عظم الله لكم الأجر في مصاب سيد شباب اهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام

ولعن الله قاتله وأعدائه الى يوم الدين


[align=center]الدلالة السياسية لقطع الرؤوس [/align]

قطع رأس الميت ، قتيلا كان أو ميتا حتف أنفه ، من المثلة . ومن الثابت في الشريعة الاسلامية النهي عن التمثيل بالمسلم ، وتحريمه ، لا نعرف مخالفا في ذلك على الاطلاق . بل إن من الثابت النهي عن المثلة حتى بالنسبة إلى الكافر وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله النهي عن ذلك . ولم يحدث في حياته صلى الله عليه وآله ، على كثرة ما خاض من حروب ضد المشركين ، أنه أذن أو رضي بشئ من ذلك ، ولم يعرف عن الخلفاء من بعده أنه حدث في عهودهم شئ من ذلك على كثرة ما خاض المسلمون من حروب ضد الفرس وضد الروم ، إلا ما كان في عهد أبي بكر حين عدا خالد بن الوليد على مالك بن نويرة وقومه فقتلهم بزعم أنهم مرتدون فقد قطعت رؤوس القتلى ( 1 ) وقد أثار تصرف خالد بن الوليد استنكارا واسع النطاق في صفوف المسلمين . ولم يحدث بالنسبة إلى الامام علي بن أبي طالب في حروبه كلها أن حمل إليه رأس أو أمر بقطع رأس أحد ، أو رضي فعل ذلك .


نعم حدث في حروراء حين أوقع الامام بالخوارج أنه أمر بقطع يد المخدج ( نافع المخدج ) ، وقال : ( سيماه أن يده كالثدي ، فيها شعرات كشارب السنور ، إيتوني بيده المخدجة ، فأتوه بها فنصبها ) ( 1 ) .


وهذه الواقعة من دلائل النبوة ، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله عن الخوارج وأن ( آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال ثدييه - مثل ثدي المرأة . . . ) وقد روى الحديث في شأنهم وممن روى ذلك البخاري في كتابه ( 2 ) ، ويبدو أن الامام عليا أمر بنصب يده لاظهار صدق خبر النبي صلى الله عليه وآله ولينزع الريب من قلوب بعض أصحابه الذين تساءلوا عن سلامة موقفهم ، وقد قتلوا قوما يظهرون الاسلام فأراهم بنصب يد المخدج لهم أنهم قاتلوا القوم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله فقراره بنصب يد المخدج قرار سياسي لتأكيد معنى ديني يتصل بصدق رسول الله صلى الله عليه وآله .


يظهر مما تقدم أن الاسلام لا يشجع على قطع رأس العدو الكافر المحارب ، فضلا عن قطع رأس المسلم ونقله من بدل إلى بلد . وقد انتهك الامويون هذا الحكم الشرعي الواضح ، ولا نعرف من أين اقتبس الامويون هذا الاسلوب في معاملة قتلاهم فلعله من آثار عقليتهم الجاهلية التي لم تزايلهم في يوم من الايام ، أو لعلهم اقتبسوه من الامم الاجنبية وخاصة الروم الذين قلدوهم في طريقة حياتهم . وأول انتهاك نعرفه مارسه عامل معاوية بن أبي سفيان على الموصل وهو عبد الرحمان بن عبد الله بن عثمان الثقفي ، الذي ألقى القبض على عمرو بن الحمق الخزاعي ( 1 ) - بعد مطاردة طويلة - وقتله ، وقطع رأسه ، وبعث به إلى معاوية ( فكان رأسه أول رأس حمل في الاسلام ) ( 2 ) وسنرى أن هذه الاولية ستذكر صفة لرأس الحسين أيضا مما يدل على أن خبر قطع رأس عمرو وقتله لم ينتشر بين المسلمين على نطاق واسع . وفي ثورة الحسين ارتكب الامويون وأعوانهم جريمة قطع الرؤوس ونقلها على نطاق واسع . فقد أمر عبيد الله بن زياد بقطع رأس مسلم بن عقيل ورأس هاني بن عروة بعد قتلهما ، وبعث بهما إلى يزيد بن معاوية في الشام ، وكتب إليه : ( . . . وأمكن الله منهما ، فقد متهما فضربت أعناقهما ، وقد بعثت إليك برؤوسهما ) ( 1 ) .


وكان ابن زياد قد قتل في الكوفة من رجال الثورة : قيس بن مسهر الصيداوي ( 2 ) وعبد الله بن بقطر ( 3 ) ، وعبد الاعلى الكلبي ، وعمارة بن صلخب الازدي ( 4 ) ، فلم يبعث إلى يزيد بن معاوية من بين من قتلهم إلا رأسي هاني بن عروة ومسلم بن عقيل .


بعد القضاء على الثائرين في كربلاء قطعت رؤوس عدد كبير من الشهداء ، وحملت إلى الكوفة إلى عبيد الله بن زياد ، ثم أرسلها إلى الشام إلى يزيد بن معاوية ، وكان نقلها يتم بصورة استعراضية لتتاح مشاهدتها لاكبر عدد من الناس في الطرق والمدن التي يمر بها حملة الرؤوس .


وهنا نلاحظ أن ما قطع وحمل من الرؤوس لا يتجاوز الثماني وسبعين رأسا ، وربما لم يزد على سبعين رأسا ، مع أن عدد الشهداء يتجاوز عشرين ومئة شهيد . وهنا نتسأل :


لماذا قطعت الرؤوس ؟

وهل تم ذلك بمبادرة من عمربن سعد وضباطه أو أنه تم بناء على أوامر من ابن زياد ؟

وما المبدأ الذي اتبع في قطعها ؟

ولماذا لم تقطع جميع الرؤوس ، فلم يقطع إلا رأسا مسلم بن عقيل وهاني بن عروة في الكوفة ، ولم يقطع إلا سبعون رأسا أو ما يزيد قليلا على هذا العدد من رؤوس الشهداء في كربلاء ؟


هل قطع الرؤوس إجراء إنتقامي محض أو أنه عمل سياسي ذو صفة إنتقامية ؟


يمكن أن يكون عمر بن سعد قد أقدم على اتخاذ هذا القرار بقطع رؤوس الشهداء من عند نفسه رجاء أن يزيد خطوة عند عبيد الله بن زياد بعد أن فهم بوضوح الرغبة الشريرة عند عبيد الله بالمضي في الانتقام إلى آخر ما يمكن تصوره من إجراءات ، ولكننا نرجح - إستنادا إلى ما نعرفه من شخصية عمر بن سعد الذليلة الحقيرة المهتزة - أن هذا الاجراء لم يتم بمبادرة منه ، ونرجح أنه قد تلقى أمرا بذلك من عبيد الله بن زياد . ويعزز هذا الرأي أن قطع رؤوس القتلى من المسلمين كان في ذلك الحين عنصرا جديدا تماما في الثقافة الاسلامية ، ولم يمارس قبل كربلاء إلا من قبل والي معاوية بن أبي سفيان على الموصل حين قطع رأس عمرو بن الحمق الخزاعي كما قدمنا آنفا ، ومما يشعر بجدة هذا العنصر في الثقافة الاسلامية في ذلك الحين ما ورد في أحد نصوص الطبري عن زر بن حبيش : ( أول رأس رفع على خشبة رأس الحسين رضي الله عنه وصلى الله على روحه ) ( 1 ) . ما تقدم يرجح أن عمر بن سعد نفذ أمرا تلقاه ، ولم يقطع الرؤوس بمبادرة منه ، وإن كنا لا نجد في نصوص الموضوع نصا بهذا الشأن .


فالكتاب الذي وجهه عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد مع شمر بن ذي الجوشن يتضمن أمره لعمر بأن يدعو الحسين وأصحابه إلى الاستسلام ، فأن أبوا : ( فازحف إليهم حتى تقتلهم ، وتمثل بهم ، فإنهم لذلك مستحقون ، فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره ، فإنه عاق مشاق ، قاطع ظلوم ، وليس دهري في هذا أن يضر بعد الموت شيئا ، ولكن علي قول : لو قد قتلته فعلت به هذا . . . ) ( 1 ) .

فالكتاب يتضمن الامر بالتمثيل ، ويتضمن الامر برض صدر الحسين وظهره بحوافر الخيل .


وقد نفذ الامر الثاني بدقة بناء على أوامره مباشرة وصريحة من عمر بن سعد ، وقام بالمهمة البشعة عشرة رجال سمى الطبري منهم رجلين حضرميين ( 2 ) .


وأما التمثيل بالقتلى ، فهل المقصود به قطع الرؤوس ؟ إذا كان ذلك فقد نفذ أيضا ، ولكنه لم ينفذ بدقة ، فلم تقطع رؤوس الجميع ، إلا أننا نشك في أن المراد بالتمثيل قطع الرؤوس ، ونرجح أن هذا الاجراء قد نفذ استنادا إلى أمر لم تصل إلينا صورة عنه . هل هو إجراء إنتقامي ؟ لا نشك في أنه إجراء إنتقامي بعث عليه الحقد كما هو الشأن في رض الاجساد بحوافر الخيل والتمثيل بها ، ولكننا نرجح أنه ليس إنتقاميا فقط لا غاية له إلا الانتقام وإرواء غليل الحقد ، إنه فيما نرى إجراء انتقامي له غاية سياسية أيضا .


فإن رجال النظام الاموي . وعلى رأسهم يزيد بن معاوية ، كانوا يرون أن ثورة الحسين يمكن أن تقوض النظام كله ، وكانوا يقدرون أن ما نسميه الآن ( الحالة الثورية ) حالة منتشرة في مجتمع العراق بصورة خطيرة ، وإن كانت بحاجة إلى تحريض لتتحرك وتعبر عن نفسها في حركات ومواقف ، ولذا فإن أي تحرك تقوم به قوة ذات نفوذ إسلامي يمكن أن يجمع الطاقات الثورية ، ويعطيها قوة الحركة نحو إنجاز ثوري كبير الحجم ، ولذا فإن ثورة الحسين ، ولقائدها مركز معنوي كبيرا جدا في المجتمع الاسلامي ، تشكل بالنسبة إلى النظام الاموي خطرا بما يمكن أن تؤدي إليه من تفاعلات ينشأ منها تصعيد الروح الثورية وإعطاء جماعات الثوريين في المجتمع الاسلامي أملا كبيرا في الانتصار بوجود قيادة ذات رصيد معنوي كبير لدى المسلمين .


كما أننا نقدر أن رجال النظام الاموي قد عملوا أن الجماعة الثائرة مع الحسين تمثل في غالبيتها رجالا قياديين يتبوؤن مراكز زعامة في المجموعات القبلية الجنوبية والشمالية ، وأن لهؤلاء أتباعا يتأثرون بمواقفهم لهذا أراد رجال النظام أن يقضوا على كل أمل . عند الجماهير بنجاح أي محاولة ثورية ، وذلك بجعل أبطال هذه المحاولة عبرة للآخرين . فحشدوا للقضاء على القوة الصغيرة في كربلاء أضخم قوة عسكرية استطاعوا توفيرها في هذا الزمن القصير ، وقد تقدم منا أننا نرجح أن عدد الجيش الاموي يتراوح بين عشرين وثلاثين ألفا ، وذلك من أجل أن تضع الثائرين في حصار محكم ، يحول دون إفلات أي واحد منهم ، ويحول دون وصول أي أحد إليهم ، ويضمن القضاء عليهم في وقت قصير جدا لئلا يتأثر الجيش الاموي نفسه إذا طال الوقت .


ثم بتنفيذ إجراءات إنتقامية فيها إهانة للشهداء ونسائهم ، مثل رض الاجساد بحوافر الخيل ، والتمثيل بها ، وحمل النساء سبايا يستعرضهن الناس في الامصار .


وهدف النظام الاموي من هذا كله تبديد الهالة القدسية التي تحيط بالحسين وأهل البيت ، وإفهام الثائرين الذين لم يتح لهم أن يشاركوا في ثورة كربلاء أن إجراءات السلطة في حماية نفسها لا تتوقف عند حد ، ولا تحترم أية قداسة وأي مقدس وأي عرف ديني أو اجتماعي .


ويأتي قطع الرؤوس ، وحملها من بلد إلى بلد ، والطواف بها في المدن - وخاصة الكوفة - جزء من هذه الخطة العامة ، ولتبديد إمكانات الثورة وتحطيم المناعة النفسية لدى المعارضة ، وإفهامها بأن الثورة قد انتهت بالقضاء عليها ، ولقطع الطريق على الشائعات بالادلة المادية الملموسة وهي رؤوس الثائرين وفي مقدمتها رأس الحسين .


وإذن فقد كان ثمة هدف سياسي لقطع الرؤوس بالاضافة إلى كونه عملا انتقاميا ، وهذا يفسر لنا لماذا لم تقطع جميع الرؤوس في الكوفة وكربلاء .


ففي الكوفة قطع ابن زياد رأس مسلم بن عقيل ، وهاني بن عروة فقط من بين من قتلهم في الكوفة من الثوار ، وفي كربلاء كانت الرؤوس التي قطعت وأرسلت إلى الكوفة والشام على النصف تقريبا من عدد الشهداء .


لقد خضع قطع الرؤوس لعملية انتقاء ، فقطعت رؤوس الشخصيات البارزة التي تحظى بولاء شعبي في نطاق قبائلها أو مدنها ، والتي يحطم قتلها قاعدتها الشعبية ويشتت جمهورها ، ويفقده فاعليته .



إن هاني بن عروة ومسلم بن عقيل هما أقوى شخصيتين في التحرك الذي حدث في الكوفة ، فلذا قطع ابن زياد رأسيهما وأرسلهما إلى يزيد ابن معاوية برهانا ماديا على قمع الثورة ، أما الباقون ، وهم رجال عاديون ، فإن رؤوسهم لا تعني شيئا ، لان قتلهم مع وجود القادة ، لا يؤثر على الثورة ، ولذا فلم يكن ابن زياد بحاجة إلى قطع أكثر من رأسين .



وكذلك الحال في رؤوس شهداء كربلاء ، فإن الموالي والرجال العاديين لم تكن رؤوسهم تعني شيئا بالنسبة إلى المناقمين على الحكم الاموي . إن الذي يشل القدرة الثورية ويسبب الهزيمة النفسية لدى الجماهير هو أن ترى زعماءها وقادتها قد قتلوا ، ورفع الدليل المادي على قتلهم ، وهو رؤوسهم ، على أطراف الرماح . من هنا نفهم لماذا طيف برأس الحسين في أزقة الكوفة : ( . . . ثم أن عبيد الله بن زياد نصب رأس الحسين بالكوفة ، فجعل يدار به في الكوفة ) ( 1 ) .



ونحن نرجح - وإن لم نملك نصا - أن القبائل التي توزعت الرؤوس لم تتوزعها بصورة عشوائية ، وإنما أخذت كل قبيلة رؤوس ، الرجال البارزين من أبنائها ، وذلك لتعزيز مركزها السياسي عند السلطة ، وليزداد مركز زعيمها الموالي للسلطة قوة ومناعة .



من كتاب أنصار الحسين عليه السلام

محمد مهدي شمس الدين