الدولة التي أريد
GMT 8:00:00 2006 الأحد 15 أكتوبر
علاء الزيدي



--------------------------------------------------------------------------------


قلت في العنوان " أريد "، ولم أقل " نريد "، لأنني أمثل نفسي فقط، ولا أتحدث باسم أية مجموعة من الناس، في أي مكان في العالم. من هذا المنطلق، ينبغي أن تنهال العصي، إذا أ ُريد لها أن تنهال، علي وحدي. و يُوجـَّه الإنتقاد، إليَّ بمفردي، بشخصي الحقيقي ووجودي المفرد، لانعدام الإنتماء عندي، بشكله " التكتـُّلي "، إلى أي عنوان.
الجدل محتدم، والحرب، أحيانا، حامية الوطيس، بين مختلف الفرقاء، المعنيين وغير المعنيين، حول سؤال متناه في البساطة والتجريد : أية دولة يريد كل من المتجادلين أو المتحاربين ؟ دينية أم مدنية ؟ شمولية أم لبرالية ؟ مستبدة أم متعددة ؟ وإلخ... ويسوق كل من هؤلاء الفرقاء مختلف الحجج، لدعم آرائه ونظرياته. بعضها يستله من الكتب القديمة أو الحديثة، دون الإشارة إلى المصدر في معظم الأحيان ! وبعضها يفبركه على عجل كمن يقلي بيضا مخفوقا في مطبخ مشترك في بيت للعزّاب. وبعضها يترجمه من لغات أخرى وينسبه لنفسه، مستثمرا جهل القراء بهذه الحقيقة لتمشية ماليس له. وبعضها... يحسن بي أن أتوقف، وإلا ظللت أعدّد هذه الـ " بعضها " إلى المتى الذي يبقى فيه البعير على التلِّ، في القراءة الخلدونية ( كتاب المطالعة في المدارس الابتدائية العراقية، الذي ترد فيه عبارات كاملة المعاني، مثل قدري قاد بقرنا.. نوري ربـّانا، و : إلى متى يبقى البعير على التلِّ ؟ يبقى البعير على التلِّ حتى المساء ! ).
من بين كل هؤلاء الفرقاء، أية دولة أريد، أنا المتناهي في اللاأهمية عند صنّاع المصائر، رغم استبطاني، كما سواي من المواطنين الصالحين البسطاء، العديد من الأفكار المعينة على البناء، والكثير من إرادات الخير، والمزيد من احتمالات العطاء، لو فتحت أمامي أية كوّة متاحة أو ممكنة أو تنوزل عنها طوعا أو كرها.
دولة دينية ؟
كنت أسلـِّم قبل قليل، من بعيد، على الإمام عليّ بن أبي طالب. كان هذا اليوم ؛ الحادي والعشرون من رمضان، ذكرى استشهاده في محراب الصلاة في الكوفة بالعراق، العام 661 م. في سياق طقوس السلام على هذا الكوكب الإنساني الساطع، أتلو، في العادة، نصّا مأثورا، يدعى " زيارة ". في هذه " الزيارة " المروية عن الصحابي أسيد بن صفوان، والتي قال إنه وجمعا من الصحابة سمعوها من رجل جاء إلى المجلس باكيا وهو مسرع مسترجع، ثم طلبوه ولم يصادفوه، فيها عبارات جديرة بالوقوف عندها.
تقول العبارات : " كنت أخفضهم صوتا... وأقلهم كلاما، وأصوبهم نطقا... وأحسنهم عملا... كنت للمؤمنين أبا رحيما، إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ماعنه ضعفوا، وحفظت ما أضاعوا، ورعيت ما أهملوا... كنت كما قال عليه السلام ( أي النبي الكريم ) آمن الناس في صحبتك وذات يدك... الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، والقريب والبعيد عندك في ذلك سواء. "
تأملت هذه الكلمات الرائعات طويلا، وبدا لي، أن دولة هذا الرجل، هي الدولة التي أريد، بغض النظر عن أي مسمى.
فإذا قال القائل : تريد " دولة إسلامية " إذن ؟ قلت : ليس بالضبط. ففي دول تحمل هذا الاسم، كان الحاكم فظاً غليظ القلب، كاد الناس أن ينفضوا من حوله، لفرط قسوته على أعضاء " مجلس قيادة الثورة " من الصحابة والتابعين، فمابالك بالطبقات الشعبية ! يهوي على رأس هذا الصحابي الجليل بالدرّة، أي العصا، ويهين ذاك بالكلمة والشتيمة لخلاف في الرأي لا أكثر ولا أقل.
وإذا قيل : إذن تريد " دولة شيعية " ؟ أجبت : و لا هذه. ففي العديد من دول الشيعة، ماضيا وحاضرا، أ ُهين حتى الشيعي، ناهيك عن عموم المسلم، لخلاف فقهي محض، أو للاشيء غير الهوى والهوس، وهـُتِفَ ضده بالموت، بدعوى تضادّه مع " الوليّ الفقيه ". بل دفن جثمان الفقيه عند المراحيض، في عهد الفقيه !
واستطرادا، كم أدهشني – في سياق التجربة الإيرانية – اليوم، ماذكره عطاء الله مهاجراني وزير الإرشاد الإيراني السابق، في مقال، عن منع إحدى رواياته. فرغم أن الرجل كان انفتاحيا بالفعل، في عهد وزارته، حتى طبعت مئات الكتب بإجازة سريعة منه، بعد أن بقيت مخطوطاتها تندب حظها سنينا، في أدراج من سبقوه، لكنني إن أنس لا أنسى ذلك المقال المذيـّل باسم مستعار، في العمود الشهير " نقد حال " في جريدة " إطلاعات "، تحت العنوان المتهكم " نطق تركي ؟ " ومعناه " خطاب بالتركية "، تشنيعا على كلمة بالتركية الآذرية للقاضي الإيراني السابق خلخالي في مجلس الشورى ( النواب )، ألقاها للتنديد بهجوم دبابات آخر رئيس سوفياتي ( غورباتشوف ) على المواطنين العزل في باكو عاصمة أذربيجان قبل استقلالها. عمود الجريدة، وكاتبه رئيس تحريرها، الوزير السابق مهاجراني، كان يمارس عنجهية عنصرية، في بلد تأتي فيه القومية التركية الآذرية في المقام الثاني من حيث التعداد، بعد القومية الفارسية. كما تدين تدان، قالوها من زمان !
ولو قيل : تريدها " ديمقراطية " إذن ؟ قلت وفي حلقي مرارة، ليس في وسعي وضع علي بن أبي طالب في مصاف بوش و بلير وشيراك وميركل. لكن إذا استبعدنا التقنين للقوم الذين يرتكبون الخبائث و تفاصيل مخزية أخرى أدنى أهمية وتأثيرا ؛ أفليس في المنظومات القانونية للعالم الغربي العديد من عوامل التناغم مع إنسانية النموذج العلوي ؟
الدولة التي أريد، لا أبحث لتأطيرها، في بطون الكتب. ولا أجد لزاما على نفسي تبويبها في خانة معينة. فلست بكاتب مقاول، يبيع " اللبرلة " الزائفة في عين تجهًّمه القبلي، صباح مساء، في سوق الوراقين، و ليست، هي، معنية بالتنظير والتأصيل والتفلسف الخالي من المضمون والشكل في آن. ظلال جون لوك ودزرائيلي ثقيلة عليها. و توجزها كلمة مختصرة وواضحة : دولة إنسانية.. كريمة. دولة تربي مواطنيها على قيم احترام الآخر، خصوصياته، حقوقه، كرامته، الحيـِّز النفسي والهالة الشخصية اللذين يحيطان به، ويمنعان، بقوة القانون وردع البوليس، كل متطفل من المساس بهما.
دولة إنسانية.. كريمة، إذا عاد بي الزمن أربعين عاما إلى الوراء، وقـُيـِّض لي أن أعيش في كنفها، وجدتني جالساَ بأدب جمٍّ، بصحبة عدد من أقراني الدمثين، على قنفة ( كنبة ) في احتفال عام، ننصت بخشوع لآي من الذكر الحكيم، ثم لا نباغـَت برجل عبوس قمطرير، يوزع علينا أقذع الشتائم، قالبا بنا الكنبة، مهويا على أقفيتنا بالضرب المبرح، غامرا إيانا بسيل من الإهانات، لأننا احتللنا مكانا، لا يجوز لصغار أن يشغلوه، حتى لو كانوا هادئين، خلوقين، مؤدبين ومجتهدين !


عيون الكلام : سعيد فريحة : طوبى للقلم، فمامن مرة لجأت إليه، إلا كان معيني على تفريج كربتي، وتحويل ظلامي إلى نور، ويأسي إلى رجاء.

علاء الزيدي
[email protected]