العراق: عشرة آلاف موقع أثري ومليون لص

GMT 9:00:00 2006 الجمعة 29 ديسمبر

عدنان أبو زيد

[align=justify]
عدنان أبو زيد من امستردام: أثناء سقوط بغداد ودخان المدافع لما يزل في السماء بعد، تسلل عراقيون خلسة الى قاعات المتحف العراقي الذي يضم أكثر من 170 الف رقيم. وكانت ثمة سيارة بيكب تنتظرهم في الخارج، وخلال ساعة كانت السيارة قد امتلأت بالاثار لتنطلق الى جهة مجهولة.


سرقة جماعية

ولاغرابة في ذلك فاغلب الدوائر الحكومية في بغداد تعرضت الى عمليات سلب ونهب من قبل مواطنين عراقيين وليس من قبل شبكات اجرامية منظمة، فمن سرق كرسيا في دائرة ¸ تحين الفرصة فيسرق قطعة اثرية وهذه اغلى قيمة وأخف وزنا من الكرسي بالتأكيد.واظهرت شاشات الفضائيات العربية والأجنبية عراقيين يحملون القطع ويهربون بها واخرين يقومون بتحطيمها.

وكان فندق الرشيد الفندق الاكثر شهرة في بغداد قد نهب واضرمت النار فيه وسرق عدد من اللصوص الاثاث بعدما اقتحموا بواباته واخذوا منه السجاد واجهزة التلفزيون وقطع الاثاث وحملوها في حوالى خمس عشرة سيارة اوقفت في الموقف التابع للفندق.

[align=center][/align]

وفي سوق الرصافي اطلق التجار النار في الهواء امام متجر لبيع الملابس مكون من سبع طبقات بينما فتح التجار في السوق العربية نيران رشاشات الكلاشنيكوف على مجموعة من السارقين كانت تتقدم نحوهم. وشوهد عدد من الشبان يحملون قضبانا حديدية يطاردون اشخاصا حاولوا الاستيلاء على بضائع.
وقتل جنود اميركيون في شارع الرشيد التجاري الشهير تاجرا لدى محاولته الدفاع عن محله التجاري وكانت جثته ممددة داخل محله وتمت تغطية راسه بكيس. وكان التاجر محمد البرهيني (25 عاما) يسعى إلى حماية محله من مجموعة من اللصوص كانوا يريدون سرقة السلع الموجودة فيه بواسطة رشاشه من طراز كلاشينكوف.


السرقة تنقل على الهواء

وفي متحف الاثار العراقي كان حوالى عشرة لصوص يعملون على سرقة الموجودات من قاعات المتحف الذي اصبحت مكاتبه الادارية فارغة تماما، وعلى الارض كانت هناك تحف من الفخار وتماثيل محطمة تبعثرت على الارض وصناديق خشبية فارغة. ثم ما لبث ان خرج رجلان من المتحف وهما يحملان بابا اثريا من احدى القاعات الواقعة في الطابق الارضي.
وقد صورت فضائيات عربية واجنبية المشهد، واثار التصوير الحي للصوص داخل قاعات المتحف الوطني اهتمام الرأي العام.



قصص حية

يقول سليم الخفاجي في حوار مع إيلاف وهو من سكان منطقة الصالحية ويعيش في المانيا : رايت بام عيني اصدقاء لي يحتفظون بقطع الاثار في بيوتهم ويتحينون الفرصة لبيعها لتجار الاثار، بل انهم يبحثون ليل نهار عن شبكات التهريب لعقد صفقة معها.

اما القول ان شبكات تهريب منظمة قد سرقت الاثار فهذا محض افتراء وتلفيق. ويضيف سليم : مواطنون تحولوا الى مهربين واغلبهم باع بضاعته في شمال العراق لاتراك وايرانيين.

وأبو حمزة (وهذا أسمه الحركي ) مهرب عراقي يعمل بين الحدود العراقية الاردنية، وسعر تهريب الشخص الواحد من العراق للاردن هو 200 دولار، ويعرفه العراقيون في الساحة الهاشمية بعمان، لكنه بعد سقوط بغداد هرب كمية لابأس بها من القطع الاثرية، ليستقر به المقام الان في دولة اوروبية، ويقول ابو حمزة ان اغلب الاثار التي هربها كانت تتداول بين العراقيين كتجارة بيع وشراء، وان اغلبهم كان حائرا وخائفا في كيفية بيع هذه الذخائر النفيسة، بل ان بعضهم باعها بثمن اقل من قيمتها الحقيقية. ولكن كيف يتم تهريبها الى اوروبا : يجيب ابو حمزة ان تهريبها يتم بالاتفاق مع موظفين في المطارات مقابل مبالغ مالية.

[align=center][/align]

وتشكل سرقة اثار المتحف العراقي تراجيديا ثقافية كبيرة منذ الحرب العالمية الثانية، والمشكلة ليست في المتحف العراقي فحسب بل في عشرات المواقع الاثرية التي طالتها عمليات السلب والنهب.



لصوص المقابر

وليس خافيا ان لصوص مقابر عراقيين يقومون باعمال التنقيب بالمعاول على ضوء مشاعل الكيروسين على أطراف سهل الفرات جنوب بابل ويسرقون تحفا مدفونة منذ 5000سنة. وقبل أن يحدد أثريون مواقع التنقيب في سهل النهر يكون اللصوص قد عاثوا فسادا في قصور ومعابد ومقابر لحضارات تضرب في عمق التاريخ.

وغالبا ما تحدث هذه العمليات في الليل بعيدا عن اعين السلطات، خصوصا في مواقع الاثار النائية في بابل و سومر واور في الناصرية حيث مستوطنة دوبروم السومرية بالقرب من قرية ضاهر، و تقوم جماعات تتعاون مع البدو بحفر المواقع واستخراج الاثار وبيعها للمهربين. واصبحت هذه العمليات معروفة للشرطة التي تلقي القبض بين الفينة والاخرى على اشخاص، وفي زمن الرئيس السابق صدام حسين القي القبض على عصابة تهريب اثار في محافظة بابل واودعت السجن. وبام عيني رأيت تمثالا بحجم اصبع اليد وعليه نقوش سومرية احتفظ به رسام عراقي، كان قد اشتراه من البدو بثمن مناسب، وهو يتحين الفرصة لبعيه بثمن جيد. وحين سألته عن مصدر هذا التمثال قال انه حصل عليه من بدو يأتون للتبضع الى المدينة وابدله معهم بخاتم ذهبي.

ويقول عبد الامير حمداني الذي كان مديرا للاثار في محافظة ذي قار وهو يمسك ببقايا اناء من الفخار يرجع الى عام 1800قبل الميلاد تقريبا ان اللصوص قد تركوها لاعتقادهم انها لا قيمة لها.

وقد بلغت الحالة من الخطورة بمكان ان اليونيسكو اعلنت ان اعمال السرقة والنهب تطال الكثير من المواقع التي تعود إلى فترات تاريخية متعددة في بغداد وبابل وسامراء واور ونينوى ومدن تاريخية اخرى ما زالت وحتى هذه اللحظة تتعرض لعمليات نهب وتخريب مستمرين

وكان علماء الآثار الانجليز والأميركيون هم أول من نقب في مدينة ( أور) مولد ابراهيم وإحدى أقدم وأهم مدن العراق الأثرية تبعد 16 كيلو مترا جنوب الناصرة عام 1918.
ونقل عالم الآثار الانجليزي (ليونارد وولي) عام 1922 آثار أور من مجوهرات وفخار إلى متحف بغداد.

كتاب يروي أسرار نهب المتحف

وليم بولك اكاديمي اميركي ألف كتابا يروي تفاصيل مثيرة عن سرقة المتحف العراقي ويقدم الكتاب وصفا شاملا لما حدث في نيسان (ابريل) 2003،
ويروي الكتاب كيف ان القطع الاكثر قيمة من الناحية التجارية كانت محفوظة في سرداب ابوابه مصنوعة من الحديد الصلب السميك، لكنها فتحت او فجرت،
ويضيف : ثم ما لبث ان اندفع البعض الى داخل البناية، فقراء ومجرمين متمرسين ومحترفين ومواطنين عاديين، الكل اندفع الى القاعات وكان العالم يتفرج على المشهد.

[align=center][/align]

ويضيف الكتاب ايضا : ان المعارك اشتدت حول المتحف حتى التاسع من ابريل وليس حتى السادس عشر منه، حيث وضع الاميركيون المتحف تحت حمايتهم الدائمة، فمن العاشر من ابريل وحتى الثاني عشر منه كانت بناية المتحف مفتوحة للجميع وخلال هذه الايام الثلاثة تمت عملية السلب والنهب لمحتوياته، حينئذ قدر عدد القطع المنهوبة او المحطمة بـ 170 ألف قطعة.
ولم يكن ثمة شك ان مواطنين عراقيين قد دخلوا المتحف، واخذوا ما خف وزنه وغلى ثمنه، والدليل ان بعض المواد غير الاصلية كانت قد سرقت ايضا.

كما سرق جنود اميركيون بعض القطع والتماثيل واخذوها معهم الى الولايات المتحدة.


بيوت في بغداد.. دكاكين لبيع المقتنيات الاثرية

وتقول ام أحمد (عجوز عراقية) لكاتب المقال : رأيت شبابا وصغارا يحملون القطع الاثرية، وكانوا يرغبون في بيعها بثمن بسيط، لكن الامر اصبح سريا بعد الضجة التي اثارتها وسائل الاعلام حول سرقة الاثار العراقية.
وتضيف ان بيوتا عراقية بعينها كانت تحتفظ بالاثار وتبيع لمن يشتري لكن الامر اصبح سريا بعد فترة، ويقول الدكتور داني جورج (كان مديرا للمتحف العراقي ) في حديثه لقناة الجزيرة الفضائية انه رغم اندفاع اللصوص خلال الاروقة الرئيسة والمخازن يسرقون ويدمرون كل ما يقع تحت ايديهم فان حجم المفقودات هذه قد بلغ حوالى 15 ألف قطعة، وان اكثر القطع اهمية قد تمت استعادتها رغم ان اكثر من خمسين في المئة مما فقد لم يزل مجهولا، اما تقديرات المتحف البريطاني فتقول انه لا تزال هناك خمسة عشر ألف قطعة مفقودة.

ويصنف الدكتور داني الجماعات التي دخلت المتحف عنوة الى ناس عاديين، دخلوا الى المتحف مثلما دخلوا إلى كل دوائر الدولة.. أخذوا ما أخذوا من أثاث وأجهزة ومعدات وحاسبات.

[align=center][/align]

ومجموعة اخرى دخلت إلى قاعات المتحف العراقي. و مخازنه ولديها معلومات دقيقة عن الأماكن التي دخلتها، وهي على دراية جيدة بالآثار أيضا. وهي مهيأة للدخول إلى هذا المكان.
وحدث الامر ذاته في متاحف الموصل وتكريت والبصرة والمتحف الملكي في قصر الزهور وكلها سرقت من قبل مواطنين عاديين.

أهم المقتنيات المسروقة

ومن القطع الثمينة المسروقة تمثال ملك سومري اسمه "انتمينا"، مصنوع من الحجر الأسود. وكان إناء الوركاء النذري قد سرق ايضا لكنه استرجع، وهو إناء أسطواني الشكل، وعليه نحت بارز من الفترة السومرية، وعمره في 3200 سنة قبل الميلاد، وهو من القطع المهمة جدا في تاريخ الفن البشري، وقام بارجاعه أحد المواطنين.وهذا دليل على ان الكثير من القطع تتداول بين الناس.
وكان وجه الفتاة أو سيدة الوركاء، يتداوله العراقيون من بيت الى بيت وهذه قطعة ثمينة عمرها 3200 سنة قبل الميلاد، ويقول عز الدين لايلاف إن القطع وقعت بايدي أشخاص غير محترفين لمهنة تهريب وبيع الاثار، ولهذا ظلت اثار كثيرة تنتقل بين البيوت، ومنها وجه سيدة الوركاء، ولو وجد أحدهم منفذا لبيعه لفعل ذلك على ارجح تقدير، الا ان اخرين كانوا ينصحون باعادة القطع المسروقة لانها تسجل تاريخ العراق، وان بعضهم احس بالذنب واعاد ما بحوزته من قطع.
ونهبت من المتحف ايضا تماثيل لملوك حكموا العراق في فترات تاريخية، كما نهبت ألواح حجرية منقوش عليها كتابات مسمارية وقلائد تعود إلي عهد السومريين والبابليين.
ونهبت ايضا تماثيل مجنحة وعربات حربية مبطنة بالنحاس والألواح التي نحتت في العصر البابلي وكذلك تماثيل للإلهة 'عشتارت' التي تقوم فيها بتنصيب الملك على العرش، وتماثيل عديدة للمعبودات وكميات من المقتنيات المصنوعة من الذهب والرصاص.
وقطع عراقيون من بغداد تمثالاً منحوتاً من العاج يرمز الى الحقبة الاشورية (2000 عام قبل الميلاد) الى قطع صغيرة، والقي القبض عليهم في معبر الكرامة الاردني على الحدود الشرقية مع العراق..

ومن القطع المنهوبة ايضا لوحات الأدب البابلي ومجموعة نادرة من الملاحم والاساطير ومنها ملحمة 'جلجامش' وكانت على لوحات من الرخام.


مقتنيات صدام بحوزة صحافي صيني

كما سرق لصوص تمثالا برونزيا للرئيس العراقي السابق صدام حسين بزي عسكري، وهو يمتطي صهوة جواد، وهو بارتفاع 12 قدماً، ووزنه سبعة اطنان، وسرقه صحافي استرالي في وضح النهار، على ظهر شاحنة في ايار 2005، حيث اراد العودة الى بلاده وفي حوزته تذكار من الحرب التي غطاها، لكن الحظ لم يسعفه.

وضبط عدد كبير من اوسمة ومقتنيات تعود إلى صدام على جسر الملك حسين، الذي يربط الاردن بالضفة الغربية، مع صحافي صيني كان في طريقه الى بلاده ويقول انه اشتراها من عراقيين.


واخرون يسرقون

ويرمي البعض تهمة سرقة الاثار العراقية على اليهود، طبقا لنظرية المؤامرة التي يتخذها البعض وسيلة لتسويغ الخطأ والضعف، غير ان نسخا من التوراة مكتوبة على جلد الغزال عمرها 200 عام لم تمسها يد السرقة.

وفي عهد الرئيس السابق صدام حسين، كانت ثمة عمليات سرقة منظمة أشرف عليها رجال يحيطون بصدام، وذاع صيت ارشد ياسين لاعبا اكبر في تجارة تهريب الاثار العراقية، وما حديث الطائرة المبرّدة السودانية ببعيد التي كانت تأتي باللحم السوداني " كمساعدات للشعب " وترجع بعشرات القطع الاثارية مخبأة داخل ثلاجتها لتحول في ما بعد الى بورصات التجارة الممنوعة.

فتوى تحريم

ويبدو ان بعض العراقيين اليوم قد استندوا الى افكار دينية وفتاوى في ما يتعلق بالاثار ومواقعها، فالبعض يعتبر هذه المواقع ومقتنياتها مواضع كفر ولايجب احترامها او الاقتراب منها، وهم بذلك يسوغون اعمال السرقة التي تطال هذه المواضع.
ويقول محمد عارف من الحلة لايلاف انه سمع فتوى بتحريم التماثيل وتعذيب النحاتين وعدم زيارة مواقع الاثار لانها مواضع كفر.

وليس ثمة شك في ان عمليات التهريب ستستمر طالما بقي الامن غائباً في العراق، فهناك 10 آلاف موقع اثري مسجل رسمياً حتى الآن، تحوم حوله ذئاب الاثار البشرية. ولاغلو اذن ان يوضع العراق على قائمة الدول الـ 100 المهددة آثارها بالضياع.


[email protected]

التحقيق منشور في ايلاف دجتال يوم الجمعة
[/align]