[size=4]أضحوكة العالم المثالي - رواية / 1
كتابات - حسين كاظم الزاملي
قصة السجين العراقي في عهد صدام
الإهداء
إلى كل من عرف ( ملك الرعب في بغداد) ... وقال له (كلا) وتحمل أعباء ذلك.
إلى خديجة .....
عزيزتي : موضوعية الأشياء كنت أعرفها ولا زلت أتذكر شيئا منها إلا إنني وجدت نفسي في عالم لا أفهم منه أي شيء ، أبدا لا أفهم منه أي شيء ، سوى إن صورتك وكلماتك القديمة جدا والمتجددة في كياني تدفعني في مواصلة الطريق ، لكم تمنيت أن أراك حتى أخبرك عن مرارة تلك السنين ووحشة الطريق ومأساة ذلك الزمن الذي لا أعرفه.
التوقيع
إبراهيم رشاد
الفصل الأول .....
ـ 1ـ
هو هكذا في ساعات الصباح الأولى كأنه الزعيم المنتصر في تلك الدروب المضاءة بقناديل الانتصار الأخير والمتعبة جدا من مراقبة الطريق.
هكذا بدا السيد يوسف شمران في هذا الصباح ، وكل صباح مضى من كل أسبوع يجري تدريباته المكثفة في الساحة التي استحدثت أخيرا ، الساحة القديمة والتي كانت تسمى ( ساحة التحدي ) تبعثرت بعد أن بني في مكانها غرف لا يعرف ما بداخلها ، لباسه الشخصي كان دوما يثير بعض التساؤلات خاصة من أولئك الجنود الجدد والذين كانوا يجهلون واقع تلك الغرف البعيدة جدا و ماذا يمكن أن تضم ، لهذا تراهم يقضون معظم أوقات فراغهم في صراع مع تصوراتهم المضطربة حول ماذا يجري هناك ، ولأنهم مستجدون تماما سيحتاجون قليلا من الوقت حتى يفهموا بقية الأشياء المنتشرة هنا وهناك ، إلا في هذه الساعات فأن بدلته العسكرية تقتل موجة التساؤلات تلك والتي تشبه إلى حد بعيد رائحة الباذنجان المقلي حينما يبث من أماكن الطبخ الأخيرة ، قبعته الحمراء أخذت مكانها فوق رأسه المتخم من طوابير الأمنيات ومجاميع الأحلام وموهبة الابتكارات الجديدة في سحب المعلومات و التي يرتعد منها المنتظرون هناك أي في تلك الغرف البعيدة جدا عن مركز القرار.
هذه القبعة مخصصة ضمن القانون العسكري هنا إلى فن التدريب الأسبوعي الصباحي ، ومع أن الشمس ما زالت حتى هذه اللحظة الحرجة في مسار التدريب مختفية بخيمة الأفق البعيد ، إلا أن السيد شمران تراه وقد وضع نظارته السوداء على عينيه المليئتين بتطلعات المستقبل الغامض لديه ، ربما وضعها لتحجب عن عينيه الزرقاويتين بعض الأتربة التي تثار من هرولة الحرس الخاص والذي كان يصرخ بكلمات كلها تؤكد أن لا هروب من هذا الصرح وأن الجميع فداء للسيد الرئيس.
قديما جدا أي حينما كان البريطانيون هنا ، كانت إنارة الصرح تنتج من مولدات بيركنز العملاقة ، كان منها ما هو مخصص لليل ومنها ما خصص للنهار ، اليوم الإنارة مركزية تصل إلى الصرح عبر خط كهربائي عملاق هو بحاجة إلى صيانة من اجل أن يبقى يغذي الصرح بما يحتاجه من كهرباء، إما تلك المولدات فأنها ظلت مرمية هناك كقطعة تاريخية تذكر الجدد ، أي الضباط الكبار أو الصغار ، وليس السجناء لأن السجناء لا يتسنى لهم ان يروا تلك المولدات كونها في زاوية لا تصل إليها أعين المارة من السجناء الذين يخرجون لأي سبب كان ، عموما تذكر الجدد ان البريطانيين هم أول من وضع أقدامه هنا وانشأ تلك الغرف الغامضة ، الإنارة تلك موزعة بشكل دقيق ومدروس على جميع الأبراج خاصة عند أبراج المراقبة الداخلية أو الخارجية.
في أيام الحروب الطويلة ، وحينما كان الطيران المعادي للسيد الرئيس يجوب السماء باحثا عن أهدافه كان هنالك من يأمر بإطفاء تلك المصابيح تحسبا لكل شيء.
يوسف ومنذ أن أتى أي قبل سبعة أعوام كانت أوامره تمتاز بالشدة والصرامة خاصة حينما يتعلق الأمر بتمارين تعقب الهاربين من هذا الصرح الرهيب .
هذا الرجل العنيد يتناسى دوما أن إمكانية الهروب مستحيلة ، فهو يؤكد في محضر اللقاءات الصباحية بل وحتى المسائية على ضرورة إتقان تمارين تعقب الهاربين .
ــ علينا أن نكون على أتم استعداد لتعقب هؤلاء المجرمين ، إنكم أمام تحدي جاد وهو أبقاء هؤلاء الأعداء ، أعداء السيد الرئيس في تلك الزنزانات أنها مهمة كبيرة إذا علينا أن نتقن ذلك.
ــ نعم سيدي ... عاش القائد عاش القائد عاش القائد.
هكذا كانوا يصرخون ودوما هذا جوابهم على كلمات السيد شمران ، حينما تشاهد تلك السرايا من بعيد تقسم أنها لن تهزم أبدا في يوم ما ، كان الجميع مثابرا تماما مثلما يثابر المرء في بناء بيته ، كانوا يصرخون دوما عاش القائد عاش القائد.
طيلة ذلك الزمن الممتد لم تحدث أي عملية هروب ، البعض يتحدث عن هروب مبرمج قام به بعض السجناء بمساعدة اثنين من الحرس ألا أن سجلات الصرح لم توثق ذلك ، قبل سنوات اعدم يوسف اثنين من الحرس وأكد للداخلية يومها عن استحالة أي هروب وبعد شهرين وجد الحرس ست جثث متعفنة في وادي منعزل وهناك من يسميه بوادي الفقير وهو وادي يبعد ستون كيلو مترا عن الصرح تنتشر فيه أدغال العاقول بكثافة وقد أكلت الذئاب منها الشيء الكثير ولم يبق إلا ما يدل على كونهم سجناء فروا بلحظة ضاحكة على أقدارهم.
الصرح هذا عبارة عن نقطة ضائعة في بحر مترامي الإطراف من الرمال والتلال والعواصف الرملية ، في بعض الأحيان تصل المؤن الغذائية عن طريق المروحيات ، أحيانا بواسطة (مي 8) وأحيانا بواسطة ( السوبر فرليون ) ولكن في معظم الأحيان عن طريق البر وعبر ثلاثة طرق ترابية طويلة ومتعرجة ومؤمنة من قبل وحدات عسكرية متنقلة ، حيث كلفت عشرة شاحنات عملاقة من نوع مرسيدس و فآلفو تابعة ملكيتها لوالد زوجة السيد الرئيس والذي يطلقون عليه في كل مكان (الحاج) ، وهي مكلفة بإيصال ما يحتاجه الصرح من مواد ، أربع منها خصصت لنقل السجناء وتمتاز عن غيرها ببعض المواصفات ، مثلا هناك حلقات مثبته في أرضية الشاحنة تشبه القيد يقيد فيه السجناء حينما ينقلون.
أقرب نقطة يمكن أن تسكن من قبل تلك الحشود البائسة ( كما راق للشاعر الايرلندي وليم هوت والمودع في أحدى زنزانات سجن الجالية أن يسميهم ) هي مائتان وعشرون كيلو متر تقريبا عن مقدمات الصرح والتي هي متشعبة وكثيفة .
في عهد السيد شمران المدير الرسمي لهذا الصرح تشاهد أن السجناء ما عادوا يحلمون في الهروب ، يحلمون وليس يفكرون ، إذ أن مجرد التفكير في الهروب يجعل من السجين يواجه سخرية من أصحابة إذ عليه ان يقطع مئة كيلو هرولة دون ماء ودون أي إعانة من أي شخص وعليه ان يجتاز خطوط الحماية العسكرية المنتشرة على بعد خمسة وعشرون كيلوا وبشكل مستدير ، في هذا العهد تلاحظ ان الوفيات كثيرة وكثيرة جدا ، طيلة الأعوام السبع التي انتهت حدث ما يقارب على عشرة ألاف ومئتي حالة من حالات الوفاة ، وفيات السيد شمران تختلف كثيرا عن سابقيه ، لقد جعل السجناء يحنون إلى الماضين من الذين تولوا هذا السجن قبل شمران ولكم تمنوا أن يعودوا .
الجثث هنا ترمى دوما في شقوق كبيرة حفرت من قبل السجناء وكانوا يجهلون وهم يحفرونها صيفا أو شتاءا إنها ستضم يوما ما أشلائهم المتعبة ، أبدا لم يخطر ببالهم وهم يحفرون أنهم يحفرون قبروهم التي ستضم أشلائهم المتخمة من أثار التحقيق ، هناك وعلى المرأى البعيد بنيت المحرقة ، تراها وكأنها قطعة من القديم ، القديم جدا ، أحيانا تكون الوفاة نتيجة تسمم في الغذاء والذي يرمى لهم بوجبات قلقة ، أكبر حالة رصدت ويمكن لك أن تقرأها في سجلات الصرح هي تلك التي راح ضحيتها ألفان ومئتان وأربعة من ذوي القضايا المهمة على حد ما يسمونها هنا، اللجنة الطبية التي كان يقودها يوم ذاك الدكتور جوزيف نمرود عالجت عشر حالات فقط وتركت البقية مكدسين بعربات الموتى يدفعها بعض السجناء الذين يمتازون عن غيرهم بقضايا لا تمس السيد الرئيس وعائلته بأي صلة ولترمى في الشقوق البعيدة.
يوسف أنزعج من ذلك الحدث وقرر أن يقطع مرتب الدكتور نمرود لشهريين متتاليين .
- لقد تماديت كثيرا جوزيف ، لماذا لم تعالجهم بسرعة ؟.
- سيدي العدد كثير ثم أن هنالك نقص في المواد الطبية وقد أبلغت سيادتكم عن ذلك قبل شهر في طلب سلمته لمدير مكتبكم ثم أن هذه الحالة ذات ...
- هذا يكفى أذهب .
يتبع..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح2
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
في بعض الحالات تكون الوفاة بسبب التدهور الصحي الناتج عن تفشي أمراض خطيرة مثل تصلب شرايين القلب أوالتهابات المعدة الحادة أوقرحة الأثني عشري والسكري وفقر الدم أو التيفوئيد وأمراض ألكلى والربو أو التدرن الحاد والجرب وأمراض السعال والانتحار والتي هي قليلة جدا إلا أن معظم الوفيات تكون من برامج التدريب المركز والتي تُخصص لتدريب الحماية المركزية للسيد الرئيس وكذلك حماية أفراد العائلة الحاكمة ، حيث يؤتى بهم إلى هنا ليتقنوا فن الرماية على الأهداف المتحركة ، وكان السيد شمران يخرج بعض السجناء ويأمرهم بالركض إلى نقطة ما يحددها لهم زاعما أن الثلاثة الذين يصلون أولا سيطلق سراحهم ثم يوجه حماية السيد الرئيس ممن هم تحت التدريب بنادقهم بأوضاع مختلفة على أولئك السجناء الذين يهرعون بكل ما أوتوا من قوة ليصلوا إلى خط النهاية حيث يتوقف الرمي عليهم ، الذين كانوا يهرعون بكل ما أوتوا من قوة ليس لديهم أي تجربة في هذا المجال أي أنهم لم يخرجوا من قبل إلى هذا التمرين القاتل ، في المرة القادمة سيموت لديهم ذلك السؤال الذي كان يضج بأعماقهم وهم يهرعون وهو لماذا هؤلاء الشيبة يتباطئون في الركض ، في المرة القادمة سيكونون كذلك هناك قول من الذين خرجوا أربعة مرات في هذا المسلسل ولم يموتوا ، وهي خبرة لا يستهان بها أبدا ، يقولون إن الحرس يستهدف من يركض بسرعة ، وأمام هؤلاء بقيت مرة واحدة حتى يحصلوا على ألامان الرئاسي ، الذي يخرج خمسة مرات ولم يمت سوف لن يرى الأهداف المتحركة بعد ذلك ، لن يرى ذلك أبدا ، هكذا كانت توجيهات نجل السيد الرئيس الأكبر حينما زار الصرح قبل أعوام وأراد أن يرى السجناء وهي كلمة تعني في عرف السيد شمران إنه يريد أن يتدرب على السجناء وهم يهرعون في الساحة الكبيرة ذات الشواخص الكثيرة
ــ أمرك سيدي سوف أخرج لك مجوعة لتراها .
كان يضحك بينما راح مساعد شمران يخرج له أعدادا لا بأس بها ليسدد عليهم وهم يركضون من هذا المكان إلى ذلك المكان ، يومها قال للسيد شمران ذلك القرار.
ــ أي سجين يخرج خمس مرات ولا يصاب، لا تخرجوه إلى الرمي بعد ذلك وله ألامان من الرمي إنه أمر.
ــ أمرك سيدي سينفذ من الآن.
وكان شمران يسمي ذلك العمل ببرنامج الأهداف المتحركة وهو مصطلح خاص بيوسف ولم يثبت في مصطلحات الداخلية الكثيرة والمتشعبة ، الذين لم يقتلهم رصاص الحماية يرجعونهم الحرس بأهازيج وهتافات تحي السيد الرئيس ، في معظم الحالات يعودون بهم إلى غير زنزاناتهم التي أخرجوهم منها أول مرة ، هذه العمليات واختيار الأهداف المتحركة من الزنزانات يشرف عليها المقدم قحطان ، وهذا لا يكون إلا حينما تكون هنالك وجبة حماية جديدة أو تنشيط وجبة حماية قديمة أو أعادت تدريب وجبة لم يقتنع الضباط الكبار بأدائهم ، حينها يأتون بهم إلى هنا من اجل إتقان عملية التصويب على الأهداف المتحركة.
يوسف هذا يمتاز إضافة إلى تلك المميزات القاهرة بوسامة وجهه خاصة حينما يكون في ساعات هدوئه وهو يشرب الكلاريت الفرنسي، كان يمتاز بطول فارع وعينين حادتين وخبرة لا بأس بها في مضمار الحرب النفسية.
الحقيقة إن السيد شمران لم يدرس ذلك العلم ولا تسنى له أن يقرأ كراس مهني صغير، هو يعتقد أن له أسلوبه الخاص والذي أخذه من الواقع والعمل المتواصل وهو يرى أن أسلوبه في تطور، كان يعمل قبل ذلك المنصب ضابطا أمنيا كبيرا في سفارة الحكومة في كوبا وقد لعب دورا مهما في تصفية بعض الناشطين من أعداء السيد الرئيس قبل التحاقه بكوبا ، ألا أن خلافه مع أحدى عشيقات الابن الأكبر للرئيس أوصله إلى هذا المكان البعيد جدا عن ليالي العاصمة الحمراء ، قبل ثلاثة أيام دخل في السنة الخامسة والأربعين من عمره ولم يحتفل بذلك اليوم لأنه لم يكن يعلم بذلك ، ومع كون التدريب أسبوعي وليس يومي ألا إن طرقه مزعجة ولكن لا مناص من التسليم بذلك ، فالجلوس وحسب أوامر شمران الأخيرة يجب أن يكون قبل الشروق بساعة حيث برنامج التدريب الرياضي الذي يستمر عادة حتى احمرار الأفق ، عندها تكون هنالك استراحة لمدة ساعة يتسنى من خلالها للجميع أن يتناولوا إفطارهم الصباحي ، بعدها تبدأ تمارين حماية السجن حيث يوزع الجميع إلى سرايا وصفوف يستمر هذا إلى أربعة ساعات في أسوء حالاته .
السيد شمران هو الشخص الوحيد الذي يتمتع بصلاحيات إنهاء وقت التدريب الأسبوعي وكعادته يومأ بعصاه أشارة منه لإنهاء تدريبات هذا السبت ألا أنه يشدد على معاونه رجب غالي في زيادة الحراسات الأمامية.
ــ عليك بزيادة تواجد الحرس في البوابة الأمامية والمدرج وبلغ الجميع أن يكون في زيهم العسكري وحتى الذين ليس لديهم واجب فربما يزورنا رجل مهم هذا الصباح ، مفهوم.؟
ــ نعم سيدي .
هذا ليس ادعاء من السيد شمران فقبل قليل وصلت رسالة عبر جهاز اللاسلكيي وبلغة مشفرة تخبر السيد شمران عن قدوم صقر كبير ونزوله في الصرح ، الزيارات نادرة هنا فقد مضت ثلاثة أعوام دون أن يأتي مسؤول مهم لهذا ترى السيد شمران أخفى هواجسه ومخاوفه وهو يكلم رجب وربما تذكر خلافه مع السمراء رابية العشيقة الأولى لنجل السيد الرئيس ، وأيا كان المسؤول وما يحمله فقد استعد السيد شمران لما هو مزعج وحزين.
الساعة الأولى ما بعد التدريب والإفطار يقضيها السيد شمران بتفقد الزنازين ، هذه الفقرة ذات طابع روتيني فالسيد شمران يحتاج إلى أربعة ساعات متواصلة حتى يتسنى له أن يمر على كل الزنزانات والمحاجر في موقع واحد من تلك المواقع الكثيرة والمنتشر كانتشار أزهار الأقحوان هنا والذي يفضي على هذه الآفاق المخيفة رائحة تشبه إلى حد بعيد رائحة الكافور ولطالما ذكرت السجناء بالموت ، وكان يوسف دوما يحتوي طلبات السجناء بالصياح والضرب ، حتى انه في الآونة الأخيرة ما عاد هنالك من يتكلم أو يطلب شيئا من شمران ، ذات يوم صرخ بالسجناء.
ــ لماذا لا تتكلمون أيها الحمقى مرة سبعة أشهر ولم أسمع طلب واحد يثير اهتمامي هيا تكلموا ما تريدون مني.
كان دوما يتكلم بهذا وذاك وكان يفشر كثيرا على السجناء ، كان يذكرهم بتلك الكلمات النابية جدا انه لا مجال للهروب وان نهايتهم ستكون هنا وكالعادة لا يوجد حرف واحد يعانق شفاههم المتيبسة ، أخر مرة أستمع بها السيد شمران كانت لسجين يشكو آلاما في ضرسه.
ــ سيدي أن ضرسي يؤلمني ولي شهر على ذلك وكنت أنتظر زيارتك هذه.
كان أسمه جعفر ومضى على خروجه من الانفرادي أسبوع فقط ، ولم يكن الانفرادي الذي خرج منه جعفر هو ذاك الذي يراه السجين حينما يدخل أول مرة وعمره عام ، أبدا لم يكن ذلك الانفرادي ، إنما كان عقوبة لأن أحدهم أتهمه انه كتب على الجدار كلمة نابية بحق ابنة الرئيس وحينما أرادوا أن يقرءوا الكتابة لم يستطيعوا ، لقد كانت حروفا متقطعة لا يفهم منها أي شيء ، دخل الانفرادي عاما كاملا لأن الحرس ظن انه كتب على الجدار كلمات تسيء إلى عائلة السيد الرئيس وكان قد مضى عليه وهو في الصرح سبعة أعوام ، قال يوسف وهو يضحك.
ــ رجب حاولوا معه إن ضرسه يؤلمه .
ــ أمرك سيدي سنحاول معه.
ألا أن رجب غالي لم يمر عليه كما وأن السجين ذاك استراح هو الأخر من آلام ضرسه بعد عشرون يوما من حديثه مع السيد شمران في مسلسل الأهداف المتحركة ، أصابته أربعة أطلاقات في ظهره وكان قد صوبها عليه شاب صغير يدعى باسل ما زال تحت التدريب حيث كُلف وبعض الجند لحماية ابنة الرئيس الصغرى وهي تتجول في شوارع بغداد آو المناطق السياحية الأخرى.
يتبع إنشاء الله.....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ

أضحوكة العالم المثالي / رواية - ح3
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
كان السيد شمران دوما ينظر إلى السجناء من خلال الفتحة الصغيرة في باب الزنزانة واضعا منديلا على أنفه ليتجنب الرائحة النتنة جدا والمنبعثة من الزنازين ، كانت مساحة الغرفة الواحدة تبلغ ثلاثة أمتار في مترين يقطع منها متر كمكان لرمي الغائط وهو عبارة عن مرحاض صغير مستور بجدار على نحو المتر والنصف ارتفاعا ، وهناك حنفية بلاستكية بيضاء إذا تعطلت يصعب إصلاحها ولابد من تبديلها وهذا ما يحتاج إلى وقت طويل والى مطالبة جادة قد تستمر أربعة أشهر ، لذلك تشاهد أن السجناء كانوا يحرصون على سلامتها أكثر من أرواحهم.
بني هذا السجن الكبير أو الصرح على حد تسميات الحكومة قبل سبعين عاما وبالتحديد في أوج الاحتلال ( الكولونيالي ) للبلاد وتسيده على كل شيء ، كان هدفه تحجيم دور المعترضين على الوجود السياسي البريطاني ، يومها كان المعترضون ينتمون إلى جهات وطنية يقودها دينيون أو تجار أو أساتذة جامعيون وكانت تتمتع حركاتهم بأسماء كثيرة ، حينما اندلعت ثورة تموز في البلاد كان الصرح يضم شرذمة الأفكار المنحرفة والمتطفلة على الديمقراطية على حد مزاعم الحكومة والتي كان يقودها يوم ذاك رجل عسكري حكم البلاد سنوات قليلة في أعقاب تلاشي الدور الملكي ويكن له البعض ولا سيما المزارعون وضعفاء الناس في الجنوب حبا شديدا ويحفظون شيئا من كلماته والتي كانت تبث عبر المذياع ، يقولون انه قال ذات يوم ( أنا أخر عراقي يشتري بيت) كما وينسبون إليه انه ذات مرة دخل إلى شارع الخبازين فرأى خبازا قد علق صورته وكانت كبيرة جدا ولما نظر إلى الرغيف رآه صغيرا جدا فقال له ( صغر الصورة وكبر الرغيف ) وهناك أحاديث كثيرة يتكلم عنها الناس.
مجيء البعث وتسيده في البلاد عنى أشياء سيئة كثيرة وكثيرة جدا ولكن ليس لأولئك الذين افترشوا أرصفة العاصمة حيث العتمة وممنوع الوقوف بدأت تدب في كل مكان ببطء شديد ، ليس لأولئك الذين افترشوا الأرصفة يبتاعون أي شيء ليسدوا به حاجاتهم أمثال الكتب القديمة والمجلات المبتذلة وصور لممثلات عربيات وأجنبيات أجسامهن شبه عارية ويتهافت عليها المراهقون ليعلقوها بأماكن عملهم وهم ينظرون إليها كل لحظة ، ولا لأولئك الذين وقفوا طوابير بائسة أمام ملهى كوكب الشرق أو خمس نجوم أو الصباح ينتظرون أن تفتح الأبواب ليتأملوا في الساقين النحيفتين للراقصة سوزان أو الممتلئتان جدا للراقصة ربى و لا لؤلئك الذين يتسكعون في شارع أبي نؤاس يأخذهم الشروق ويأتي بهم الغروب ضربا في الأحلام المريضة ولا لؤلئك الذين يضربون بشق الأنفس في الأراضي الوعرة في الجنوب من أجل أن تنتج شيئا وهي تأبى ذلك ، هؤلاء كلهم ودون أن يشعروا سيكون عليهم لزاما أن يدفعوا ضريبة هذا التسلل الأخير والمخيف جدا والذي ولد وهم في غفلة منه ، سيحاولون لا حقا أن يجدوا ملاذا من سطوت الأيام القادمة وعبث الأقدار، سيحاولون طويلا ولكن أخيرا سيكون عليهم التسليم بما يريده السيد الرئيس ، ليس لهؤلاء تماما بل لأولئك الذين أدركوا إن هذا التحول السريع سيكلف البلاد كثيرا وسيجعلها تعيش أسوء اللحظات والسنين.
من الأشياء الأولى التي طرحتها ثورة البعث هي ترميم هذا الصرح وتوسيعه بحيث بات السجن القديم مخزنا للأطعمة ومكان يوضع فيه الفراش المستهلك وهناك مكان خصص للذخيرة .
( الصرح الكبير متشعب في واقعه وغامض في كل أماكنه) هذا أول ما تقوله في نفسك وأنت تنظر إلى الصرح من قريب ، هو يحتوي على مئات من الغرف والممتدة على شكل ممرات ضيقة جدا وهناك ممرات أكثر سعة ، منها ما تراه حين تحلق السوبر فرليون ومنها ما هو تحت الأرض ، هنالك رأي تقليدي شائع لدى الحرس وحتى الضباط وهو أن السيد شمران هو الرجل الوحيد الذي يعرف كل ما يدور في هذا المكان الغامض والمنعزل .
البوابة في كل الغرف أو الزنازين متشابهة ، فهي عبارة عن قطعة حديدية سميكة حمراء اللون وضعت في أعلاها بوابة متحركة بحجم ثلاثين سنتيمترا وهي مقفلة في كل الأوقات إلا حينما ترمى وجبات الطعام من خلالها وقد يستمر غلقها عامان كعقوبة على أي شيء لم يعجب الحرس ، حينما تفتح فأن السجين يمكن أن يرى سجينا أخر ويكلمه في الزنزانات المقابلة ولكن في مثل هذه الحالة علية أن يتحمل أوزار ذلك العمل الخطير ، فأن عقوبة ذلك وحسب توجيهات السيد شمران الأخيرة هي أن يعلق المتحدثان خمسة اشهر من أقدامهم ويكون رأسيهما إلى الأسفل بحيث كلما مر الحرس ركلوهما بأقدامهم حتى يموتا ، ومع أن شمران صرخ بذلك في يوم ما وكان في غضب شديد إذ أنه رجع من إعدام زنزانتين قيل له إن السجناء كانوا مضربون عن الطعام ، وفي الواقع لم يكن الجميع مضربا عن الطعام ، نعم هناك ثلاثة امتنعوا عن الأكل ولما كلم يوسف السجناء بشي من الشتم وسيل من الكلمات النابية صرخ به احد السجناء وشتمه وكان ذلك السجين وأسمه عصام مصابا بهستريا منذ شهرين تقريبا ، حينها أمر يوسف شمران بإخراج الزنزانتين وإعدام السجناء وكان عددهم تسعة ، ومع هذا كله فأنه لم يتفق أن سجينا علق خمسة اشهر ولا حتى ثلاثة اشهرلأنه تحدث مع سجين أخر عبر البوابة المتحركة ، نعم هنالك من عُُلق أياما، ، أياما فقط ولكن النتيجة واحدة في نهاية المطاف وهي أن يموت السجناء المعلقون من أقدامهم ، وكثيرون هم الذين ماتوا جراء ذلك.
أكثر الغرف خطورة ومحط عناية السيد شمران هي تلك التي تقع في وسط الصرح ويطلقون عليها غرف الموت ، القوانين التي شرعها السيد شمران في حقهم لا بأس بها على حد قوله.
ــ لا يمكن لأي أحد من هؤلاء الجبناء أن ينتقل إلى الغرف الجَماعية إلا بعد أن يقضي سنة كاملة في زنزانة انفرادية ، هذا في اعتقادي لا بأس به .
في هذا الصباح ، وكل صباح مضى ينتشر بعض السجناء لتنظيف ممرات غرف القيادة وبيوت الضباط والحرس ، هؤلاء السجناء ليسوا من أصحاب القضايا المهمة والخطيرة وهم من المناطق الموالية للسيد الرئيس لذلك ترى السيد شمران خصص لهم سجنا بعيدا عن جحيم الغرف الضيقة وأوكل أليهم مهمة التنظيف .
في الجانب الأول من الصرح تقع بيوت الضباط والحرس ، تراها وقد طليت بلون ابيض باهت ، يقول البعض أن شركة أعمار محلية يترأسها والد زوجة السيد الرئيس هي التي بنت تلك البيوت وكانت هذه الشركة تستخدم الجنود أيادي عاملة بعد أن تجلبهم من معسكرات التدريب وكان الجنود يفرحون بذلك لأنهم يعتقدون أنه لا توجد نسبة بين العمل في الشركة وبين الاشتباك مع العدو في جبهات القتال حيث الجيش يعيش معركة شرسة وطويلة مع الثوار الأكراد في شمال البلاد.
قبل سنتين تقريبا توقفت ظاهرة جلب الفتيات إلى هنا لغرض تهيئة مناخ جنسي صاخب للحرس والضباط ، ثمة أمور غامضة حدثت ولكن لا أحد يتكلم عنها .
الجهة الرسمية التي كانت مكلفة بذلك هي مؤسسة جماهيرية ذات طابع أمني أطلقت على نفسها فيما بعد المؤسسة النسوية العامة ، في الاحتفال الكبير والذي بث عبر تلفزيون البلاد الرسمي تم إعلان ذلك الاسم رسميا وكان السيد الرئيس حاضرا فصفق لذلك الاسم وقال وهو يوجه كلماته إلى نساء المؤسسة وكن من كبار نساء الحزب الحاكم ( أن المرأة الماجدة برهنت يوما بعد يوم أنها فوق الأزمة وأنها تستحق الثناء وأنني لأستبشر خيرا بهذا الاتحاد الذي هو ثمرة التحدي وثمرة اصرر المرأة في هذا الوطن على مشاركة الرجل في خندق واحد ) ، الكلمات الأخيرة أصبحت فيما بعد شعارا لذلك التجمع النسوي الكبير وتكتب بخط كبير وتعلق فوق كل البنايات التابعة له.
قديما وحينما كان هذا الصرح يعيش عصر مجيء الفتيات كانت كل ثلاثة فتيات ترسل إلى بيت يضم عشرة جنود ويتفرد الضباط بشيء مختلف فلكل ضابط فتاته التي يختارها قبل أن توزع الفتيات على البيوت.
لم يكن النظام العسكري في الصرح قاس جدا ، يحتاج الجندي إلى أربعة اشهر حتى يتمكن أن يذهب إلى دياره ليتمتع بأجازة لمدة شهريين وليحل محله جندي أخر ، في الجيش وخاصة الحرب الأخيرة أي مع الإيرانيين الذين استماتوا في دفاعهم عن ثورتهم الفتية ذات الطابع الديني، هناك قول يؤرخ هذه الحرب الطويلة نقله البعض عن السيد الرئيس يقول فيها واصفا تلك الحرب الطويلة والمدمرة( لقد تركنا كلابهم عليهم يأكل بعضهم بعضا ولنخرج منها سالمين غانمين) ، في هذه الحرب استحدثت بحق الجنود قوانين قاسية وقاسية جدا ، خاصة ممن هم في ألوية المشاة والدروع أو سرايا المدفعية أو الضفادع البشرية ، فعلى الجندي أن يمكث هناك ستون يوما ليتمتع بأجازة مدتها سبعة أيام وربما بلغت العشرة أيام في أحسن حالاتها ، يحدث ذلك حينما تهدأ النيران قليلا وحينما يتفرغ الجنود لسحب القتلى من أصدقائهم وإرسالهم إلى ذويهم ، أما حينما تغني المدافع وترقص الأجساد وترتفع الأرواح فلا يوجد شيء اسمه إجازة أو هروب ولا يوجد خيار إلا أن تَقتل أو تُقتل.
هناك وفي الزاوية البعيدة من الصرح وتحديدا خلف ساحة كرة الطائرة المخصصة للضباط حيث علق حبل اسود بعموديين من حديد إذا رأيته حسبت أن الجنود وضعوه لينشروا عليه ملابسهم بعد غسلها إلا انه وضع للعبة الطائرة والتي يمارسها الضباط وأحيانا بعض الجنود في ساعات فراغهم ، خلف تلك الساحة مباشرة تقع ممرات الجالية وزنزانات الأجانب ، أنشئت بطراز مختلف وأقل طغيانية ، يفصلها عن بقية مرافئ الصرح شرك يمتدد إلى أخر نقطة فيه ، هذا السجن بني خصيصا لاستقبال الجاليات التي يتم خطفها من قبل رجال الأمن ورمي ذلك على بعض المعارضين للسيد الرئيس، لتضعيف موقفهم الدولي ، كانت الفكرة ساذجة أول وهله إلا إنها نجحت نوعا ما، تشاهده اليوم وقد ضم عشرات من مختلف الجنسيات .
ــ سيدي شوهدت في الأفق ثلاث طائرات مروحية .
يتبع إنشاء الله.....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح4
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
ــ سيدي شوهدت في الأفق ثلاث طائرات مروحية.
قالها أحد ضباط الرصد بعد أن أدى التحية للسيد شمران بشكل راقص و متناسق جدا ، كان عليه أن ينتظر نصف دقيقة حتى يقول له المراسل .
ــ تفضل سيدي.
كان يلهث ، لقد قطع المسافة الفاصلة بين المراقبة وغرف القيادة هرولة ومع ذلك التعب فقد أدى التحية بإتقان ، شمران كان جالسا في غرفته على أريكة داكنة و أمامه قدح من الماء المثلج ، وضع على طاولة خشبية متهرئة نوعا ما ولطالما فكر السيد شمران باستبدالها إلا أن هموم السجناء تنسيه أن يكتبها في جملة احتياجات الصرح الشهرية بل وحتى السنوية ، أبتسم وحرك رأسه حينما سمع كلام الضابط الذي ما زال على هيئة الاستعداد ، قال بصوت فاتر ومتعب وهو يهز رأسه.
ــ إذاً وصلوا يا مرحبا بهم ، بلغ رائد سامر ليطلق صفارة الإنذار بسرعة وليتأهب الجميع.
ــ أمرك سيدي.
خرج ضابط الرصد بسرعة بعد أن أدى التحية وليدخل المساعد رجب غالي ويخبره هو الأخر عن الطائرات الثلاثة والتي ما زالت في الأفق البعيد ، أومأ بيده لغالي بأن يدخل ويجلس قربه ، منذ أشهر لم يصنع السيد شمران هذا الشيء مع أي ضابط لذلك تفاجئ رجب غالي كثيرا حينما صنع السيد يوسف شمران ذلك ، وضع يده اليمنىعلى فخذ غالي هامسا في أذنه ( ماذا تشعر في هذه الزيارة هل هي لنا أم علينا أنني قلق ، وأحببت أن أكلمك ) .
صمت رجب غالي قليلا ، قال.
ــ وأنا كذلك سيدي ، ربما سألونا عن الموتى من السجناء أنني أشعر أن عدد الموتى تزايد كثيرا في الأشهر الماضية ، هل تتفق معي بذلك؟.
أبتسم شمران ، كانت ابتسامة ساخرة إلا إن غالي لم يشعر إنها ساخرة ، قال هو مبتسم.
ــ لا أظن ذلك لأنه لا يوجد من يهمه مصير هؤلاء ، وقد أخذت بذلك إذن خاص ، لكنني أظن إن الأمر يتعلق بتعيين مدير جديد للصرح لقد مر علي طويلا هنا.
ــ لا أظن لو كان كذلك سيدي لتم استدعائك إلى بغداد.
ــ نعم هكذا أشعر، لا أدري ، ربما إطلاق سراح أو شيء من هذا القبيل.
ــ لا أعتقد سيدي هذا مستبعد.
ــ رجب من تتوقع أن يكون الزائر؟ .
ــ لا أدري ولكن أظنه من المقربين ، وفي حدود ظني يحمل أشياء مخيفة.
صمت ثم أردف.
ــ سيدي هل ننهض لاستقبال الضيوف؟.
ــ نعم لنذهب.
قدوم مروحيات ثلاثة إلى الصرح يعني أشياء كثيرة وقد يكون بداية عهد جديد ، يوسف أكثر الضباط حذرا في هذه اللحظات ، نظر في ساعته السويسرية ذات اللون الأصفر وذات الصورة الصغيرة للسيد الرئيس والتي تعانق الرقاص كلما مر بها ، إنها تشير إلى الساعة الواحدة ظهرا وبعض الدقائق ، كان يضع في يده اليمنى العصا العسكرية والتي لا تكاد أن تقع من يده ، وقف الضباط خلفه ، كلهم كانوا خائفين ، كانوا ينتظرون من سيخرج من الطائرة ، أنتظر الضيف حتى تنزل مجاميع الحماية الشخصية وتنتشر بشكل يؤمن له حياته إذ لا توجد في الأعراف التي تدرب عليها مكانا آمنا بصورة تامة ، كما وحاول أن يوقع الرهبة في نفوس المتصدين للعمل هنا ، الطائرتان اللتان كانتا تحملان الحماية الشخصية من نوع SH61 رسم عليها العلم الحكومي بشيء من الإتقان وكانت الحماية عبارة عن مجاميع من الحرس الجمهوري يرتدون بزة عسكرية تشبه جلد الضفدع ، أما الطائرة الأخرى فكانت B-O-105 صغيرة هي الأخرى رسم عليها علم الحكومة.
في الواقع كان السيد شمران قد وقف قرب المدرج الصغير قبل هبوط الطائرات بقليل ، وكانت الساحة مليئة بمقتضيات التدريب من العراقيل المصطنعة وصفائح معدنية مليئة بالرمل وضع بعضها على بعض فشكلت جدارا سميكا وهناك مجموعة من الأدغال الشوكية أمثال العاقول ونباتات الصبير جلبت من الصحراء القريبة على خلفية أن يتدرب عليها الجنود أسبوعيا إلا انه لا يوجد أي جندي قد تدرب عليها بل تحولت تدريجيا إلى أدوات لتعذيب السجناء مع بعض الصخور الحمراء والبيضاء التي وضعت جنبها وهي تكون كالجمر في الصيف حيث يشد السجين عليها حتى يغمى عليه إذا ما صنع شيئا لا يرضي الحرس وكانوا يأمرونهم أحيانا كذلك أن يزحفوا لعدة أمتار على أشواك الصبير ، قال شمران في نفسه وهو ينظر إليها مكدسة ومحاطة بشرك ( إذا انتهت الزيارة على خير سأبعد هذه المخلفات بعيدا وارميها في الصحراء ) ، في الواقع أن السيد يوسف شمران قال ذلك أكثر من مرة وكان يحدث نفسه بها كثيرا إلا إن بعض الضباط كانوا يقنعونه دوما بضرورة وجود مثل هذه الأشياء لتخويف السجناء وكان شمران يصغي لهم ويأخذ بأقوالهم إلا أنه غير مقتنع تماما بوجود مثل تلك الأشياء وكان يقول في نفسه ( هناك اشياء كثيرة تجعل من السحناء يرتجون من الخوف ولا داعي لهذه القذورات ) ، خلع نضارته السوداء ووضعها بإتقان في الجيب الأعلى الصغير لبدلته العسكرية ذات اللون الزيتوني واستعد لاستقبال زائره.
نزل أولا السيد برزان الحسن الأخ غير الشقيق للسيد الرئيس هذا الرجل ليس لديه وضيفة واضحة ولكن حينما يوجد في أي مكان يكون هو كل شيء فيه باستثناء المكان الذي يكون به السيد الرئيس في طبيعة الحال ، إلا أن البعض لديهم معلومات غير مؤكدة تشير إلى انه مسؤول الأمن القومي والمخابرات العامة أيضا ، على أية حال الناس في الجنوب والشمال يعرفونه جيدا ، من وراءه بخطوات نزل مرزة شياع وزير الداخلية ويمكن مشاهدة بعض الضباط الكبار الذين خفت بريق أسمائهم الآن لوجودهم مع رجال أكبر وأخطر، تقدم السيد شمران وحاول أن يسير بخطوات ثابتة ، من لديه قوة ملاحظة يمكن أن يشاهد ارتعاش أقدامه إلا أنه لم يلاحظ أحد ذلك ، ألقى التحية العسكرية على الجميع ، أحتضنه برزان، قال وهو يعانقه.
ــ يوسف أليس كذلك؟.
ــ نعم سيدي وأهلا بك في الصرح ، إنه ليوم عظيم إن نتشرف بلقائك.
تركه يتكلم ومضى مبتعدا لخطوات رافعا رأسه ينظر في منشئات الصرح البعيدة ، صافح السيد شمران وزير الداخلية وبقية الضباط ، قال يوسف في نفسه وعلى نحو السرعة( لماذا لم يجبني السيد برزان ) كانت نفسه مرتبكة وكأنه قد عمل جناية لا تغتفر، زادت مخاوفه وحاول أن يخفيها ، كانت محاولاته يائسة لأنها كانت سريعة ومرتبكة ، لم ينتظر برزان أن يكمل السيد يوسف التحية على بقية الضيوف.
ــ يوسف تعال اترك هذا ليس لدينا وقت .
ترك يوسف خدَّ احد الضباط وكان على وشك أن يقبله وهرع ليلقي التحية مرة أخرى ولكن هذه المرة وهو يسير بسرعة خلف برزان الذي بدا وكأنه يعرف زوايا هذا المكان ، كان يتجه نحو الممرات التي تؤدي إلى غرف القيادة ، خلع نظارته الشمسية وكذلك الوزير حينما دخلوا إلى الممرات لأنهم شعروا إنها ظلماء .
قال برزان بصوت شبه مبحوح.
ــ ليس لدينا وقت يا يوسف لمثل هذه الأشياء تعال معي.
كان برزان يتكلم وهو يبتسم ، وكان السيد يوسف يشعر أن خلف هذه الابتسامة شيء مخيف، قال بصوت يبدو عليه الارتباك.
ــ أمرك سيدي إنا رهن إشارتك .
يتبع إنشاء الله.....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أضحوكة العالم المثالي - رواية / ح5
رحلة السجين السياسي في عهد صدام
كتابات - حسين كاظم الزاملي
كان الممر الذي يؤدي إلى القيادة طويل وكان السيد شمران يشعر به كل يوم إلا في هذه أللحظات فأنه لم يشعر إلا وهو في غرفة القيادة الرئيسية كان يغط بأفكاره عن تلك الزيارة الكبيرة.
الضباط الصغار لم يدخلوا إلى الغرفة ، حتى أن المساعد رجب تردد في الدخول وحاول يوسف شمران أن يكون شجاعا ويأذن له في الدخول إلا إنه طرد الفكرة تلك فبقي رجب غالي خارج الغرفة.
ــ اجلس يوسف لماذا أنت واقف أجلس.
صمت قليلا تم أردف قائلا.
ــ ما هي أخباركم وما هي إخبار الجبناء عندكم؟.
ــ نحن بخير ما دام السيد الرئيس بخير والجبناء في غضب الله وعقابه الدائم.
ــ جيد يوسف أخبار العاصمة جيدة والسيد القائد بخير ويبلغكم سلامه.
ــ وعليكم السلام سيدي ، إنه لشرف كبير أن نحظى بذلك.
دخل أحد الضباط حاملا خمسة قناني من الماء ومعهن خمسة أقداح صفراء ، تفاجأ يوسف من ذلك إذ لا يوجد في الصرح مثل هذه القناني ذات اللون الكرستالي إلا انه استدرك وقال في نفسه ( مؤكد أنهم جلبوها معهم وربما جلبوا لنا بعض الأشياء).
ــ يوسف كم سجين لديك؟ .
قال برزان ذلك بعدما انتهى من شرب قدح الماء.
ــ سيدي أحتاج إلى بعض الوقت حتى نقدم لك إحصائيات دقيقة جدا؟ .
قال وهو يبتسم وكان ينظر إلى السيد الوزير وهو يتكلم .
ــ نعم ، نعم دقيقة جدا ولكن بسرعة.
ــ عفوا سيدي أمهلني لحظات.
خرج يوسف مسرعا وليهمس في أذن رجب غالي والذي كان يقف متخشبا خلف الباب وكأنه سجينا ينتظر أن يعدم ( ابحث عن العميد سمير وليأتي بالأرقام الدقيقة لكل السجناء وليجلبها هو بأسرع من طرفة عين مفهوم ؟.)
ــ حاضر سيدي.
لم يكن العميد سمير بعيدا ، كان يقف مع مجموعة من الحرس الجمهوري في وسط الممر وكان هنالك من يقص عليهم مغامراته مع الفتيات وكيف أنهم أنهوا خمسة أيام مع أجمل البنات على شواطئ الحبانية .
ــ كانت عارية تماما وأرادت أن تتخلص مني فعانقتها حتى غرست أسناني حول نهديها المتورمان وكأنهما رمانتين في أول طلوع لهما ، صرخت لكنني لم أفسح لها أي مجال حاولت الأخرى أن تأخذني عنها لكنني بقيت متعلقا بها و.......
ــ عميد سمير ... عميد سمير ...لحظة من فضلك.
ــ نعم سيدي.
اقترب العميد من رجب غالي ونسى أن يقدم له التحية العسكرية كما ولم ينتبه غالي لذلك وليهمس في إذنه اليسرى ( يريدون الأرقام الدقيقة لكل السجناء وبأسرع وقت ويريدك السيد يوسف أن تقدمها أنت بسرعة يا سمير الأمر جدا خطير) .
ــ أمرك سيدي لحظات وتكون عندكم .
ـ 2 ـ
جميع الغرف والزنزانات عرفت إن هنالك طائرات تحمل أشياءً قد نزلت في الصرح ، إذ أن معظم السجناء يعرفون أصوات السوبر فرليون حتى أنهم يعرفون لحظات انطلاقها وعودتها الدورية ، وكان بعضهم يبرمج حديثه عبر الفتحة مع السجناء في الزنزانات القريبة والتي يمكن أن ترى من خلال الفتحة الصغيرة ، يبرمجون ذلك الحديث مع مرورها اليومي فوق الممرات إذ أنها تصدر صوتا يصعب معها أن يسمع الحرس همس السجناء عبر تلك الفتحات بعضهم مع البعض الأخر ، في أول يوم حلقت به الطائرة (مي8) وكان قبل ثماني سنوات ظن السجناء أول وهلة إن زائرا ما قد أتى واستبشروا خيرا ولكن بعد حين عرفوا من تكرار ذلك الصوت الدوري المثبت بذاكرتهم أنها طائرة أخرى جاءت لمساعدة الفرليون التي جلبت القلة منهم أو لنقل الذين لا تطمئن مديرية الأمن إلا بنقلهم عبر الجو ، يطلق السجناء على الفرليون أسماء مختلفة ، بعضهم يرى أن الصوت القديم أصبح للأرزاق أما الصوت الجديد فيعتقدون أنه لجلب السجناء وربما كان هنالك آراء أخرى تغاير هذا وربما رأى بعضهم إن الطائرتين لجلب ما يحتاجه السجن وقد يكون هذا الرأي هو الأقرب لما يجري وهم في هذا وذاك يقضون بعض الوقت ، على أية حال سينتظر السجناء الذين وضعوا رؤوسهم بين ركبهم وهم مقرفصون في جلسة تكاد تكون هي الأكثر شيوعا في المحاجر والزنزانات ، هؤلاء سينتظرون قليلا من الوقت ثم يبدؤون بالإصغاء الدقيق إلى صوت محرك المحرقة الكبير وذلك بأن يضعوا أذانهم على الأرض ومن خلال ذلك يمكنهم أن يعرفوا هل أن هنالك سجناء ماتوا وان جثثهم ألقيت في المحرقة التي يتصورها كل سجين وفق هواجسه ومخاوفه إذ لم يتفق أن سجينا رآها، الذين يخرجون من زنزاناتهم ويذهبون بهم إلى أي جهة ولأي سبب ما ، لا يتسنى لهم أن يروا المحرقة التي بنيت بشكل مخيف ، حينما تراها يذكرك منظرها والمدخنة السوداء الطويلة بقصور السحرة المخيفة جدا في الأساطير القديمة ، حينما يعمل محرك المحرقة يمكن للغرف القريبة جدا سماع صوته والذي يصلهم خافت و بالكاد أن يسمع ، البعض يظنون أن ذلك تابع إلى عالم المطابخ وأعداد الطعام وبعضهم يرى انه يصدر حينما يبدأ الحرس في حرق النفايات وهذا الجزء الأكثر إذ أنهم يزعمون أن أحد الحرس كان متعاطفا معهم قبل سنوات وأخبرهم أن ذلك الصوت يصدر حينما تحرق النفايات فصدقوا حديثه واطمأنوا له ثم راحوا يتناقلون ذلك الخبر بين الزنزانات بإشارة وأحيانا بهمس وكأنه أقدس خبر في التأريخ ، في الواقع إن المحرقة لم تكن أبدا لحرق جثث الميتين من السجناء، وفعلا تم إنشائها لغرض حرق النفايات وخاصة نفايات مستشفى الصرح ، ولكن مع ذلك لا يمكن أن ننفي أبدا أن يوسف شمران ألقى فيها بعض السجناء في يوم ما ، كما ولا يمكن أن ننفي إن السيد شمران فكر في تطويرها لتضم قسما لحرق الجثث إلا انه لم يفلح في تنفيذ ذلك.
دخل العميد سمير إلى الغرفة ، قدم تحيته العسكرية بشيء من الإتقان ، وبانحناءة هادئة قدم السجل الذي يحتوي على الأرقام النهائية للسجناء في دائرة الصرح الكبير .
ــ سيدي هذا كل ما لدينا.
نظر برزان إلى يوسف محركا يديه بهدوء وكأنه يسأله من المتحدث ، انتبه يوسف سريعا لذلك .
ــ سيدي هذا العميد سمير المسؤول على تعداد السجناء وتنقلهم .
ــ أهلا سمير من أين أنت؟.
قالها بشيء من الابتسامة المشوبة بالسخرية، ما زال سمير واقفا في وسط الغرفة بهيئة الاستعداد .
ــ من الرمادي سيدي.
ــ أجلس وتحدث.
جلس العميد سمير متوسطا الغرفة على كرسي خشبي كان السيد شمران يخرجه معه يجلس عليه في حديقة الصرح المتواضعة ، وفي هذه اللحظات دنى قرب برزان رجل من الحماية الشخصية ضخم الوجه أسمر اللون طويلا جدا يرتدي بذلة سوداء ، همس برزان في إذنه ببعض الكلمات ، هز ذلك الرجل رأسه مرتين ثم استقام ليخرج من الباب.
قال سمير.
ــ سيدي لدينا.
ــ انتظر حتى يأتي.
ــ أمرك سيدي .
يتبع إنشاء الله.....