التطبير: حرام.. أم ضرر حلال كعادة التدخين؟
حكاية عاشوراء النبطية من المسرحية.. الى الدم الذي يسيل من الرؤوس حزناً


السبايا في مسيرة اليوم التاسع في النبطية أمس

مشهد وأزياء عاشورائية من مسيرة أمس في النبطية من مسرحية عاشوراء السنوية

عدنان طباجة
النبطية :؛
جاء في «تاريخ الشعائر الحسينية في مدينة النبطية» الذي أصدره النادي الحسيني للبلدة انه كان للتواصل بين الحوزات الشيعية في العراق وبين جبل عامل أثر واضح في دخول الشعائر الحسينية من لطم وعزاء ومواكب وغيرها إلى المجتمع العاملي. وكانت هذه الشعائر وحتى بدايات القرن الماضي تمارس بشكل سري بعيداً عن أعين السلطات المتعاقبة (الأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية)، حيث كانت تعتبر أمراً ممنوعاً يعاقب عليه فاعلها إلى حد القتل.
ونقل انه في النبطية كانت اعين السلطة العثمانية تنتشر في الشوارع وامام المنازل في مناسبة عاشوراء لتمنع إقامة المراسم العاشورائية وكان الأهالي يقيمون المجالس الحسينية بشكل سري في الجامع القديم.
أما في اواخر العهد العثماني فقد شهدت الشعائر الحسينية في النبطية تطوراً كبيراً وذلك مع قدوم المقدس المجتهد الشيخ عبد الحسين صادق (جد المفتي الحالي) من النجف الأشرف، وقد استغل ضعف السلطة العثمانية وانشغالها بالحرب العالمية الأولى فاخرج هذه الشعائر إلى العلن وادخلها إلى الثقافة الشيعية في المنطقة مبنى (النادي الحسيني) حيث بنى النادي الحسيني في النبطية عام 1909 وهو الأول في لبنان وبلاد الشام.
كما جسد صادق مسرحية عاشوراء وكتب نصها وهي لم تكن معروفة في المدينة قبل ذلك، وكانت تؤدى بصيغة مقاطع تمثيلية صامتة على شكل مبارزة بين فرقتين الأولى تؤدي دور قوم الشمر والثانية تؤدي دور أصحاب الإمام الحسين.
ومع هذا التطور أصبحت النبطية مقصداً للكثيرين الذين كانوا يقصدون ليلة العاشر من المحرم على ظهور الخيول والبغال والحمير ليشاركوا بمراسم اليوم التالي، وكانوا يبيتون ليلتهم على البيدر أو في البيوت التي كانت تفتح أبوابها للزوار تقرباً إلى أبي عبد الله الحسين.
وقد عدل نص المسرحية بعد ذلك على يد الشيخ محمد تقي صادق، وهو النص الذي لا يزال يعتمد بمعظمه في مسرحية عاشوراء في النبطية حتى اليوم، كما وتعتمده غالبية القرى والبلدات المحيطة التي أخذت تقوم بتمثيل موقعة عاشوراء.
ومع مرور الأيام أخذ الجمهور العاشورائي يتنامى في النبطية وأصبحت المساحة المخصصة لمشاهدة المسرحية تضيق به، فتم إنشاء مسرح من الباطون على طرف البيدر من الناحية الشرقية من قبل لجنة عاشوراء التي أسست عام 1975 في أيام الشيخ جعفر صادق، وكانت عبارة عن جمعية رسمية مؤلفة من مجموعة من أبناء المدينة «النبطانيين» الحسينيين لتقوم بمهمة تنظيم إحياء الشعائر الحسينية في النبطية.
وفي السنوات الأخيرة، شهدت عاشوراء في النبطية تطوراً ملحوظاً تمثل في إلغاء جميع المسيرات الحزبية في اليوم التاسع من محرم، حيث دمجت كلها في مسيرة حسينية موحدة استعادت النكهة الروحية الشعبية وتجنبت الشعارات الحزبية الخاصة، ورفعت شعارات نابعة من أقوال ومواقف الإمام الحسين، فيما شهدت مسرحية عاشوراء في النبطية منذ عدة أعوام قفزة نوعية وتحولت إلى عمل فني وملحمي محترف. وعمدت لجنة عاشوراء إلى استقدام أناس مختصين في المسرح من مخرجين وممثلين ومصممي ملابس وسينوغرافيا لإنتاج العمل المسرحي في اليوم العاشر.
وتتميز النبطية عن غيرها من القرى والبلدات الأخرى بإحياء ذكرى عاشوراء من كل عام على طريقتها الخاصة من خلال تنظيم المسيرات الشعبية التي تردد فيها الشعارات الحسينية والعاشورائية ويضرب «اللطيمة» صدورهم بالأيدي وظهورهم بالسلاسل وضرب رؤوسهم بالخناجر والسيوف في العاشر من محرم قبيل وبعد انتهاء تمثيل موقعة «الطف» في كربلاء التي تقام على ساحة الإمام الحسين بن علي في النبطية.
تأثير حزب الله
لكن حضور حزب الله بقوة على الساحة السياسية الجنوبية في بداية التسعينيات وحتى اليوم ساهم بإحداث تغيير مهم في مظاهر عاشوراء في منطقة النبطية، وقد تمثل ذلك بتحريمه ضرب الرؤوس في اليوم العاشر من محرم، وإقامة مراكز للتبرع بالدم لمنع هدره، والقيام بمسيرات حسينية وجماهرية كثيفة تختلف عن المسيرات التقليدية التي تحييها لجنة عاشوراء في النبطية التي يشرف عليها إمام ومفتي مدينة النبطية الشيخ عبد الحسين صادق، وتردد في هذه المسيرات الشعارات والهتافات الحزبية والحسينية على وقع اللطم على الصدور غير المكشوفة. ويقيم الحزب من كل عام خيمة كبيرة بالقرب من النادي الحسيني في النبطية لإقامة مجالس العزاء وإلقاء الخطب السياسية والدينية والحسينية ويشارك فيها مناصروه ومؤيدوه من الرجال والنساء، فيما يلطم المشاركون في مسيرة لجنة عاشوراء وحركة أمل على صدورهم العارية ويضربون الرؤوس، كما تقام في حسينية النبطية الاحتفالات العاشورائية التي تلقى فيها أيضاً الخطب والمجالس المماثلة بإشراف ورعاية إمام ومفتي النبطية الشيخ عبد الحسين صادق.
وعلى الرغم من المسيرات والاحتفالات العاشورائية المتنوعة في منطقة النبطية فإن القائمين على هذه الاحتفالات والمسيرات من حزب الله وحركة أمل ولجنة عاشوراء في النبطية يحترمون خصوصية بعضهم البعض ويتشاركون في حضور مناسبات كل منهم منذ سنتين تقريباً، فيما كانت هذه المناسبات تشهد بعض الإشكالات والخلافات في وجهات النظر قبل تلك الفترة بسبب الظروف والاعتبارات السياسية والمحلية الماضية.
شج الرؤوس
ظاهرة ضرب الرؤوس في النبطية شهدت ولا تزال تشهد جدلاً واسعاً في الأوساط والمراجع الشرعية والفقهية الشيعية في الماضي والحاضر، بعدما افتى البعض منهم بتحريمها لما فيها من إيذاء للنفس ولمظهرها غير الحضاري من وجهة نظرهم، فيما البعض الآخر حللها لما تجسده من «جزع على الإمام الحسين ومواساة لأهل البيت في مصيبتهم» أثناء وقبيل وبعد موقعة الطف في كربلاء.
صادق
وحول تحليل وتحريم ظاهرة التطبير واختلاف المراجع الشرعية والفقهية بشأنها يقول إمام ومفتي مدينة النبطية الشيخ عبد الحسين صادق: «إن المسلم في أي عمل يقوم به يرجع إلى الفقيه الذي بدوره يرجع إلى مصادر التشريع التي لا يوجد فيها أي مستند لتحريم هذه الظاهرة، بل تقول ان الضرر الناجم عن عادة التطبير ليس ضرراً عنيفاً كبيراً يودي بعضو أو يودي بحياة الإنسان، وإنما هو ضرر عابر يتعرض له كل إنسان لا سيما وإن كان وراء هذا الضرر هدف مقبول أو لعله حسن، كما يقدم الإنسان على جرح عضو من أعضائه ليشفى تحت عملية معينة، أو يحجم رأسه والحجامة مستحبة عند كل المسلمين ولو مرة واحدة في عمر الإنسان لما يترتب عليها من فوائد صحية، وبما أن هذا العمل بذاته لا يشكل ضرراً كبيراً فلا يستطيع المرجع أن يحرمه لأن ضرره خفيف كمثل السيجارة التي هي محللة وليست محرمة».
ويتابع صادق: وهذا الضرر (شج الرؤوس) لا بأس به، ولم يحرموه فأباحوه وأضافوا إليه بأنه مستحب لأن هدفه مواساة أهل البيت في محنتهم ومصيبتهم التي حلت بهم، لا سيما وأنهم ليسوا أناساً عاديين بل هم خيرة الناس ومواساة لهم يقومون بمراسم الحزن هذه».
ترحيني
وإذ رفضت مصادر في حزب الله الخوض في هذا الأمر لأن الظرف الحالي ليس مؤاتياً لذلك فقد رأى المسؤول الثقافي لحركة أمل في الجنوب السيد علي ترحيني أنه بالنسبة للتطبير فقد اختلفت المراجع الدينية بشأنه، وما إذا كان حلالاً أو حراماً بين بعض الفقهاء أو مباحاً أو مستحباً، فمنهم من قال بالحرمة مطلقاً، ومنهم من قال باستباحة التطبير، ومنهم من قال باستحبابه، إلى أن وصلنا إلى نقطة اجتهد فيها فقهاء هذا القرن وتناولوا مسألة التطبير بالخصوص، فمنهم من حرم ومنهم من أباح، فصاحب رأي التحريم دليله أن هذه المظاهر تدل على التخلف وهي ليست حضارية، أضف إلى ذلك أنها تعود بالضرر على مرتكبها أو فاعلها مستنداً إلى رواية تقول: «لا ضرر ولا ضِرار في الإسلام»، ولمناقشة هذا الرأي نجيب: إن السيرة العقلانية وسيرة السلف الصالح من الفقهاء كانت ماضية على إباحة التطبير، وهذا أكبر دليل على عدم المنع أو النهي عنها في العصور السابقة، لذلك من أراد أن يمنعها أو يحرمها فعليه أن يأتي بدليل، لأنه لا يطالب الفاعل لهذا الأمر بالدليل بعد أن تم السكوت عليه لقرون، وإنما يطالب بدليل المنع من أراد المنع، وقاعدة لا ضرر ولا ضِرار في الإسلام لا تصح دليلاً على هذا المضمار، لأننا لا نستطيع أن نحرم كل ما يضر، وأكبر دليل على ذلك »التدخين».
فضل الله
أما نجل المرجع السيد محمد حسين فضل الله السيد علي فضل الله فقد أوضح أن فكرة التطبير لم تكن موجودة في المراحل الأولى وفي مرحلة أهل البيت الذين كانوا يحيون مناسبة عاشوراء بمظاهر الحزن ومجالس العزاء والشعر ولم ينقل عنهم ممارستهم لهذه العادة، ونحن نعتبر أن هذه الظاهرة لا تعبر عن التفاعل مع مناسبة عاشوراء لجهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر به الإمام الحسين، ومن يريد أن يتفاعل مع الإمام الحسين يجب التفاعل معه في الموقع الذي يتواجد فيه بينما الذين يمارسون هذه العادة ليسوا في هذا الموقع، والتعبير عن مواساة الحسين بهذه الطريقة هو خطأ، لأن الإنسان يجب أن يقدم دمه في المواقع الجهادية والحرب على المستضعفين، لذلك نجد أن من العلماء من حرم هذه الظاهرة بالعنوان الأولي لأن فيها إضراراً للنفس والإضرار بالنفس لا يجوز إلا في حالة الجهاد والدفاع عن النفس، لذلك حرموا ضرب الرأس ومن هنا انطلقت الفتوى بتحريم هذه الظاهرة، كما أن بعض العلماء حرموا هذه الصورة لأنها تعطي مظهراً وإضراراً سلبياً، والأمر هنا ليس واجباً في التعامل مع قضية الإمام الحسين بهذه الطريقة بل بالتعبير بواسطة الحزن ومجالس العزاء والشعر كما كان يمارسها أهل البيت لتبقى الثورة في النفوس، لذلك نعتبر أن التطبير فيه مشكلة لأن فيه إضرار للنفس في غير الموقع الذي يجب أن يكون الإنسان فيه، إضافة إلى أنه يؤدي إلى الإساءة ومثل ذلك: صور الأطفال الذين يضربون رؤوسهم، وهذه الظاهرة يجب أن لا تستمر أو يُشجع عليها لأنها ليست التعبير العملي عن مأساة الإمام الحسين، ومن المستحسن أن يتبرع ضاربوا الرؤوس بدمائهم بدلاً من ممارسة هذه العادة.
قديح
وحول تمثيل مسرحية موقعة الطف في كربلاء ا يقول مؤدي دور الشمر بن ذي الجوشن قاسم قديح: اشتركت في تمثيل عاشوراء منذ العام 1950 وكنت أحد قوم الشمر لسنتين بعدها مثلت دور حمزة ابن المغيرة ومن ثم قمت بدور هلال بن نافع حتى العام 1961 عندما تخلى الممثل حسن سلوم عن دور الشمر في الليلة العاشرة ولم يكن هناك من مجال لإيجاد الشخص المناسب فطلب مني المرحوم فؤاد كحيل الذي كان يشرف على التمثيل ويقوم بدور الإمام الحسين القيام بدور الشمر. وهكذا قمت بتمثيل دور الشمر على أحسن ما يرام وتفوقت على من سبقني في تأدية هذا الدور بأشواط كبيرة وما زلت أقوم به حتى اليوم منذ العام .1961
ويضيف قديح: كنت أنوي التقاعد عن تمثيل دور الشمر لهذا العام أنا وزميلي أحمد حجازي لأننا كبرنا في السن، ولأنه يجب على الشباب أن يستلموا مكاننا، لكن الشيخ عبد الحسين صادق رفض هذه الفكرة رفضاً قاطعاً وقال لي: إن عاشوراء هي من التراث في النبطية وأنت ورفيقك حجازي تحولتما إلى جزء من هذا التراث، وعليكما الاستمرار في تمثيل دوريكما إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
بحسب قديح فإن الميرزا هو أول من ضرب على رأسه في ذكرى عاشوراء في النبطية، وقد خاف الناس يومها من هذه الظاهرة، ولكنهم بدأوا يتحمسون لها رويداً رويداً حتى انتشرت وشاعت كما هي اليوم.
اما زميله حسن كحيل فيقول: عشقت في الرابعة عشر من عمري دور «الطرماح» وهو حادي الإمام الحسين وغنيت قصـــيدة «يا ناقتي» وأديت الآذان، بعدما طلب مني ذلك الشيخ محمد التقي صادق وكان صوتي جميلاً، وقمت بالحداء على الإمام الحسين والقاسم بن الحـــسن وكان ذلك في العامين 1948 و1949 الذي قام بتمثيل دور الإمام الحسين بن علي في مسرحية عاشوراء في النبطية عشرات السنين.
ويضيف: لقد ألفنا لجنة عاشوراء عام 1961 ووضعنا لها أسساً وحصلنا على العلم والخبر بعد ذلك بفترة وجيزة، وكانت هذه اللجنة تتولى كافة المصاريف المتعلقة بتمثيل واقعة عاشوراء، ومنذ عدة سنوات اعترضت على تطوير تمثيلية عاشوراء من خلال المسرح الحديث وفضلت أن تبقى على قدمها وتراثها، لكن الشيخ صادق أصر على تجديد المسرحية وتطويرها، عندها آثرت الابتعاد عن التمثيل لا سيما وقد تجاوزت السبعين من عمري.