من سجن أبو غريب



كتابات - إبراهيم هبد الحسن



.... كان قدوم السياسيين المساقين الى إيداعهم في قسم الإعدام في سجن أبو غريب مبعث فخر واعتزاز لنا نحن النزلاء الذين نشترك معهم في وحدة أفكارهم وتطلعاتهم فقد رأيتهم بأم عيني شباب في مقتبل العمر تتشح في سيمائهم علامات التحدي والبطولة وهم يسيرون بخطى واثقة نحو قسم الإعدام سيء الصيت.. ومن سياقات إدارة السجن في يوم استقدام هؤلاء الإبطال هو أٌقفال جميع الأبواب علينا حتى يتم إيداعهم ،وأصبح يوم تنفيذ الإعدام بحق البعض منهم معلوما لدينا من خلال وقائع نسبق يوم التنفيذ أولها تواجد المجرم ( أبو وداد ) الذي يتولى التنفيذ يتواجد في اليوم الذي يسبق موعد التنفيذ حيث انه يساهم في المساء في عملية إحصاء نزلاء كل قسم للتأكد من إعدادهم بالكامل او مايطلق عليه ( المسطر ) الصباحي والمسائي حيث يساهم هذا المجرم في حساب إعداد كل قسم ليثير الرعب والتقزز من منظره الكريه الذي هو أشبه بغوريلا في شكل إنسان .

يستمر قفل الأبواب على النزلاء وعدم خروجهم إلى أعمالهم منذ صباح يوم التنفيذ وبقدر استغراق التنفيذ لإتمامه بعدها يتم فتح الأبواب لذهابنا الى الساحة الرئيسية حيث يكون في هذا اليوم عطلة لجميع الإعمال وقد يطول أو يقصر هذا الوقت حسب إعداد المحكومين الذين سيتم التنفيذ فيهم وأحيانا يستمر إغلاق الأبواب حتى المساء وبهذا نحرم من الذهاب الى الساحة الرئيسية لتزامنها مع الموعد المقرر لإغلاقها وهو الساعة الخامسة عصرا عندها يمكننا تصور حجم الإعداد الذي تم تنفيذ الأحكام فيها .. هكذا كان رخص الأرواح العراقية لدى النظام وأزلامه .

كان صرير الأبواب يوم التنفيذ ممرا لخيالاتنا عن حجم الإعداد في تلك الأيام المؤلمة والمفجعة لنا نحن النزلاء حتى تتولد لمخيلتنا حجم البشاعة التي يعامل فيها الأنسان العراقي الذي لم يقترف جريمة سوى أنه يختلف في أفكاره بل يفصح لنا حجم همجية النظام واستبداده وفاشيته (( أنني اليوم أنحني أجلالا لتلك الأرواح التي سكنت في عليين وذهبت أرواح الطغاة في سرمدية العذابات دون تخليد )),

من السياقات الأخرى المعمول بها في سجن أبو غريب هي ( المواجهة ) أي مواجهة العوائل لأبنائهم المودعين في هذا السجن وهي نصف شهرية كل يوم احد يتبع اليوم الأول من الشهر وكل يوم احد يتبع الخامس عشر من الشهر.. كانت المواجهة محطة يمتزج فيها مباهج اللقاء السريع للنزيل بعائلته وأطفاله ذلك اللقاء الذي يعكس حالة انسانية مبكية خصوصا وأنت تتابع حركات الأطفال وبراءتهم لما يدور حولهم دون ان يفقهوا شيء كذلك وأنت تتابع لمعان العيون بالدموع خصوصا للنزلاء العسكريين الذي لم يقترفوا جريمة سوى هروبهم من حرب لاناصية في قرار إشعالها واستمرارها لثماني سنوات .. كانت المواجهة منفذا يستفيد منه بعض النزلاء التي لاتتوفر لهم فرصة مواجهة عوائلهم ومساعدتهم بمصاريف الأيام مما يضطرهم للعمل مابين مواجهتين لعرض نتائج إعمالهم اليدوية الفنية الجميلة لتكون مصدر رزقهم حيث يقتنيها الناس لجماليتها وللذكرى ,, ثم ان المواجهات هي أيضا ذات فائدة لإدارة السجن حيث من خلالها تستطيع إمرار الإشاعات ورواجها خاصة تلك الإشاعات التي توحي بقرب إصدار الحكومة الى فرار عفو عام إضافة الى إن العوائل تروجها للتهدئة على أبنائهم النزلاء وتخفيف حدة معاناتهم وقد نالت إشاعة عفو عام بمناسبة يوم 6\ كانون ذكرى تأسيس الجيش العراقي قدر كبير من الجزم بها إلا إن إدارة السجن ولقناعتها بعدم وروود كتاب رسمي بمثل هذا القرار وتحسبا للهيجان الذي سيعم السجن بعدم صدوره التجأت الى تسميم طعام الغذاء لذلك اليوم 6\ كانون لتتولد حالات نسمم لدى اغلب النزلاء وحالات إسهال شديد ألهت النزلاء عن التفكير في سماع خبر العفو الوهمي واستمرت عيادة النزلاء الى مستشفى السجن أكثر من يومين وسببت حالة وفاة لأربع نزلاء وبهذا تناسى النزلاء قرار العفو بانتظار إشاعة أخرى وقرار أخر وهذا سيكون بمناسبة (ثورة ) 8 شباط ذلك اليوم الأسود في تاريخ العراق السياسي المعاصر والذي أطلق عليه احمد حسن البكر جزافا (( عروس الثورات )) لله دركم أبها الأوغاد .

القسم الوحيد الذي لم يشمله نظام المواجهة هو القسم الذي يضم النزلاء العسكريين العراقيين من أصل أيراني وهو قسم رقم 6 أو قاف 6 اختصارا ..

فمع نشوب الحرب العراقية الإيرانية أصدر لنظام أوامره بإيداع الجنود العراقيين الذين ترجع أصولهم الى إيران في تكملة لقرار التهجير للعوائل العراقية أوائل السبعينيات الذي طال العديد من العوائل العراقية وبلمحة بصر أصبحوا على الحدود العراقية الإيرانية حيث تم استقدام بعض هولاء الجنود من بيوتهم وهم لما يتمتعون بأجازاتهم الاعتيادية حتى أنهم لم يقترفوا جريمة الهروب وتم إيداع الجميع في هذا القسم الذي مثل ما ذكرنا لاتشمله اغلب السياقات السجنية ومنها المواجهة وأيضا عدمالسماح لهم بالخروج الى الساحة الرئيسية وحرمانهم أيضا من الساحة الخلفية التابعة الى القسم وتقفل أبواب الزنازين المودعين فيها.. ونتيجة تراكمات هذا الضغط غير المبرر قرر هولاء الإبطال بالعصيان الذي أدى الى تصادمات مع إدارة السجن استوجب تدخل قوات خاصة للسيطرة عليه الا أنهم استطاعوا انتزاع بعض المطاليب ومنها فتح الساحة الخلفية وتحديد يوم 16 من كل شهر موعدا لمواجهة عوائلهم وفي هذا اليوم تغلق الأبواب علينا جميعا الى انتهاء موعد المواجهة بعد الظهر وتتعطل الإعمال فيه ونخرج بعد الظهر الى الساحة الرئيسية للعودة إلى القسم قبل الساعة الخامسة موعد غلق الباب المفضي إليها ....يتبع