ثلث العائلات العراقية في حرمان والمناطق الجنوبية الأكثر معاناة
بغداد الحياة - 19/02/07//

تصدر اليوم في عمّان دراسة من ثلاثة أجزاء بعنوان «خارطة الحرمان ومستويات المعيشة في العراق» وذلك بالتعاون بين وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي العراقية، ممثلة بالجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي- مكتب العراق، وبدعم من وحدة معلومات التنمية للدول العربية التابعة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

والدراسة التحليلية لنتائج الدراسة الوطنية للأحوال المعيشية للأسر عام 2004، التي صدرت عن الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائية والمعهد النروجي للعلوم الاجتماعية التطبيقية (فافو)، تتضمن تقريراً تحليلياً وأطلساً، وملفاً إحصائياً. وحصلت «الحياة» على ملخص لها.

وتقوم المنهجية التي تتبعها هذه الدراسة على (1) تبّني تعريف موسع للفقر باعتباره متعدد الأبعاد، وينتمي إلى مفهوم الفقر البشري، (2) اعتماد قياس لمستويات المعيشة المختلفة المحققة واقعياً في العراق من أدنى مستوى إلى أعلى مستوى، كما يمكن التعرف عليها من خلال نتائج التحقيق الميداني والاستبيان المعتمد فيه. ويتم القياس من خلال بناء دليل سمي دليل أحوال المعيشة، (3) تعريف الحرمان الموازي لما يمكن اعتباره الفقر بمعنى الفقر البشري باعتباره تعبيراً عن النقص في «إشباع الحاجات الأساسية» نسبة إلى «عتبة إشباع» تمثل الحد الفاصل بين حالات الحرمان ومستويات المعيشة الأخرى.

وتقدر الدراسة نسبة الأسر التي تعيش عام 2004 في حال من الحرمان بحسب دليل أحوال المعيشة، بحوالى 31 في المئة من الأسر وحوالى 34 في المئة من الأفراد. وهؤلاء هم الأسر والأفراد الذين يعيشون في مستوى معيشة متدن، بحسب دليل أحوال المعيشة. ومن أصل هذه النسبة، فإن خمساً في المئة من الأسر ستة في المئة من الأفراد يعيشون في مستوى معيشة منخفض جداً.

وباعتماد تصنيف الأسر إلى ثلاثة مستويات هي مستوى معيشة متدن (وهو يمثل الأسر المحرومة) ومتوسط وعال، يلاحظ وجود تفاوت بين نسب الأسر المحرومة بحسب الميادين المختلفة. ويعني هذا التفاوت ان عدم توافر البنى التحتية والخدمات المرتبطة بها تشكل إلى جانب الوضع الاقتصادي للأسرة الأبعاد الأكثر أهمية في الحرمان التي تعاني منها الأسر العراقية، ويجب بالتالي إعطاؤها أولوية في السياسات وبرامج التنمية وذلك عن طريق توفير خدمات البنى التحتية وتوسيع تغطيتها وضمان استقرارها، وكذلك عن طريق مكافحة الفقر ورفع مستوى الدخول في وجه عام.


المناطق

وبينت الدراسة ان منطقة بغداد هي الأقل حرماناً في ما يخص مستويات المعيشة بوجه عام (20.3 في المئة من الأسر محرومة) تليها المنطقة الشمالية (23.9 في المئة) فالمنطقة الوسطى (30.5 في المئة) وأخيراً المنطقة الجنوبية (42.9 في المئة)، التي تزيد فيها وحدها نسبة الحرمان عن المتوسط الوطني، في حين ان نسبة الحرمان في المنطقة الوسطى أقل.

ويشكل الوضع الاقتصادي للأسر أولوية، فهو يحتل الترتيب الأول أو الثاني لجهة دليل أحوال المعيشة في كل المناطق. ولكن الميادين الأخرى تتفاوت أهميتها بين منطقة وأخرى. ففي الشمال، هناك أولوية لميدان التعليم. وفي المنطقة الوسطى، الأولوية لميدان البنى التحتية يليها التعليم. وفي منطقة بغداد الأولوية أيضاً لميدان البنى التحتية يليها ميدان محيط المسكن (خصوصاً البعد الأمني). وفي منطقة الجنوب، الأولوية أيضاً لميدان البنى التحتية يليها ميدان محيط المسكن (خصوصاً وضع البيئة والمواصلات).

وتتشابه منطقتا الوسط وبغداد لجهة المسار، إذ كانت مؤشرات التنمية في هاتين المنطقتين الأعلى خلال السبعينات بفضل تركز النمو والتنمية خلال فترة استقرار النظام. وتراجع الوضع نسبياً خلال الثمانينات والتسعينات بسبب الحرب العراقية - الإيرانية، ثم حرب الخليج والحصار الدولي، إلا ان المعاناة فيهما كانت أقل نسبياً منها في مناطق الجنوب التي كانت الأشد تأثراً بالحرب مع إيران خلال الثمانينات وبالحصار.

أما بعد عام 2003، فإن منطقتي إقليم الوسط وبغداد هما اللتان تعانيان أكثر من المناطق الأخرى من انعدام الأمن والعنف ما يؤثر سلباً في ظروف المعيشة والاقتصادية. ومع ذلك فإن هذا الوضع المستحدث لم يلغ تأثيرات سابقة، ما يعني ان مستويات المعيشة فيهما لا تزال افضل من المناطق الأخرى، ما عدا الميادين الشديدة الارتباط بالوضع الأمني.

وفي منطقة الجنوب، كانت مؤشرات التنمية خلال السبعينات أدنى من الوسط وبغداد، إلا ان وضعها تدهور في شكل شديد خلال فترتي الحرب العراقية - الإيرانية والحصار ما جعلها أكثر المناطق حرماناً. واستمر الوضع غير المستقر بعد انهيار النظام عام 2003، خلافاً لما هو عليه الوضع في الشمال.

ويتبين من الدراسة ان ريف المنطقة الشمالية هو الأكثر حرماناً بين المناطق وفقاً لدليل مستوى المعيشة، في حين ان حضر هذه المنطقة هو ثاني أقل المناطق حرماناً، ما يجعل التفاوت بين الريف والحضر في المنطقة الشمالية الأعلى بين المناطق.

وفي المنطقة الوسطى، سجل حضر هذه المنطقة أدنى نسبة حرمان بين المناطق، في حين أتى ريفها في الترتيب الثالث لجهة نسبة الحرمان بعد ريفي الشمال والجنوب. ونتج من ذلك أيضاً مستوى تفاوت مهم بين حضر المنطقة الوسطى وريفها.

وتظهر منطقة بغداد أقل المناطق تبايناً بين الحضر والريف بالنسبة الى دليل مستوى المعيشة. وفي الواقع تحظى منطقة ريف بغداد بأدنى مستوى حرمان ضمن مناطق العراق بالنسبة الى المسكن والوضع الاقتصادي للأسرة. ويرجع مستوى الحرمان المنخفض في المنطقة المذكورة على الأغلب إلى جملة عوامل ترتبط بموقعها حول مدينة بغداد. ومن بين أهم هذه العوامل ارتفاع دخول بعض أسر هذه المنطقة، وفي مقدمها الأسر التي تمتلك بساتين الفواكه ومشاتل الأشجار ونباتات الزينة، وسكن بعض الأسر المرتفعة الدخل التي تعمل ضمن مدينة بغداد واستفادة هذه المنطقة من الخدمات أكثر من أي منطقة ريفية أخرى، بل وحتى أكثر من بعض المناطق الحضرية، نظراً الى قربها من مدينة بغداد وكون الجزء الأكبر منها يشكل امتداداً للمدينة المذكورة، في حين تراجعت مؤشرات مدينة بغداد بسبب التوسع الكبير للأحياء العشوائية التي تفتقر إلى الخدمات، وكذلك بسبب الأوضاع الأمنية بعد عام 2003 والتي أدت إلى تخريب المباني والمنشآت واحتلالها وتدهور المرافق العامة.

وتعاني المنطقة الجنوبية من درجة عالية من الحرمان سواء بحضرها أو ريفها. وتبلغ نسب الحرمان في حضر المنطقة الجنوبية أعلى نسبة بين المناطق، في حين يأتي ريف المنطقة الجنوبية مباشرة بعد ريف كردستان في مستوى الحرمان.


مقاربة جديدة

واعتبرت الدراسة ان «الخطاب التنموي السابق» في العراق لم تعد له «صدقية عملية»، داعيةً إلى «توصيف نظري جديد ودقيق لآلية عمل الاقتصاد العراقي لاستنباط السياسات التي تنفع الناس». وأضافت: «ان الاقتصاد العراقي في معطياته الحالية منقطع انقطاعاً كبيراً عن الأوضاع التي كان عليها نهاية السبعينات، والتراجع الذي عاناه الاقتصاد العراقي في ربع القرن الأخير كان عميقاً وشاملاً. كذلك حصلت تغيرات عالمية بالغة الخطورة بما فيها تحولات في النظريات الاقتصادية والاجتماعية السائدة والتي تتحكم بمنظومة الاقتصاد العالمي».

وأشارت الدراسة إلى ان العراق دخل بعد عام 2003 «مساراً من الإصلاحات الاقتصادية التي تتطلبها معالجة الاختلالات الاقتصادية الموروثة وكذلك تلك الناتجة من الوضع الحالي ومتطلبات الاندماج في الاقتصاد العالمي. ويتم ذلك بتأثير حاسم ومباشر للعامل الدولي الذي يلعب في حقيقة الأمر الدور المقرر في رسم الخيارات الاقتصادية والتنموية الكبرى للعراق حالياً ومستقبلاً في ضوء التوجهات السائدة في العولمة الراهنة. وتتضمن هذه الإصلاحات الاتجاه نحو تحرير الاقتصاد على مختلف المستويات، وتقليص الدعم أو تغيير شروطه، ودعم القطاع الخاص، وتحرير الأسعار وغيرها من الإجراءات التي يمكن أدراجها تحت عنوان عام واحد هو اتجاه الاقتصاد العراقي الأكيد نحو نظام يقوم على آليات السوق والدور القيادي للقطاع الخاص في الاقتصاد. ويعني ذلك تحولاً جوهرياً عن النمط الدولتي الذي كان سائداً قبل 2003، واستبدالاً للآليات الإدارية - السياسية في إدارة الاقتصاد والمجتمع بآليات أخرى تلعب فيها عوامل السوق دوراً حاسماً».

لكن الدراسة أكدت ان عملية من هذا النوع «ليست سهلة على الإطلاق إذ تتمثل إحدى المشكلات الأكثر أهمية التي تواجهها العملية التنموية في العراق في ان المستقبل غير واضح. ففي ظروف العراق الحالية من الصعب توقع ما سيكون عليه الوضع بعد سنة. فالعراقيون غير متأكدين مما سيحصل غداً. ويعود ذلك في جانب منه إلى ان العراق لا يزال في مرحلة انتقالية غير مستقرة، كما يعود في جانب أخر لوجود عدد كبير جداً من العوامل المؤثرة في وضع العراق، عوامل معقدة عالمية وإقليمية ووطنية على المستوى المحلي الداخلي، تتفاعل فيما بينها لتولد ديناميكيات متعددة ومتناقضة تخترق المجتمع والدولة وتفتح المستقبل على احتمالات كثيرة، ليست كلها في صالح العراق أو شعبه أو المكونات المتعددة لهذا الشعب».

وبحسب الدراسة، فإن مرحلة الانتقال الاقتصادي لا بد من ان تكون أطول مما توحي به السياسات الحالية، وأن يخطط لها في شكل جيد.