال العقود التي اعقبت ذلك باعداد كبيرة وتشير المصادر الى أن عدد المهاجرين الى كركوك خلال 1947 - 1957 فقط بلغ 39 الف مهاجر(11) .
    وهناك حقيقة أخرى لا يخلو منها مصدر معتبر او مرجع رصين و هي إعتبار كركوك ضمن أراضي كوردستان قبل وبعد قيام الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي. إذ تشير الموسوعة البريطانية الى أن مدينة كركوك تقع عند أقدام جبال زاكروس في كوردستان العراق(12) . كما تشير الموسوعة الفرنسية الكبرى الى أن كركوك تعد من أهم المدن في كوردستان الجنوبية وتتمتع بأراض خصبة و تصلها المصادر المائية المختلفة (13 ) .
    خلال العقود الأربعة الأخيرة ومع تنامي حملات التعريب وحملات الأنفال والتطهير العرقي تنامت الدعوات والمحاولات لفصل كركوك عن محيطها الجغرافي و الثقافي الطبيعي من خلال الإجراءات القسرية وتشويه حقائق التاريخ و الجغرافيا . لقد أثبتت تجارب التاريخ فشل مثل هذه المحاولات والدعوات في كركوك و في غير كركوك . في المقابل أظهر سكان كركوك الأصلاء كما كبيرا من التسامح والروح الإنسانية النبيلة لقبر جميع المحاولات التي كانت تهدف الى تحويل مدينتهم الحضارية الى ساحة للصراع و العنف و البربرية .
    الهوامش و المصادر :
    *) ورقة قدمت في ندوة كركوك بلندن بتاريخ 24 أيلول 2005 .
    1. للمزيد من المعلومات في هذا الباب يراجع : J.H.Kramers & Th.Bois ,Kirkuk, The Encyclopaedia of Islam,new edition. Vol.V. Leiden 1986.PP.144-147. : د.كمال مظهر أحمد،كركوك و توابعها - حكم التأريخ و الضمير ، ج1 ، بلا.م ، ص 5-26 .
    2. . د.كمال مظهر أحمد ، المصدر نفسه ، ص 19 .
    3. Kramers J.H, Th.Bois, Kirkuk , The Incyclopaedia of Islam. vol.V, p.144
    4. صبحي ساعتجي ، شذى التاريخ في أحياء كركوك ، إيلاف 14 تموز 2005 .
    5. ج. أوتير ، رحلة الى تركيا و بلاد فارس ، باريس 1748 ، ص150 ؛ نقلا عن : د.هلكوت حكيم ، كركوك في كتابات الرحالة الفرنسيين ، في كتاب : كركوك مدينة القوميات المتاخية ص 143 .
    6. د.هلكوت حكيم ، المصدر نفسه ، ص 141 -142 .
    7. للتفاصيل راجع مقالنا المطول: كركوك : قرن و نصف من التتريك و التعريب ، المنشور في (الملف العراقي ) ،العدد 99 ، اذار 2000 ، ص 42-46 ؛وكذلك بحثنا الموسوم ، السياسات الحكومية في كركوك خلال العهد الملكي (1921 - 1958 ) ،في كتاب: كركوك ، مدينة القوميات المتآخية ،لندن 2002 . ص 151- 189 .
    8. أ . كليمان ، رحلة الى كوردستان العثمانية ، من كركوك الى رواندوز ، مجلة كلوب ، باريس 1866 ، المجلد الخامس .ص 199 ، نقلا عن د.هلكوت حكيم ، نفس المصدر ، ص 143 .
    9. للتفاصيل راجع دراستنا : التكوين الأثني لسكان كركوك ( خلال الفترة 1850 - 1958 ) ، في كتاب : كركوك مدينة القوميات المتاخية ، ص 256-272 .
    10. وزارة الداخلية ، مديرية النفوس العامة ، المجموعة الإحصائية لتسجيل السكان لسنة 1957 مطبعة العاني ، بغداد 1963 ، للوائي السليمانية و كركوك - ، ص 241.
    11. الدكتور أحمد نجم الدين ، أحوال السكان في العراق ،القاهرة 1970 ، ص 109 ، نقلا عن : الدكتور نوري طالباني ، منطقة كركوك و محاولات تغيير واقعها القومي ، ط2 ، بلا.م،1999 ص 49.
    12. Encyclopaedia Britannica, Kirkuk
    13. الموسوعة الكبرى،الجزء 31 ، تور 1885 ، ص 485 ،نقلا عن د. هلكوت حكيم ،المصدر نفسه، ص 142 .








    [email protected]

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    230

    افتراضي

    أدارة كركوك عبر التاريخ


    أعده : نجات كوثر اوغلو

    نزح السومريون من موطنهم اواسط اسيا الى ميزوبوتاميا " بلاد ما بين نهرين " من سنة 4000ق.م الذين صنعوا في ميزوبوتاميا " العراق " الحضارة والمدنية في تاريخ الانسانية 1.

    وان الغموض يكتنف نشأة كركوك " قلعة كركوك " في العصر السومري لأن اقدم ذكر لها يرجع الى عهد السومرية " عصر فجر السلالات " 2600 ق.م " . وذكرت في المصادر التأريخية ان آرابخا " كركوك " قد تميزت في العهد السومرية ، بازدهار العمران واتساع مركزها . واهم ما كان يتميز به هذا العصر ، ظهور المدن المستقلة الذي أصطلح على تسمية بعصر دويلات المدن City state وعلى هذا نشاهد ان العراق في العصر السومري مقسماً على عدة دويلات ، وكانت كل مدينة دولة قائمة بنفسها تتألف من مدينة وبضع قرى باراضيها وبساتينها يحكمها استشارياً مجلس المواطنين العام الذي يتألف من مجلس المسنين . والمتقدمين من كبار رجال الاسر والعشائر ومجلس الشباب القادرين على حمل السلاح . وعلى هذا الاساس ان كركوك كانت مدينة مستقلة بحد ذاتها في العصر السومري 2.

    فقد ذكرت المصادر الأشورية أن " آرابخا " القديمة " كركوك الحالية " كانت مركزاً لعبادة الاله " آدد " آله الرعد والامطار . وحين اجتاحها الجيوش الاشورية 1400 ق.م. شاهدت في وديانها النيران المتأججة " النار الازلية " كما ورد ذلك مخطوطاً على مسلة النصر التي اقامتها ملك بابلي غير معروف ، والذي ذكر فيها فتح آرابخا " كركوك " بهذه الكلمات " (دخلت آرابخا وقبلت اقدام الاله آدد واعدت لتنظيم البلاد 3 . )

    واتبع حمورابي نظاماً مركزياً ربط جميع حكامه به وحدد صلاحياتهم ، والنصوص تشير الى الموظفين متنوعي التخصص ، فهناك مجلس المسنين وحكام المقاطاعات وجباة الضرائب ومسؤلوا المدن والمشرفون على الاملاك الملكية ومسؤول الشرطة ومسؤول التجار .. الخ . حيث كان البلاد مقسمة الى عشرين مقاطعة لكل منها حكومة محلية مسؤولة امام الملك في بابل .

    وفي سنة 642 م تم فتح منطقة كركوك وضواحيها من قبل المسلمين في عصر الخليفة عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) بقيادة اياس بن غنام . حيث تطورت الادارة في العصر الاسلامي ، اذ قسم الخليفة العراق الى منطقتين اداريتين هما ولاية البصرة وولاية الكوفة ، وجعل كل ولاية مستقلة عن الاخرى تتبعها اثنا عشرة وحدة ادارية مقسمة الى وحدات اصغر . فأصبحت كركوك في بداية العصر الاسلامي الاول مدينة متواضعة ليست لها اهمية تذكر 4 .

    لم يتوطد حكم البويهيون في شمالي العراق بصورة عامة وكركوك بصورة خاصة .

    وفي سنة 447 هــ / 1055 م دخل طغرل بك السلجوقي مع جيشه بغداد ورافقه موجة كبيرة من قبائل الغز " اوغوز " او التركمان وسمي المؤرخون هذه الطائفة بالغز العراقية 5 . وسكنوا منطقة كركوك واستوطنوا مع اقرانهم التركمان الذين استوطنوا واسسو مدينتهم كركوك منذ عصر فجر السلالات 2600 ق. م. في عصر السومري الذين نزحوا من تركستان الى ميزوبوتاميا " العراق " كما ذكرنا اعلاه 6 .

    اتبعت الدولة السلجوقية اسلوب اللامركزية في الحكم وذلك عن طريق منح اقطاعات الى الامراء او القواد وتشكيل هذا الامير امارة تكاد تكون مستقلة في اكثر الاحيان وانتشرت اتابكيات وامارات تركمانية متعددة في اماكن مختلفة من الامبراطورية السلجوقية .

    وامارة قفجاق هي واحدة من هذه الامارات التي تأسست في كركوك . وبقيت لفترة طويلة على مسرح التاريخ السلجوقي . واتخذ قفجاق بن ارسلان طاش التركماني مؤسس الامارة ، مدينة كركوك مركزاً للأمارة حتى سقوطها سنة 587 هـ / 1191 م على يد مظفر الدين گوگبورى حاكم اربيل . وقد دخلت كركوك في مملكة اربل " اربيل " .

    وقامت الدولة الايلخانية في سنة 656 هـ / 1258 م واصبحت كركوك ضمن ادارة الايلخانيون . ولكن لم ينال المدينة من اعمال عمرانية التي قام بها الايلخانيون في العراق ، ولاسيما في عهد الايلخان السابع غازان محمود " 1295 هـ / 1304 م "

    وبعدها تأسست الدولة الجلائرية التركمانية سنة 814 هــ / 1337 م ، ودخلت كركوك ضمن الدولة الجلائرية ، ودام حكمهم في كركوك " العراق بصورة عامة " حتى استيلاء تيمور لنك على بغداد .

    وفي سنة 796 هـ / 1394 م ، دخل تيمورلنك مع قواته مدينة كركوك وداقوق . وقدم حاكم داقوق وكركوك الامير قزل مير علي اويرات ولاءه الى تيمور مع حكام المدن والقلاع المجاورة . ونعم تيمورلنك اهالي المدينة واكرمهم ووزع عليهم الهدايا والاموال.7

    وفي سنة 814 هـ / 1410 م دخلت ادارة كركوك ضمن حكم دولة القره قوينلو وهم احدى القبائل التركمانية التي حكمت العراق الى سنة 1467 م . وفي عهدهم سميت بلدة كرخيني بـ"كركوك " وذلك وجدت لاول مرة في هذه العهد نصوصاً تاريخية لحوادث جرت في كركوك فذكرت فيها تارة اسم " كرخيني " وتارة اسم " كركوك " مع ان الحوادث لم تتبدل والمواقع نفسها8 . فالتركمان هم الذين اطلقوا تسمية كركوك على مدينتهم .

    قامت دولة الاق قوينلى في العراق سنة 872 هـ / 1467 م ،واق قوينلى : فهي احد القبائل التركمانية هاجرت من مواطنها تركستان امام المغول في اواخر القرن الثالث عشر .

    استطاع مقصود بك بن اوزون حسن " حسن الطويل " سنة 1469 م من فتح بغداد . وبعدها اصبحت ادارة كركوك تابعة لدولة الاق قوينلو . ونال شيأًًًًً من الاستقرار والعناية .

    حيث يقول العلامة الدكتور مصطفى جواد " اما دور التركمان القره قوينلى ثم الاق قوينلى فقد اختلطت قبائل هؤلاء بسكان المناطق الواقعة في الشمال الشرقي من العراق وفي شمال العراق واكثرهم من الترك وكان اختلاطهم بالشعب مستمراً ، بحيث لم يعد من التركمان اليوم من يستطيع ان ينفي عن نفسه بانه قره قوينلى او اق قوينلى ولا ان يثبت ذلك وقد كان هؤلاء من التركمان رحالة وراء المواشي طالباً للكلأ . وقد سنحت لهم الفرص للاستيلاء على العراق واذربايجان والجزيرة والمدن التي امضوها في الحكم كانت كافية لامتزاجهم بالشعب وبجماعتهم من التركمان الذين سبقوهم لاتخاذ العراق والجزيرة وطناً لهم9.

    وفي عام 914 هــ / 1508 م دخل العراق تحت نفوذ وادارة الدولة الصفوية في الاساس هم اسرة تركمانية صوفية ، تنتسب الى الشيخ صفي الدين المتوفي عام 734 هـ / 1334 م واشتهر هذا الشيخ في اردبيل بامتهان للطريقتها الصفوية واستغل اسماعيل الصفوي حالة الفوضى والتمزق في حكومة الاق قوينلو وبسط حكمه على جميع انحاء العراق . واصبحت كركوك ضمن ادارة الصفويون حتى دخول السلطان سليمان القانوني بغداد في 24جمادى الثانية من سنة 941 هـ / 1534 م وبدأ الحكم العثماني في العراق .

    وبعد استيلاء العثمانيين على العراق وضعوا تقسيماً ادارياً جديداً سمي بنظام الولايات (وتعني " ايالة " اكبر وحدة في الامبراطورية العثمانية . اما السنجق تعني وحدة ادارية اصغر من الايالة محدودة الرقعة ، وكان على السنجق مير لواء الذي عليه ان يقدم اثناء الحرب عدداً من الجند حسب دخل اقطاعه الخاص ) التي تتبعها " السناجق " وتتالف كل ولاية من الوالي وموظفيه . حيث قسم العراق الى خمس ولايات ، بغداد – الموصل – البصرة – شهرزور – والاحساء . واصبحت كركوك مركز ولاية شهرزور10 . واستبدلت اسم شهرزور الى كركوك في 25 شعبان 1310 " 14 مارت 1893 " بسبب وقوع التباس في تشابه الاسم بين سنجق زور الواقعة في سوريا .

    ويرأس الجهاز الحكومي فيها الوالي ، وغالباً مايكون برتبة الوزير ، ووالي بغداد له صلاحيات اوسع من الولاة الاخرى . والولاة كانوا مستقلين عن الباشا في بغداد ، الا عند ما كانت تصدر الاوامر السلطانية بالتعاون والتأزر بين الاطراف المذكورة . وقد كانت تدخل بغداد في شؤون الولاة في بعض الحالات مثل ظهور الفتن والعصيان وما ذلك من الحوادث الشبيهة .

    وقد حدثت فيما بعد في اواخر العهد العثماني تبدلات فرعية في هذه التقسيمات . إذ قسم العراق الى ثلاث ولايات رئيسية وهي بغداد – الموصل – البصرة . فأصبحت كركوك في سنة 1892 تابعة لولاية الموصل .

    وفي سنة 1894 والادوار بعدها كانت كركوك احدى سناجق ولاية الموصل المتكونة من اقضية اربيل ، صلاحيه ، كوى سنجق ، راوندوز ، ورانيه .

    وجاء في سلنامة الموصل لسنة 1310 هـ " 1893 م " بان سنجق كركوك ورد باسم شهرزور والوحدات الادارية كانت بهذا الشكل :

    سنجق شهرزور : ا- النواحي التابعة للمركز وهي : التون كوبرى ، ملحة " الحويجة " ، شوان ، كيل ، داقوق .

    ب- الاقضية هي : راوندوز . ج- صلاحيه ، والنواحي التابعه له هي قره تپه ، طوزخورماتو .

    د- قضاء اربيل متكونة من النواحي سلطانية وذزه بي . هــ - قضاء كوى سنجق .

    و- قضاء رانيه .

    وفي سلنامة الموصل لسنة 1312 هــ، كانت الوحدات الادارية لسنجق كركوك بهذا الشكل :- مركز كركوك والنواحي التابعة لنفس المركز اللواء هي التون كوبرى ولها 30 قرية ، داقوق ولها 12 قرية ، شوان لها 100 قرية ملحه ولها 23 قرية وكيل ولها 50 قرية .

    والاقضية الملحقة لكركوك وهي 1- قضاء راوندوز والنواحي التابعة لمركز قضاء هي ناحية برادوست وله 64 قرية وديره حرير وله 40 قرية وبالك له 60 قرية .

    2- قضاء اربيل ، والنواحي تابعة له دزه يي ، قوش تبه ، وسلطانية .

    3- قضاء صلاحية " كفرى " والنواحي التابعة له ، طوزخورماتو وقره تبه .

    4- قضاء كوى سنجق ، وناحية شقلاوه تابعة له .

    5- قضاء رانيه .

    وفي سنة 1902 كانت النواحي التابعة لمركز كركوك وهي ناحية نفس كركوك تازه خورماتو ، التون كوبرى ، كيل ، وناحية شوان ، ومن مجموع 348 قرية تابعة للواء هناك 133 قرية تابعة لنفس مركز كركوك .

    وكان حكام كركوك يلقبون بــ" المتصرف " وعند غياب المتصرف عن السنجق كان يتولاها المتسلم و" المتسلم هو الموظف الاداري الذي يتولى مقاليد الامور عند عزل الوالي او المتصرف ريثما يعد الحاكم الجديد لحين " . وكان تعيين المتصرف والمتسلم ، يقترن بادارة السلطان العثماني ويدار الحكم حسب النظام الاقطاعي ، فكانوا يعطون رسوماً مقطوعة الى والي بغداد . وقد استطاعت كركوك خلال حكم المتسلميين ان تستقل استقلالاً تاماً عن والي بغداد11 . كانت الايالات تتجزّأ الى وحدات شبيهة بوحدات القرن التاسع عشر ، فان حدود البقاع القبائلية المعروفة على مر الزمن او المقاطعات الوراثية او الوديان او مصبات الانهار والجداول اصبحت حدوداً للنواحي والاقضية . حيث يقول لونكريك صاحب كتاب اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث في صفحة 95 " ان مدينة كركوك الجميلة لم تتبدل كثيراً في القرنيين الاخيرين كما لم يتبدل خط القرى التركمانية الممتد على طول طريق الاعظم ولا القرى العديدة التي يقوم سكانها بالزراعة الديمية " الديم " والمعتمدة على المطر في السقي ، وكان النفوذ التركي يتغلغل في الاماكن التي فيها الدم التركي وتنتشر طياً اللغة التركية .

    اهم الوظائف الادارية في سنجق كركوك :-

    1- المتصرف : وياتي منصبه بعد الوالي حاكم اللواء او السنجق .

    2- نائب وبدأيت محكمه سى حقوق رئيسي ، أي " نائب القاضي ورئيس محكمة البداءة .

    3- محاسبه جى : المحاسب .

    4- - تحريرات مديرى ، أي مدير التحريرات .

    5- بدايت محكمه سى جزا رئيسى : رئيس محكمة الجزاء .

    6- مدعي عمومي معاونى ، معاون المدعى العام .

    7- تلغراف وبوسته مديرى : مدير البريد والبرق .

    8- دفتر خاقانى مأمورى : موظف الطابو " التسجيل العقاري " .

    9- اوقاف مأمورى : موظف الاوقاف .

    10- زراعت بانق صندوق مأمورى : موظف امين صندوق المصرف الزراعي .

    11- مكاتب ابتدائيه مفتشى : المشرف التربوي للمدارس الابتدائية12 .

    كركوك مركزاً لولاية الموصل : وفي سنة 1296 هــ / 1879 م انيطت ولاية الموصل الى فيضي باشا ، واتخذ فيضي باشا مدينة كركوك مركزاً للولاية . وتم نقل جميع اركان الولاية " هيئة موظفي الولاية من الموصل الى كركوك " . اغفل المؤرخون والكتاب وخاصة مؤرخي تاريخ العراق الحديث هذا الحدث التاريخي المهم واول من اشار الى هذا الحدث التاريخي هو الاستاذ الباحث المحامي عطا ترزى باشى ونشره في مجلة الثقافة الحديثة ، عددالاول ، مايس سنة 1954 . وقد ارخ ذلك الشاعر الكركوكي المعروف الحاج عبدالله صافي ، ببعض اشعاره التركية . منها البيت الاخير :

    گلدى بر مصلاوى تاريخك ديدى

    الــمدد اولــــدى ولايت شهرزور

    معناه : جاء امرؤ مصلاوى فأرخ ذلك قائلاً

    يا للمدد–ان شهرزور صارت ولاية .

    أي ان رجلاً من الموصل جاء يطلب العون وهوينادي ان كركوك اصبحت ولاية . ان الشطر الثاني من البيت يشير بدلالة الحروف الابجدية الى سنة 1296 هــ وبقيت حوالي اربعة سنوات مركزاً لولاية الموصل . وفي شهر صفر سنة 1300 هــ / كانون الاول 1298 الرومية اعيد مركز الولاية من كركوك الى الموصل ثانية .

    ففي العهد العثماني نشاهد كركوك مركزاً لوحدة ادارية وشملت شهرزور احياناً واتخذت في بعض الفترات مركزاً للايالة وتارة لواءاً مستقلاً احياناً بيد متسلم او المتصرف تابعة لموصل مرة ومنفصلة عنها .

    دخلت قوات الاحتلال الانكليزي الى مدينة كركوك بتاريخ 14 مايس 1918 م لاول مرة وانسحب الجيش العثماني من المدينة . وفي يوم 1 حزيران 1918 عاد الجيش العثماني الى مدينة كركوك مرة اخرى وطرد الجيش الانكليزي منها . ومكثوا فيها حوالي خمسة اشهر ونصف الشهر وبعدها اضطروا بتاريخ 9 كانون الاول 1918 ترك المدينة والانسحاب منها.

    فدخل جيش الاحتلال الانكليزي الى المدينة للمرة الثانية13 . وسميت هذه الفترة من قبل الاهالي في كركوك ، فترة السقوطين " أي سقطت المدينة مرتين بيد الاحتلال الانكليزي ". واغفل المؤرخون والكتاب هذا الحدث التاريخي المهم ولم يؤشر احد الى ذلك . وكذلك لأول مرة اشار الاستاذ الباحث عطا ترزى باشى في بحوثه الى هذا الحدث التأريخي المهم . في كتابه تاريخ الطباعة والصحافة في كركوك .

    في سنة 1918 م ، قررت سلطات الاحتلال البريطاني جعل " منطقة كركوك " منطقة مستقلة بذاتها . وتم تعيين الكابتن نوئيل حاكماً سياسياً لمنطقة كركوك . وقد وجهت له سلطات الاحتلال التعليمات الاتية " لقد عينت حاكماً سياسياً في منطقة كركوك اعتباراً من اول تشرين الثاني . وتمتد منطقة كركوك من الزاب الصغير الى ديالى ، والى الحدود التركية – الايرانية من الجهة الشمالية الشرقية . وهي تكون جزءاً من ولاية الموصل وان يكون هدفك اجراء الترتيبات اللازمة مع الرؤساء المحليين لأعادة الامن الى نصابه والمحافظة عليه في المناطق التي تقع خارج الحدود14 .

    وفي 3 ايار 1920 اعلن رسمياً انتداب الانكليز على العراق . وفي سنة 1923 جرى تقسيم ادارة كركوك الى لوائين كركوك – اربيل وظلت حقوق وواجبات الموظفين الاداريين حتى عام 1927 متخذة على اساس قانون ادارة الولايات العثمانية الذي استبدل بعد ذلك بقانون جديد لادارة الولاية . وبموجب هذا القانون تم تقسيم كل لواء الى اقضية ، والاقضية الى نواح واختير المتصرفون من بين الشخصيات العراقية ذات النفوذ ممن اشغلوا في فترة الحكومة التركية وظائف ادارية متقدمة . وقد عين فتاح باشا متصرفاً لكركوك في 1922- 1924 . وهو تركماني من اهالي طوزخورماتو .

    ويعتبر المتصرف رئيساً للمجلس الاداري في اللواء ، ويتكون من ثلاثة اعضاء رسميين هم مدير خزينة ومدير الطابو ومدير التحرير او كاتب الادارة المحلية في اللواء . واربعة اعضاء غير رسمين من الاهليين ومن وجهاء البلد تنتخبهم المجالس البلدية في الالوية وفي الاقضية . واختصاصه ان ينظر في القضايا التي يعرضها المتصرف او القائممقام ويتخذ بشأنها القرارات .

    ووضع الى جانب كل متصرف مفتش اداري انكليزي ، وقد استبدل هؤلاء المفتشون فيما بعد بمستشارين الانكليز وقد كان لدى المتصرف في الالوية الكبيرة مثل كركوك مستشاران انكليزيان .

    ان نظام الادارة المحلية هذا غالباً ما كان يساعد على بروز الاحتكاكات بين ممثلين السلطات البريطانية والادارة العراقية المحلية 15 .

    ذكرنا اعلاه ، جعل قوات الاحتلال الانكليزي ادارة كركوك ، ادارة خاصة ، وعلى اثر المجزرة عام 1924 في كركوك ، عقد مجلس الوزراء " وزارة الفريق جعفر العسكري الاولى " جلسة خاصة ، برئاسة الملك فيصل الاول في يوم 9 ايار 1924 . وبعد ان طرح وبحث هذه القضية من نواحيها المختلفة اصدر ثلاث قرارات ، ونص القرار الثالث جعل ادارة لواء كركوك كأدارة بقية الالوية ومنذ ذلك التاريخ أي من سنة 1924 اصبحت ادارة كركوك حسب قرار مجلس الوزراء كبقية الالوية العراقية تابعة لحكومة العراقية ( بغداد )

    جعل قوات الاحتلال الانكليزي ادارة كركوك وقسمه بشكل يخدم مصالحه السياسية ، حيث الحقت قضاء چمچمال والنواحي سنگاو و اغچلر الى كركوك من لواء السليمانية لتقليص منطقة نفوذ الشيخ محمود الحفيد وكذلك ليخدمه في قضية الموصل والقضايا السياسية اخرى انذاك . واصبحت التقسيمات الادارية بهذا الشكل :-

    1- يتألف لواء كركوك من 1- مركز قضاء كركوك وقاعدته في نفس مركز اللواء " مدينة كركوك " المتكون من نواحي التون كوبرى ، قره حسن ، شوان ، الملحة " الحويجة " .

    2- قضاء چمچمال : المتكون من المركز وناحية اغچلر وناحیة سنگاو .

    3- قضاء طوزخورماتو : المتكون من مركز القضاء وناحية داقوق وناحية قادركرم .

    4- قضاء كفرى : المتكون من مركز القضاء وناحية بيباز وناحية شيروانه .

    وفي سنة 1957 كانت ادارة كركوك متكونة من مركز القضاء والحق له 5 نواحي و250 قرية و318 قرية تابعة لقضاء كفري و202 قرية تابعة لقضاء چمچمال و234 قرية تابعة لطوزخورماتو . ويكون مجموع 4 اقضية و14 ناحية و1274 قرية .

    وبعد سنة 1968 تم تبديل ادارة العراق ، واحدثت محافظات جديدة لاسباب سياسية ولتطبيق سياسية تغير الديمواغرافي للمدن واصبحت عددها 18 محافظة . وفي هذه الفترة تم تبديل اسم اللواء الى التأميم . واطلقت كركوك فقط على اسم مركز المدينة .

    وفي سنة 1990 ولحد السقوط النظام ، أجري تغيرات وتقسيمات عديدة في أدارة كركوك وبسبب تطبيق سياسة تطهير العرقي في المدينة الحقت قضاء طوز خورماتو والنواحي التابعة له الى تكريت وقضاء چمچمال الى السليمانية وقضاء كفري الى ديالى واصبحت كركوك اصغر وحدة أدارية في العراق .



    هوامش :-

    1- Begmyrat GEREY , 5000 Y‎ll‎k Sümer – Türkmen Baًlar‎ , S, 19

    2- د. احمد سوسة ، حضارة وادي الرافدين .

    3- ليو اوينهام ، بلاد مابين النهرين ، 1981 .

    4- Musul – Kerkük ile ilgili Ar‏iv Belgeleri . s. 160 .

    5- ابن الاثير ، الكامل في التاريخ ، ج9 ، ص136 .

    6- Begmyrat GEREY , 5000 Y‎ll‎k Sümer – Türkmen Baًlar‎ , S, 19

    7- نوري عبد الحميد العاني ، العراق في عهد الجلائري ، بغداد 1983 ، ص51 .

    8- الدكتور مصطفى جواد ، كركوك في التاريخ ، مجلة اهل النفط ، العدد 4 ، السنة الرابعة 1954 .

    9- الدكتور مصطفى جواد ، مجلة الدليل ، العدد 5 ، 1961 .

    10- لونكريك ، اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ، ترجمة جعفر الخياط ، الطبعة الثالثة ، ص94 .

    11- نفس مصدر السابق ، ص55 .

    12- انظر سلنامة دولت علية عثمانية لسنة 1330 هــ ، استانبول ، ص 803.

    13- اوقات عطا ترزى باشى ، كركوك مطبوعات تاريخى ، ص85 .

    14- عبد الرزق الهلالى ، تاريخ التعليم في العراق في عهد الاحتلال البريطاني ، ص106 - 109 ، 1975 .

    15- البرت م . منتشاشفلي ، العراق في سنوات الانتداب ، ص77 .

    مركز الإعلام التركماني العالمي

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    230

    افتراضي

    ملاحظة4: في ظل استمرار الهيمنة الكردستانية على مفاصل العراق السياسية والعسكرية والجغرافية، وما ينتج عنها من افساد للدولة العراقية، ستصبح مطالبة احد العراقيين مؤخرا بـ "حق العراق في الانفصال عن كردستان (وليس العكس)" مطلبا جماهيريا وضرورة للبقاء على قيد الحياة، كدولة وارض وشعب.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,321

    افتراضي

    الفصل الثاني
    التكوين الأثني لسكان كركوك خلال قرن (منتصف القرن التاسع عشر - 1957 )
    تعرضت كركوك خلال تاريخها الطويل لغزو العديد من القوى والأمبراطوريات التي حاولت فرض هيمنتها على المدينة وتوابعها لوقوعها على الطريق الأستراتيجي الذي كان يربط شواطئ البحرين المتوسط و الأسود بالخليج وطريق الحرير الذاهب الى آسيا الوسطى والصين . واقامت هذه القوى القلاع والمواقع العسكرية على طول هذا الطريق لحماية قوافلها التجارية وخطوط مواصلاتها العسكرية و وضعت حاميات عسكرية فيها للدفاع عنها والقيام بالحركات العسكرية ضد السكان الجبليين الذين كانوا يغيرون عليها وضد القوى المعادية لها . وقد أدركت هذه القوى منذ العصور القديمة الأهمية الأستراتيجية لكركوك والقصبات الواقعة على هذا الطريق . وجرت محاولات عديدة من قبل الدول والأمبراطوريات المختلفة على إسكان رعاياها على طول هذا الخط وبخاصة خلال القرون الأخيرة من العصر الحديث . وقد نجم عن ذلك تنوعا اثنيا لسكان كركوك والقصبات الواقعة على هذا الطريق .
    من المعروف ان كركوك في حدودها التاريخية و الجغرافية المعروفة كانت عبر القرون جزءا من الجغرافيا الكردية، فقد كانت خلال القرون الأخيرة جزءا من امارة أردلان الكردية ، فقد كلف السلطان مراد الثالث أمير الموكريين عام 1583 بادارة ايالة شهرزور التي كانت كركوك مركزا لها . وكانت تتبعها أربيل ومنطقة السليمانية الحالية .ومنذ اواخر القرن السابع عشر اصبحت ضمن ممتلكات الأمارة البابانية التي حلت محل أردلان في الكثير من الأصقاع التي تعرف اليوم بكوردستان العراق . وكانت الأمارة البابانية تضم في عصرها الذهبي قةلاضوالان ، كركوك ، اربيل ، كوي ، رواندوز ، حرير ، بانه ، كفري ، قرةتثة ، مندلي ، بدرة ، داودة ، عسكر ، شوان ،ضمضمال ، قرةداغ حتى نهر ديالى ، سردشت ، مرطة ، ثشدةر ، ماوت ، الان ، طةلالة ، ضوارتا ، سويل ، شينك قزلجة ، قرةحسن ، قصر شرين وزهاو. وقد بلغت الأمارتين درجة من السعة حتى دفعت بلونطريك ان يسميهما بالأمبراطورية (1).
    لم تلاحظ حتى منتصف القرن التاسع عشر تأثيرات تذكر للعثمنة في كركوك وتوابعها رغم انها اصبحت رسميا ضمن ممتلكات الدولة العثمانية بموجب معاهدة اماسيا بين العثمانيين والصفويين عام 1555 . أما القبائل التركمانية القزلباشية التي رافقت حملة الشاه عباس الصفوي عام 1623 - 1630 و بالأخص حملات نادر شاه الأفشاري خلال 1743 - 1746 على كركوك واربيل والموصل والتي تخلف بعضها واتخذت من بعض السهول القريبة من كركوك و الموصل مراعي لحيواناتها ، فكانت تعادي الدولة العثمانية وتقف الى جانب ايران في الصراع بين القوتين لأسباب مذهبية وعرقية و إجتماعية .
    ومع زوال آخر امارة كردية في كوردستان العثمانية وهي الأمارة البابانية بحدود عام 1851 نتيجة للسياسة الجديدة للباب العالي في كوردستان ، حيث تخلت الدولة العثمانية عن سياستها التقليدية في كوردستان والتي كانت تتلخص بابقاء الأمور فيها بايدي الزعماء المحليين لقاء اعلان التبعية للسلطان و ما يترتب على ذلك من ذكر اسمه في خطبة الجمعة و ارسال المقاتلين للقتال الى جانبه و ارسال الهدايا و الأموال سنويا الى البلاط العثماني، وتبنت سياسة جديدة تقوم على اساس بسط سيطرتها المباشرة على جميع الأقاليم الخاضعة لها .
    فتح سقوط امارة بابان الآفاق امام السيطرة المباشرة للدولة العثمانية في كركوك وغيرها ، الا أن نجاحات العثمانيين في عثمنة سكان كوردستان ومنها كركوك كانت لا تزال محدودة جدا حتى اواخر القرن التاسع عشر. اذ يبدو واضحا من المصادر القليلة التي أشارت بصورة عابرة الى التركيب الأثني لسكان كركوك ان الكرد كانوا لا يزالون يشكلون جمهرة سكانها الأصليين و الأساسيين الى جانب عدد من العوائل المسيحية من الكلدان والأرمن وعدد من اليهود (2).
    لا توفر المصادر التاريخية المتوفرة معلومات وافية عن التركيب القومي لسكان كركوك وغيرها من المدن والقصبات الواقعة على هذا الطريق خلال العصور التاريخية المختلفة . ولكننا ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر نجد اشارات متفرقة في المصادر التاريخية الى التكوين الأثني لسكان كركوك وغيرها . ومن الضروري ان نشير هنا الى انه لا يجب التعويل كثيرا على تلك الأشارات لأنها عبارة عن تخمينات لأناس لم يقضوا احيانا سوى أيام معدودة في هذه المدينة او غيرها من المدن الكردية . بل لايمكن أخذ الأرقام التي تعود الى ماقبل إحصاء عام 1947 بجدية كبيرة لأنها تفتقر الى الدقة و الموضوعية. وتعاني الأحصائيات الحكومية الرسمية الى جانب شمولها على التشويه و التزييف المتقصدين فيما يتعلق بالتكوين الأثني للسكان من نواقص جدية أخرى ، فقد ذكر مؤرخ الأدب الكردي علاء الدين سجادي بهذا الخصوص بأن الحكومة العراقية طلبت في يوم 19 من نوفمبر 1947 من السكان البقاء في البيوت وذلك لأجراء التعداد العام للسكان . ويشير سجادي الى انه ورغم عدم خرجه من البيت فإن احدا لم يحضر لتسجيل اسمه . ويتسائل محقا :إذا كان الأمر كذلك في بغداد العاصمة فكيف الحال ياترى في بقية مناطق العراق وبخاصة في الريف او في مناطق القبائل الرحل ؟ . ويؤكد بإنه عندما دقق في الأمر تبين له بأن اكثر من نصف مليون انسان لم يسجلوا خلال تعداد عام 1947 (3) . قد لا نتفق مع الرقم الأخير الذي اورده السجادي إلا انه يؤشر حالة عامة ومعروفة لدى المهتمين بالمعطيات الأحصائية الرسمية في العراق و البلدان المماثلة .
    مع ذلك ولألقاء بعض الضوء على هذه المسألة الشائكة لا بد من الرجوع الى بعض المصادر التي أشارت الى عدد السكان وتركيبتهم الأثنية في كركوك ولو بصورة عابرة.
    ومن أقدم الأشارات في هذا المجال هو ماكتبه المهندس الروسي يوسيب (يوسف ) ضيرنيك الذي زار كركوك ضمن جولته العلمية خلال (1872 - 1783 )، بهدف دراسة امكانيات الملاحة النهرية في حوضي دجلة والفرات وروافدهما ونشر نتائج رحلاته ودراساته فيما بعد عام (1879 ) في المجلد السادس من نشرة قسم القفقاس للجمعية الجغرافية الملكية الروسية . فقد قدر ضيرنيك عدد سكان كركوك في ذلك الوقت ب(12 - 15 )ألف نسمة وأكد بأنه و باستثناء (40 ) عائلة ارمنية فان باقي السكان كانوا من الكرد حصرا (4).
    يبدو أنه والى حين قيام جيرنيك بزيارته لم تكن المصادر تشير الى الموظفين العثمانيين و افراد الحامية العسكرية العثمانية المستقرة في كركوك كجزء من سكان المدينة ، بل اعتبروا غرباء عن المنطقة و بخاصة في المراحل الأولى من الوجود العثماني في كركوك وكانوا يعودون في اغلب الأحوال الى البلدان التي جندوا منها بعد انتهاء فترات خدمتهم باستثناء افراد معدودين يتخلفون عن العودة الى مواطنهم ويتخذون من هذه المدينة او تلك موطنا جديدا لهم لأسباب اقتصادية او اجتماعية . لذلك لم يشر المهندس الروسي المشار اليه اعلاه الى وجود الترك او التركمان في المدينة . كما يبدو بأنه اعتبر جميع المسيحيين من الأرمن بسبب عدم تمييزه بين الأرمن والكلدان ولمعرفة الروس بالأرمن في القفقاس اكثر من الكلدان والآثوريين وغيرهم .
    مع سقوط امارة بابان وتكريس سيطرة الباب العالي المباشرة على كركوك والقصبات الأخرى الواقعة على الطريق الأستراتيجي المذكور اخذت مظاهر العثمنة تظهر وتترسخ تدريجيا في كركوك . فبعد عقدين فقط من زيارة ضيرنيك لوحظ تغيير في التركيبة الأثنية لسكان كركوك لصالح الترك او التركمان فقد ذكر شمس الدين سامي في المجلد الخامس من (قاموس الأعلام)، والذي يعتبر موسوعة تأريخية وجغرافية عثمانية مهمة في مادة كركوك بانها ( مدينة تقع في ولاية الموصل بكوردستان و تقع على بعد 160 كيلومترا الى الجنوب الشرقي من مدينة الموصل ، وسط تلول عديدة متحاذية على ضفاف وادي أدهم وهي مركز سنجق شهرزور . يبلغ عدد نفوسها 30 الفا ، وثلاثة ارباع سكانها من الكرد و البقية من الترك و العرب و غيرهم ، وهناك 760 اسرائيلي و 460 كلداني )(5) .
    تسارعت وتيرة العثمنة (الأصح التتريك ) خلال العقدين التاليين و بخاصة في عهد الأتحاديين الذي انتهجوا سياسة شوفينية بحق الشعوب غير التركية في الأمبراطورية العثمانية. وتتناقض الأرقام التي يذكرها الرحالة والكتاب الأنجليز اذ يذكر ميجرسون والذي قضى 16 يوما في احد خاناتها بوسط السوق والذي كانت التركية تسود فيها عام 1907 ، عن كركوك ( لا بد ان تكون عدة اهل المدينة 15 الفا على الأقل. انها من المدن الكائنة على حدود كوردستان يتكلم اهلها ثلاث لغى . فالتركية و العربية و الكردية يتكلمها كل انسان ، وتستخدم الأولى والأخيرة في الأسواق على اختلاف ). و يؤكد سون على تواجد الكرد والترك والكلدان والسريان والتركمان والعرب واليهود والأرمن في المدينة ، كما يشير الى سيادة روح التسامح فيها وتمتع سكانها بحرية عظيمة من التعصب الديني والقومي وإعتبر اللغة التركية سائدة فيها الى حد كبير و إعتب المدينة مشهورة بتركمانها وفواكهها ونفطها الخام(6).
    وقد ناقش محمد امين زكي اراء سون بموضوعية و تجرد مؤكدا بأن الأخير وقع في اخطاء كبيرة عندما اعتقد بأن كل من تكلم التركية في كركوك هو تركماني . فأكراد كركوك وكلدانها وغيرهم كانوا يعرفون التركية ويتحدثون بها. فالتركية كانت انذاك لغة الدولة الرسمية و لغة الأدارة و التعليم و السوق (7) . وأكبر دليل على خطل ذلك التصور برأي محمد امين زكي هو الأحصاء الذي قامت به بلدية كركوك عام 1930 والذي بلغ عدد سكان المدينة بموجبه 35 ألفا كان 22 ألفا منهم من الكرد و7 آلاف من التركمان و ألف من المسيحيين المحليين و ألفين من التياريين مع 500 أرمني و 2500 من اليهود. وكان سكان محلات امام قاسم ، آخي حسين ، بولاق ، اوضي وثيريادي من الكرد الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من سكان محلات ضوقورر والمصلى وضاي أيضا (8).
    رغم الأتفاق مع طروحات محمد أمين زكي في مناقشته للآراء التي أدلى بها ميجرسون في نهاية العقد الأول من القرن العشرين ، إلا ان سيادة اللغة التركية في وسط المدينة وسوقها الرئيسية بالصورة التي شاهدها ميجر سون وكونت لديه ذلك الأنطباع الخاطئ ، تشير الى حقيقة ان السياسات العثمانية خلال اقل من نصف قرن في المدينة كجعلها مركزا لحامية عسكرية تركية وفتح المدارس والدوائر الأخرى فضلا عن اسكان الموظفين العثمانيين وعوائلهم أخذت تعطي ثمارها وأدت الى عثمنة بل وتتريك جزء من السكان المحليين و بخاصة اولئك الذين إرتبطت مصالحهم بالدولة العثمانية . فقد كتب أدموندز بهذا الصدد قائلا ( بقيت كركوك بلدة هامة من الناحية العسكرية و وضعت فيها حامية دائمية ، كما انها كانت موطنا مهما يمد الحكومة العثمانية بالموظفين المدنيين والجندرمة موضع الأعتماد . والى هذا تعود اسباب التشكيل العنصري واللغوي للسكان . ان الأسر الأرستقراطية البارزة ، هي إما تركية و إما تعتبر نفسها تركية حتى وان كانت كردية الأصل). ويؤكد المستشرق الجورجي ألبرت مينتيشاشفيلي بأن جزء من العوائل الأرستقراطية المتنفذة في كركوك من أصول كردية رغم أنها كانت تسمي نفسها تركية ومن بينها النفطجيين و اليعقوبيين و القيردار و غيرهم الذين ينتمون في أكثريتهم الى عشيرة زةنطنة الكردية ، وكثيرا ما كان الكتاب الأنجليز يطلقون لفظة الترك على الموظفين المدنيين والعسكريين وابناء الأرستقراطية الكركوكية (9).
    من الجدير بالذكر ان هناك تفاوتا كبيرا بين تقديرات الكتاب الذين تصدوا للحديث عن عدد سكان كركوك وتشكيلهم العنصري واللغوي قبل الحرب العالمية الأولى ، فقد قدر هاي عددهم بحوالي 30 ألفا ، فيما أشار مارك سايكس بأن عدد سكان كركوك قبل الحرب العالمية الأولى بلغ 70 ألفا ، في الوقت الذي لم يبلغ فيه عدد سكان المدينة حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية و تحول كركوك الى مركز رئيسي لعمليات شركة نفط العراق سوى 69 الف نسمة فقط (10).
    وأول إحصاء قامت به دائرة رسمية في لواء كركوك بعد الحرب العالمية الأولى هو ما أشار اليه محمد أمين زكي في مذكرته المشهورة الى الملك فيصل الأول في 20 كانون الأول 1930 و الذي سماه بالأحصاء الكيفي الذي قامت باجرائه متصرفية لواء كركوك ، وكانت نسبة السكان في اللواء عل أساس القومية كالآتي: الكرد 51% ، التركمان 21,5% ، العرب 20% و الأقوام الأخرى 7,5% (11) .
    بينما أشار أدموندز في عام 1922 الى ان عدد سكان المدينة كان يبلغ آنذاك 25 الفا تقريبا ربعهم من الكرد و معظمهم من التركمان و العرب و النصارى، في الوقت الذي اعتبر فيه الكرد أوسع مجتمع قومي في اللواء ككل (12) اي انه اشار الى ان الكرد شكلوا الاكثرية المطلقة في اللواء في الوقت الذي قدر نسبتهم بربع السكان في المدينة نفسها. لا شك ان الأرقام التي اوردها ادموندز بعيدة عن واقع الأمور الى حد كبير و يمكن التكهن بالأسباب التي كانت تدفع به الى تقليل نسبة السكان الكرد في المدينة ، وهو الممثل لسلطة الأحتلال البريطاني فيها والتي كانت تخوض حربا شرسة ضد الحركة التحررية الكردية بقيادة الشيخ محمود الحفيد التي كانت تهدف الى اقامة الدولة الكردية المستقلة والتي كانت كركوك تحتل مركز القلب فيها .
    مع ذلك تشير هذه التقديرات المضخمة لأسباب و دوافع استعمارية الى حصول تحول في تناسب السكان على اساس القومية . كما تشير الى محاولات الأنجليز لزيادة السكان من غير الكرد و السماح للموظفين المدنيين و العسكريين العثمانيين بالأستقرار في المدينة مع عوائلهم وتكليفهم بمباشرة الشؤون الأدارية والتعليمية فيها .
    وتلقي الأرقام المقدمة من قبل الأطراف المختلفة اثناء مشكلة الموصل شيئا من الضوء على التركيبة الأثنية لسكان ولاية الموصل بما فيها لواء كركوك ،اذ قدمت الأطراف المختلفة ذات العلاقة ( تركيا و بريطانيا والعراق ) ارقاما متباينة عن التكوين الأثني لسكان الولاية . فقد قدر الأنجليز في تقاريرهم المقدمة الى لجنة عصبة الأمم عدد سكان كركوك حسب انتماهم الأثني عشية الحرب العالمية الأولى كما يلي : الكرد 45 ألف ، الترك 35 ألف ، العرب 10 آلاف ، المسيحيون 600 و اليهود 1400 أي ان مجموع سكان اللواء حسب تقديراتهم كان 92 ألف نسمة . بينما قدر الجانب التركي عدد سكان اللواء بضعف ذلك الرقم فقد كانت الأرقام التركية على الشكل التالي : الكرد 97 الفا ، الترك 79 ألفا و العرب 8 آلاف أي ما مجموعه 184 ألفا (13) .
    هناك تفاوت كبير في تقديرات الطرفين ورغم ان الأتراك كانوا يحكمون عشية وأثناء الحرب العالمية الأولى هذه البلاد ويفترض ان تكون لديهم الأرقام الدقيقة إلا انه من الصعب ان يركن المرء الى التقديرات التركية لمحاولاتهم تقديم ارقام كبيرة عن العنصر التركي في الولاية ككل وكركوك على وجه الخصوص ورفع نسبة الأتراك على حساب العناصر الأخرى ، فقد ذكروا على سبيل المثال في تقديراتهم وجود (32960 ) تركي في السليمانية والتي لم يشكل الترك فيها، بإستثناء التواجد العسكري التركي البسيط خلال السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية اكثر من صفر بالمائة . كان الطرفان الأنجليزي و العراقي يرفعون من نسبة العرب في ولاية الموصل بما فيها كركوك وذلك لدعم و جهة نظرهم ، بينما حاول الترك رفع نسبة الأتراك في الولاية و في كركوك بالذات بصورة مبالغ فيها . ولم يكن في صالح أي من الطرفين المتنازعين رفع نسبة الكرد مع ذلك أضطرا الى الأعتراف بكون الكرد يشكلون الأكثرية المطلقة من سكان الولاية . فقد كان عدد الكرد وفق التقديرات البريطانية 454,720 شخصا مقابل 65,895 من التركمان و 185763 من العرب و 62225 من المسيحيين و 16865 من اليهود ، اي مامجموعه 785464 شخصا وضمت الأرقام الأنجليزية الرحل الذين كانوا يتنقلون في أرجاء الولاية . بينما كانت التقديرات التركية تشير الى تواجد 281830 من الكرد في الولاية مقابل 146920 من الأتراك و 43210 من العرب و 31 ألفا من غير المسلمين ، اي مامجموعه 503 آلاف شخص ، ولم تتضمن الأرقام التركية 170 ألفا من الرحل .
    وشكك الأنجليز في التقديرات التركية و اعتبروها قديمة و ناقصة وأعتبروها قائمة على أساس معطيات دوائر الجيش و أكدوا بأن العرب يشكلون ثلثي سكان مدينة الموصل ، بينما شكل الترك حسب رأيهم 1/12 فقط من سكان الولاية ، بينما أكد الأتراك بأنهم يحكمون البلاد منذ قرون و هم على إطلاع أكبر على اوضاع المنطقة وعدد سكانها و اتهموا الأنجليز بايراد تقديرات من شأنها خدمة مصالح العرب . وحاول الأتراك توظيف التواجد الكردي لمصلحتهم عندما كانوا يؤكدون على الأكثرية الكردية - التركية و التي كانت تشكل 85% من مجموع سكان الولاية ، بل وإعتبروا أن الكثير من المتحدثين بالعربية هم (( أتراك في الأصل و نسوا لغتهم او يتحدثون اللغتين في آن واحد !)) ، كما زعموا ان الكرد و الترك ينحدرون من أصول واحدة(14) . وفي الوقت الذي كانت الأطراف المتصارعة على ولاية الموصل تطعن في تقديرات و حجج بعضها البعض ، كانت بعثة عصبة الأمم تشكك في دقة ومصداقية البيانات المقدمة من قبل جميع الأطراف اذ ( وجدت ان البيانات المقدمة من قبل الأتراك وكذلك تلك المقدمة من قبل الأنجليز بل وحتى بيانات الحكومة العراقية غير دقيقة وان الحجج التي استندت على تلك الأرقام مشكوك فيها . فبينما تبالغ الحكومة التركية بعدد التركمان في الولاية ، فان الحكومة البريطانية لاترى سوى انهم يشكلون 8% من مجموع السكان ، في حين تقل نسبتهم في البيانات العراقية عن 5% من مجموع سكان الولاية. وكذلك كان التباين كبيرا فيما يتعلق بنسبة العرب التي تراوحت بين اقل من 9% في ضوء البيانات التركية الى نحو 24% في البيانات البريطانية و نحو 21% في تقديرات الحكومة العراقية . بينما كان التباين أقل في التقديرات الخاصة بالكرد فقد كانت نسبتهم 56,1% من مجموع سكان الولاية وفق التقديرات التركية و 65,1% حسب البيانات العراقية و 57,9% من مجموع السكان حسب التقديرات البريطانية ) (15).( لاحظ الجدول 1) سكان ولاية الموصل بحسب القومية
    البيانات العراقية البيانات البريطانية البيانات التركية القومية
    65,1 57,9 56,1 الكرد
    20,9 23,7 8,6 العرب
    4,8 8,4 29,2 التركمان
    7,7 7,9 6,1 المسيحيون
    1,5 2,1 ---- اليهود
    100 100 100 المجموع
    وهكذا نجد بأن جميع المكونات الأثنية في كركوك باستثناء الكرد وجدت من يدافع عن مصالحها في هذا الصراع ، بينما جرى استبعاد العديد من القصبات والتجمعات الكردية من تلك البيانات ، حتى أن الأيزيديين الذين اعترفت كل الأطراف المعنية بمشكلة الموصل بكرديتهم ، فصلوا عن الكرد في تلك البيانات والأحصائيات اللاحقة التي قامت بها الحكومة العراقية.
    وكانت التقديرات التي قدمها الجانب العراقي قريبة الى البيانات البريطانية ، فقد ذكر تقرير عصبة الأمم حول مسألة الحدود بين تركية و العراق بأن الجانب العراقي قدر عدد سكان كركوك لسنتي 1922 - 1924 ب 111,650 نسمة ، يتوزعون بحسب القومية على النحو الآتي : الكرد 42,5% ، العرب 31,9% ، التركمان 23,4% و الآخرون 2,2 % ( 16) .
    لا تشير الجداول الأحصائية الخاصة بإحصاء عام 1947 و المتوفرة بين أيدينا الى التكوين الأثني لسكان كركوك بل تشير الى الديانة . وكانت الأرقام الخاصة بمركز قضاء كركوك كالآتي: المسلمون 58654 ، المسيحيون 6715 ، اليهود 2873 ، الصابئة 37 ، الأيزيدون 1 ( أوردتهم الجداول بصورة منفصلة عن الكرد) و العقائد الأخرى 28 . بينما بلغ عدد المسلمين في ريف مركز قضاء كركوك 23194 و المسيحيون 862 و اليهود 77 و العقائد الأخرى 3 (17).
    بينما أشارت الجداول الأحصائية الخاصة بتعداد السكان لعام 1957 الى تصنيف السكان من حيث اللغة الأم في مدينة كركوك . مع ان هذا التعداد السكاني يعتبر من أحسن الأحصائيات السكانية خلال الفترة التي تناولتها هذه الورقة ، إلا أنه كان يعاني ايضا من بعض النواقص الجدية . فقبل كل شئ كان اللجوء الى مبدأ اللغة الأم لتحديد الأنتماء القومي للسكان محاولة للتملص من الأعتراف بالهوية القومية للأثنيات المختلفة و في مقدمتها الأثنية الكردية . فضلا عن كونها محاولة لتشويه الحقائق المتعلقة بالتركيب السكاني وفتح الباب أمام عمليات التزوير على نطاق واسع . لايعني إحصاء الناس على أساس اللغة الأم دائما تطابقا مع الأنتماء القومي لهم. فهناك من عاش وسط قومية أخرى وتعلم لغتها بصورة أفضل من لغته الأم ولكن ذلك لا يعني بأنه أصبح ينتمي الى القومية الجديدة التي تعلم لغتها . وكانت سيادة اللغة التركمانية في دوائر وأسواق كركوك آنذاك لا تتطابق مع حقيقة عدد التركمان في كركوك . و شهدت عمليات التعداد حالات تزوير كثيرة في بعض الأحياء الشعبية للكرد في كركوك ، وقد تبين ذلك بوضوح عند نشر نتائج التعداد المذكور عام 1959 ،اذ ظهر لدى مراجعة الكثير من الكرد لدائرة النفوس في كركوك بانهم سجلوا كتركمان من قبل العدادين في الحقل الخاص باللغة الأم ، خاصة في الأحياء الشعبية الكردية التي كان معظم ابنائها يجهلون العربية فتولى العدادون ملأ الأستمارات نيابة عنهم ، وقد قدم بعضهم فيما بعد شكاوي بهذا الخصوص الى الجهات المختصة ، بينما أقام البعض الآخر دعاوي قضائية لتبديل ذلك بقرار قضائي (18). ويتذكر الكثيرون بأن معظم العدادين كانوا من ابناء القومية التركمانية و سجلوا كل من اجاب على استفساراتهم بالتركمانية على ان لغتهم الأم التركمانية دون ان يكلفوا انفسهم السؤال عن لغتهم الأم الحقيقية . كما لجأوا احيانا الى اهمال تسجيل اللغة الأم للآلاف من المواطنين الكرد . ومن هنا ظهر في الجداول الأحصائية الخاصة بكركوك ان اكثر من خمسة الاف شخص (لم يعرفوا ) لغتهم الأم . يبدو ان الهدف من وراء هذه المحاولات كلها هو تقليل نسبة السكان الكرد في المدينة لصالح الفئات الأخرى من مواطنيها .
    وكان تصنيف السكان من حيث اللغة الأم في كركوك المدينة و اللواء بموجب احصاء عام 1957 كالآتي :
    تصنيف السكان في كركوك على أساس اللغة الأم (19)
    المجموع الكلي للواء كركوك بقية لواء كركوك مدينة كركوك اللغة الأم
    109620 82493 27127 عربي
    187593 147546 40047 كردي
    123 22 101 ايراني (فارسي ج.ق)
    83371 38065 45306 تركي (تركماني ج.ق)
    697 63 634 انكليزي
    41 6 35 فرنسي
    87 8 79 هندي
    1605 96 1509 كلداني وسرياني
    418 --- 418 لغات اخرى
    5284 138 5146 غير مبين
    388839 268437 120402 المجموع
    وقد شكك الكثيرون في دقة هذه الأرقام ومن بينهم المؤرخ الكردي الذي قتل مؤخرا في بغداد بعد ان تجاوز التسعين من العمر الملا جميل الروزبياني الذي كان يعتبر حجة في تاريخ المنطقة وأحوالها وأصول سكانها وقبائلها( 20).
    ويمكن الجزم بأن العديد من القبائل و القرى و التجمعات السكنية الكردية التابعة لكركوك لم تشملها عمليات التعداد السكاني أبدا ، و لعل أحسن دليل على قولنا هذا هو ان السلطات الأدارية والعسكرية العراقية لم تكن تعرف بوجود العديد منها إلا خلال عمليات الأنفال عندما أكتشفتها ودمترها وأنفلت سكانها(21) .
    كما يمكنني القول بأن 5284 شخصا و الذين أشير اليهم على ان لغتهم الأم غير مبينة هم من الكرد يبدو انهم لم يسجلوا عمدا و لأسباب معروفة لدى المطلعين على السياسات الحكومية و القائمين على عمليات الأحصاء في هذا اللواء . وتفسر هذه الظروف التي رافقت عمليات الأحصاء العام للسكان سنة 1957 ان يكون عدد المتحدثين بالتركمانية في المدينة أكثر من الذين اعتبروا الكردية لغتهم الأم ب 5249 شخصا وهو عدد مقارب الى عدد الذين لم تؤشر لغتهم الأم في الجداول الأحصائية . ولا يتطابق هذا مع البيانات التي أوردتها المصادر العلمية الموضوعية البعيدة عن التحيز . فقد أكد العالم العراقي المعروف بنزاهته الدكتور شاكر خصباك بأن الكرد كانوا يشكلون في الخمسينات نسبة 55,2 % من مجموع سكان لواء كركوك(22) . يبدو لي ان النسبة التي يشير اليها الدكتور شاكر خصباك هي الاقرب الى واقع الحال من اية نسبة اخرى.
    ونلاحظ تذبذبا في البيانات المتعلقة بنسب السكان حسب القومية في كركوك من مرحلة الى أخرى، فقد قدرت نسبة التركمان ، مثلا ، في لواء كركوك عام 1920 ب 30,3 % و في عام 1957 ب 21,4 % ، بينما ارتفعت هذه النسبة الى 26,3 % عام 1965 لتعود الى الأنخفاض الى 16,31 % عام 1977 (23) .ويكمن السبب وراء حالة التذبذب هذه في نسب التركمان و غيرهم من سكان كركوك وغيرها من المدن و المحافظات العراقية في سياسات التمييز الحكومية المتبعة ازاء المكونات الأثنية في العراق و سيادة الأوضاع الأستثنائية في كوردستان على مدى عقود طويلة ومحاولات الناس إخفاء انتماءاتهم القومية الحقيقية لتجنب الدخول في مشاكل مع السلطات السياسية والأدارية وبخاصة في كركوك. فقد كانت كردية المواطن في كركوك مصدرا للمنغصات و الملاحقات التي لا نهاية لها ، ومن هنا فقد اضطرت اعداد كبيرة من الكرد الى انكار انتمائهم القومي الأصلي للتخلص من المشاكل والملاحقة السياسية .
    شهدت العقود اللاحقة للفترة التي تناولتها هذه الورقة انتهاج سياسة حكومية مكشوفة لتغيير الواقع القومي لسكان كركوك الأمر الذي لا يدخل في نطاق هذه الدراسة . ولعل أصدق من عبر عن واقع التكوين الأثني لسكان كركوك و كيفية تغييره هو علي حسن المجيد في إجتماع له مع مسؤولي حزب البعث و الجيش و الأمن بتأريخ 15 نيسان 1989 و الذي سجلت وقائعه على شريط وقع بأيدي المنتفضين الكرد في آذار 1991 وكان يتباهى بما حققه خلال عامين من حكمه المطلق لكوردستان كمسالخ الأنفال و قصف 40 موقعا في كوردستان بالأسلحة الكيمياوية و تدميره للريف الكوردستاني ، وعن كركوك و (إنجازاته !!) فيها قال ( أود أن أتحدث عن نقطتين الأولى التعريب و الثانية المناطق المشتركة بين الأرض العربية و منطقة الحكم الذاتي . النقطة التي أتحدث عنها هي كركوك . عندما جئت الى هنا لم يزد عدد العرب و التركمان عن 51% من مجموع سكان كركوك " لم يوضح هل يتحدث عن المدينة أم عن محافظة كركوك " مع كل ذلك صرفت 60 مليون دينار الى أن وصلنا الى الحالة الراهنة ، ليكن واضحا لديكم لم يوصل كل العرب الذين جلبناهم الى كركوك نسبتهم الى 60% ، عند ذلك أصدرت أوامري ومنعت بموجبها كرد كركوك من العمل في كركوك والمناطق التابعة خارج منطقة الحكم الذاتي . كركوك خليط من القوميات و الأديان و المذاهب ، كل الناس الذين رحلناهم خلال الفترة من 21 مايس و حتى 21 حزيران لم يكونوا من سكان المناطق المحرمة ، ولكنهم كانت تحت سيطرة المخربين سواء كانوا من المتعاطفين معهم أو ضدهم) (24).
    المصادر و الهوامش
    1. للمزيد من التفاصيل في هذا الباب راجع المصادر التالية :
    Longrigg S.H, Four Centuries of Modern Iraq Oxford, 1925
    محمد أمين زكي ، تاريخ الدول و الأمارات الكردية في العهد الأسلامي ، ترجمة محمد على عوني ، القاهرة 1948. وكذلك :
    أى . اي ، فاسيليفا ، كوردستان الجنوبية الشرقية خلال القرن السابع عشر وحتى بداية القرن التاسع عشر ، لمحات من تاريخ امارتي أردلان و بابان ، موسكو 1991 .
    2. تشير الموسوعة اليهودية الى تواجد اليهود في كركوك خلال القرون الأربعة الأخيرة وقدرت عددهم ب 200 عائلة في اواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين و الذين كانوا يسكنون حيا خاصا بهم و ساعدوا مع مسيحيي المدينة الأنجليز عام 1918 لأحتلال المدينة . وقد بلغ عدد اليهود في كركوك عام 1947 حسب المعطيات الواردة في الموسوعة اليهودية 2350 شخصا و هاجروا جميعا من كركوك عام 1950- 1951 .
    حول عدد اليهود و دورهم في كركوك انظر :
    Encyclopaedia Judaica, vol. 10 , P. 1047-48
    3. للمزيد من التفاصيل راجع :
    علاءالدين سجادي ، تاريخ الأدب الكردي ، بغداد 1952 ، 65-66 .
    4.رحلة المهندس يوسيب (يوسف) ضيرنيك لدراسة حوضي دجلة و الفرات من الناحية الفنية مع كذلك وصف الطرق العابرة لشمال سوريا ، مترجمة من الألمانية ،(( نشرة قسم القفقاس للجمعية الجغرافية الملكية الروسية)) المجلد VI ، 1879 . ص91
    5. قاموس الاعلام ، محررى ش. سامي ، بشنجي جلد ، استانبول ، مهران مطبعه سى ، 1315.، ص 2842
    6. سون ، رحلة متنكر الى بلاد مابين النهرين و كردستان ، نقله الى العربية و حققه و قدم له و علق عليه فؤاد جميل ، الجزء الأول من اصطنبول الى السليمانية ، ط1 ، بغداد 1970 ، ص158 - 163.
    7. لم يشر محمد أمين زكي الى اسم كتاب سون الذي استقى منه هذه الأرقام ، و كتاب سون المشار اليه و الموجود تحت يدي لا يشير الى أية أرقام سوى التي أشرنا اليها . يبدو أنه إطلع على هذه المعلومات في مؤلف آخر لميجر سون الذي كتب الكثير عن كوردستان من بينها ( دليل أو مرشد كوردستان الجنوبية ) الذي أعتبر مؤلفا دقيقا ومتضمنا لمعلومات صحيحة الى ابعد مدى ، على حد تعبير مترجم الكتاب فؤاد جميل . أنظر : المصدر السابق ، 350.
    8. محمد أمين زكي ، ملاحظاتي على قانون اللغات المحلية ، في كتاب (( محاولتان غير مجديتين )) حققه وقدم له وعلق عليه صباح غالب ، لندن 1984 ، ص 104-105.
    9. سي . جي . أدموندز ، كرد وترك وعرب - سياسة ورحلات و بحوث عن الشمال الشرقي في العراق 1919-1925 ، ترجمة جرجيس فتح الله ، بغداد 1971 ، ص 241 . أنظر كذلك : أ.م. مينتيشاشفيلي ، الكرد -لمحات في العلاقات الأجتماعية - الأقتصادية و الثقافة و أساليب المعيشة ، موسكو 1984 ، ص 25 و 193 (بالروسية).
    10. Hay W. R , Two Years in Kurdistan : Experiens of a Political Officer 1918-1920, London 1922 . P. 81; Longrigg S.H. Iraq 1900 to1950. A political , Social and Economic History, London 1953 .P53.
    11. مذكرة محمد أمين زكي الى الملك فيصل الأول حول الشأن الكردي العراقي في 20 كانون الأول 1930 ، تقديم وترجمة الدكتور جبار قادر ، الملف العراقي ، العدد 104 ،آب 2000 ،ص 64-65.
    12. أدموندز ، نفس المصدر ، ص 240-241.
    13. Loder Y. de V , The Truth about Mesopotamia , Palestine and Syria , London 1923 , P. 214.
    14. Ibid, P.215- 218.
    للمزيد من التفاصيل حول حجج الطرفين المتنازعين انظر كذلك :
    م.س .لازريف ، الأمبريالية و المسألة الكردية 1917-1923، موسكو 1989 ، ص 306-309 (بالروسية).
    15. تقرير عصبة الأمم ، مسألة الحدود بين تركية و العراق ، مطبعة الحكومة ، بغداد ، ص94 ، نقلاعن : كركوك في تقرير عصبة الأمم ، مجلة هاواري كركوك ، العدد 4 ، أربيل 1999 ، ص 177 -178 .
    16. نفس المصدر السابق .
    17. احصاء السكان لسنة 1947 ، الجزء الثاني ، الجدول السادس -قضاء كركوك ، ص 118 .
    18. الدكتور نوري طالباني ، منطقة كركوك ومحاولات تغيير واقعها القومي ، ط2 ، بلا.م ، 1999 ، ص79.
    19. المجموعة الأحصائية لتسجيل عام 1957 - لوائي السليمانية و كركوك ، تصنيف السكان من حيث الجنس و لغة الأم للواء كركوك .مطبعة العاني .بغداد 1959
    20. مجلة هاواري كركوك ، العدد 2 ، أربيل ، كانون الأول 1998 ، ص 31.
    21. هناك اشارات عديدة في الوثائق الحكومية المتعلقة بمسالخ الأنفال والتي وقعت بأيدي المنتفضين الى العديد من القرى التابعة لمحافظة كركوك المؤنفلة التي لم تكن معروفة لدى السلطات الأدارية و لا وجود لها حتى على الخرائط الرسمية المدينة و العسكرية العراقية. للمزيد من المعلومات انظر:
    Genocide in Iraq . The Anfal Campaign Against the Kurds . HRW/ME, New York 1993.
    22. الدكتور شاكر خصباك ، الكرد و المسألة الكردية ، بغداد 1959 ، ص 43.
    23. الدكتور خليل اسماعيل ، التوزيع الجغرافي للتركمان في العراق، مجلة السياسة الدولية، العدد 4 ، أربيل ، كانون الثاني 1994 ، ص 28-29 .
    24. Genocide In Iraq . The Anfal Campaign Against The Kurds. Himan Rights Watch/ ME. New York. 1993 , P. 353.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,321

    افتراضي

    قضايا كردية معاصرة ... كركوك - الأنفال - الكرد وتركيا (3)
    د. جبار قادر
    الثلاثاء 30/05/2006
    وبصورة ملحوظة بل ومكثفة أحيانا في صفوف تلك التشكيلات كلها ، لا تصمد أمام التحليل العلمي والمنطقي للأحداث.
    ولم يجري حتى الآن تحقيق عادل ومحايد حول تلك الأحداث لتحديد أسبابها وكشف المذنبين الحقيقيين والجهات التي وقفت خلفهم ودفعت الأمور الى تلك النهاية المحزنة. ويبدو أن قوى فاشية وقومية محلية وأخرى خارجية وقفت خلف التيارات المتطرفة ودفعتها الى غرق البلاد بالمشاكل والإضطرابات لتحقيق أهداف سياسية معروفة. وقد يكشف المستقبل عن الأدلة والوثائق التاريخية التي ستلقي الأضواء على الأحداث وتوضح الصورة للأجيال القادمة. تسرع الزعيم عبدالكريم قاسم في اتهام اليسار بالوقوف وراء تلك الأحداث دون توفر اي دليل تاريخي يثبت ذلك . وقد تراجع فيما بعد قاسم عن اتهاماته السابقة . كما ان التقاير الغير محايدة لكل من مديري الشرطة والأمن في كركوك حينذاك جاسم محمود السعودي ونوري الخياط لا تحدد الجناة ولا المتسببين في تلك الأحداث .
    المعروف أن أصابع الإتهام وجهت الى تركيا وحليفاتها في حلف السنتو في دفع مجموعة من العناصر الشابة المتطرفة من التركمان والتي إنضوت تحت مظلة منظمة فاشية بإسم ( منظمة طوران ) لتأزيم الموقف في المناطق التي تسكنها الأقلية التركمانية . وكان إختيار هذا الإسم ، الذي يشير الى الحلم الطوراني في إقامة دولة تجمع كل الشعوب الناطقة بإحدى لغات المجموعة التركية والتي تمتد مواطنها حسب مزاعمها من بحر الأدرياتيك وحتى سور الصين، بحد ذاته إثارة لمشاعر السكان الكرد والأرمن والآثوريين وحتى العرب والتي كانت تسمية طوران تذكرهم بسياسات الإتحاديين المكروهة وبخاصة في عهد سيطرة الثلاثي الدموي ( طلعت ، جمال و أنور ) بحق هذه الشعوب وغيرها من شعوب الإمبراطورية العثمانية. كما أنها كانت تشير الى صبيانية ولاواقعية القائمين على تلك المنظمة والذين جلبوا المآسي لشعبهم بسبب تبني مفاهيم و شعارات وسلوكيات غريبة عن واقع هذه المدينة المتسامحة التي كانت ولاتزال ورغم كل المآسي التي حل بأبنائها تفتخر بحالة التعايش السلمي بين الأثنيات واللغات والثقافات المختلفة.
    لايفسر الموقف التركي المعادي من النظام الجديد في العراق فقط بالعوامل التي كانت تجمعها مع حليفاتها في حلف السنتو مثل خروج العراق من الحلف و تمتين العلاقات مع الإتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية وتبنى سياسات معادية للغرب وترديد الشعارات الثورية ، بل إستند الموقف التركي أكثر من أي شئ آخر على سياسات النظام الجديد تجاه كرد العراق ، رغم أن هذه السياسات بقيت حبرا على الورق و تراجعت عنها حكومة قاسم فيما بعد. ومع ذلك فإن إقرار النظام الجديد للحقيقية التاريخية القائمة في شراكة العرب والكرد في الوطن العراقي وكما جاء في المادة الثالثة من الدستور العراقي المؤقت للجمهورية العراقية و الذي أقر في 26 تموز 1958 ، و التعهد بضمان حقوقهم القومية دستوريا في أطار العراق الواحد كان سببا كافيا لإثارة عداء تركيا و معها إيران أيضا ضد النظام الجديد لأن هذا الموقف في حقل المسألة الكردية كان يمكن أن يشكل برأيهما مثلا (سيئا) للكرد في الدولتين المذكورتين .
    وقد أكدت جبهة الإتحاد الوطني في برنامجها المعدل والذي أعلنته في تجمع جماهيري في بغداد في 25 نوفمبر 1958 نفس الأفكار الواردة في الدستور عندما قالت أن ( الجبهة ترى بأن وجود العراق يقوم على اساس تعاون وتكاتف جميع المواطنين وإحترام حقوقهم وحماية حرياتهم . وهي تنظر الى العرب والكرد كشركاء متساوين في الوطن الواحد وتعترف بحقوقهم القومية في إطار العراق الموحد وستساعد الحكومة في مهمة تحقيق هذه الحق( .
    كما كتبت جريدة (الجمهورية ) الشبه رسمية تقول ( إن الأكراد شاركوا بقسط متساو مع العرب في النضال من أجل الحرية و الإستقلال ويمكنهم أن يكونوا واثقين من أن وضعهم سيتطابق مع وضع القسم العربي من السكان دائما). ومنذ الأيام الأولى لقيام النظام الجديد في العراق بدأت التحرشات التركية وأشارت الأخبار في حينها الى أن تركيا بدأت بتجنيد المرتزقة للدفاع عن (مصالحها ) في كركوك كما صرحت بذلك رسميا وهددت بإنتهاج سياسة نشيطة للدفاع عن تلك المصالح. كما جرى تحريك بعض القوى المرتبطة بها لإثارة المشاكل والإضطرابات التي سرعان ما تحركت وأثارت بعض المشاكل بين السكان الكرد والتركمان في قصبة آلتون كوبري في كانون الثاني من عام 1959 . ولكن الإجراءات الحاسمة للسلطات الحكومية والجماهير الشعبية الملتفة حولها في العام الأول من عمر النظام الجديد قبل أن يتخلى عن صيغته الشعبوية ، أفشلت تلك المحاولة.
    الغريب أن بريطانيا ، التي تسببت الى حد كبير في التراجيديا الكردية وقمعت خلال الأربعة عقود التي تلت الحرب العالمية الأولى كل الحركات التحررية الكردية في كوردستان الجنوبية ، تذكرت فجأة الإلتزامات التي قطعتها مع الحكومة العراقية لعصبة الأمم عند إلحاق الموصل بالعراق ، وحاولت من خلال شركة نفط العراق اثارة المشاكل بوجه النظام الجديد .
    المعروف ان لجنة عصبة الأمم الخاصة بمشكلة ولاية الموصل و التي زارت الولاية ودرست اوضاعها الأقتصادية والسياسية والديموغرافية إضطرت ان تضمن تقريرها الى مجلس العصبة توصية بأخذ رغبات السكان الكرد الذين شكلوا خمسة اثمان سكان الولاية ومصالحهم عند تقرير مستقبل الولاية كتمتع المناطق الكردية بحقها في جهاز إداري مؤلف من الكرد أنفسهم و إعتبار اللغة الكردية لغة للمحاكم والمدارس والأدارات . ووردت تلك النصوص في قرار عصبة الأمم بشأن الحاق الموصل بالعراق . كما وردت نصوصا مماثلة عندما تقرر قبول العراق عضوا في عصبة الأمم حول ضرورة ( إحترام رغبات السكان الكرد في إدارة مناطقهم و إستخدام لغتهم في الأدراة والتعليم و القضاء..الخ).
    تذكرت بريطانيا الحقوق الكردية بعد القضاء على نفوذها السياسي و الأقتصادي والعسكري في العراق وزوال عصبة الأمم نفسها وبعد تجارب الكرد المريرة معها على مدى العقود الأربعة التي حكمت فيها العراق . وبدأت تتحرك لإستخدام الورقة الكردية ضد النظام الجديد لتحقيق مآرب لا تمت بصلة الى مصالح الكرد وحقوقهم القومية. ولقطع الطريق على بريطانيا أرسلت اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكوردستاني ، الذي كان يمثل آنذاك الحركة القومية الكردية في العراق ، رسالة الى منظمة الأمم المتحدة مؤكدة دعم الشعب الكردي للنظام الجديد وإستعداده للدفاع عنه . ويؤكد هذا الموقف وللمرة الألف حقيقة أن القضية الكردية لايمكن خلقها ولا حتى تحريكها من الخارج اذا لم تكن الظروف الداخلية متوفرة ، كما يحاول البعض تصوير الأمور . إذ لولا سياسات القمع و الإضطهاد التي تمارس بحق الكرد ووجود أسباب حقيقية تدفع بهم للدفاع عن وجودهم القومي وكرامتهم الإنسانية المهدورة والوقوف بوجه الحكومات الظالمة لما تحركوا مهما حاولت القوى الخارجية .وهذه إحدى بديهيات علم التاريخ والسياسة التي يجب على أصحاب الشأن أن يدركوها و يأخذوها بنظر الإعتبار عند تعاملهم مع الكرد.
    يجب ان لانهمل في هذا المجال كذلك دور ايران والجمهورية العربية المتحدة . الغريب ان الأخيرة كانت تعادي يران و تركيا و حليفاتهما في حلف بغداد ، الا انها كانت تتآمر على النظام الجديد في العراق بنفس حماس الحلف المذكور . وبرز دورها التآمري بوضوح اثناء مؤمراة الشواف في الموصل .
    من الغريب حقا أن تتطابق مواقف منظمة (طوران ) التي يفترض بها أنها كانت تتطالب بالمشاركة السياسية للتركمان مع مواقف الحكومة التركية إزاء الحقوق القومية الكردية . فبدلا من المطالبة بتغيير نص المادة الثالثة بصورة تضمن مشاركة الأقلية التركمانية في الحياة السياسية في العراق كان أنصارها يطالبون بإلغاء تلك المادة وضرورة إمتناع الحكومة بالإعتراف بالحقوق القومية الكردية . وهذا منطق غريب لا يمكن للمرء أن يفهم أبعاده إلا من خلال معرفة القوى المحركة لها والمختفية خلفها . وقد أشارت الصحافة العربية في حينها الى ( أن أحداث كركوك تشكل مؤامرة نسجت خيوطها الأمبريالية الأمريكية بالتحالف مع عملائها الأتراك بهدف إقتطاع الموصل و كركوك الغنية بالنفط وإلحاقها بتركيا). وكانت أحداث كركوك حلقة في سلسلة المؤامرات التي تمثلت بحركات رشيد لولان والشواف ومنظمة طوران والتي كانت تهدف الى إغراق النظام الجديد في المشاكل للقضاء عليه وإعادة العراق الى كنف المعسكر الغربي .
    وكانت الأوضاع عشية الإحتفال بالذكرى الأولى لثورة 14 تموز 1958 تشير بوضوح الى نية تلك المنظمة والقوى الواقفة خلفها في إثارة المشاكل . فقد إجتمع قائد الفرقة الثانية بأعضاء اللجنة العليا المشرفة على الإحتفالات والتي كانت برئاسة وكيل المتصرف و ضمت في عضويتها ممثلون عن الفرقة الثانية وجميع الهيئات الرسمية والشعبية يوم 13 تموز 1959 وطلب منهم المساعدة في حماية الأمن والنظام في المدينة أثناء الأحتفال الجماهيري في اليوم التالي بذكرى الثورة. وقد وافقت جميع المنظمات السياسية والمهنية على القيام مجتمعة بالأحتفال وعلى مراسيم وشعارات الإحتفال بإستثناء منظمة طوران التي أعلنت وبصورة إستفزازية بأنها ستقوم بالإحتفال لوحدها وبالطريقة التي تراها مناسبة . وكان إتخاذ مثل هذا الموقف وترديد شعارات تمجد تركيا وأتاتورك في ظل تنامي العداء ضد سياساتها وحلف السنتو وسيادة التطرف الآيديولوجي في أوساط القوى السياسية العاملة على الساحة العراقية نموذجا للطفولية السياسية وعدم تقدير العواقب السيئة للسياسات المناهضة لسكان المدينة. وكانت المنظمة المذكورة لا تخفي توجهاتها المعادية للحركة القومية الكردية والقوى السياسية اليسارية ، كما أنها كانت تبث الإشاعات المغرضة ضد تلك القوى في أوساط الأقلية التركمانية وتدفعها للقيام بالأعمال الإستفزازية وإثارة الحزازات والإضطرابات. وقد إنخدعت تلك المنظمة وأنصارها بالوعود التي حصلت عليها من تركيا وشريكاتها في حلف السنتو عبر القنصليتين البريطانية والأمريكية ، اللتين أغلقتا بعد الأحداث مباشرة كإشارة على تورطهما في إثارة الإضطرابات في كركوك، و دائرة العلاقات في شركة نفط العراق التي صرفت حسب مصادر الإستخبارات الأجنبية مبلغ 200 ألف دينار لإيصال الأوضاع الى تلك النهاية المحزنة في كركوك . لايمكن تصور أن تضع منظمة صغيرة ومعزولة عن أكثرية التركمان نفسها في طريق تلك الأمواج البشرية التي خرجت للتعبير عن إستعدادها للدفاع عن الجمهورية الفتية بوجه القوى الإستعمارية الكبرى وعملائها في المنطقة وتغامر بأرواح أنصارها في صراع محسوم النتائج سلفا. ولم ينل هذا الجانب بالذات إهتمام الكتاب الذين تصدوا لدراسة تلك الأحداث بدوافع سياسية وعاطفية في أغلب الأحوال. وتشير ممارسات الجبهة التركمانية على مدى السنين القليلة الماضية الى تكرار مفردات تلك السياسة الصبيانية وعدم العبرة من دروس التاريخ ، وهذا ما سنخصص له فصلا خاصا في هذا الكاتب .
    وأثناء مرور المتظاهرين يوم 14 تموز 1959 من الشارع المعروف بشارع سينما أطلس في وسط مدينة كركوك هوجموا من أسطح المنازل بالحجارة والعصي مع إطلاق شعارات إستفزازية معادية للشيوعيين ومطالبة بإلغاء المادة الثالثة من الدستور العراقي المؤقت كما أطلقت عدة عيارات نارية . عند ذلك قام الجيش بتفريق التركمان وفي اليوم التالي تجددت الإشتباكات التي أدت الى مقتل عشرات الأشخاص وبأساليب وحشية ونهب ممتلكات العديد من العوائل التركمانية .
    وللموقف التركماني هذا إزاء الحقوق القومية الكردية سوابق تاريخية فبعيد إنتهاء الحرب العالمية الأولى وعندما كان الأنجليز يهيئون الوضع لإضعاف موقف الأكثرية الكردية في المدينة من خلال فسح المجال لسيطرة بقايا العثمانيين على الإدارة والاسواق فيها، شكل هؤلاء (جمعية كركوك للدفاع عن الحقوق ) على غرار جمعيات الدفاع عن حقوق الولايات في آسيا الصغرى ( تركيا الحالية) والتي ضمت الى جانب الموظفين العثمانيين العسكريين والمدنيين عددا من الوجهاء والملاكين المتنفذين الكرد الذين تشابكت مصالحهم مع السلطة العثمانية . وكانت هذه الجمعية تبدي مخاوفها من التقارب بين الحكومة الكمالية وحكومة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية وإعتراف الأولى بالثانية . وكان الضابط التركي على شفيق الملقب بأوزدمير والذي وكل إليه أمر إعادة كوردستان الجنوبية الى حظيرة السيطرة التركية يوصل هذه التخوفات الى تركيا ويأتي بالجواب المطمئن لأعضاء هذه الجمعية بأن حكومة أنقرة غير مستعدة لدعم طلبات الشيخ محمود وغير جدية في علاقاتها مع حكومته رغم عقدها إتفاقية إعتراف وتعاون ودفاع مشترك مع الأخيرة . وكان أوزدمير يؤكد لبقايا العثمانيين في المدينة أن الأمر لا يعدو كونه محاولة لإستغلال مكانة الشيخ محمود والموقف الكردي المعادي من السيطرة الأنجليزية كمدخل للعودة الى كوردستان الجنوبية. فالسياسة التركية إزاء ولاية الموصل كانت و لا تزال نابعة من أقوال مصطفى كمال التي أكد عليها في خضم الصراع على الموصل، إذ قال ( الموصل تركية و لا يمكن حتى للحراب أن تغير من هذا الأمر . نحن نريد الولاية السابقة كلها وعلى كلتا ضفتي نهر دجلة و لايهمنا في شئ إن كانت تحت الإنتداب أو لم تكن . ولن نتخلى عن هذا الموقف ابدا ).
    ويمكن أن يقال نفس الشئ بشأن موقف المعلمين التركمان إزاء محاولة الكرد تأسيس دائرة معارف كوردستان في كركوك بعيد ثورة تموز مباشرة . إذ أنهم راجعوا قائد الفرقة الثانية ناظم الطبقجلي بإسم هيئة نقابة المعلمين في كركوك وكانوا جميعا من التركمان الذين فازوا ضمن قائمة( الجبهة القومية ) التي ضمت البعثيين والقوميين والتركمان وفي غياب كامل للمعلمين الكرد وطلبوا منه إقناع السلطات العليا للوقوف بوجه هذه المحاولة . ولا يستبعد أن يكون قائد الفرقة نفسه والقوى القومية المتطرفة والتي كان العداء للحقوق القومية الكردية يوحدها وراء تنظيم العملية كلها .
    ويمكنني القول دون الخوف من الوقوع في خطأ بأن موقف الأقلية التركمانية من الحقوق القومية الكردية عموما وحقوق كرد محافظة كركوك خصوصا تركز خلال العقود الثمانية الماضية على بذل الجزء الأكبر من جهودها في محاربة الطموحات الشرعية للشعب الكردي بدلا من الكفاح من أجل حقوقها القومية . ولم يكن الدافع من وراء ذلك الا الدفاع عن مصالح تركيا و توجهاتها السياسية من قبل فئة صغيرة مرتبطة بدوائر المخابرات التركية ولا تمثل الا نفسها .
    لازالت بعض التجمعات السياسية التركمانية تتبنى هذا النهج الخاطئ والمضر . و هناك مقولة شعبية متداولة بين الكرد تؤكد أن التجمعات السياسية التركمانية إذا خيرت بين تمتع التركمان والكرد بحقوقهم القومية المشروعة وبين حرمان الطرفين منها ، ستختار حتما الأمر الثاني .
    ساهمت مجموعة من العوامل في إتساع نطاق الإضطرابات والأعمال الإنتقامية خلال اليومين التاليين منها التعبئة السياسية المتطرفة التي قامت بها كل التيارات الحزبية العاملة على الساحة العراقية آنذاك ونشر الدعايات في المناطق الكردية من المدينة عن مقتل أعداد كبيرة من المشاركين في المظاهرة ، هذا فضلا عن الحقد الكامن في نفوس سكان الأحياء الفقيرة من سياسات إدارات الدولة في المدينة والتي كان يسيطر عليها الموظفين التركمان . وكانت هذه الإدارات تمارس سياسة تمييز بشعة بين أحياء المدينة وتحرم الأحياء الكردية من الخدمات الضرورية ، فضلا عن تعامل موظفيها تعاملا فضا و إستعلائيا مع مواطني المدينة من الكرد . يتذكر العديد من أبناء حي الشورجة الكردي زيارة أحد رؤساء البلدية التركمان الى حيهم ، وحينما ناشدوه بأن يعمل شيئا لحل مشكلة شحة مياه الشرب في الحي ، و الذي لايزال سكانه و في بداية الألفية الثالثة يعانون منها . فكان جوابه دليلا على سفاهة المسؤولين في دولة اللاقانون ، إذ كان تفسيره للأمر هو أن سكان الحي يتناولون البصل بكثرة الأمر الذي يؤدي الى استهلاك قدر كبير من الماء وبالتالي الى عدم كفاية مياه الشرب. أية سفاهة هذه ؟!!!
    وكان إستغلال البورجوازية التجارية التركمانية في المدينة للفلاحين والقرويين الكرد وسرقة نتاج كدهم السنوي عبر أساليب غير سوية في أغلب الحالات وراء تنامي حقد الفلاحين والكادحين الكرد على ابناء تلك الفئة . ولولا الجهود المخلصة للوجهاء الكرد المعروفين في المدينة والفئات الواعية الكردية في الجيش و الأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية لمنع وصول القرويين وأبناء القبائل الكردية يوم 15 تموز 1959 الى مركز المدينة و المشاركة في الأحداث ، لكان من الصعب جدا وضع حد للأضطرابات ولحدثت فواجع كبرى . كما يتذكر المنصفون من الكرد والتركمان قيام العوائل الكردية بالحفاظ على حياة مئات العوائل التركمانية المطلوبة وإخفائهم لأيام عديدة في بيوتهم رغم ما كان ينطوي عليه الأمر من مخاطر في تلك الأيام .
    كما شكل التغني بتركيا وسياساتها من قبل المنظمة التركمانية موقفا يدل بحق على قصر نظر سياسي كبير من جهة وإستفزازا لمشاعر سكان مدينة كركوك من جهة أخرى . فالكرد والعرب والآثوريين والأرمن كانوا يحتفظون بذكريات مريرة عن العهد التركي وعمليات القمع والإبادة التي قامت بها السلطات التركية بحق هذه الشعوب . كما أن موقف تركيا المعادي للنظام الجديد والذي كان لا يزال في عامه الأول و محبوبا لدى الناس ، وإرتباط ذلك بالموقف الإستعماري الغربي من الثورة وقيادتها ، كان يؤجج النفوس ضد تركيا و كل من يناصرها.
    واصلت القوى السوداء بعد إنحراف نظام عبدالكريم قاسم عن الأهداف المعلنة للثورة و بخاصة بعد إنقلاب 8 شباط 1963 الدموي القيام بسلسلة من الأعمال الإرهابية ضد العمال والكسبة الكرد الذين كانوا يغتالون بأساليب جبانة عند ذهابهم في الصباح الباكر الى أعمالهم . فقد قتل العديد من هؤلاء وألقي بالتيزاب على وجوه آخرين وبطريقة عشوائية من قبل جماعات إرهابية تركمانية . والتحق عدد كبير من الشباب التركماني المتطرف بصفوف الحرس القومي بعد إنقلاب شباط الأسود بهدف (الثأر)من الكرد وقاموا خلال عمر البعث القصير عام 1963 بإقتراف جرائم كثيرة بحق المواطنين الكرد في كركوك والقصبات التابعة لها ، كما كانوا ينظمون ليالي حفلات خاصة للمسؤولين الحكوميين العسكرييين وبخاصة لإبراهيم فيصل الأنصاري قائد الفرقة الثانية والمدنيين ويجري دفعهم خلالها لبذل الجهود لإقناع بغداد بهدم الأحياء الكردية ( بحجة قيام الفقراء ببناء مساكن لهم على الأراضي العائدة للبلدية كما حدث لحي الكوماري وأحياء في الشورجة والإسكان ورحيم آوا) وإعدام المسجونين السياسيين الكرد كما حدث عندما علقت سلطات البعث في حزيران 1963 جثث 28 وطنيا كرديا وتركمانيا على رأسهم الشهيد معروف البرزنجي في الأحياء التركمانية والتي خرج عدد كبير من سكانها يحتفلون بتلك المناسبة الهمجية .
    وكما اشرت لم يجري لحد الآن تحقيق عادل ونزيه يكشف عن كل الملابسات التي رافقت تلك الأحداث المؤلمة. كما بقيت دوافعها والقوى المحركة لها وكذلك النتائج المترتبة عليها تستخدم من قبل الفرقاء المختلفين لتحقيق اغراض سياسية ومرحلية لا تمت بصلة الى الدفاع عن ضحاياها الحقيقيين . ويبدو أن الأطراف المختلفة لم تنجح في إستنباط العبر والدروس منها بهدف إزالة آثارها ومنع تكرارها في المستقبل.
    و بناء على النتائج المريرة للتجارب السابقة والتي طالت جميع الأطراف لابد من العمل على بناء صرح علاقات جديدة بين المكونات الأثنية للمجتمع العراقي عموما والمجتع الكوردستاني على وجه الخصوص . ولا أمل في نجاح هذه العملية دون مراجعة جادة وصميمية من قبل كل الأطراف لمواقفها السابقة وأفكارها المسبقة عن الآخر.
    لابد أن يسود حوار حضاري و شفاف بين المثقفين والقوى السياسية الحقيقية الممثلة للأطراف المختلفة يقوم على ثوابت التاريخ والجغرافيا ويستبعد الأوهام والأساطير والتأثيرات الخارجية من جدول أعماله ليقوم بصياغة اسس جديدة لعلاقات صحيحة.
    وعلى الحكومة المركزية التي ستتبع النظام الحالي أن تتخلى نهائيا عن فكرة فرق تسد بين الأثنيات المختلفة ومحاولات إيجاد عناصر للتوازن بين القوميتين الرئيسيتين واللعب على وتر الخلافات وتعميقها.
    وعلى الكرد والتركمان ادانة أعمال القمع والتنكيل التي جرت بحق التركمان في تموز 1959 والأعمال الأرهابية التي جرت بحق الكرد في السنوات التي تلت ذلك العام والدعوة الى إجراء التحقيق العادل والنزيه فيها وإنزال العقاب بمرتكبيها والمتسببين بها .
    من المهم ان تتخلي الجماعات السياسية التركمانية عن المواقف المعادية للحركة القومية الكردية في العراق وغيرها وتربية انصارها بهذة الروحية والإبتعاد عن تحريف الحقائق المتعلقة بالأقلية التركمانية والمناطق التي تسكنها وتحديد مطالبها القومية بصورة و اقعية. وعليها التخلي كذلك عن فكرة التعويل على تركيا نهائيا لأن ذلك لن يؤدي إلا الى مزيد من التوتر والنكسات. إن الكرد الذين قارعوا الحكومات العراقية المتتالية خلال ثمانية عقود ولم تتمكن كل وسائل الإبادة الجماعية أن تجبرهم على الرضوخ الى الظلم والطغيان ، لن يقبلوا بأي دور لتركيا وتوجهاتها العنصرية في كوردستان والعراق .
    تقع على الأمة الكبرى ، وهي الأمة العربية على صعيد العراق والكردية على صعيد كوردستان ، مسؤولية تاريخية في تطمين الأمم الصغرى التي كثيرا ما تتقاذفها المخاوف من أية خطوة تخطوها الأولى و بخاصة في منطقتنا التي شهدت المآسي و الصراعات القومية وحملا ت الإبادة والتطهير العرقي وغيرها والتي خلقت حالة من الشكوك و المخاوف بين شعوب المنطقة في علاقاتها مع بعضها .
    تأسيسا على كل ذلك من الضروري الحرص على بناء علاقات متينة وعلى أسس صحيحة بين الأمم و بالأستناد الى روح الأخوة والتآلف وإزالة البغضاء والحقد من قاموس العلاقات بين الشعوب والأمم وبخاصة تلك التي تعيش على أرض واحدة وتتداخل علاقاتها الأجتماعية والسياسية والأقتصادية. ويدفعني كذلك الحرص على المصالح القومية المشروعة للأقلية التركمانية في كوردستان و التي عاشت خلال القرنين الأخيرين على أرض كوردستان وإستفادت من خيراتها دون أن يضيق عليها أحد ، بل سادت في بعض مدنها من الناحيتين الإقتصادية و الإدارية.وقد كانت العلاقات بصورة عامة جيدة شابتها ازمات قصيرة كانت نابعة أصلا من تخوف الأقلية التركمانية ودون مبرر من التطلعات المشروعة للشعب الكردي ، فقامت منظمات سياسية معزولة في أكثر الحالات عن الجماهير التركمانية الواسعة برفع شعارات غير واقعية تسببت في خلق فجوة بين التركمان و الكرد. وأصبحت تلك الشعارات وأصحابها في ذمة التاريخ . بإختصار لابد أن تصبح الحركة التركمانية حركة تعبر عن طموحات تركمان العراق ضمن ثوابت التاريخ والجغرافيا وليس حركة تلهث وراء سراب أطماع لا طاقة لها و لا للواقفين ورائها على تحقيق الجزء الأبسط منها. كما عليها وهي المتطلعة الى تمثيل الجماهير التركمانية والتعبير عن طموحاتها المشروعة أن تقف الى جانب الحركات التحررية في العالم والى جانب المضطهدين أينما كانوا لا أن تدافع عن سياسات عنصرية تمارسها الحكومات التركية ضد الشعب الكردي في تركيا ، فقضايا حرية الشعوب وحقوقها واحدة ولا يمكن المطالبة بالحقوق القومية والديمقراطية وحقوق الأنسان من جهة والوقوف الى جانب الجلادين والقوى العنصرية وقامعي تطلعات الشعوب من جهة أخرى.

    الفصل الخامس
    أين الحقيقة في ما يكتب و يقال عن كركوك
    قراءة في وثائق حكومية
    كثيرا ما تردد صفحات الأنترنيت وبعض الصحف العربية والتركية فضلا عن القنوات الفضائية العربية أخبارا وتقارير صحفية مشوهة وبعيدة عن الواقع عن كركوك المدينة والمحافظة . وكثيرا ما تتجاوز هذه التقارير الأوضاع الحالية التي تعيش في ظلها المحافظة لتتناول الجوانب التاريخية والسكانية والثقافية المتعلقة بهذه المنطقة .
    يبدو أن قدر سكان هذه المحافظة الذين عانوا الأمرين على أيدي البعث خلال العقود الأربعة الماضية ، يأبى أن يتركهم لشأنهم دون أن يريهم ( نعم !) فلول البعث ورفاقهم من الجزارين القادمين من أشد زوايا التاريخ عتمة . لعل من أغرب الأمور أن يحيط بهؤلاء الكائنات الخرافية شلة من الأفاقين والمغامرين السياسيين ممن يزعمون أنهم يناضلون من أجل حقوق هذه الفئة أو تلك من المكونات الرئيسية لسكان كركوك . ويعمل هؤلاء الى جانب قيامهم بتوفير الدعم اللوجستي للأرهابيين على صعيد آخر وهو نشر الأخبار الملفقة والتحليلات السطحية الساذجة في وسائل الأعلام العربية المستعدة دوما لنشر كل ماهو غير واقعي وعقلاني عن العراق عموما والكرد على وجه الخصوص .
    لقد حاولت جهات عديدة داخلية وخارجية زرع بذور الفتنة بين سكان هذه المحافظة . ولعبت القنوات الفضائية الشوفينية والطائفية دورا تحريضيا كبيرا في تعقيد أوضاع المدينة وبث الأخبار الملفقة والتقارير الصحفية البعيدة عن الواقع . من المفرح حقا أن هذه المخططات الشريرة إصطدمت بجدار متين من روح التسامح والتسامي التي تطبع بها وتربى عليها سكان كركوك الأصليين .
    ولعل من أكثر القضايا التي أثيرت حولها الكثير من المزاعم ونشرت بصددها الأخبار والتقارير الملفقة هي مأساة الكرد المرحلين من المدينة أو المحافظة على أيدي سلطات البعث وعودة بعضهم إليها بعد سقوط النظام. فمن مزاعم عن تكريد المدينة والتحكم بالأدارة فيها الى الحديث عن وجود مخططات لدى القيادات الكردية لدفع عشرات الآلاف من الكرد من غير أبناء المدينة والمحافظة إليها وشراء الأراضي والعقارات ، بل وصل الخيال بالبعض الى الحديث عن جلب عدد كبير من الكرد من البلدان المجاورة للسكن في كركوك .
    ولكن حبل الكذب قصير كما يقول المثل المأثور اذ أظهرت الحقائق على الأرض بأن عدد صغير جدا من المرحلين الكرد عادوا الى كركوك ويعيشون حياة بائسة تحت الخيام لا يحسدهم عليها أحد . وأظهرت الأحصائيات المنشورة في أكثر من موقع بأن الموظفين الكرد لا زالوا يشكلون نسبة صغيرة جدا في الدوائر والمؤسسات الرسمية في كركوك. والأنكى من ذلك أن التعيينات متوقفة في كركوك نفسها ، في حين ترسل الوزارات العراقية بصورة مستمرة قوائم بالموظفين الجدد من غير أبناء المحافظة للعمل في دوائرها . ويحق للكرد أن يشكوا في نوايا الدوائر الحكومية التي تنفذ مثل هذه السياسات . لقد دشن البريطانيون أسس هذه السياسة في العشرينات وسارت عليها الحكومات العراقية المتعاقبة لتصل الى سياسة التطهير العراقي للكرد في كركوك على أيدي البعثيين . هل يعني هذا أن حكامنا الجدد يمارسون السياسة نفسها ولكن بأسلوب اخر بعيدا عن العنف والأساليب القسرية ؟.
    بقيت ردود فعل القيادات الكردية على التصرفات الحكومية هذه في إطار التصريحات الصحفية التي تهدف الى تهدئة الأمور . ووصل الأمر بها أن تجامل القوى القومية الغير ديموقراطية في العراق وتتخلى حتى عن تسمية السياسات البعثية بأسمائها الحقيقة . فبدلا من التمسك بمبدأ إزالة آثار سياسات التطهير العرقي والتعريب وافقت على تعبير( تطبيع الأوضاع ) المطاطي الذي لا يعبر أبدا عن حجم لجرائم التي قام بها النظام البعثي ضد كرد كركوك والمناطق الكوردستانية الأخرى . الغريب ان شخصا كعلي حسن المجيد لم يكن يتردد في تسمية تلك السياسات بالتعريب في ندوات موسعة لكوادر حزب البعث الحاكم ومسؤولي الأمن والجيش في كركوك .
    عود الى موضوع المرحلين الكرد من كركوك . هناك أطنان من الوثائق الحكومية التي تظهر حقيقة هذه المأساة الأنسانية . وهناك المئات من القوانين والقرارات الصادرة من قبل ما كان يسمى ب( مجلس قيادة الثورة ) منشورة في جريدة الوقائع العراقية الرسمية والتي توضح بشكل لا لبس فيه حجم هذه الكارثة. لذلك فان لجوء البعض الى نشر المزاعم بصدد المرحلين الكرد هنا وهناك لن يستطيع أن يغير شيئا من الحقيقة .
    كان بامكان القيادات الكردية تبني فكرة فتح مراكز متخصصة لجمع وأرشفة ودراسة الوثائق المتعلقة بسياسات التعريب والتطهير العرقي والأبادة الجماعية. لقد إنشغلت هذه القيادات بدلا من ذلك وكما هو ديدن القيادات السياسية في الشرق الأوسط بتنظيم المهرجانات والمؤتمرات الأعلامية الصاخبة التي لم تسفر عن شئ يذكر .
    لقد وقعت عيناي مرات عديدة وتطرق الى سمعي أيضا بعض الأرقام عن المرحلين الكرد يبثها هنا وهناك أناس ينتمون الى بعض الدكاكين السياسية التي ظهرت بعد سقوط نظام صدام حسين . فمنهم من حدد الرقم بأكثر من عشرة آلاف شخص بقليل ومنهم من تكرم علينا بعدة آلاف أخرى . وكالعادة لا يستندون في مزاعمهم على أية معطيات إحصائية أو وثائق رسمية . لابد أن هذا هؤلاء على علم بأن 779 قرية وقصبة كردية تابعة لمحافظة كركوك جرى تدميرها وإزالتها وفق الوثائق الحكومية ، وأصبح سكانها بين مرحل الى خارج المحافظة أو مؤنفل سكن القبور الجماعية . كما أنهم يعرفون حتما بأن سياسات الترحيل البعثية للكرد من كركوك بدأت منذ عام 1963 ولم تتوقف إلا في نيسان من عام 2003 . ولا يمكنني حتى التصور بأن احدا من هؤلاء لا يعرف شخصيا عددا من الكرد الذين جرى ترحيلهم أمام عينيه . الغريب في الأمر أن هؤلاء لا يترددون ، عندما يتعلق بالأمر بغير الكرد ، في الحديث عن ترحيل الآف المواطنين من قرية واحدة فقط .
    لست ممن يؤمنون بأن مثل هذا الكلام يمكن أن يعيد هؤلاء الى تحكيم عقولهم وضمائرهم عندما يتحدثون عن مثل هذه الأمور . لأنهم يقومون بنشر هذه المزاعم بدوافع سياسية وخدمة لقوى أقليمية يتلقون منها لقاء عملهم هذا الدعم المادي والمعنوي. لذلك فان العودة الى الوثائق الحكومية افضل لتتحدث عن نفسها وتدحض تلك المزاعم وتظهر الحقائق لمن يود حقا الأطلاع عليها . ومن المؤسف أن لا تدرك هذه الفئة بأنها بتعاملها بهذه الطريقة الظالمة مع مآسي وآلام المنكوبين لا يمكن إلا أن تثير نقمة وغضب الأخيرين وتتسبب في إحداث شروخ عميقة بين أبناء المدينة الواحدة ، ستحتاج الأجيال القادمة الى سنين طويلة لردمها و إزالة آثارها .
    سنشير الى وثيقة واحدة تغطي فترة شهرين من عام 1998 و تظهر بأن عدد المرحلين من كرد كركوك خلال تلك الفترة القصيرة يتجاوز الرقم الذي يشير إليه هؤلاء . تشير الوثيقة الصادرة من ديوان محافظة ( التأميم ) تحت عدد : 301433 و بتاريخ 12 / 1 / 1998 الى كتاب ديوان الرئاسة الخاص بالتقسيمات الجغرافية وقطاعاتها وقوانين السكن . كما تشير الى الظروف الأمنية البالغة الأهمية والموقع الجغرافي المهم لكركوك . وتطالب الوثيقة مؤسسات الدولة والحزب في كركوك بالتطبيق الحرفي لفقرات كتاب ديوان الرئاسة . يبدو أن كتاب ديوان الرئاسة قد نص على التعليمات الواجب تنفيذها للتعامل مع المواطنيين الكرد من أبناء المحافظة مثل :حجز شخص من كل عائلة كردية مرحلة وحجز دورهم وبطاقاتهم التموينية وكذلك قسائم الأشتراكات في الدوائر الرسمية. ونصت الوثيقة على ضرورة إعلام مسؤولي أمن المنطقة والحزب للقطاع المشمول ومختار المنطقة بكتب رسمية مع إتباع النظام المنصوص عليه في كتاب ديوان الرئاسة . وأرسلت نسخ من الكتاب الى المحافظة ، مسؤول أمن المنطقة ، مختار المنطقة و المسؤول الحزبي فيها .
    الأهم من هذا وذاك تورد الوثيقة معلومات مفصلة عن هذه الوجبة من المرحلين الكرد من كركوك خلال الفترة من 15 / 4 / 1998 - 15 / 6 / 1998 البالغ عددهم ( 1468 ) عائلة مع ذكر عدد العوائل المرحلة من كل حي من أحياء المدينة . و بحسابات بسيطة لعدد أفراد هذه المجموعة مع أخذ حجم العائلة الكردية بنظر الأعتبار سنجد بأن عدد أفراد هذه الوجبة لوحدها تتجاوز الأرقام التي تتدوالها تلك الجهات المشبوهة .
    تشير الوثيقة الى الأحياء التي جرى ترحيل هؤلاء منها والتي تسميها بالقواطع ، وهي تسمية نابعة من عسكرة المجتمع التي فرضها البعث على البلاد وحولت الأحياء الى قواطع عسكرية والمواطنين الى مجندين في صفوف القطعات العسكرية أو عناصر في صفوف القوى المعادية لها .
    لقد جرى ترحيل هؤلاء الكرد من الأحياء ( القواطع ) التالية :حي العسكري (2 )/ - 143 عائلة . طريق بغداد
    / 12 عائلة . حي الإسكان ( جرى بناء هذا الحي في عهد عبدالكريم قاسم لأسكان العمال وصغار الموظفين فيها وتحول الى حي كبير سكنه الكرد بالدرجة الأساسية ) / 150 عائلة . الحرية / 234 عائلة . المصلى / 3 عائلة
    ( كذا في الوثيقة ) . القورية / 32 عائلة . شورجة / 321 عائلة . الأندلس ( لقد تذكر البعث في كركوك فقدان العرب للأندلس و أراد أن يعوض ذلك بإطلاق إسم الأندلس على حي رحيم ئاوا الكردي ) / 401 عائلة . إمام قاسم (1 ) / 74 عائلة. إمام قاسم (2 ) / 66 عائلة . آخي حسين / 2 عائلة . صاري كهية / 22 عائلة . حي الخضراء / 2 عائلة . حي العسكري (1 ) / 6 عائلة . تظهر هذه الوثيقة و بجلاء المديات المرعبة لسياسات الترحيل البعثية بحق الكرد في كركوك وغيرها. ولايمكن للمزاعم التي تتداولها تلك التجمعات السياسية و وسائل الأعلام المعادية لتطلعات الكرد المشروعة أن تحجب الحقائق عن الناس .
    وكانت سياسات الترحيل والتطهير العراقي يومية تقريبا على مدى سنوات الحكم البعثي . فقد وردت في برقية سرية و فورية صادرة من وزارة الداخلية / الأستخبارات بعدد 18640 بتاريخ 22/ 6 /2001 الى محافظة التأميم / الأستخبارات ما نصه ( تنسب قيامكم بالأشراف المباشر على عمليات الترحيل في المحافظة و بالأخص العوائل الكردية التي عليها مؤشر أمني فقط وأرسال موقف يومي بكل حالة ترحيل ليتسنى لنا عرضها أمام السيد الوزير المحترم . للتنفيذ وبكل دقة وإعلامنا إجراءاتكم . إنتهت . المرسل هادي جوحي / الداخلية . المستلم / محمد عباس / التأميم. الوقت / 1650 . الوسيلة السايكروفون المجفر). ارادت وزارة الداخلية أن تشرف الأستخبارات دون غيرها على ترحيل العوائل التي عليها (مؤشرات أمنية) وبإطلاع مباشر من وزير الداخلية شخصيا .
    و تشير وثيقة أخرى ( عدد 589 بتاريخ 16 / 8 / 1997 ) ، مذيلة بتوقيع الفريق الأول الركن أياد فتيح خليف (محافظ التأميم ) ، الى حصول موافقة نائب رئيس الجمهورية ورئيس لجنة شؤون الشمال على تسجيل الدور المبينة أرقامها وأسماء أصحابها المرحلين بأسماء المستفيدين ( العرب الوافدين الى كركوك ) . وتتضمن القائمة المرفقة بهذا الكتاب الرسمي أسماء 29 كرديا مرحلا مع أرقام الدور المسجلة بأسمائهم مع أسماء الوافدين العرب الذين وزعت عليهم هذه البيوت دون أي وجه حق (1).
    ووصل الأمر بالبعث الى منع أستخدام اللغة الكردية واللغات المحلية الأخرى في كركوك ، فقد اصدرت محافظة كركوك تعليماتها تحت رقم 145 م ع بتاريخ 21 ايلول 1999 بالأستناد الى توجيهات ديوان الرئاسة المبلغ اليها بالكتاب السري للغاية المرقم 13721 في 8 آب 1998 وكتاب مجلس الوزراء / هيئة التخطيط و المتابعة 4/5/ 14302 حول ما سمتها ب (الأوضاع الشاذة في مدارس محافظة التأميم ) ، ومن اجل ( ازالة بعض الظواهر السلبية لنجاح العملية التربوية على المسالك القومية، وتوحيد الصفوف وعدم فسح المجال للأجنبي بالتدخل من الثغرات الضيقة للتدخل و التلاعب بذقون الجيل الصاعد بالشعارات العنصرية). المقصود بالأوضاع الشاذة هنا هو حديث التلاميذ فيما بينهم خلال الفرص بين الدروس بالكردية او التركمانية او السريانية . لم تجد سلطات البعث في كركوك من منع الصغار من التحدث بلغاتهم وقيامها بتطبيق اسوأ اشكال سياسات التطهير العرقي ضد الكرد وغيرهم في هذه المحافظة اية عنصرية ، بينما اعتبرت نزوع الأطفال الطبيعي للتحدث بلغاتهم الأم تمسكا بالشعارات العنصرية.
    من هنا الزمت المحافظة طلاب المدارس بتطبيق التعليمات التالية (أ. يمنع منعا باتا استعمال اللغات المحلية - الكردية والتركمانية والآشورية و الكلدانية - من قبل الهيئة التعليمية والتدريسية لالقاء المحاضرات او مفردات الجمل المستعصية بغير اللغة العربية اثناء الدوام الرسمي ، ب . يمنع منعا باتا استعمال اللغات المشار اليها اعلاه في الفقرة اولا من كتابنا من قبل الهيئة التعليمية والتدريسية مع الطلبة في فترة الأستراحة. ج. يمنع منعا باتا استخدام اللغات المحلية عدا العربية من قبل طلاب المدارس فيما بينهم )(2).
    كان النظام مستمرا وحتى يوم سقوطه مستمرا في التخطيط لتطهير الكورد كليا من محافظة كركوك . فقد طلب محافظ كركوك اللواء الركن نوفل اسماعيل خضر استنادا الى كتاب الشؤون الأمنية بوزارة الداخلية المرقم 563 في 10 كانون الثاني 2000 (ارسال قائمة باسماء 300 عائلة كردية وتركمانية من الساكنين في حدود مركز المحافظة بغية ترحيلهم خلال عام 2000 )، وحدد المحافظ الفئات المشمولة بهذا القرار العنصري وفق التوجيهات المركزية ب : اولا. المواطنين الكرد والتركمان الذين امتنعوا عن تصحيح قومياتهم مع التركيز على الذين لهم ممتلكات خاصة كالدور و العقارات . ثانيا. المواطنين الذين لهم اقارب من الدرجة الأولى والثانية في صفوف الحركات التخريبية (الكردية والتركمانية ) في منطقة الحكم الذاتي ، باستثناء العناصر الخاصة الموجهة و المرسلة من قبل الأجهزة الأمنية والأستخباراتية والمخابراتية لاداء واجبات ومهمات خاصة في صفوف الحركات التخريبية . ثالثا. المواطنين الذين لهم اقارب من الدرجة الأولى غادروا العراق بعد احداث عام 1991 ) .
    واجملت دائرة الشؤون الداخلية في محافظة كركوك في كتاب لها الى المكتب الخاص/ الديوان تحت رقم 9/9/ 713 في 24 /1 / 2000 ما سمتها بالخطة الخمسية للترحيل قائلة ( نود ان نعلم سيادتكم الموقر بتنفيذ الخطة الخمسية الصادرة من وزارة الداخلية - الشؤون الأمنية، والتعديلات اللاحقة بالخطة والخاص بترحيل المواطنين الغير العرب الى خارج المحافظة . ومن خلال 35 وجبة خلال خمسة اعوام ابتداء من 1 / 1 / 1995 لغاية 31 /12 / 1999 ) . وتضمن الجدول الملحق بهذا الكتاب عدد الذين جرى ترحيلهم من كركوك خلال سبعة اشهر من عام 1999 الذي بلغ حوالي 500 شخص . وهكذا تجسدت النتائج الباهرة لخطط البعث الخمسية في قوائم المرحلين و المهجرين من موطنهم بدلا من شق الطرق وبناء المصانع والمدارس والمستشفيات .
    وتضمنت قائمة الأوامر القرقوشية للنظام البعثي منع الكرد من ممارسة النشاط الأقتصادي ، فقد حصرت وزارة التجارة ( مزاولة التجارة حصرا على ابناء القومية العربية - المتميزين - وفق الشروط الخاصة ) . وخول قرار مجلس قيادة الثورة المرقم 76 و المؤرخ 7 شباط 2000 مدير شركة نفط الشمال باحالة ( المنتسبين من ابناء الأقليات الغير عربية - الكرد و التركمان الى التقاعد لما يستوجبه الظروف الأمنية) . الغريب ان هذا الأمر شمل حتى الذين اقدموا على ( تصحيح ) قومياتهم على ضوء التوجيهات المركزية . ويحمل القرار توقيع صدام حسين (3).

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,321

    افتراضي

    ان من يطلع على الوثائق المنشورة حتى الآن عن سياسات التطهير العرقي في كركوك و غيرها يصاب بالغثيان من سياسة التمييز العنصري الني انتهجتها حكومة صدام حسين ضد المواطنين الكرد عموما وكرد كركوك على وجه الخصوص . فقد استثنى صدام حسين السكان الكرد وابناء القوميات الأخرى في كركوك وغيرها حتى من اعانات الرعاية الأجتماعية لأنها لم تشمل (العوائل الغير العربية و المشمولة بتصحيح القومية).
    من المؤسف حقا أن نرى بعد كل هذا من بين العراقيين من يتطوع للدفاع عن هذا الظلم التأريخي من خلال الزعم بأن من حق المواطن أن يعيش ويسكن أينما يرغب في العراق . وهذه كلمة حق يراد بها باطل . لا يمكن دعوة الناس الى القبول بالظلم عبر الحديث عن الأخوة والمواطنة . العدالة تقضي بإعادة الحقوق الى أصحابها ومن ثم دعوة الناس الى التصافي والمحبة .
    (1) يمكن الأطلاع على الصور الأصلية لهذه الوثائق وعشرات غيرها في كتاب شورش حاجي ، تعريب كركوك في ثنايا ثمانين وثيقة ، دار الحكمة ، لندن 2004 ( باللغة الكردية ) . لقد نشر الباحث صورا مستنسخة عن هذه الوثائق بلغتها الأصلية أي العربية .
    (2) انظر نص هذه التعليمات وعشرات القرارات الحكومية الأخرى في كتيب : التطهير العرقي (تغيير القومية ) للكورد و التركمان في كركوك - 50 وثيقة ، اعداد المحامي طارق جمباز ، ط3 ، اربيل 2004 ، ص 43 .
    (3) للأطلاع على هذه الوثائق و عشرت غيرها انظر : نفس المصدر السابق ، ص ص53 ،64 ، 67 - 71 .

    الفصل السادس
    غرباء كركوك وأصلائها بين المزاعم والأحصاءات الرسمية
    يردد البعض منذ سقوط النظام البعثي في التاسع من نيسان 2003 مزاعم مفادها أن عددا كبيرا من الكرد الغرباء دخلوا كركوك بهدف تغيير تركيبتها السكانية أو ( تكريدها ) على حد تعبيرهم . و وصل الخيال بالبعض الى الأدعاء بأن عدد كبيرا من كرد البلدان المجاورة قد قدموا إليها أيضا لتنفيذ مفردات هذه السياسة الجهنمية .
    وقد تلقفت القنوات الفضائية والمواقع العربية والتركية على شبكة الأنترنيت هذه المزاعم دون التدقيق فيها وظلت ترددها على مدى الأشهر الماضية بصورة مثيرة للشكوك .
    ترى من يقف وراء هذه المزاعم وما هي دوافعهم الحقيقية من وراء ترديدها ؟ من هم الغرباء ومن أين جاءوا ولماذا الى كركوك ؟ و أين الحقيقة في كل ما يشاع عن كركوك؟ .
    من الملاحظ أن أكثر من يردد هذه المزاعم هم أناس مرتبطون ببعض التجمعات السياسية التركمانية المتطرفة وفلول النظام البعثي الذين تجمعوا تحت يافطات ومسميات جديدة . كما أن العرب الذين جئ بهم الى كركوك وتحولوا الى أداة بيد نظام البعث لتنفيذ سياسات التعريب والتطهير العرقي الأجرامية بحق الكرد هم من يرددون هذه المزاعم. و يبدو أن هؤلاء يتصرفون وفق القاعدة المعروفة ( الهجوم أحسن وسيلة للدفاع) . لقد قدم هؤلاء من مناطق العراق المختلفة الى كركوك ، خانقين ، مندلي ، طوزخورماتو ، كفري ، داقوق ، مخمور ،الزمار ، سنجار والشيخان وغيرها من أجل الحصول على مكاسب و إمتيازات مثل قطعة أرض مجانية ومبالغ نقدية كبيرة فضلا عن وظائف مغرية في شركة النفط و في دوائر الدولة ومؤسساتها القمعية الحزبية منها أو الأمنية أو العسكرية .
    لقد بلغ عدد الكرد المرحلين قسرا على أيدي النظام البعثي مئات الآلاف ( وفق تخمينات منظمات الأمم المتحدة العاملة في كوردستان كان هناك في التسعينات من القرن الماضي نحو 800 ألف مرحل داخل تلك المنطقة التي لم تكن خاضعة لسيطرة نظام صدام حسين . مما لآ شك فيه أن الأكثرية الساحقة من هؤلاء هم من أبناء المناطق التي اشرنا إليها ) ، وبالمقابل جئ بمئات الآلاف من العرب ليستوطنوا تلك المناطق و في مقدمتها كركوك .
    من الضروري أن نشير هنا الى أن هذه السياسة لم تكن مجرد فورة عنصرية أصابت الحكام بل جرى التخطيط لها وتنفيذها وفق إجراءات حكومية بيروقراطية دقيقة تهدف الى تغيير التركيبة القومية للسكان في هذه المحافظة لصالح العنصر العربي بصورة تتماشى مع التصورات العنصرية لهذا الحزب النازي الهوى والتفكي .لقد قام البعث ببناء المستوطنات المسلحة في كل منطقة إعتقد بأنها مهمة لحماية أمن نظامه . كما قام ببناء أحياء عربية تحيط بالأحياء الكردية من جميع الجهات وتخترقها ، بل وأجبر الكرد في احيان كثيرة على نبش القبور وأخذ رفاة موتاهم معهم لكي لا يكون هناك اي شئ يربطهم بهذه المدينة حتى لو كانت قبور موتاهم . ويتذكر العديد من الكركوكيين قصة ذلك الشيخ الكردي الذي حاول إقناع المحافظ البعثي بعدم ترحيله لأن ولديه الأثنين قضيا نحبهما في القادسية المشؤومة . وكان جواب المحافظ البعثي لهذا الشيخ المنكوب هو أن يأخذ رفاة إبنيه معه الى
    ( منطقة الحكم الذاتي !!) .
    وفي نفس الوقت شجع النظام العرب الوافدين الى جلب رفاة موتاهم معهم بعد أن نقلوا سجلات نفوسهم الى كركوك لكي لا يربطهم شئ بمناطقهم الأصلية التي جاءوا منها. كما أن الكرد الذين كانوا يرحلون قسرا من كركوك ، تنقل سجلات نفوسهم مباشرة الى المحافظات التي ينقلون إليها . ومن هنا كان الأكتشاف الخطير لأصحاب المزاعم التي تتحدث عن إفتقار هؤلاء الغرباء الكرد الى هويات الأحوال المدنية التي تشير الى كونهم من سكان في كركوك . لقد نسي هؤلاء بأن محل ولادة هؤلاء مؤشر في وثائقهم الرسمية وسجلاتهم وبأنهم انجبوا خلال سني الترحيل الافا من الأنباء و البنات ولابد ان يعودوا معهم الى مدينتهم . الأهم من هذا وذاك هو أن سجلات النفوس الأصلية والتي جرى العبث بها على أيدي البعث لا زالت محفوظة ويمكن معرفة الحقيقة وتمييزها عن التشويه والتزييف .
    هناك بعض القوى السياسية العراقية كانت تدين هذه السياسات بشدة قبل سقوط النظام وتدعو الى إزالة آثارها ولكنها سرعان ما غيرت مواقفها لأعتبارات تتعلق بالأنتماءات المذهبية للوافدين العرب الى كركوك . لقد أحدث هذا المواقف شرخا بين هذه القوى والجماهير الكردية العريضة . لم تدرك هذه القوى حساسية الكرد إزاء هذه القضية التي يعتبرونها رمزا للظلم التأريخي الذي وقع عليهم . وستدرك تلك القوى بأنها وبسبب حساباتها الخاطئة فقدت حليفا مهما على الساحة السياسية العراقية. وكان من شأن ذلك التحالف أن يساعد على بناء نظام سياسي مستقر قابل للحياة في العراق .
    يجب أن يكون الموقف الواضح والصريح من إزالة آثار سياسات التعريب والتطهير العرقي في كركوك والمناطق الكردستانية الأخرى شرطا أساسيا في أي تحالف سياسي يصبح الكرد طرفا فيه. تمثل قضية كركوك الخط الأحمر بالنسبة لأي حزب أو زعيم سياسي كردي . وكل من يفكر بالقبول بنتائج التعريب فإنه يوقع بذلك قرار موته سياسيا .
    قصة كركوك مع الغرباء الذين قصدوها على مر القرون وسكنوها بأمان مليئة بالصور الأنسانية . كما أنها لا تخلو من حالات موغلة في الأساءة الى أهل البيت ونكران الجميل . الحالات الأخيرة لازمت الذين قدموا إليها مع حراب المحتلين ويحملون الحقد والضغينة على أهلها المسالمين ويطمعون في ثرواتها . ورغم سماحة أهل كركوك وطول بالهم على المسيئين إلا أنهم في النهاية لا يقبلون بالأساءة الى مدينتهم وثقافاتها الأنسانية الثرة . لقد عبث البعث بكل شئ جميل في حياة العراقيين . و كان لا يكتفي بتسليط أزلامه عليهم بل يلجأ أيضا الى المرتزقة والأفاقين من البلدان الأخرى أيضا .
    لا زلت أتذكر حادثة شجار بين كردي كركوكي و عامل مصري قدم كغيره من مواطني بلاده بحثا عن الرزق في هذه المدينة . لا أتذكر سبب المشاجرة ولكنني أتذكر جيدا بأن الكردي قال للمصري : لو لم تكن غريبا لجعلتك تلعن اليوم الذي ولدت فيه . وكان رد المصري عليه يجسد رسالة البعث في كركوك ، إذ قال: (من الغريب انا ام انت ؟ هذه ارض عربية و أنت الغريب هنا ).
    و هكذا فإن هذا الغريب القادم الى كركوك لكسب لقمة العيش إعطى لنفسه الحق بالأدعاء بكونه صاحب الدار وأدخل البعث في ذهنه أنه على أرضه و في إحدى مدن وطنه العربي!، بل وأعطاه الحق أن يعتبر إبن المدينة وصاحبها غريبا على هذه الأرض . أي فكر هذا الذي يعمي البشر عن رؤية الحقيقة ؟ و هل يمكن أن يحدث هذا في اي بلاد أخرى غير عراق البعث ؟!. ترى من المسؤول عن غرس هذه الأفكار العنصرية في عقل هذا المصري البسيط؟ هناك قصصا كثيرة عن المصريين والفلسطينيين وغيرهم من مواطني الدول العربية الذين ضحكوا على عقول المسؤولين البعثيين في كركوك ليمنحوهم الأراضي والأموال ليساهموا في ( المهمة القومية وتطبيق شعار نفط العرب للعرب !) . ولكن هؤلاء لم يأخذوا معهم من مكارم البعث الفكرية والمادية سوى الأموال التي حصلوا عليها دون وجه حق ليتمتعوا بها على ضفاف النيل بعيدا عن جمهورية الخوف البعثية .
    سنحتاج الى أجيال من الكتاب و المؤرخين لندون ونوثق كل ما قام به البعث بحق العراقيين عموما والكرد وكرد كركوك على وجه أخص . نشير هنا الى مثال معبر آخر وهي قصة المواطن الكردي رحمن كاكل . لم يكن بالأمكان أن تحدث مثل هذه الحكاية أيضا إلا في كركوك و في ظل البعث . نشرت جريدة (باسه ره ) التي تصدر في كركوك في عددها الأخير بتأريخ 23 نوفمبر 2004 قصة هذا المواطن الذي إمتلك بشق الأنفس بيتا متواضعا من الطين في حي رحيم آوا الشعبي . يقول كاكل بأن إحدى لجان المحافظة قررت دون أية مقدمات مصادرة بيته ومنحه الى مواطن عربي وافد من البصرة وأسمه أحمد صالح . ويبدو أن أحمد صالح كان يمني النفس بأنه لقاء مساهمته في (ملحمة التعريب القومية!) ، سيحصل حتما على بيت كبير وعصري ليعيش فيه مع عائلته بسعادة و هناء!. إلا أن حظه العاثر قذف به الى رحيم آوا والى بيت رحمن كاكل الطيني المتواضع . لقد أصيب أحمد صالح بخيبة أمل كبيرة بسبب هذا العرض البائس وأخبر كاكل بأن بيته لم يعجبه ولن يسكن فيه . لذلك إقترح عليه أن يشتري البيت أو يستأجره منه . لم ينوي كاكل طبعا شراء بيته من جديد ، لأنه لم يتمكن من الأحتفاظ به بعد أن سكنه لأكثر من ربع قرن، فما الذي يضمن أنه لن يفقده بعد أن يشتريه من المالك الجديد في اليوم التالي .
    يجب أن لا نتفاجأ اذا عرفنا أن رحمن كاكل لا يمتلك اليوم حق التصويت بل ويعتبر غريبا عن كركوك وفق وصفة البعثيون الجدد في كركوك ، بينما يعتبر أحمد صالح من مواطني كركوك الذين يحق لهم المشاركة في الأنتخابات بل وترشيح نفسه لعضوية مجلس المحافظة ، خاصة وأن أعضاء لجنة الأشراف على الأنتخابات في كركوك هم من البعثيين حصرا !.
    كما لا أستبعد أن يكون مختار محلة الأسكان الجديدة الوافد الى كركوك المدعو ناصر عودة مجلي والذي كان يتجسس على السكان الكرد و يرفع عنهم التقارير اليومية الى الجهات الأمنية ، ومن بين من ركز عليهم في تقاريره المواطنة الكردية ناظيف علي كريم التي رحلت لثلاث مرات متتالية الى السليمانية ولكنها كانت تتحدى البعث كل مرة لتعود الى بيتها في كركوك ، أقول لا أستبعد أن يحتفظ هذا المختار بحقه في المشاركة في إنتخابات مجلس محافظة كركوك ، بينما تحرم المواطنة الكردية ناظيف من هذا الحق لأن السلطات قامت بنقل سجلات نفوسها من كركوك ويعترض البعثيون الجدد في ( العراق الديموقراطي الفدرالي التعددي …الجديد !) على مشاركتها .
    من هنا ندرك بإن المقصودون بالغرباء هم المواطنون الكرد من محافظة كركوك الذين صودرت أو دمرت بيوتهم ومزارعهم وقراهم ورحلوا قسرا على يد النظام البعثي الى المحافظات الأخرى . لقد عادت نسبة صغيرة من هؤلاء الى قراهم المدمرة أو المملوكة للوافدين العرب لأن أكثرهم لا يمكتلون بعد السنوات العجاف التي قضوها تحت الخيم والمعسكرات المهجورة ما يمكنهم من إعادة بناء قراهم . ولم تقدم الحكومة العراقية ولا سلطات الأحتلال
    ولا الأدارتين الكرديتين يد العون الى هؤلاء المنكوبين . إذا كانت هذه حال سكان القرى الذين يتحملون شظف العيش وقسوة الحياة في الريف ، فإن أوضاع المرحلين من المدينة أسوأ بكثير . لذلك لم يعد من الأخيرين حسب اكثر الأحصاءات مصداقية سوى 15-20 % . ويعيش معظم العائدين في مخيمات لا تتوفر فيها أبسط مستلزمات الحياة الأنسانية .
    من المعلوم أن أكثر الذين رحلوا من كرد كركوك كانوا من الفقراء . وقد تحولت عملية الترحيل الى مصدر ثراء بالنسبة للمسؤولين الحزبيين والأمنيين الذين كانوا يبتزون الأغنياء والمتمكنين الكرد بصورة مستمرة ويهددونهم بالترحيل إذا لم يدفعوا الأتاوات المفروضة . كان على الثري الكردي أن يدفع لمسؤولي الحزب و الأمن و المخابرات والمختار وموظفي المحافظات وغيرهم ليؤخروا ترحيله أياما أو أشهرا.كما أن منع الكرد ومنذ السبعينات من شراء الأراضي والعقارات ، بل وحتى من ترميم بيوتهم الآيلة الى السقوط ، وفتح الشوارع العريضة في قلب الأحياء الكردية المكتظة بالسكان ومصادرة ممتلكات الكرد وبيعها في المزاد الخاص بالدوائر الحزبية والعسكرية والأمنية أو تسجيلها بإسماء ( المستفيدين العرب ) مع غياب أي شعور بالأطمئنان الى الغد،جعلت معظم الكرد لا يمتلكون العقارات و الأراضي في كركوك. ومن هنا كانت بعض المحاولات الشريرة لحصر قضية المرحلين الكرد في كركوك بقضايا التحقيق في الملكية . ترى هل يوجد قانون في أي بلاد من بلدان العالم يمنع الأنسان من العودة الى مسقط رأسه إذا لم يمتلك عقارا أو أرضا فيه ؟ .
    هناك حقيقة بسيطة يعرفها الجميع وهي أن النظام وبسبب حروبه وتدميرة للريف الكوردي ولتخبط سياساته الأقتصادية والأجتماعية وإفتقاره للتخطيط العقلاني في أي جانب من جوانب الحياة ، ترك من بعده بلادا مدمرة ومنهوكة . وتأتي ازمة السكن في مقدمة الأختناقات التي يعاني منها العراق . لقد قدرت وزارة الأعمار العراقية حاجة البلاد الى مليوني وحدة سكنية جديدة لتجاوز هذه الأزمة . وتأتي المدن الكردية الكبيرة في مقدمة المناطق التي تعاني من أزمة سكن خانقة . وتشير الأحصائيات الى أن نصف سكان مدينة أربيل يسكنون بيوتا مؤجرة . كما أن سعر المتر المربع من الأرض في مدينة السليمانية وصل نتيجة للمضاربة العقارية الى مستوى سعره في مدينة كولن الألمانية على حد تعبير العديد من الكتاب والمثقفين الكرد الذين زاروا المدينة مؤخرا.
    من الطبيعي أن ترحيل الكرد الى المحافظات الأخرى لم يمنعهم من التزاوج والتكاثر . والنتيجة الطبيعية لهذه الحالة ولادة عدد كبير من أبناء كركوك خارج محافظتهم. ولم يسجل هؤلاء بطبيعة الحال في سجلات النفوس بكركوك وإنما في المحافظات التي رحل ذويهم إليها قسرا . و لا يمكن أن يحرمهم ذلك من حق العودة الى مدنهم وقراهم و مزارعهم .
    يبدو أن البعثيين الجدد يتبنون نفس المفاهيم الصدامية التي كانت تفصل بين الزوج وزوجته والأبن وأبيه عندما قام النظام بترحيل مئات الآلاف من الكرد الفيليين والشيعة العرب الى إيران. من المحزن أن يطالب بعض ضحايا الأمس بالسكوت عن هذه المظالم والقبول بنتائجها لأعتبارات إنتهازية تتعلق بالأنتخابات والحصول على عدة آلاف من أصوات الذين تحولوا الى أداة بيد البعث لتنفيذ تلك السياسات الظالمة. من المؤسف حقا أن يتحول الضحايا الأمس الى جلادين بين عشية وضحاها .
    تشكل هذه المزاعم جزءا من المحاولات الموجهة ضد الكرد في كركوك . ويدخل في هذا الباب أيضا صراع الأرقام والنسب الذي تفاقم بعد زوال نظام البعث . فقد تزايد الحديث عن أعداد ونسب هذه الفئة أو تلك من سكان البلاد. وبسبب غياب الإحصائيات الحكومية النزيهة والموثوق فيها لجأ الجميع الى التخمينات والخيال الخصب للحديث عن أعداد المنتمين إلى هذه الجماعة أو تلك ورفع نسبها الى مجموع السكان في البلاد أو على صعيد المحافظات . يعتقد البعض مخطئا بأنه من خلال محاولاته هذه يستطيع الحصول على بعض المكاسب السياسية الأضافية . رغم فهم دوافع هذه المحاولات بخاصة من لدن المجموعات الصغيرة التي تتخوف من هيمنة الفئات الكبيرة ، إلا أن ذلك لا يبرر بطبيعة الحال القيام بتشويه الحقائق بصورة بعيدة عن منطق الأشياء .
    و تأتي كركوك في مقدمة المناطق التي يجرى التركيز عليها في صراع الأرقام و النسب . لا يكل البعض من ترديد الأرقام والنسب الخيالية عن مكونه الأثني او المذهبي . ويجري ذلك كله دون أي إستناد الى المعطيات الإحصائية رسمية كانت أو غير رسمية .
    لقد كتبت وكتب غيري عن هذا الموضوع . وكان الأعتقاد السائد بأن ندرة المصادر وقلة الخبرة وفورة التعبير عن الهويات المقموعة بعد زوال النظام تكمن وراء صراع الأرقام والنسب . وكان المرتجى أن تنتهي هذه الحالة بإجراء إحصاء سكاني نزيه يظهر الحقائق و يحرر الجميع من هوس الأرقام والنسب . إلا أن الأحصاء السكاني تأخر بسبب الأوضاع الأمنية ولازلنا نواجه سيلا من المعلومات التي تفتقر الى الدقة والموضوعية. لا بد أن يجري الأحصاء السكاني خلال الأعوام القادمة وستطوى هذه الصفحة من الخطاب اللاعقلاني للفئات العراقية المختلفة .
    أثارت الطروحات المستندة الى المصادر التأريخية المتنوعة والمعتبرة البعض وإعتبروها طعنا في الفئة التي ينتمون إليها . أعتقد بأن الحديث عن حقائق التاريخ المستند الى المصادر الموثوق فيها يجب أن لا يثير الغضب ، بل بجب أن يكون دافعا للحوار الهادئ بعيدا عن الأحكام المسبقة وسوء النية للأستفادة من دروس التاريخ . هناك صفة تميز الأنسان الشرقي وهي التحسس من مواجهة الحقائق والتفكير بصوت عال عنها مع الآخرين . كثيرا ما يحاولون تجاوز الحقيقة من خلال سلسلة من التبريرات الواهية التي لا تقنع أحدا .
    لقد قلت في أكثر من مجال وإستنادا الى مصادر تأريخية معتبرة أن كركوك بسبب موقعها الجغرافي المهم وثرواتها الطبيعية قبل وبعد إكتشاف النفط تحولت على مدى القرن الماضي الى نقطة جذب مهمة للكثير من الناس الذين قدموا إليها وإستقروا فيها.ولم يكن الأمر مقتصرا على سكان الألوية العراقية الأخرى من العراق بل تجاوزه الى البلدان المجاورة أيضا. وبسبب روح التسامح والأنفتاح التي تمتع بها بها المدينة لم يعترض أحد من سكانها الأصليين على ذلك. من المؤسف ومن سوء حظ سكان كركوك تحولت روح التسامح هذه الى نقمة عليهم فيما بعد، إذ تحول بعض هؤلاء مع الزمن الى أداة بيد السلطات الحكومية لتنفيذ سياساتها الظالمة بحق الكرد . لقد ساهم هذا البعض في نهب ثروات المدينة والعمل على طرد سكانها الأصليين من اجل الأستحواذ على أراضيهم و ممتلكاتهم .
    أعتقد أن إلقاء الأضواء على الحقائق التاريخية والتطورات التي جرت على الصعيد الديموغرافي في كركوك بعد أن عملت جهات كثيرة على تزويرها أمر ضروري لبناء حياة جديدة في هذه المدينة.
    لم يعترض أحد على سكن الآلآف من الذين إنتقلوا الى كركوك بحثا عن العمل أو لمتطلبات وظيفية. فمنذ نهاية الثلاثينات تحولت كركوك الى مركز لجذب العمال والموظفين والكسبة وقد بلغت نسبة الزيادة السكانية في كركوك خلال 1947 - 1957 حدا كبيرا (36 % )، أي بمقدار مرة ونصف الى مرتين قياسا الى المحافظات العراقية الأخرى.
    لكن الأمر إختلف مع الذين قدموا الى كركوك وفق خطة تهدف الى تغيير ملامح المدينة والمحافظة من حيث تركيبتها السكانية . لم يكن بإمكان الناس أن يرحبوا بمن تحول الى أداة لتطبيق سياسة التعريب التي كانت تهدف الى قلع الناس من جذورهم وإحلال آخرين محلهم دون وجه حق .
    للدلالة على هذا الكلام نورد الحقائق التالية من الأحصائيات الرسمية. فبموجب إحصاء عام 1947 بلغت نسبة الذين سكنوا مدينة كركوك من غير المولودين فيها ومن الذين قدموا اليها من الألوية العراقية الأخرى أكثر من الربع ، و هذه نسبة كبيرة جدا . فمن مجموع سكان مركز قضاء كركوك من العراقيين البالغ عددهم 67756 شخصا ، بلغ عدد المولودين منهم في لواء كركوك نفسه 49441 شخصا ، أما الباقون ( 18315 شخصا ) فإنهم كانوا من مواليد الألوية الأخرى . وكان معظهم لا يمتون بصلة مباشرة الى سكان المدينة الأصليين، منهم على سبيل المثال 3137 من مواليد لواء بغداد و3165 من مواليد لواء الموصل و1639 من مواليد لواء ديالى . وكان بينهم من كانوا من مواليد المناطق العربية الجنوبية والوسطى الذين جاء معظمهم مع أسرهم للعمل لدى شركة النفط منهم 1598 من مواليد العمارة و863 من مواليد لواء المنتفك و410 من مواليد لواء الحلة و 360 من مواليد لواء البصرة و 271 من مواليد لواء الكوت و 213 من مواليد لواء الديوانية و 205 من مواليد لواء الدليم و 98 من مواليد لواء كربلاء. إقتصرت هذه الظاهرة ونعني بها الهجرة على مدينة كركوك دون ريفها (1).
    كما أشرت في مقالات سابقة أن نسبة من سكان كركوك الأصليين تعثمنوا ( جرى تتريكهم) خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، أي بعد زوال آخر الأمارات الكردية و خضوع كوردستان الى الحكم المباشر للباشوات العثمانيين .كان العامل المؤثر في عملية التتتريك هذه هو إرتباط مصالح هذه الفئة من السكان المحليين بمؤسسات الدولة السياسية والأقتصادية والأدارية . وهناك أدلة و شواهد تأريخية كثيرة على الأصول الكردية للعديد من العوائل المستتركة المعروفة في كركوك . هذا لا يعني بطبيعة الحال دعوة لتكريد هذه العوائل ، فأبناؤها أحرار في إعتبار أنفسهم تركمانا أو حتى أتراكا قادمين من مجاهل الأناضول! .
    و أشرنا كذلك وبالأستناد الى المصادر التأريخية بأن عددا كبيرا من الموظفين المدنيين والعسكريين العثمانيين في دوائر الدولة في كركوك قرروا الإستقرار فيها بعد إنهيار الدولة العثمانية نتيجة للحرب العالمية الأولى . لقد إنقطعت السبل بهؤلاء بسبب الأحتلال البريطاني لولاية الموصل من ناحية وإندلاع الصراع في آسيا الصغرى بين الكماليين والقوات الأجنبية من ناحية أخرى . لقد آثر هؤلاء البقاء في كركوك خاصة وأنهم إستغلوا مواقعهم الوظيفية للأستحواذ على أخصب الأراضي الزراعية في اللواء فضلا عن سيطرتهم على الحياة الأقتصادية في المدينة والقصبات التابعة لها . لقد تحول هؤلاء مع مرور الزمن الى عنصر أساسي من سكان مدينة كركوك خاصة وأنهم كانوا يمتلكون الخبرات الأدارية والثروة وجرت الأستعانة بهم لأدارة شؤون اللواء في العقود التالية من عمر الدولة العراقية . وفرت هذه الأوضاع المتميزة التي عاشت في ظلها هذه الفئة من السكان فرصا ذهبية لأبنائها في حقول الأدارة و الأقتصاد والتعليم . وبقي هؤلاء رغم التغييرات الدراماتيكية التي شهدتها المحافظة و العراق يستحوذون على شؤون الأدارة والتعليم و الأقتصاد في كركوك ، بإستثناء المناصب القيادية بطبيعة الحال. و يبدو أنهم يجدون صعوبة كبيرة للتأقلم مع الأوضاع الجديدة التي ظهرت بعد سقوط النظام البعثي و التي تفرض مشاركة الجميع . أعتقد أن عليهم أن يتحرروا بسرعة من هذه الأفكار قبل أن يتجاوزهم الزمن و يجدوا أنفسهم مهمشين في الحياة السياسية الجديدة .
    تشير نتائج إحصاء عام 1957 بأنه كان لا يزال في كركوك في ذلك العام 1353 شخصا من الذين ولدوا في تركيا (2) . أي أنه و بعد زوال السلطة العثمانية عن المدينة بأربعة عقود من الزمان كان لا يزال هذا العدد منهم على قيد الحياة . ولا أعتقد بأن هناك من يشك في كون هؤلاء من بقايا العثمانيين الذين قرروا الأستقرار في كركوك بعد إنهيار الدولة العثمانية . و لا يمكن لأحد أن يشكك في كونهم جميعا من كبار السن لأنهم عاشوا في كركوك على مدى أربعة عقود على أقل تقدير . ولا بد أن آلافا أخرى منهم قد توفوا خلال تلك العقود (1918 -1957 ) . و مما لا شك فيه أن هؤلاء خلفوا الآلاف من الأبناء و الأحفاد. ومن خلال عملية حسابية بسيطة نستطيع أن ندرك بأن نسبة مهمة من الذين إعتبروا لغتهم الأم التركية أو التركمانية بموجب إحصاء عام 1957 و البالغ عددهم الكلي 83371 شخصا في لواء كركوك ، هم من أبناء و أحفاد أولئك العثمانيين الذين إستقروا في كركوك بعد الحرب العالمية الأولى . يمكن الرجوع الى هذه الأرقام في نتائج الأحصاء الرسمي لعام 1957 ، والتي نشرت تفصيلاته في
    ( ثلاثة عشر جزءا كاملا ) في العام 1965 .
    لم يسمي الجيل الأول من العثمانيين الذين إستوطنوا كركوك أنفسهم بالتركمان بل تمسكوا بتسمية الأتراك . ولكن مع الزمن ومع إنقراض الجيل الأول منهم رضي أبناؤهم بتسمية التركمان الرسمية في العراق، وهي تسمية لا علاقة لها بتركيا من قريب أو بعيد . فعلاقة تركمان العراق بالأتراك لا تختلف عن علاقة التشيك أو الأوكرانيين بالروس وعلاقة الأتراك بالكازاخ او القرغيز . لقد لعب الجيل الأول من هؤلاء المستوطنين العثمانيين في كركوك دورا كبيرا في تسويق فكرة الإرتباط الثقافي والعرقي بأتراك الأناضول . وكانت ذكرياتهم الغنية عن الأناضول وأسطنبول والثقافة التركية والسفر الى شواطئ البسفور، معينا لا ينضب لمن جاء بعدهم من الجيل الشاب من الكتاب التركمان الذين إعتنقوا الفكرة دون التدقيق والتمحيص فيها كجزء من عملية البحث عن هوية خاصة تميزهم عن الآخر . كان الأنتماء الى العثمانيين وأمجادهم بطبيعة الحال فكرة مغرية لا يمكن مقاومتها في هذا الباب . لابد أن ما يجمع التركمان بأذربايجانيي إيران أكثر بكثير مما يربطهم بأتراك الأناضول . يستحق هذا الموضوع التدقيق والدراسة من لدن الباحثين التركمان بعيدا عن الأحكام المسبقة وتشويهات مجمع التأريخ التركي التي لم تعد ترضي الأتراك أنفسهم .
    لا تهدف الأشارة الى هذه الحقائق التأريخية الى التقليل من أهمية العنصر التركماني في كركوك أو الأنتقاص من حقوقه في هذه المحافظة أو في غيرها من محافظات العراق . ولكن يجب أن توضح حقيقة اخرى بسيطة وهي أن الذين وفدوا الى هذه المدينة قبل ذلك التأريخ او بعده لا يمكنهم الزعم بأنهم يشكلون سكانها الأصليين ، بينما الكرد الذين بنوها وعاشوا فيها و في ريفها ودافعوا عنها على مدى القرون الطويلة أصبحوا على حد زعمهم ضيوفا طارئين عليها يريدون (تكريدها!) .
    الهوامش :
    1. أنظر : المملكة العراقية ، وزارة الشؤون الأجتماعية، مديرية النفوس العامة ، إحصاء السكان لسنة 1947 ، الجزء الثاني ، بغداد 1954 . ص 115 ، أنظر كذلك : الدكتور كمال مظهر أحمد ، كركوك و توابعها - حكم التأريخ و الضمير ، دراسة وثائقية عن القضية الكردية في العراق ، الجزء الأول ، ص 82 .
    2. أنظر : الجمهورية العراقية، وزارة الداخلية ، مديرية النفوس العامة ، المجموعة الأحصائية لتسجيل عام 1957 . لوائي السليمانية و كركوك ، بغداد ، مطبعة العاني ، ص 240 - 241 : أنظر كذلك الى الدكتور كمال مظهر أحمد ، المصدر نفسه ، ص 83 .

    الفصل السابع
    السالنامات العثمانية وحكاية الوثائق النادرة عن كركوك
    تشكل السالنامات العثمانية مصدرا مهما لدراسة تاريخ البلدان التي كانت ترزح تحت نير الأحتلال العثماني . فقد تضمنت معلومات غزيرة عن الأحوال العامة في الولايات العثمانية قلما يستطيع المرء الحصول عليها في المصادر التاريخية الأخرى . ودأب الباحثون والعاملون في حقل الدراسات التاريخية والعثمانية منها على وجه الخصوص على دراستها وتقويم أهميتها العلمية وإعتماد المعلومات التاريخية الواردة فيها في دراساتهم التاريخة منذ عقود عديدة . وإعتمد عدد ملحوظ من الباحثين في تاريخ الولايات العراقية في العهد العثماني على المعطيات الواردة في تلك السالنامات في دراساتهم التي أعدوها خلال العقدين الأخيرين في الجامعات العراقية. كما نشر العديد من الباحثين و الأكاديميين دراسات عنها وعن أهميتها التأريخية أذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر الدكاترة خليل على مراد ، عماد عبدالسلام رؤوف ، فاضل مهدي بيات ، ابراهيم خليل ، عبدالفتاح علي يحى ، علاء كاظم نورس ، عماد عبدالسلام رؤوف ، علي شاكر ، فاضل مهدي بيات ، إبراهيم خليل و كاتب هذه السطور وعشرات غيرهم . و يمكنني إيراد قائمة مطولة بعناوين الدراسات والبحوث في تاريخ الولايات العثمانية التي إعتمد كتابها السالنامات العثمانية في مؤلفاتهم (1 ).
    توضح الحقائق المشار اليها أعلاه أن الحديث عن السالنامات العثمانية و المعلومات الواردة فيها عن هذه الولاية العثمانية أو تلك المدينة لا يشكل في حقيقة الأمر إضافة جديدة او كبيرة الى معارفنا دعك عن الحديث عن كشف علمي . مناسبة هذا الكلام هو ما نشره السيد نصرت مردان تحت عنوان (( وثيقة عثمانية نادرة عن كركوك )) . يبدو لي و في هذه الهلمة القائمة حول كركوك و محاولات طمس هويتها الكردستانية فان أية معلومة تاريخية واردة في أي كتيب تأريخي أو أوراق قديمة تكتسب أهمية كبيرة تفوق قيمتها العلمية الحقيقية . كما يبدو لي أن السيد نصرت مردان و الذي تحول أخيرا من الكتابة في القضايا الأدبية والتراثية والتي عرفه القراء من خلالها الى تناول مواضيع التاريخ والسياسة ظن بأنه عثر على كنز لم يسبقه اليه احد . أورد الكاتب معلومات مشوشة عن ما سماها بوثيقة عثمانية لم يشر سوى الى إسمها وسنة صدروها وهي ( سالنامة 1892 ) .
    إذا عرفنا حقيقة أن سالنامات مختلفة كانت تصدر في الدولة العثمانية من قبل النظارات ( الوزارات ) و المؤسسات الأخرى الى جانب تلك التي كانت تصدرها الولايات العثمانية المختلفة بصورة دورية أو شبه دورية ، سندرك صعوبة الأعتماد على تلك ( الوثيقة النادرة ) بالصيغة التي أوردها الكاتب .
    تتجلى أهمية اية وثيقة تاريخية من خلال دراستها وتمحيصها ومحاولة تقويمها تقويما علميا و تحليل المعلومات الواردة فيها الأمر الذي لا يمكن القيام به في ضوء المعلومات المحدودة و الفقيرة التي عرضها الكاتب عن وثيقته النادرة هذه .
    منعا للألتباس و تحميل الأمور أكثر مما تحتمل ولألقاء شئ من الضوء على السالنامات العثمانية وأهميتها لدراسة تاريخنا الحديث وموضوعية المعلومات والمعارف الواردة فيها لا بد من الأشارة الى بعض الحقائق الأساسية المتعلقة بها .
    السالنامه مصطلح مركب من ( سال ) وهي كلمة كردية وأيرانية بمعنى سنة و( نامه ) وهي أيضا كردية و إيرانية وتعني كتاب أو رسالة . المصطلح بمجموعه يعني الكتاب السنوي أو الحولية . أطلقت السالنامه في الدولة العثمانية على المطبوعات السنوية الرسمية التي كانت تصدرها الوزارات المختلفة في الباب العالي وتلك التي كانت تصدرها الولايات العثمانية المختلفة . وكانت السالنامات تتضمن معلومات عن الدولة العثمانية وسلاطينها ومؤسساتها وتشكيلاتها الأدارية المختلفة، الملل والطوائف ( من الناحية الدينية والمذهبية في أكثر الأحوال وعدم التركيز على الأنتماء القومي إلا الى الأقوام والعناصر الغير الأسلامية الخاضعة للسيطرة العثمانية)، التمثيل الأجنبي، النظام النقدي ، التقويم السنوي ، الأحوال والوقائع مع أسماء أركان الدولة وكبار موظفيها والألقاب الرسمية المتداولة فيها . والى جانب السالنامات العامة كانت هناك سالنامات تصدرها النظارات (الوزارات ) كسالنامات نظارة الخارجية والمعارف أ و تلك التي كانت تصدر عن الجيش العثماني ( أوردو سالنامه سى ) . وكانت السالنامات تنهج نهجا موحدا في تبويب مواضيعها باستثناء بعض التغييرات الطفيفة . فبعد إعلان الدستور عام 1876 ، مثلا، أخذت السالنامات تنشر وبصورة دورية ، نص القانون الأساسي ( الدستور العثماني ) ، حتى بعد حل المجلس وتعليق العمل بالدستور ، مسبوقا برسالة التكليف التي أرسلها السلطان عبدالحميد الثاني ( 1876 - 1909 ) الى مدحت باشا يطلب منه فيها اعلان الدستور(2) .
    تشابه السالنامات الكتب السنوية التي تصدرها المؤسسات و الدوائر و الشركات في مختلف دول العالم في عصرنا الحالي .
    و تتضمن سالنامات الوزارات تفاصيل عن الوزارات التي أصدرتها والعاملين فيها وتشكيلاتها والنظم و القوانين الخاصة بها . تشير سالنامة ولاية بغداد الى أن أول سالنامة رسمية عثمانية ظهرت في اسطنبول في عهد السلطان عبدالمجيد عام 1262 هجري ( 1846 م ) بمبادرة من الصدر الأعظم (رئيس الوزراء في الدولة العثمانية) مصطفى رشيد باشا وذلك بعد عودته الى الصدراة العظمى (رئاسة الوزارة ) عام 1845 . كما تشير الى أن اول ولاية أصدرت سالنامة خاصة بها كانت ولاية البوسنة، وبعد ذلك أخذت الولايات العثمانية الأخرى الواحدة تلو الأخرى تصدر سالناماتها الخاصة بها .
    وفيما يتعلق بالولايات العراقية فإن ولاية بغداد بدأت منذ عام 1293 هجري ( 1876 م ) بإصدار سالنامة خاصة بها . أما ولايتا البصرة والموصل فقد بدأتا بإصدار سالناماتها منذ عام 1308 هجري ( 1890 - 1891 م ) (3) . وكانت كركوك عند صدور سالنامة ولاية الموصل الأولى سنجقا تابعا لهذه الولاية لذا من الطبيعي البحث فيها عن الأخبار و المعلومات عن سنجق كركوك . وفعلا تتضمن هذه السالنامات معلومات مهمة عن كركوك و غيرها لا بد للباحث في تاريخ المنطقة أن يعود اليها . ما يهمنا في هذا المجال ان ولاية الموصل أصدرت خمسة أعداد من السالنامت الخاصة بها. صدر العدد الأول عام 1308 هجري ( 1890 - 1891 م ) والعدد الثاني عام 1310 هجري ( 1892 - 1893 م ) . أما العدد الثالث فقد صدر عام 1312 هجري ( 1894 - 1895 م ) والعدد الرابع عام 1325 هجري ( 1907 - 1908م )، أما العدد الخامس والأخير فقد صدر عام 1330 هجري ( 1912 م ).
    من هنا لا يمكن الحديث عن السالنامات او الوثائق النادرة دون الأشارة الى نوع السالنامة والعدد و سنة و محل الطبع وغير ذلك من المعلومات الأولية والبديهية التي يتطلبها اي مقال رصين ، دعك عن البحث الأكاديمي الجاد.
    و لأعطاء فكرة عن مضامين السالنامات ومقارنتها بما اورده الكاتب في مقاله ، نشير الى المواضيع التي تضمنتها سالنامة ولاية الموصل في عددها الأول ، وكانت على الوجه الآتي: التعريف بالسالنامة ، التقويم السنوي ، الوقائع المشهورة منذ عام 6212 قبل الهجرة والذي اعتبرته السالنامة عام خلق سيدنا آدم عليه السلام وحتى زيارة امبراطور المانيا الى أسطنبول عام 1889 م ، اسماء الخلفاء الراشدين والأمويين والسلاطين العثمانيين مع نبذ عن حياتهم و ولادتهم وسنوات تسنمهم للعرش واعوام وفاتهم ، كما تضمنت السالنامة قائمة بأسماء الملوك والأباطرة المعاصرون ، اعقبتها بقائمة اسماء الولاة والمتصرفين الذين حكموا الموصل منذ عام 1591 وحتى عام صدور السالنامة وحوت السالنامات الألقاب الرسمية والرتب والأوسمة والنياشين في الدولة العثمانية. أما الصفحات الأخرى فقد خصصت لذكر دوائر الدولة وتشكيلات الجيش والجندرمة والرؤساء الروحانيين للطوائف غير الأسلامية في ولاية الموصل وكذلك مراقد وأضرحة الأنبياء والأولياء ومعلومات عن المعادن والمنسوجات والمحاصيل الزراع

    41-60

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,321

    افتراضي

    قضايا كردية معاصرة ... كركوك - الأنفال - الكرد وتركيا (5)
    د. جبار قادر
    الثلاثاء 30/05/2006
    الذين يصعب عليهم ممارسة حياة طبيعة دون التأكد من مصير ذويهم. وللبحث عن تفسير لما حدث خلال حملات الأنفال هذه لابد من مناقشة بعض الآراء التي تهدف الى تبرير سياسات الحكومة العراقية ازاء الشعب الكردي .
    يشير البعض الى أن الحكومة العراقية كانت في حرب مصيرية مع ايران وكانت تقاتل الحركات المسلحة الكردية عند قيامها بحملات الأنفال . وتلجأ حكومات العالم الثالث عادة الى استخدام كل الوسائل المتوفرة لديها للقضاء على الحركات المناوئة لها . ويمكن الرد على هذه الطروحات بأن الأنفال شملت اعداد كبيرة من المدنيين الذين لم يشاركوا بصورة مباشرة في العمليات العسكرية وجرى تحديدهم عندما استثنوا من احصاء عام 1987 وجمعوا في معسكرات وجرى التخلص منهم بعد ايام او اسابيع وحتى اشهر من القاء القبض عليهم. أي ان هؤلاء لم يقعوا في قبضة القوات الحكومية خلال معارك او مصادمات مع قوات مناوئة . وكانت هناك اقلية صغيرة من المقاتلين او الذين شكلوا قوة مؤازرة للحركة المسلحة الكردية، اما الباقي وهم الأكثرية فكانوا من المدنيين وجرى قتلهم لسبب واحد هو كونهم سكان تلك المناطق التي اعلنتها مناطق محرمة . واظهر تحليل الوثائق بأن الأنفال عبارة عن عملية منهجية وسبق ان خطط لها بصورة دقيقة.كما أظهرت الوثائق بأن فرق الأعدام جرى انتقائها من بين اعضاء النخبة في وحدات الأمن والتي لم تكن مرتبطة بالقوات المسؤولة عن اعتقال السكان الكرد . ولم تكن هذه المجازر نتيجة لأنفعال قادة عسكريين ميدانيين قاموا بقتل الناس وخالفوا القوانين دون معرفة قياداتهم العليا ، بل تظهر الوثائق بصورة لا لبس فيها الى توفر النية لدى اعلى مراكز القرار و في قمة هرم السلطة لأبادة الكرد بصورة منهجية وبأعداد هائلة وجرى كل ذلك بأوامر صريحة من الحكومة المركزية . لذلك لايمكن ان تقنع مثل هذه الطروحات احدا من الكرد وغيرهم بل يجب ان نبحث عن التفسير في مجمل المنظومة السياسية والفكرية السائدة في العراق خلال العقود الأربعة الأخيرة.
    يجب البحث عن اسباب الأنفال وغيرها من عمليات العنف والقسوة في العراق في سيادة النظام الشمولي الرافض لأي وجود للآخر والمستعد للجوء الى كل الوسائل المتوفرة لديه مهما كانت قاسية لأستئصال معارضيه وفرض العقاب الجماعي على مناطق وفئات واسعة من السكان بسبب نشاطات مناهضة. وهناك من الأدلة ما لا يتسع الوقت في هذا لسردها . وفي حالة الأنفال كانت شعارات الأمن الوطني العراقي وتعاون الحركة المسلحة الكردية مع دولة اجنبية في حالة حرب ضروس مع العراق و المطالبة بحقوق قومية والحفاظ على الخصوصية القومية في ظل نظام شمولي مبررات كافية لأقناع اعداد كبيرة من أنصار النظام البعثي بتنفيذ هذه الجرائم بدم بارد .
    لا يمكن ان ننسى بطبيعة الحال أن سيادة افكار العنف والقسوة في العراق خلال العقود الثلاثة التي سبقت مسالخ الأنفال هيأت الأرضية لحدوث مثل هذه الجرائم المرعبة. الغريب ان هذه الأفكار سادت معظم التيارات السياسية العراقية التي تبنت فكرة قلع الآخر من الجذور وبخاصة خلال العهد الجمهوري . لا زلنا مع الأسف وبعد كل هذه الكوارث التي حلت بنا نرى مظاهر الغاء الاخر تسود شرائح مهمة من الطيف السياسي العراقي.
    كانت الحكومة العراقية تدعي قبل و اثناء و بعد قيامها بحملات الأنفال بأنها تعمل على الحفاظ على وحدة العراق وحماية البوابة الشرقية للوطن العربي وغير ذلك من الشعارات القومية البراقة . لا نناقش هنا مصداقية حزب البعث الحاكم في اخلاصها لمبادئ الحركة القومية العربية ، لأن ذلك يدخل في صلب مهام القوميين العرب وبخاصة العراقيين منهم . ولكننا يجب ان نشير الى ان الحركة القومية العربية تعاني من تخبط فكري كبير في تعاملها مع القضية الكردية وتتبنى مفاهيم تتناقض وحقائق التأريخ و الجغرافيا . لا تدخل مناقشة هذه المسألة المهمة والملحة في اطار الموضوع الذي انا بصدده ، ولكن الشعارات القومية البراقة التي حاول حزب البعث ان يتستر وراءها ويضفيها على سياسياته لازالت تخدع اوساط واسعة من الرعاع و السذج الناقمين على اوضاعهم البائسة في بلدانهم وحكوماتهم الدكتاتورية .
    يصف منفذ مسالخ الأنفال الكرد في الأجتماعات العديدة المسجلة على الأشرطة بأوصاف في غاية العنصرية فهم لا يستحقون الحياة ( لأنهم يعيشون مثل الحمير ) على حد تعبيره ،او ( هم كلاب يجب ان اطحن رؤوسهم ) و ( ما الفائدة التي نجنيها من هؤلاء) و (مستحيل ان يكون بينهم انسان جيد ) و( اهتكوا اعراضهم ) و( لن اضربهم بالأسلحة الكيمياوية ليوم واحد بل سأضربهم لمدة 15 يوما ) و( سادفنهم بالبلدوزرات ) او (ارسلوهم الى الجبال ليعيشوا كالماعز) وغير ذلك من الكلمات النابية والمقولات العنصرية. وهذا امر مهم جدا في اية عملية ابادة جماعية لانه يجب اظهار الفئة المستهدفة بانها غير جديرة بالحياة ونزع الصفة الأنسانية عنها ليسهل على نخبة القتلة ابادتهم بدم بارد ودون اي شعور بتأنيب الضمير .
    ولايخفي علي حسن المجيد الترابط العضوي بين حملات الأنفال والتعريب في محافظة كركوك التي لازال البعض من الكتاب والمثقفين العرب لايودون الأعتراف بها . يقول على حسن المجيد في نفس الشريط ( اود ان اتحدث عن نقطتين الاولى التعريب والثانية المناطق المشتركة بين الأرض العربية ومنطقة الحكم الذاتي. المسألة التي اتحدث عنها هي مسألة كركوك . عندما قدمت الى هنا لم يزد العرب و التركمان على 51 % . مع كل ماقمنا به وبعد ان صرفت 60 مليون دينار وصلنا الى الوضع الحالي . كل العرب الذين جلبناهم الى كركوك لم يوصلوا نسبتهم الى 60% لذلك منعت الكرد في كركوك و المناطق القريبة منها العمل خارج منطقة الحكم الذاتي ). يمكن ان يطول الحديث عن هذا الموضوع ونترك الأمر للقوميين العرب للرد على المجيد و رفاقه .
    عند الحديث عن حملات الأنفال رغم وحشيتها وتجاوزها لكل الحدود ورغم عدم اختلاف اثنين من البشر على ادانتها واستحالة ايجاد اي مبرر للقيام بها ، الا اننا لا يمكن ان نخلي ساحة الحركات السياسية الكردية من جزء من المسؤولية التأريخية التي تتحملها بسبب عدم تقييمها للنظام الحاكم ومايمكن ان يقوم به من افعال شنيعة تقييما صحيحا وبسبب بعض تحالفاتها الأقليمية التي لم تسفر الا عن المزيد من الكوارث و الالام للشعب الكردي.
    ورغم ادانة عدد كبير من المثقفين والسياسيين العرب العراقيين وغير العراقيين لمسالخ الأنفال ولكننا نعتقد مخلصين بأن مواقف النخب الثقافية والسياسية العربية وبخاصة العراقية لازالت لا تتناسب مع حجم الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الكردي وتتحمل هذه النخب المسؤولية السياسية و الأخلاقية لأدانة هذه الجرائم في كل المحافل السياسية والثقافية العربية والعالمية، كما ان النظام القادم يتحمل المسؤولية الأخلاقية للقيام بالتحقيق النزيه في هذه الجرائم و تحديد مرتكبيها والعمل على مثولهم امام محاكم عادلة لكي لا تتكرر مثل هذه المجازر في المستقبل .
    (*) قدمت المداخلة في سمينار نظمته جمعية التقدميين الكوردستانيين في لاهاي ( دنهاخ ) بهولندا ربيع عام 2001 .
    الفصل الثاني
    الأنفال، نتاج آيديولوجيا البعث ونظامه الشمولي
    تعتبر حملات الأنفال التي نفذها نظام صدام حسين بحق المدنيين الكرد خلال الفترة (من 23 شباط 1988 وحتى السادس من أيلول من نفس العام ) واحدة من أكثر صفحات القمع الحكومي وحشية وعنفا في تأريخ النظام البعثي
    في العراق . فأثناء هذه الحملات ونتيجة لها قتل عشرات الآلاف من السكان المدنيين بعد أن نهبت ممتلكاتهم ودمرت آلاف القرى الكردية . شاركت في تنفيذ هذه المسالخ البشرية فيالق الجيش النظامي العراقي ( الفيلقان الأول والخامس ) والقوات الخاصة والحرس الجمهوري والقوة الجوية العراقية وصنوف الحرب الكيماوية والبيولوجية وكذلك المليشيات الحزبية ( الجيش الشعبي ) وقوات المرتزقة الكرد ( أفواج الدفاع الوطني و المفارز الخاصة ) ودوائر الأمن والمخابرات والأستخبارات العسكرية . كما سخر نظام صدام حسين جميع مؤسسات الدولة المدنية للمساعدة في تنفيذ تلك الحملات بدءا بدوائر الأحصاء ( التي حددت الجماعة المستهدفة من خلال إحصاء عام 1987 ) و إنتهاء بدوائر الأحوال المدنية والطابو والمرور والزراعة والمواصلات وغيرها .
    لم تعد التفاصيل المتعلقة بالأنفال ومراحلها الثمانية و المناطق الجغرافية التي شملتها وخطط وأسلوب تنفيذها مخفية على الكثيرين من المهتمين والمتابعين . ويعود الفضل في ذلك الى التحقيقات الواسعة التي قامت بها منظمة
    ( رصد حقوق الأنسان ) بعد إنتفاضة آذار عام 1991 في كوردستان العراق ، حيث دققت في جرائم الأنفال وآثارها في كوردستان وإستمعت الى شهادات الناجين من جحيمها وعدد كبير من أقارب الضحايا وذويهم . كما أنها درست وعلى مدى ثمانية عشر شهرا أطنانا من الوثائق الرسمية الحكومية المتعلقة بالأنفال التي وقعت بأيدي المنتفضين . أصدرت المنظمة بعد تحقيقاتها تلك دراسة موثقة باللغة الأنجليزية تحت عنوان (Genocide In Iraq - The Anfal Campaign Against The Kurds , Middle East Watch , A division of Human Rights Watch, New York 1993 و ترجم الكتاب الى العربية و الكردية أيضا ) . وجاء إختيار المنظمة للعنوان ( الأبادة الجماعية في العراق - حملة الأنفال ضد الكرد ) لتشير بذلك الى طبيعة حملات الأنفال وتعتبرها عملا من أعمال الأبادة الجماعية . وتظهر دراسة الوثائق الرسمية الحكومية تلك الآليات البيروقراطية التي إعتمدتها دوائر الدولة المختلفة والتنسيق الدقيق فيما بينها لتحديد دور كل منها في حملات الأنفال . كما تشير وبوضوح الى الوسائل التي إعتمدتها الحكومة العراقية للتخطيط ل وتنفيذ تلك الحملات والأساليب التي لجأت إليها الأجهزة الأمنية والمخابراتية والأجهزة الخاصة للحفاظ على سريتها وإخفاء كل ما يتعلق بها عن أنظار الرأي العام العراقي والعالمي . وتؤكد هذه الدراسة كما الدراسات المكملة الأخرى التي أجريت خلال العقد الماضي ، أن حملات الأنفال لم تختلف عن غيرها من عمليات الأبادة الجماعية التي جرت في التاريخ وبخاصة في القرن العشرين ، من حيث التخطيط لها ومراحل تنفيذها: تحديد الجماعة / الهدف وطريقة جمعهم ومن ثم التخلص منهم و محو آثارهم . من هنا فإن الحديث عن الأنفال هو حديث عن عملية إبادة جماعية بكل المعايير .
    تنطبق فقرات المادة الثانية من مواد (معاهدة منع عمليات الأبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها) والتي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الأول من عام 1948 على ما قامت بها حكومة صدام حسين أثناء حملات الأنفال وكأنها كانت تسعى تماما لتنفيذ جميع الجرائم الواردة في تلك المادة . فقد أشارت المادة الثانية في المعاهدة المشار اليها الى أن ( الأبادة الجماعية تشمل جميع الأجراءات التالية التي تنفذ بهدف الأبادة الكاملة أو الجزئية لجماعة قومية ، أثنية ، عرقية أو دينية ، : 1.قتل أفراد الجماعة. 2 . إلحاق الأضرار الجسدية أو النفسية الخطيرة بأعضاء تلك الجماعة . 3 . وضع أفراد الجماعة وعن قصد في ظل ظروف تؤدي الى موت كل أفرادها أو جزء منها . 4. منع التكاثر بين أفراد الجماعة 5 . تفريق الأطفال عن ذويهم ونقلهم الى العيش في وسط مجموعة بشرية أخرى) . لقد قامت حكومة البعث ومؤسساتها الرسمية وأجهزتها العسكرية والأمنية بجميع الجرائم التي وردت في المادة المذكورة أعلاه ضد الكرد خلال حملات الأنفال . ومن هنا جاءت توصيفات جمعيات حقوق الأنسان ومنظمات مناهضة الجينوسايد لحملات الأنفال التي قامت بها الحكومة العراقية عام 1988 كعمل من أعمال الأبادة الجمياعية . كما أن منهج تنفيذ الأنفال جاء مطابقا مع المخطط الذي أعتمد في عمليات الجينوسايد الأخرى في القرن العشرين والتي وضع تفصيلاتها راول هيلبيرك في كتابه ( Raul Hilberg , The Destruction of The European Jews , New York.1985 ) . لقد ألقت دراسة منظمة ( رصد حقوق الأنسان ) الأضواء على هذه الجوانب من حملات الأنفال، لذلك لا أرى ضرورة في التفصيل فيها وأحيل كل من يريد الأطلاع على المزيد من التفاصيل بشأنها الى تلك الدراسة المهمة .
    في ظل أجواء العنف السائدة في عراق اليوم و وجود أفكار وتيارات شمولية يمكن أن تعيد إنتاج عمليات الأبادة الجماعية تحت مسميات وشعارات مختلفة عن تلك التي إختفى ورائها البعث ، وجب علينا إيلاء إهتمام أكبر بالأفكار والأيديولوجيات التي أفرزت الأنفال وحملات الأبادة الجماعية الأخرى التي قام بها البعث . وستبقى بعض الأسئلة تفرض نفسها على الدوام : كيف جرى تنفيذ مثل تلك الجريمة الكبرى في أواخر القرن العشرين ؟. ترى ما هي الأفكار التي دفعت بفئة من المتسلطين للتنكيل بإخوان لهم في الوطن و الأنسانية بكل هذه الهمجية ؟. ماهي الآليات التي جرى تجريبها لأيصال المجتمع العراقي الى تلك الحالة من الخوف والفزع والعجز الذي لم يعد بالأمكان معه أن يبدي أي إعتراض أو رد فعل إزاء تلك الجريمة التي إقترفها البعث بحق المدنيين الكرد ؟. وأخيرا وليس آخرا ، هل هناك إمكانية لتكرار الأنفالات وإن بصيغ أخرى و في مناطق أخرى من العراق ؟ .
    سيحتاج المجتمع العراقي سنينا طويلة لكي يتعافى ويوفر الفرص الضرورية لإجراء الدراسات والتحقيقات الموضوعية لتكوين صورة واضحة عن ما قام به البعث خلال ثلاثة عقود ونصف من حكمه الدموي بحق العراقيين . يبدو أن مثل هذا الأمر لا يمكن أن يجري في ظل الظروف الحالية . ففي ظل الصراع من أجل البقاء لا يستطيع الأنسان أن يهتم كثيرا بما جرى بل يركز على الحدث اليومي الساخن . ولكن من الجائز بعد مرور فترة من الزمن وتهدئة المشاعر وإستقرار الأوضاع النفسية والسياسية والأجتماعية والأقتصادية سيكون العراقي بحاجة الى معرفة حقيقة الذي جرى وكيف ولماذا جرى ؟. حتى الكرد ورغم مرور أكثر من عقد من الزمن على تحرر جزء مهم منهم من تسلط النظام لم يتمكنوا من إجراء تدقيقات موسعة لما جرى وذلك بسبب سيف صدام المسلط على رقابهم وصراعاتهم الداخلية العقيمة وإمكانيات تكرار ما جرى على يد نظام المقابر الجماعية في بغداد حتى زواله النهائي في التاسع من نيسان 2003 .
    تمتد أسباب الأنفال وغيرها من عمليات الأبادة الجماعية التي جرت في العراق الى طبيعة الدولة العراقية وعناصر تشكيلها وأزمة الهوية التي عانت منها ولا زالت وفشلها الذريع على صعيد خلق أمة وهوية وحلم وثقافة …..الخ عراقية مشتركة وموحدة . لم ينل هذا الموضوع نصيبه من الدراسة الموضوعية . ويبدو لي أن مثل هذه الدراسة لن تتسم بأية موضوعية أو مصداقية إذا لم تأخذ بنظر الأعتبار وقبل كل شئ الفروقات والهويات المختلفة للعراقيين والأعتراف بها وصولا الى وضع الأسس السليمة لخلق المشتركات إذا أريد للعراقيين أن يتعايشوا مع بعض في اطار دولة واحدة .
    البعث كنظام شمولي لأقلية تؤمن بالقوة والعنف من أجل الهيمنة المطلقة على السلطة والثروة وكفئة متآمرة وبعيدة عن رغبات الأكثرية الساحقة من سكان العراق، كان لابد أن يلجأ الى أشد وسائل التنكيل والفتك لفرض منظومة الخوف والرعب على المجتمع العراقي للأستمرار في الحكم والتصرف اللاعقلاني بالثروة . لقد كان جو الرعب والأرهاب وبث الشك والريبة وعدم الثقة بين الناس الى حد الهوس وراء خلق مجتمع مريض ومنغلق على نفسه ، وهي بيئة مثالية لتنفيذ أية عملية إبادة جماعية دون أن يستطيع المجتمع من إبداء أية مقاومة أو ردود فعل مؤثرة .
    لم تكن الدولة العراقية قبل مجئ البعث الى السلطة تتدخل كثيرا في شؤون الناس ، ولكن مع حكم البعث توسعت مهامها بطريقة مفزعة . فبعد سيطرتها الكاملة على المجتمع وإبتلاعها لجميع زوايا المجتمع المدني، أخذت تتدخل في أدق خصوصيات الناس وغطت من خلال شبكة دوائرها الأمنية والحزبية حتى الزوايا البعيدة و المنسية من الصحاري والجبال و لم يعد بالأمكان البقاء خارج دائرة مراقبة وتدخل الدولة . كما وفرت الأمكانيات المالية والعسكرية الهائلة وتنظيمات البعث والأمن والمخابرات والمرتزقة و ( المنظمات المهنية و الجماهيرية !!) فضلا عن التقنية الحديثة كل العوامل التي سهلت مهمة البعث في إخضاع المجتمع لسيطرته الكاملة . مع كل ذلك ومع هذه الهيمنة المطلقة على المجتمع العراقي كان البعث لا يزال يشعر بضعف سطوته على الكرد بل و كان هناك من بين الأخيرين من يتمرد عليه ويحمل السلاح بوجهه . ولم يكن بإمكان البعث و بخاصة بعد سنوات الحرب الطويلة مع إيران وبعد إمتلاكه للأسلحة الكيمياوية أن يتعايش مع هذه الحالة . فكانت الأنفال رسالة النظام البعثي للكرد ولجميع العراقيين تخيرهم بين خيارين لا ثالث لهما إما الخضوع التام للبعث أو الموت الزؤام على ايدي قواته ومؤسساته القمعية .
    وشكلت ثقافة العنف التي سادت الساحة السياسية العراقية منذ الخمسينات وساهمت فيها الأطراف السياسية المختلفة وإن بدرجات متفاوتة عاملا إضافيا لتبرير اللجوء الى العنف و القسوة لحسم الصراعات . لقد تبنى البعث عمليات الأغتيال والمؤامرات والعنف في العمل السياسي حتى قبل وصوله الى السلطة. ولم يقتصر إستخدامه للعنف ضد المنافسين السياسيين فقط بل جرى إعتماده حتى في حسم الصراعات الداخلية في صفوف أعضاء الحزب أنفسهم .
    كان من الصعب جدا تنفيذ عملية إبادة جماعية بحجم الأنفال لو لم تكن الدولة تعتنق آيديولوجية تبيح ذلك . لقد أكدت شعارات البعث وأوهامه على كونه الحزب الطليعي للأمة العربية والمعبر الحقيقي عن طموحاتها وأهدافها القومية ولذلك يتحمل هو دون غيره مهمة تحقيق وحدتها وإيصال رسالتها الخالدة الى الدنيا. وكانت الوحدة العربية في خطاب البعث مقرونة أيضا بالحرية وتحقيق نوع من الأشتراكية العربية . وقد تجسد كل ذلك في شعارات البعث الرئيسية ( الوحدة والحرية والأشتراكية ) و (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) . كما أن إستغلال البعث للقضية الفلسطينية في خطابه السياسي ورفعه لشعارات مقارعة الأمبريالية ومؤمراتها وتحرير الثروة الوطنية والقومية وغيرها من المفردات التي كانت ترددها الماكنة الدعائية البعثية خلال العقود الماضية ، يفرض توفير المبررات لكل ما يقوم به الحزب على طريق تنفيذ تلك الشعارات والأحلام والفنظازيات الكبيرة . كما إفترضت هذه الحالة إزالة أية عقبة على هذا الطريق . آمن البعث بأن تحقيق هذه الأوهام يبرر قيام نظامه بالقضاء على أية فئة أو مجموعة بشرية ، قومية كانت أو مذهبية أو حتى سياسية ، يمكن وصمها بأنها تشكل عائقا على طريق تنفيذ تلك الشعارات و تهدد (الأمن القومي العربي ) الذي توسع البعث في مفهومه الى مديات غير محدودة. وبعد قمعه للقوى السياسية العراقية وجد البعث في الحركة الكردية الجهة التي يجب أن يحملها المسؤولية في تعثر خططه وبرامجه وعدم تحقق نبوءاته وفنطازياته . ولم يختلف خطاب البعث في هذا المجال عن خطاب الحركات و الأنظمة المماثلة التي نفذت عمليات الإبادة الجماعية في القرن العشرين .
    شكلت إتهامات حزب البعث للحركة القومية الكردية الأطار الأيديولوجي لطريقة التعامل معها ، فهذه الحركة شكلت وفق توصيفات البعث ( خطرا على الأمة العربية وأمنها القومي، وخنجرا مسموما في خاصرة العراق ، واداة لأشغال الجيش العراقي عن أداء مهامه القومية على جبهة الصراع العربي الأسرائيلي ، بل وحتى محاولة لأقامة إسرائيل ثانية في شمال الوطن الحبيب وجيب عميل مرة و إدلاء خيانة مرة أخرى …الخ ). هذه الشعارات الرنانة والنعوت والتوصيفات معروفة لدى الرأي العام العراقي والعربي والتي لازالت ترددها بعض الأوساط السياسية البعثية الهوى وإن بمسميات أخرى . من هذا المنطلق كان لا بد من التعامل مع الحركة الكردية وكل من يتعاطف معها دون رحمة . كانت هذه الأتهامات بالنسبة للعديد من العراقيين والعرب كافية لتبرير إجراءات الحكومة ضد الكرد أو السكوت عنها وعدم الأكتراث بما كان يجري في كوردستان . ومع تنامي ظاهرة العنف والقسوة وتوسع البعث في تحديد مفهوم أفراد الحركة ، إذ لم يعد المقاتلون وأعضاء الأحزاب والتجمعات السياسية الكوردستانية فقط مستهدفين بإجراءات البعث القمعية، بل شملت كذلك كل من كان يتهم بالتعاون أو التعاطف أو حتى العيش في المناطق التي كانت تخضع لسيطرة قوات الأنصار أو تلك التي لا تشعر الحكومة بأنها تتحكم بها كليا . وأصبح من الجائز في عرف البعث أن يجري التخلص من هؤلاء جميعا. ويشير العريف ( المارشال!) على كيمياوي الى هذا الموضوع بوضوح في إجتماع سجلت وقائعه على شريط وقع بأيدي المنتفضين في آذار عام 1991 ، إذ يقول ما معناه :لم يكن جميع الذين رحلناهم أو تخلصنا منهم من ( المخربين ) بل كانوا يعيشون في مناطق كان لهولاء نفوذ فيها. وعلى أساس القاعدة البعثية في فرز الأعداء من الأصدقاء ( خندق واحد أم خندقان ، أو الذي ليس منا فهو ضدنا ) فقد كانت الخيارات محدودة أمام الكرد . فهم إما مع الحركة القومية الكردية أو مع البعث .أما المنطقة الرمادية فكانت مليئة بالشكوك والمخاطر والمنغصات . وبإستثناء عدد صغير من العلوج والأفاقين والوصوليين الكرد كان الجميع موضع الشك الدائم والمراقبة الشديدة .
    ومن هنا بدأت عملية إخضاع الكرد بالقوة الغاشمة كما بدأ البعث يعبث بالجغرافيا الكوردستانية. وتركز معظم خططه على تغيير التركيبة السكانية في كركوك والمناطق الكوردستانية الأخرى التي تعرضت الى سياسات التعريب والتطهير العرقي . فقد قام البعث بتهجير وترحيل السكان الكرد من هذه المناطق وجلب مئات آلالاف من العرب الوافدين لأسكانهم فيها فضلا عن فصل الوحدات الأدارية التابعة لها وربطها بمحافظات أخرى بهدف خلق عوائق أمام بقاء الكرد كمجموعة بشرية متميزة تعيش في منطقة جغرافية محددة. جرى كل هذا بهدف قطع الطريق على الكرد في تقرير مصيرهم في المستقبل . وقد واجهت مشاريع البعث على هذا الصعيد مقاومة شرسة من لدن الكرد .
    لقد كان مجئ البعث الى السلطة متزامنا مع حالة الأنكسار التي نجمت عن هزيمة الأنظمة العربية في ما سميت بنكسة حزيران1967 .عمل البعث جاهدا أن يقنع الناس بأنه سيخرج الأمة العربية من حالة الأنكسار والهزيمة. وكان شعار البعث المحبب و المبرر لقفزه الى سدة الحكم أنه جاء كرد ثوري على حالة الهزيمة وبأنه سيعمل على إزالة أثار النكسة . حاولت هذه الأيديولوجيا أن تتحول الى إطار فكري لتفسير أسباب النكسة ورسم صورة وردية وفنطازية عن الماضي للعبور الى مستقبل زاهي يزيل كابوس الواقع المتردي الحالي . وشكلت حالة الهزيمة خزينا فكريا للبعث في حملاته لقمع و إبادة أعدائه . ولم يكن البعث في موقفه هذا وأستغلاله للأنكسار النفسي والأوضاع المتردية في البلدان العربية مثالا إستثنائيا ، بل سبقته في ذلك أحزاب نازية وفاشية وحركات سياسية شمولية أخرى ، إستغلت ظروف الهزيمة العسكرية والأزمات الأقتصادية لتقفز الى السلطة وتوزع الوعود حول مجيئها لاصلاح الأوضاع و تحرير الناس من حالة الهزيمة والأنكسار . وكان البعث بحاجة الى كبش فداء ليحمله أسباب الهزيمة والأوضاع البائسة . ومن هذا المنطلق بدأ بسياسة تصفية أعدائه السياسيين الذين حملهم أسباب الهزيمة . وتوسع في ذلك ليشمل كل من لم يوافق على شموليته . لقد حاول البعث أن يبيع أوهامه وفنطازياته الى المجتمع كحقائق واقعية وقانونية على الأرض. وبدأت عملية تلميع صورة الزعيم وإستخدمت جميع الأساطير والأوهام لأيهام الناس بأن صدام هو منقذ الأمة من الحالة التي تعاني منها .
    ومن هذا المنطلق بدأت أيضا محاولة البعث العبث بالتاريخ لأعطاء الشرعية لنفسه للسيادة على الآخرين . وقد قام البعث بهذه العملية من خلال كذبة كبرى سميت ب( إعادة كتابة التاريخ ) . وكان البعث مقلدا في هذا الأمر أيضا لأن العبث بالتأريخ كانت سمة مشتركة بين جميع الأنظمة والحركات الشمولية. كان البعث كأيديولوجيا قومية فاشية ومتطرفة يبحث على الدوام في التاريخ عن ما يبرر طروحاته وأوهامه ويصنف الأحداث التاريخية من خلال إنتقائية مخلة لدعم وجهة نظره . وكان يحاول ان يميز العرب من خلال طروحاته عن الأمم الأخرى بطريقة عنصرية . وكان الهدف من ذلك كله إيهام الناس بأن مستقبل الأمة السعيد سيتحقق فقط في حالة الأيمان بنظرية البعث والسير ورائه والأنصياع التام لرغبات قيادته الملهمة! . وتضمنت الأطروحة البعثية هذه بطبيعة الحال قمع أية محاولة تعيق هذه الحركة وبقسوة لأن تحقيق الأهداف الكبرى، بمنطق البعث وجميع الحركات الشمولية المماثلة ، يبرر القيام بأي شئ حتى لو كانت مذابح أو جرائم كبرى بحق أولئك الذين يشكلون خطرا على آمال وطموحات الملايين!.
    ركزت آيديولوجيا البعث على التاريخ وأحداثه الى حد الهوس .وكان تمسك البعث بالماضي التليد للأمة العربية وتصنيفه المخل للأحداث التاريخية نوعا من الهروب من الواقع الردئ بحجة عدم القبول به . حالة الواقع لم تكن وفق منظور البعث نتاجا لذلك التاريخ الذي أعاد البعث كتابته وكان يرغب في فرضه على المجتمع . فقد كان يريد تغيير مسار التاريخ و وضعه على السكة التي تتفق مع طروحاته وتحليلاته ورؤيته للحياة والعالم . لذلك حاول البعث هدم الواقع بجميع بناه من أجل فرض نموذج سياسي إجتماعي من نمط آخر على المجتمع العراقي أولا وصولا الى فرضه على المجتمعات العربية كلها .
    وهكذا فعندما تستحوذ فئة صغيرة على سلطة مطلقة وتهمين على ثروات البلاد ولديها القوة التي تمكنها من السيطرة على المجتمع وتعتنق آيديولوجية شمولية تصبح معها الأبادة الجماعية لفئة من السكان وسيلة لتحقيق الأهداف . لقد توفرت هذه العناصر كلها في ظل نظام البعث . وشكلت الحرب القاسية مع إيران ومهمة ( الحفاظ على الأمن الوطني بوجه الخطر الخارجي ) و تمرد الكرد على النظام غطاء مثاليا للقيام بحملات الأنفال. وعندما شعر البعث بأن حكمه في خطر أو أن هناك فئات تقف حجر عثرة على طريق بقائه في السلطة و إستحواذه على الثروة أو توسيع سلطاته لم يتوانى كأية حركة شمولية من اللجوء الى عمليات الأبادة الجماعية . وكانت الأنفال ضد الشعب الكردي إحدى أخطر حلقاتها .
    فالأنظمة والحركات السياسية القادرة على القيام بعمليات القتل الجماعي هي تلك التي تؤمن بالقوة والعنف كوسائل لتحقيق أهدافها . وقلما وجد حزب يماثل البعث في تبني العنف وتقديس القوة والقسوة في الممارسة السياسية . ويزخر تاريخ البعث بعمليات العنف والأغتيالات السياسية و اعمال البلطجة . وتلجأ عادة الأحزاب والحركات التي تشبه البعث في حالات الأحتقان السياسي والأزمات الأقتصادية والتوتر الأجتماعي الى القمع والأبادة الجماعية للتخلص من أعدائها . رغم زوال حكم البعث إلا أن ثقافة القمع البعثية تلقي بظلالها القاتمة على الساحة السياسية العراقية . وهناك في عراق اليوم كم كبير من الحركات والمجموعات السياسية والقومية والمذهبية التي تتبنى المفاهيم البعثية وتنحو قياداتها منحى شموليا وهي مؤهلة للقيام بعمليات القتل و الأبادة الجماعية، في حال توافر الظروف و الأمكانيات المطلوبة ، ضد من تعتقد بأنهم يشكلون منافسين لها .
    تساهم حالات الأحتقان السياسي والقومي والطائفي وغياب الأمن والسلطة المركزية وتأزم الأوضاع الأقتصادية والأجتماعية في تهيئة الأجواء المناسبة لتنامي شعبية الحركات والأفكار المتطرفة وصعود نجم الزعماء المتهورين والمتطرفين . ومن الجدير بالذكر أن زوال الدولة المركزية و تمزق نسيج المجتمع العراقي على أيدي البعث وإنهيار منظومة القيم الأجتماعية و وجود حركات وقيادات ذات ميول شمولية واضحة ، مؤشرات تثير مخاوف الناس وقلقهم على مستقبل العملية السياسية في البلاد .
    تفتقر الحكومة الحالية الى الصلاحيات والأمكانيات اللازمة لأدارة البلاد بكفاءة. كما أن وجود إدارة مدنية للأحتلال الى جانب قوات إحتلال ينتقص من هيبة و شرعية هذه الحكومة الأمر الذي يدفع بالكثيرين الى التشكيك في الأجراءات التي تتخذها . ولا تستطيع أية حكومة في ظل مثل هذه الظروف أن تفرض هيبتها على الناس و تحد من عنف و تسلط المليشيات المسلحة والحركات المتطرفة . وفي هذه الحالات بالذات تظهر حركات العنف وتتقدم على غيرها لأنها تختلق الأعداء وتشخصهم بسرعة . وتلجأ هذه الحركات الى أحداث التاريخ لتبرير وجودها ومحاربة أعدائها وتحول ذلك الى جزء من خطابه السياسي . ويجري تحميل الأعداء عادة أسباب المآسي و الصعوبات التي يعاني منها الناس . الغريب أن لدى هذه القوى تأثير معنوي على الناس لأنها تحول العواطف والذكريات الأليمة الى نوع من الخطاب السياسي اللاعقلاني .
    يردد جميع أفراد هذه الحركة أو الجماعة عادة نفس المفاهيم والتعبيرات والتحليلات لتفسير المشاكل وحلولها ويجري الدفاع عنها وفق آليات منها إنكار الحقائق أو تزييفها . ولكل مجموعة في ظل هذه الأوضاع أشياءها الخاصة وأفكارها التي تقدسها وزعمائها الذين تجلهم الى حد التقديس وشهدائها الذين يعتبرون الأكرم و الأشجع بين جميع الشهداء . ويجري التركيز على تقديس هذه الأوهام والتمسك بها للحفاظ على وحدة الجماعة . وتلعب هذه الآراء والطروحات وظيفة كبيرة داخل الجماعة .
    وتظهر التجارب و تجربة العراق بالذات أن فاعلية الطروحات اللامنطقية على أنصار هذه الحركات والجماعات أكبر وأقوى من الأفكار والطروحات العقلانية . ويبدو إن بساطة تلك الأراء والتحليلات تجعلها أسهل على الفهم والنقل والترديد بين أفراد الجماعة كما لا تأخذها الأطراف الأخرى على محمل الجد ويكون رد فعلها بطيئا إزاءها ، الأمر الذي يسهل عملية إنتشارها وإعتناقها من قبل الناس وكأنها وقائع من الحياة . هناك إعتقاد خاطئ مفاده أن الأناس العاديين لا يدعمون أفكارا لا تستند على الحقائق ، ولكن التاريخ الأنساني يثبت العكس تماما، فقد إعتنقت مجتمعات بأسرها أفكارا و آيديولوجيات تقوم على أشد الأكاذيب والأوهام بعدا عن الحقيقة ، وجرت تعبئة الناس على أساسها للقيام بحملات الأبادة الجماعية ضد الأعداء المفترضين . تحتل القوة والعنف عادة مكانة متميزة لدى أفراد هذه الجماعات لأن ممارستها تؤدي الى ترسيخ الوحدة الداخلية بين أفرادها . ومن خلال هذا التشكل الآيديولوجي يتقدم عاملا القوة والأفكار الى المقدمة عندما يتجمع الأفراد وينغلقون على أنفسهم وتعمل بيئة العنف السلبية على توثيق إرتباطهم ووحدتهم .
    وتختزن الذاكرة العراقية كما كبيرا من العنف والصراع الدموي بين التيارات السياسية المختلفة . وهناك في عراق اليوم جماعات يصعب حتى حصرها وهي مؤهلة كلها للقيام بالمجازر وعمليات الأبادة الجماعية بحق بعضها لولا وجود قوات الأحتلال. لذلك فإن فهم آلية تنفيذ حملات الأنفال وعمليات الأبادة الجماعية الأخرى في عراق البعث يبقى عملا مطلوبا .
    جرى إعداد القتلة في ظل نظام البعث وفق عملية واليات معقدة . فقد جرى إشراكهم في الطلائع والأشبال ولبسوا اليونيفورمات الخاصة التي ميزتهم عن الآخرين كما دربوا ومنذ سن مبكرة على إستخدام الأسلحة ومناظر القتل . وجرى زرع أفكار فاشية ومعادية للأنسانية في أذهانهم . وشاركوا في المظاهرات والمهرجانات الصاخبة وإنخرطوا في صفوف الأجهزة الأمنية والقوات الخاصة وقوات الطوارئ وغيرها من الأجهزة القمعية . وأستخدم معهم أسلوبي الثواب والعقاب . فخلال عملية الأعداد للقتل كان يجري التعامل مع الذين إنضموا الى الجماعة وفق أسلوبي: الأغراء والتهديد . إذ كان يجري تكريم الذين ينفذون الأوامر دون مناقشة وبدم بارد من خلال إغداق الهدايا والمكرمات عليهم ، أما الذين كانوا يرفضون السير في طريق العنف والجريمة فقد تعرضوا للتهديد والإرهاب بل وحتى الأعدام . وكان المشرفون على إعداد القتلة يقسمون الناس جميعا الى فئتين : فئة صالحة وصاحبة رسالة يمثلونها هم والذين يقفون معهم ، وأخرى تمثل الشر وكانت تصور دائما كفئة صغيرة يجب التخلص منها بأسم الحفاظ على الوحدة الوطنية ومستقبل الأمة .
    عمليات الأبادة الجماعية رديفة للحركات والأنظمة السياسية الشمولية . ويجري تنفيذ مثل هذه الجرائم دائما في ظل الأنظمة الدكتاتورية وتقوم بها الحركات والجماعات المتطرفة. النظام الذي ينفذ الأبادة الجماعية هو نظام توتاليتاري يفرض قوانينه على المجتمع ويمتلك قوات عسكرية كبيرة وأجهزة أمن مرعبة يفرض من خلالها السيطرة المطلقة على الجميع . وكان نظام البعث في ظل نظام صدام حسين تجسيدا لهذا النظام التوتاليتاري . جري إعداد الناس لعمليات الأبادة الجماعية عبر إخضاع المجتمع العراقي كليا لسيطرة البعث . حتى مع عدم دعم فئات واسعة من العراقيين لحملات الأبادة الجماعية إلا أنهم لم يستطيعوا أن يبدوا أية مقاومة بسبب حالة الخوف والفزع التي كانت تسيطر على المجتمع العراقي في ظل حكم البعث وشبكاته الأمنية . لذلك آثر الناس إختيار طريق السلامة واللامبالاة وعدم الأهتمام بما يجري في كوردستان لكي لا يتعرضوا الى غضب السلطة . ومثل هذه الأجواء هي البيئة المثالية التي تنفذ فيها عمليات الأبادة الجماعية عادة .
    الأبادة الجماعية في نهاية الأمر هو سوء إستخدام للسلطة من قبل نخب سياسية أو عسكرية أو نظام سياسي. وهي شكل من أشكال السيطرة الأجتماعية ولكن في أشد نماذجها تطرفا والتي يمكن تنفيذها في ظل الدولة التوتاليتارية حصرا . لا ينفي هذا بطبيعة الحال حقيقة أن عمليات إبادة جماعية نفذت في ظل غياب السلطة المركزية كما جرى للسكان الأصليين في أمريكا . خلاصة القول عمليات الأبادة الجماعية هي ستراتيجية النظام التوتاليتاري الفريدة .
    وفق هذه المواصفات كان نظام البعث نظاما للأبادة والمقابر الجماعية . فبعد خروج النظام من حربه مع إيران غير مهزوما ، والهزيمة في مفهوم البعث كانت مرادفة لزوال حكمه وكل ما عدى ذلك اعتبر نصرا مؤزرا ، إلا أن الضائقة الأقتصادية وحالة الأحتقان السياسي دفعت بصدام للبحث عن كبش الفداء . فكان الكرد المدنيون ( وفيما بعد دولة الكويت الصغيرة ) الهدف الأسهل والأضعف على طريق تكريس شمولية النظام البعثي المطلقة و إرسال رسالة تحذير الى المجتمع العراقي بأن الأبادة ستكون مصير كل من يفكر بالخروج على إرادة الزعيم وطروحاته .
    يبقى التبرير الأيديولوجي لتنفيذ عملية الأبادة أمرا ضروريا . والتاريخ الأنساني ملئ بالأمثلة على ذلك . وليس بالضرورة أن يسبق خلق التبريرات عمليات الأبادة بل يمكن للنظام الشمولي أن يختلقها فيما بعد حتى بعد إنجاز المهمة . كما أن المجموعة المنفذة لعمليات الأبادة الجماعية لا تجد نفسها ملزمة لتبرير فعلتها أمام الآخرين إما إستهانة بهم أو خروجا على قيمهم . لم يجد البعث نفسه ملزما أن يقوم بتبرير قيامه بحملات الأنفال لسيطرته المطلقة على المجتمع العراقي وعدم تجرؤ أحد على مساءلته . التبرير ضروري في حالات الأبادة الجماعية لكي لا يذهب الناس بعيدا عن النظام ، لأنهم بطبعهم لا يميلون الى تبرير قتل و إبادة أبناء جنسهم .
    هناك من تبرع لتبرير حملات الأبادة الجماعية التي قام بها النظام حتى بعد سقوطه . ووصل الأمر بهؤلاء الى التشكيك في المقابر الجماعية وإنكار قيام النظام بها أو تبرير قيامه بها بحجة حماية وحدة البلاد أمام العدوان الخارجي . الغريب أن هؤلاء لا يتوانون من الزعم بأنهم يقفون الى جانب الشعب العراقي ضد أعدائه . هذه القوى التي تبرر حملات الأبادة الجماعية وضرب السكان المدنيين بالأسلحة الكيمياوية هي تلك المؤهلة للقيام بعمليات الأبادة الجماعية ضد كل من يختلف معها في الرأي و التوجهات .

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,321

    افتراضي

    كان البعث يعتقد بأنه حر في أن يفعل بالعراقيين ما يشاء . وإعتبر ذلك حقا لا يجوز أن ينازعه عليه أحد . فقد تعجب علي الكيمياوي من الإعتراضات التي أبداها الرأي العام الأوروبي و العالمي على قصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية في 16 آذار عام 1988 ، إذ قال بتعابيره الجلفة ما ترجمتها ( ما دخل المجتمع الدولي بما نقوم به مع مواطنين عراقيين ؟. سأفعل بالمجتمع الدولي وكل من يستمع اليه . هؤلاء مواطنونا نقتلهم، نذبحهم، نسجنهم. ما دخل المجتمع الدولي بهذا الأمر؟). و حتى صدام حسين بعد إعتقاله وعندما زاره عدد من أعضاء مجلس الحكم وسألوه عن اسباب قتله للبعثيين تعجب من الأمر وقال لهم ( هؤلاء بعثيون ما دخلكم أنتم بهم ؟) .
    جرائم الأبادة الجماعية ليست نتيجة لأفعال محسوبة ومدروسة بل هي نتيجة للتعامل مع الأوهام والفنطازيات التي تعد بحل جميع المشاكل التي يعاني منها الناس . وكان البعث ومنذ وصوله الى السلطة يعد الناس بالعمل على إزالة آثار الهزيمة الأنكسار والأنتقال بالأمة العربية الى حيث المجد والأنتصارات . كما ردد باستمرا بأنه سيطهر البلاد من الأعداء الذين يجسدون الشر الكامل .
    تضع الآيديولوجيا الشمولية فئتان من الناس مقابل بعضها . الجماعة المتسلطة صاحبة الطرح الأيديولوجي والفئة المعادية التي تصبح في النهاية هدفا لعملية الأبادة . وعمل البعث كغيره من الأحزاب و الحركات الشمولية في هذا المجال على عاملين رئيسيين وهما فكرة الفئة المختارة والجرح القومي . الخطاب القومي البعثي ملئ بشعارات الأمة المصطفاة من قبل الأرادة الألهية . ويجب ان لايتبادر الى ذهننا ان البعث يفرق بين ما يسميها بالأمة وحزب البعث ، فكل ما يقوله بحق الأمة يقصد به البعث وقيادته . بذلك فالفئة التي يمثلها البعث هنا هي فئة مختارة ومجبولة على حكم الآخرين وما على الأخيرين الا الأنصياع لرغباتها و إلا فإن الأبادة ستنتظرها . ومن خلال خلط عنصري المخاوف والشعور بالتسامي على الآخرين جري تصديق الأوهام القومية البعثية. وتضع الجماعة المتسلطة هذه المخاوف في هويتها وتعمل على نقل عدائها التاريخي للاخر الى الأجيال الجديدة .
    والآيديولوجية البعثية صورت المجموعة/ الهدف بأنها فئة صغيرة متآمرة ومعزولة عن الجماهير وتقف على الضد من إرادة المجموع في خلق اليوتوبيا البعثية . ويتجسد هذا بوضوح في سلسلة الأتهامات التي كان البعث يوجهها للحركة القومية الكردية والكرد عموما . فقد جرى تصوير الأخيرين على أنهم العائق أمام خلق المجتمع اليوتوبي البعثي الذي سينعم العرب في ظله بالوحدة والحرية والأشتراكية . وناقض البعث بطروحاته الجديدة افكاره السابقة عن القضية القومية الكردية والتي كان يتشدق بها حتى منتصف السبعينات .
    إعتمد البعث على ماكنة إعلامية هائلة وحملات دعائية قائمة على الأوهام . وجرى إختلاق هذه الأوهام للتنفيس عن مشاعر التوتر والأحتقان والخوف والفشل وتدني الروح المعنوية. فقد إعتبر البعث أن القضاء التام على الأقليات المتآمرة ، وهذا لا يشمل الكرد فقط بل يتعداهم الى كل الجماعات غير العربية التي تعيش مع العرب في العراق والسودان ودول شمال أفريقيا وغيرها ، سيخلص العرب من المخاطر والمؤمرات . وهذا يتطابق مع الهدف المعلن لجميع عمليات الأبادة الأيديولوجية التي كانت تختفي دوما وراء شعارات محاولة إنقاذ الأمة من الأخطار المحدقة بها من أقليات تتربص بها و تحاول الأضرار بمصالحها العليا . ولم يكن البعث غريبا عن تبني هذا الخطاب ليس بحق الكرد فقط بل و بحق كل من حاول الحد من دكتاتوريته المطلقة . أرادت دولة البعث أن توجه نقمة قطعانه العسكرية وتدهور أوضاعهم المعاشية بعد حربها المجنونة مع إيران نحو مجموعة إعتبرتها سببا للمشاكل بل وللحرب أيضا . أشار بعض وزراء صدام في مناسبات عديدة بأنه كثيرا ما كان يردد في إجتماعاته معهم أو مع أعضاء ماكان يسمى بمجلس قيادة الثورة أن الحركة القومية الكردية هي السبب في إندلاع الحرب بينه وبين إيران . وكزعيم شمولي لم يكن مستعدا بطبيعة الحال أن يقر بسياساته الخاطئه في التعامل مع القضية الكردية . فبدلا من التجاوب مع تطلعات الكرد القومية المشروعة إتفق مع شاه إيران في 6 آذار عام 1975 للتخلص من تلك الحركة . ولكن الحركة الكردية سرعان ما بدأت من جديد وسقط نظام الشاه ، وبدلا من الأستفادة من التجرية مزق الأتفاقية وهاجمت قواته إيران ،معتقدا بأنه سيحقق نصرا عسكريا كاسحا وسريعا على إيران وسيتحول بين عشية وضحاها الى زعيم العرب الأوحد من المحيط الى الخليج .
    سبقت حملات الأنفال عملية التهميش السياسي والإقتصادي والإجتماعي للفئة المستهدفة وجرى ترحيل جزء منها قسريا . لقد ساعدت تلك الأجراءات القسرية على تسهيل مهمة التخلص من أفراد المجموعة . هناك في عراق اليوم من يحاول القفز على تلك الحقائق من خلال ترديد بعض الشعارات الجوفاء التي تهدف الى إقناع الضحايا للرضوخ لواقعهم والتعايش مع آثار تلك الجرائم الكبرى دون أبداء الأعتراض . وهذا تفسير خاطئ لمبادئ التسامح والمصالحة الوطنية .
    مرت عملية إعداد القتلة الذين قاموا بتنفيذ عمليات الأبادة الجماعية بمراحل عدة . لقد كانت تجربة ( مكتب العلاقات العامة)، وهو أسم إختاره صدام حسين للمخابرات بسبب كراهية العراقيين لتسميات الأمن والمخابرات نموذجا لما ساد العراق فيما بعد .وكانت لصدام تجربة في التحقيق مع الشيوعيين وتعذيبهم بعد إنقلاب شباط عام 1963 . لقد جند صدام لهذا المكتب عددا من القتلة والشقاوات والمجرمين المستعدين لتنفيذ أوامره دون تردد ماداموا يحصلون على الأمتيازات وفرص ممارسة العنف والقسوة مع الآخرين . تحولت تلك التجربة الى نموذج غطى العراق من أقصاه الى أقصاه و أصبح ضابط الأمن عنصرا مهما في أية دائرة من دوائر البلاد مهما كانت صغيرة وتافهة.
    جرى إعداد أفراد القوى التي قامت بجرائم الأنفال وفق برامج خاصة . وإعتقدوا بأنهم بقيامهم بهذه الجرائم أنما ينفذون أعمالا مهمة ويقدمون خدمات جليلة للزعيم والحزب والدولة والأمة . لقد جرى قتل الأحاسيس الأنسانية لدى هؤلاء. فابداء اي تعاطف إنساني مع آلام الناس أعتبر ضعفا وعدم خضوع لرغبات الزعيم الملهم ونقصا جديا في الأيمان المطلق بالأيديولوجيا . لذلك وجب على أفراد هذه المجاميع أن يظهروا القسوة وأن يتصرفوا كالحيوانات المفترسة فيأكلون الحيايا وويلقى بهم في الأوحال والمياه القذرة وينفذون أوامر قادتهم دون تردد ، كما وجب عليهم أن يكونوا مستعدين دوما للتضحية بالنفس على طريق تنفيذ رغبات الزعيم . وكانوا قد شاركوا في حملات الأعدام الجماعية بحق السياسيين المناهضين لحكم البعث أو الشباب الهاربين من الخدمة العسكرية . وتمثل هذه القوات جماعة تقوم بين أفرادها أخوة الدم وتقربهم الجرائم المشتركة التي يقومون بتنفيذها من بعضهم .
    ولكن ورغم أن النظام البعثي جند خلال سني حكمه عددا هائلا من الأفراد في مؤسساته القمعية وقواته الخاصة ، إلا أن جريمة كبيرة بحجم الأنفال لم يكن بالأمكان أن تنفذ دون مشاركة فئات أخرى من المجتمع العراقي مثل الجيش الشعبي ، أفواج الدفاع الوطني والمفارز الخاصة . كان أفراد هذه القوات في الظروف الأعتيادية أناسا عاديون ويمارسون حياة مدنية طبيعية . ويشكل مثل هذا التطور الجانب المرعب للمسألة عندما يزج بعشرات الآلاف من البشر دون إرادتهم في دائرة الجريمة.
    وفي الأنفال كما في أية عملية أبادة كانت هناك ثلاث فئات من الناس : الفعلة أي القائمين بالعملية والمشاهدين الذين يلعبون من خلال موقفهم السلبي دورهم فيها والضحايا أو الفئة المستهدفة (هدف العملية) . ويخطأ من يعتقد بأن القتلة أناس ساديون أصلا ويمارسون القتل لأسباب وإعتبارات نفسية خاصة بهم . الحقيقة أن هؤلاء أناس عاديون دربوا على القيام بهذه الأعمال عبر عملية إعداد طويلة وجرى إنتقائهم من بين أكثر الجماعات إخلاصا للزعيم والدائرة القريبة منه . لقد توسعت دائرة القتلة في العراق الى مديات مرعبة بسبب الحروب الكثيرة وحملات القمع المستمرة وتنامي وتيرة العنف والقسوة الى حدود يصعب تصورها .
    وهناك مسألة في غاية الأهمية في اية عملية إبادة جماعية وتتعلق بالجماعة المستهدفة ونقصد بها عملية نزع الصفة الأنسانية عن أفرادها . ويشير الكتاب والباحثين المهتمين بقضايا الأبادة الجماعية الى ضرورة توفر هذا الشرط لتنفيذ عملية الأبادة الجماعية بنجاح . تعمل السلطة الشمولية من خلال ماكنتها الأعلامية على الحط من مكانة الفئة المستهدفة وتصويرها على أنها فئة صغيرة ومتآمرة ويبرر تحقيق الأهداف الكبرى القضاء عليها . وتستطيع الدولة من خلال مؤسساتها الدعائية و بخاصة في ظل الأنظمة الشمولية المطلقة والمجتمعات المنغلقة أن تفرض الصورة التي تريدها على المجتمع. فعلى مدى العقود الثمانية الماضية صور الأعلام الحكومي الكرد على أنهم متمردون وخارجون على القانون وهم مصدر بلاد للعراق . وأصبحت نعوت الخونة ، المتخلفون والعملاء وغير ذلك من الصور السلبية تلاحق الكردي أينما حل . لازالت هذه الصورة المشوهة مغروسة في عقول نسبة مهمة من العراقيين وعدد أكبر من العرب الغير عراقيين . فهناك من بين الأعلاميين العرب من يعتقد بأن الحديث الدائم عن حلبجة والأنفال ماهو الا محاولة لهولوكوستة القضية الكردية . وصور وسائل الأعلام البعثي الحركة الكردية كخطر على مصالح العراق الوطنية العليا وعائقا اما طموحات الأمة العربية في الوحدة القومية او محاولة لتجميد دور الجيش العراقي في محاربة إسرائيل . كما كانت قيادات الحركة الكردية في الخطاب البعثي الرسمي افرادا خونة، جيب عميل، او خناجر مسمومة في خاصرة العراق و الأمة العربية و في أحسن الأحوال سذجا مغرر بهم .
    ووصل الأمر في المرحلة التالية الى تشبيه أفراد المجموعة / المستهدفة بالحيوانات أو كائنات تافهة لا فائدة ترجى من ورائها ولن تفيد البشرية في شئ بل أن وجودها خطر عليها لذلك فإن التخلص منها هو أمر لصالح البشرية . وجرى تشبيههم بالأمراض الخبيثة كورم السرطان الذي يجب أستئصاله قبل أن يستفحل خطره ويدمر خلايا الجسم كله. وتعتبر المفردات التي أطلقها علي كيمياوي على الكرد نموذجا صارخا لذلك الفكر العنصري . الحط من قيمة المجموعة المستهدفة امر في غاية الأهمية عند القيام بعمليات الإبادة الجماعية. ويستخدم في هذا الباب عادة حتى الموروث الشعبي والنكات التي تحط من كرامة الآخر وتظهره بأنه أقل شأنا من ابناء المجموعة المهيمنة . لذلك تمنع الدول المتحضرة قانونيا النكات التي تحط من قيمة مجموعة بشرية سواء كانت قومية أو دينية أو فئة إجتماعية. في حين يزخر الفولكلوري الشرقي بأمثال غارقة في عنصريتها بحق العديد من الشعوب والأقوام ويجري إستخدامها بصورة مفرطة في الأساءة الى الآخرين .
    هذه العملية أي نزع الصفة الأنسانية عن الضحايا (عملية اللاأنسنة أو حيونة الضحايا ) تضعهم خارج المجتمع الأنساني و وظائفه .كما تساعد على إزالة العقبات الأخلاقية على طريق التخلص منهم وتقتل أي تعاطف إنساني لدى القتلة تجاهم ، لأن الأخيرين في نظرهم ووفق تنظيرات زعمائهم أقل درجة من البشر لذلك فان قتلهم يجب ان لايثير اي تعاطف انساني او تأنيب للضمير . العوائق الأخلاقية التي تقف بوجه الأنسان لقتل أخيه الأنسان من القوة بحيث لا يمكن معها تنفيذ عمليات القتل والأبادة الجماعية بسهولة وبطريقة لا تخلف تأنيبا للضمير لدى القتلة إلا بعد نزع الصفة الأنسانية عن الضحايا. أن عملية اللاأنسنة او حيونة الضحايا تخلق جوا لتقبل الآخر بغير صورته الأنسانية بل يتحول معها الى رقم أو سلعة أو عنصر يمكن تعويضه في لعبة الأرقام . وكثيرا ما يردد ضحايا العنف البعثي بأنهم كانوا يعطون أرقاما ويمنعون من ذكر أسمائهم بأي شكل من الأشكال. ورغم إرتباط ذلك بمسألة الحفاظ على سرية القمع البعثي إلا أن الأمر لا يخلو أيضا من هدف تحويل الضحية الى مجرد رقم لأزالة أي عائق أخلاقي على طريق التخلص منه . حتى في الجيش العراقي الذي كانت العلاقات دوما بين ضباطه وجنوده نوعا من العبودية اكثر منها علاقات رفاق السلاح ، كان التعامل يجري عادة على أساس الأرقام . يمكن فهم هذه الحالات اثناء الحروب ولكن من الصعب تبريرها في حالات السلم و في ظل الظروف الطبيعية . يبدو ان الهدف هو خلق قطيع من البشر المسلوب الأرادة و الكرامة الأنسانية . وهكذا فإن عملية اللاأنسنة لا تشعر القاتل في هذه الحالة بأي ذنب أو تأنيب للضمير لأنه يقتل كائنات أقل درجة من الأنسان ويقوم بعمل ضروري لبقاء النظام التوتاليتاري . بل يمكن أن يثير القتل شعورا بالمتعة والنصر لأنه يمثل السيطرة المطلقة على الآخر / العدو.
    هناك قصص كثيرة عن تعامل وقسوة حراس معسكرات الموت البعثية والسجانين مع الضحايا الكرد تعطي صورا لأناس يصعب تصنيفهم ضمن البشر بدءا من رمي جثث الموتى للكلاب السائبة والأعتداء على النساء أمام أبائهن وقتل الأطفال اما امهاتهم . تظهر هذه الصور نجاح البعث في تحويل أنصاره الى كائنات يمكن ان نسميهم بكائنات خرافية تفتقر الى المشاعر أو القيم الإنسانية . وقد أورد بعض من شاهد من بعيد عمليات القتل الجماعي أو أجبر على حفر المقابر الجماعية أو تمكن من الهرب من حفلات الموت الجماعي قصصا مرعبة عن تلك الكائنات . وتجسد هذه القصص صورا لأناس يشبهون تماما ما نقرأه عن حراس وجلادي معسكرات الموت النازية أثناء الحرب العالمية الثانية .
    وتخلق عملية نزيع الأنسانية من أفراد المجموعة المستهدفة مسافة ضرورية بين القتلة والضحايا . فالحط من قيمتهم ووضعهم خارج عالم الواجبات وتجويعهم او تركهم في ظل أوضاع قذرة سرعان ما يفقدهم الشعور بها ويصبح من المستحيل الحفاظ على النظافة . وبذلك تظهر بيئة مناسبة لأنتشار مختلف الأوبئة التي تحصد حياة الآلاف منهم . وقد جرى ذلك بالضبط لضحايا الأنفال في معسكرات طوبزاوة ونقرة السلمان وغيرها . ومات الآلاف من الأطفال والشيوخ حتى قبل أن تبدأ قوات الموت بحصد أرواحهم . وتعتبر هذه الأساليب أدوات فعالة للحط من قدر ومكانة الضحايا وتجعلهم في وضع يتمنون الموت ويجدون فيه الخلاص ولذلك يستسلمون له و يتقبلونه دون أبداء أية مقاومة .
    ولعب المشاهدون بموقفهم السلبي دورا كبيرا في عملية الأبادة الجماعية. لقد تسامح الجمهور العراقي مع ما قام به البعث الى الحد الذي أصبح من الصعب فيما بعد الوقوف بوجهه. لاشك أن عامل الخوف كان وراء صمت المجتمع العراقي إزاء مذابح الأنفال . لقد أوصل نظام البعث الناس الى درجة من الخوف والفزع لم يعد أحد يجرؤ على السؤال عن الآلآف الذين يؤخذون ولا يعود منهم أحد . وعندما يصل أي مجتمع الى هذه الحالة من الخوف والرعب يصبح من السهل القيام بحملات الأبادة الجماعية .
    هناك فئة من العراقيين تحاول أن تتهرب من تحمل أية مسؤولية عن الذي جرى في العراق ، فبدلا من أن تعترف بحالة الرعب التي سادت المجتمع العراقي تحاول أن تبحث عن مبررات لجرائم النظام وتغطية الموقف السلبي لهذه الفئات الواسعة من المجتمع . ولا يريد أفراد هذه الفئة أن يعترفوا بأن مقاومة العراقيين لحكم البعث تعود الى سنين طويلة قبل دخول النظام في مسلسل الحروب الخارجية . وشاركت فئات واسعة من السكان العاديين من خلال الجيشين النظامي والشعبي والدوائر الأمنية والمجهود الحربي في عمليات الأبادة الجماعية ولو بصورة غير مباشرة. وحتى الذين إمتنعوا عن المشاركة فيها لم يعملوا شيئا من أجل منع حدوثها.
    كان على الفعلة إما أن يشاركوا أو أن يصبحوا هم بأنفسهم هدفا لأفعال القمع والأبادة ،اذ لم تعد قصص الأطباء مع جرائم قطع آذان الهاربين و وشم جباههم ومشاركات أفراد الجيش الشعبي في عمليات إعدام الهاربين من الخدمة العسكرية خافية على احد في العراق .
    لم يكن بالأمكان أن تتخذ حملات الأنفال هذا الحجم المرعب لولا إمكانيات البعث المادية والعسكرية والتقنية الى جانب الجهاز البيروقراطي الحكومي والشبكة الأمنية والحزبية . وفي كل الأحوال تستطيع جماعة صغيرة منظمة ومسلحة بصورة جيدة أن تنفذ عملية إبادة بحق جماعة كبيرة غير منظمة وغير مسلحة. كرس البعث التكنولوجيا الحديثة ومنجزات التحديث للقيام بحملات الأنفال وعمليات الأبادة الجماعية الأخرى. وسعت هذه الأمكانيات من حدود عمليات الأبادة أكثر من السابق . فالذي أصبح بإمكان السلاح الكيمياوي والطائرات الحديثة والجيش المتطور أن تقوم به في الثمانينات لا يمكن مقارنتها بأمكانيات الدولة العراقية قبل ذلك بعقدين أو حتى عقد واحد من الزمن . كما أن مؤسسات الدولة الحديثة وفرت جميع متطلبات و خطط الأنفال . إذ أصبح بالأمكان تحديد الفئة / الهدف بكل دقة. كما قدمت مؤسسات الدولة جميع الأجهزة والوسائل الضرورية للقيام بالمهمة على أكمل وجه . كما قامت أجهزة الأمن المرعبة والوحدات الخاصة بمهمة الحفاظ على سرية العملية ومحو آثارها كلما كان ذلك ممكنا. لقد كانت الخطط من الدقة الى الحد الذي لانعرف حتى بعد سقوط النظام بثلاث سنوات الكثير من التفاصيل المتعلقة بها .لقد إستفاد البعث من تطور التقنيات العسكرية وتوفر موارد النفط الهائلة وشبكة الأمن والمخابرات والجيش والحزب وعلاقاته الدولية الواسعة بأبشع صورة من أجل إبادة مئات الآلآف من المدنيين الكرد وغيرهم دون أن يحرك المجتمع الدولي ساكنا. ليست التكنولوجيا والحداثة بذاتهما مذنبتين في إستخدامهما من قبل أنظمة وحركات توتاليتارية بهذا الشكل الأجرامي .
    كما لعبت عملية نهب ثروات وممتلكات الضحايا أيضا دورها في حملات الأنفال . وربما تشير تسمية الحملات بالأنفال الى هذا الجانب ، فالأنفال تعني غنائم الحرب. وعلى أية حال فالكلمات ليست مسؤولة عن المعاني التي نحاول تضمينها . الذين ساهموا في تنفيذ الأنفال كان لهم نصيبهم من المواشي والممتلكات بل وحتى (الجواري والموالي) . هناك قصص كثيرة يصعب التحقق منها عن أخذ الأطفال وتوزيعهم على عوائل موالية للنظام ، فضلا عن بيع أعداد من الفتيات الكرديات داخل وخارج العراق . وثقافة الفرهود البعثية وآثارها المدمرة على المجتمع العراقي بحاجة الى دراسات معمقة . يكفي أن نشير بأن نظام البعث جعل منها جزءا من ثقافة الدولة الرسمية سواء من خلال نهب ممتلكات السكان الكرد و بخاصة في الريف لمدة ثلاثة عقود كاملة , أو نهب المدن الأيرانية الحدودية أو فرهود الكويت الذي تجاوز كل حدود عندما قامت المؤسسات والوزارات و الجامعات العراقية وزعماء المافيا الحكومية بنهب ممتلكات دولة الكويت ، ليجري نهبها من جديد على أيدي الحواسم يوم سقوط النظام .
    في المجتمعات المتعددة الأثنيات والمذاهب والتي تسيطر فيها فئة صغيرة على مقدرات البلاد وعلى الفئات الأخرى تزداد إمكانيات الأبادة الجماعية . ويشكل العنف أداة قانونية بيد الممسكين بالسلطة لخلق الفروقات بين الناس وتعميقها ، ويجري دعم هذه الظاهرة بأحداث التاريخ الملئ بالعنف في هذه المجتمعات . كثيرا ما يشار خطأ الى أن البعث كان في حرب مع الكرد لذلك قام بتلك الجرائم . ولكن طبيعة النظام البعثي الشمولي تؤشر حقيقة مهمة اخرى وهي أن النظام كان سيقوم بقمع الكرد و إبادتهم حتى لو لم يقوموا بمقاومته أو التمرد على سلطته ، لأن مجرد تمسكهم بثقافتهم وممانعتهم الأنصهار والأنصياع لدكتاتوريته والأندماج الكلي بالمجتمع الذي أراد البعث خلقه ، كان وفق منظور البعث مبررات كافية للقيام بأبادتهم. كيف لا وان البعث كان ينظر الى هذه الجماعة على أنها عقبة أمام النموذج الذي يريد أن يخلقه (مجتمع عربي موحد وحر و إشتراكي !!). وكان ينظر الى أمر الأبادة على انه إزالة لتهديد حقيقي أو رمزي على طريق بناء النموذج البعثي المتخيل . والضحية في هذه الحالات عادة أقلية قومية أو ثقافية متميزة عن الأكثرية السائدة في البلاد والتي تعتبرها الدولة الشمولية عائقا أمام توسعها أو تتخوف من رغبة تلك الأقلية في إقامة كيان مستقل والبحث عن إعتراف دولي بها.
    و تتزايد إحتمالات الأبادة لدى الحكومات ذات النخب السياسية أو الأنظمة الجديدة . وهي عادة دول معزولة عن العالم الخارجي وذات تأريخ ملئ بالقمع والأضطهاد . تعاني هذه المجتمعات من تاريخ طويل من الصراع الداخلي السياسي والقومي .وتستخدم السلطة و الثروات فيها لتكريم المجموعات الموالية . ويتسبب سقوط هذه السلطة او إنتقالها الى فئة اخرى في إندلاع أعمال الأبادة في حالة وجود أيديولوجيات قومية او دينية فاشية تحط من قيمة جماعة معينة . والجماعات التي لم تندمج كليا في المجتمع المتوهم أكثر تعرضا من غيرها لمثل هذه الأعمال. كما تزداد إحتمالات الأبادة الجماعية عند حصول الهزيمة العسكرية او ضعف السلطة او نشوب الصراع الداخلي مع وجود أحزاب مسيطرة وأخرى تشعر بأنها مهمشة أو معزولة وقيادات توتاليتارية فضلا عن إعتماد الناس على القوة العسكرية لحماية أنفسهم ، وهي امور تتوفر كلها في العراق منذ عقود .
    الأبادات الجماعية تحدث في المجتمعات المتعددة الأثنيات حيث الجماعات الدينية والقومية والسياسية تشعر بفروقات عميقة من ناحية والمظلومية من ناحية اخرى . ويمكن ملاحظة هذه الخلافات في المشاركة السياسية أو الأمكانيات الأقتصادية و الأجتماعية . و تزداد إمكانيات الأبادة عندما يتصارع طرفان لمدة طويلة ويتطابق التمييز الأقتصادي و الأجتماعي مع حالة التهميش السياسي . ومن بين الشروط الأساسية للقيام بعمليات الأبادة الجماعية هو تحديد المجموعة المستهدفة بحيث يمكن تمييزهم عن المجموعة السائدة .
    بعكس الأنظمة الشمولية لا تمتلك النخب الديموقراطية سلطات واسعة تمكنها من إبادة مجموعة من الناس ، لأن الثقافة الديموقراطية تضع نفسها في مقاومة مثل هذه الظاهرة. لذلك فإن حجم السلطات وتبني أو عدم تبني الديموقراطية يشكلان العوامل التي تحدد إمكانية قيام نظام سياسي بعمليات الأبادة الجماعية من عدمها . وبعكس المجتمعات المنغلقة على نفسها و التي تعيش في ظل انظمة توتاليتارية لا يمكن أن تحدث عمليات الأبادة أبدا في المجتمعات المنفتحة والديموقراطية . النظام الديموقراطي لايدع أي مجال لعمليات الجينوسايد ،لأن هذه العمليات تجري دوما بصورة سرية ويبذل القتلة جهودا كبيرة لأبقاء أخبارها في الظلام كما يستخدمون الأرهاب للحفاظ على سرية الجرائم ، وهي امور لا يمكن ان تحدث في ظل الأنظمة الديموقراطية . ولحسن الحظ وعلى الضد من رغبات القتلة لا تبقى أعمال الأبادة في السر لأماد طويلة بل يجري كشفها ، لأن عمليات بهذا الحجم يشارك فيها عادة أناس كثيرون وتصل اخبارها الى الآخرين بوسائل مختلفة.

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني