الملف برس ) تفتح قضية الدور الايراني في العراق: إيران تراقب الساحة العراقية لترصد الطرف الأقوى في تنفيذ خططها






بغداد والعواصم – الملف برس



دأبت إيران على أن تكون موجوده في المنطقة منذ فترة طويلة، دون أن ينحصر ذلك في العراق وحده، حيث أقدمت طهران على تدريب الميلشيات المسلحة في لبنان وفلسطين، رغم بُعد هذين البلدين عن الأراضي الإيرانية، إضافة إلى العلاقة " الخاصة " بشيعة الكويت و البحرين.

وبالاستناد إلى هذا التاريخ الإيراني الحافل بدعم الأطراف الخارجية، ينبغي ألا نستغرب كثيراً ما كشف عنه الجيش الأميركي مؤخراً من وجود قنابل خارقة للدروع، وأسلحة أخرى، تعود إلى إيران وتقوم بنقلها إلى أطراف عراقية. غير أن العثور على أسلحة إيرانية في أيادٍ عراقية، كما أعلن ذلك الرئيس بوش والجنرال بيتر بيس رئيس مجلس هيئة الأركان الأميركية في الأسبوع الماضي، لا يثبت أن السلطة في طهران أصدرت أوامرها إلى الجماعات المسلحة في العراق باستهداف القوات الأميركية. وعلى الرغم من صعوبة تبرئة ساحة إيران نهائياً من إمكانية إصدار مثل تلك الأوامر للميلشيات العراقية، بالنظر إلى تاريخها في ملف الانتشار النووي ودعمها للراديكالية بصفة عامة، فأنه لا يمكن فهم نوايا إيران الحقيقية دون تقييم إستراتيجيتها في العراق التي تتخطى رغبة إيران في إضعاف السياسة الأميركية.

فحسب الفهم الإيراني للوضع الجيوسياسي في العراق و المنطقة، يدرك قادة ايران أنهم سيحتاجون إلى وكلاء لهم في العراق إذا ما قررت الولايات المتحدة مغادرة العراق. لكن إذا كانت إيران ستواجه العديد من التحديات في حال عودة الجنود الأميركيين إلى أرض الوطن، فلماذا إذن تسعى إلى تسليح الفصائل العراقية، وربما تشرف على هجمات مباشرة ضد القوات الأميركية؟

ينظر معظم الإيرانيين للعراق على أنه قضية ذات شجون، فهم يشاهدون المعاناة اليومية للعراقيين، سواء على يد الاحتلال الأميركي، أو الهجمات الانتحارية التي ينفذها السُّنة، ولا يخفون تعاطفهم مع المواطنين العراقيين الذين تربطهم بهم صلات دينية ضاربة بجذورها في التاريخ المشترك للبلدين. ورغم ابتهاج الإيرانيين لسقوط نظام صدام حسين، الذي عانت إيران على يده الأمرَّين طيلة فترة الحرب العراقية الإيرانية، التي أوقعت خسائر فادحة في أرواح الجانب الإيراني، فإن الولايات المتحدة تُعَّد في نظرهم المسؤول الأول عن العنف الذي يجتاح العراق منذ نيسان 2003.

ولا ننسى أيضاً أن إيران كانت على الدوام تتوجس من أميركا ونواياها الحقيقية في المنطقة. فمنذ الثورة الإسلامية في 1979، ومناهضة أميركا بمثابة الحجر الأساس الذي تدور حوله السياسة الخارجية الإيرانية. وهذا التخوف ألهبته الولايات المتحدة أكثر بانحيازها إلى العراق في حربه مع إيران، فقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ 1979، ودخلا في مواجهات متفرقة طيلة الفترة السابقة.

وفي العقد الذي سبق هجمات 11 سبتمبر، قامت إيران بتنظيم جيشها وإعادة هيكلته بما يسمح لها بمواجهة القوات الأميركية، حتى عندما كان وجود تلك القوات في منطقة الخليج محصوراً في دول شبه الجزيرة العربية. لكن بعد وقوع هجمات 11 سبتمبر أحست إيران بأنها محاصرة ويشتد عليها الخناق، بعدما قامت بتعزيز وجودها في آسيا الوسطى، ثم أرسلت جنودها إلى أفغانستان، وعمقت علاقاتها العسكرية مع باكستان ؛ ودفعت الولايات المتحدة بقرابة 150 ألف جندي إلى العراق.

والأكثر من ذلك كررت الولايات المتحدة الأميركية تهديداتها للنظام الإيراني، ورفضت تسليم الإيرانيين المناوئين للنظام الموجودين في العراق، خصوصاً منظمة مجاهدي خلق، كما قامت بتكثيف الضغوط الاقتصادية على إيران، وتزعمت الجهود الدبلوماسية العالمية لمنع ذلك البلد من الحصول على التكنولوجيا النووية، وأخيراً جاء تأكيدها على عدم استبعاد الخيار العسكري في التعامل مع إيران، بعد إرسال واشنطن لحاملاتي طائرات إلى مياه الخليج ضمن قوتين ضاربتين مزودتين بأحدث المعدات و الصواريخ، وهي أمور ساهمت كلها في تعزيز المخاوف الإيرانية إزاء أميركا. لذا تسعى إيران قدر المستطاع إلى تقويض المشروع الأميركي القائم على نشوء عراق علماني مساند للغرب، كما أنها تريد ضمان اختفاء العقيدة الأميركية المرتكزة على تغيير النظم.



أوضاع لمصلحة إيران

وإلى غاية هذه اللحظة يبدو أن الأمور تسير في العراق لصالح إيران، بعدما أصبحت الطرف الوحيد الرابح من الحرب الحالية. فالعراق لن يتمكن من تهديد إيران لسنوات، إن لم يكن لعقود قادمة، كما أن المسلسل الديمقراطي الذي حرصت أميركا على تثبيته في العراق لم يسفر سوى عن صعود الزعماء الشيعة إلى السلطة، وهم أكثر تعاطفاً مع طهران بالطبع منهم مع واشنطن.و على الرغم من تراجع مخاوف إيران نسبياً مقارنة مع 2003، بعدما تأكدت استفادتها من مجريات الأمور في العراق وبأنها تسير لصالحها، فإن القلق الإيراني لم يختفِ تماماً. فاستمرار وجود القوات الأميركية في العراق على المدى البعيد، ثم مستقبل النظام الشيعي في بغداد يظلان ضمن أسئلة أخرى ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات. وتظهر الصعوبة خصوصاً في حال عدم استمرار العراق لفترة أطول وتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين العراقيين إلى إيران كما حصل خلال الحرب العراقية- الإيرانية، وهو ما يمكن أن يغذي الاضطرابات في الأوساط العربية والكردية داخل إيران.

وبإدراك إيران الى قرب انسحاب القوات الأميركية إن عاجلاً، أم آجلاً تسعى إيران إلى خلق الظروف المناسبة لبسط نفوذها في العراق وتسلمه بعد خروج الأميركيين. وإذا كانت الولايات المتحدة تركز على مسألة تمويل إيران لوكلائها في العراق وما لذلك من تأثير سيئ على المصالح الأميركية، فإن ذلك بالكاد يشكل أولوية لإيران. فهي تسعى قبل كل شيء إلى تدعيم وجودها في العراق بعد مغادرة القوات الأميركية من خلال تمتين علاقاتها مع الميلشيات الشيعية التي تمدها بالسلاح مقابل الحصول على ولائها غداً. والأهم من ذلك قدرة تلك الميلشيات على دحر خصومها في عراق المستقبل والبقاء في السلطة.



خلق أنموذج حزب الله اللبناني

ولعل المثال اللبناني يوضح هذا الهدف، بحيث قامت إيران بإنشاء "حزب الله" ومكنته من الوسائل اللازمة للتغلب على خصومه من الجماعات الشيعية المنافسة ليبرز في الأخير كقوة سياسية على الساحة اللبنانية. وفي ظل صعود رئيس متشدد إلى السلطة في إيران لا يتردد في إظهار مناهضته لأميركا وإعلان رغبته في إخفاق المشروع الأميركي في العراق، فإنه ليس من الغريب أن يعمد النظام إلى تزويد الميلشيات الشيعية بالسلاح والمتفجرات لضرب القوات الأميركية.

وعلى رغم اختلاف النخبة الإيرانية بشأن تفاصيل العلاقة مع الولايات المتحدة ووجود أصوات أقل تشدداً، فإنها تتفق جميعاً على ضرورة إبعاد خطر تغيير النظام، وذلك من خلال إنهاك أميركا في العراق. بيد أن إيران التي تسعى إلى استهداف الأميركيين قد تظهر في أعين الكثيرين على أنها تعتدي على العراقيين أنفسهم. فرغم الهجمات التي تشنها الميلشيات الشيعية على القوات الأميركية، فإنها توجه في الأساس ضد القوى السُّنية المتعددة في البلاد، وهو ما قد يستنفر باقي الشرائح العراقية ضدها. فإيران كانت تسعى على الدوام إلى استمالة باقي الأطراف العراقية من غير الشيعة، لاسيما الأكراد الذين يعتبرون اليوم من أقوى العناصر في العراق وأكثرها تنظيماً.



انضباط حزب الله في دولة ضعيفة

و يقوم الضباط المخططون الإستراتيجيون الأميركيون في الوقت الحاضر بأجراء مقارنة بين الميليشيات الشيعية في العراق _ خاصة جيش المهدي _ و بين حزب الله، الذي هو الميليشيا الشعبية البارزة في لبنان إضافة إلى انه حزب سياسي. و يأمل المحللون الوصول إلى فهم لهذه الميليشيات في الوقت الحاضر و كيف ستتصرف في المستقبل القريب.

وعملياً لا خير من إجراء مقارنة كهذه، فالبيئة السياسية اليوم في العراق لها الكثير من التماثل مع البيئة اللبنانية خلال الثمانينات القرن الماضي حينما ظهر حزب الله كمقاومة وطنية و قوة سياسية ، كما هو حال حرب العراق الآن، كانت الحرب الأهلية اللبنانية حرب ميليشيات ، تتصارع فيها أطراف مسلحة عديدة لتحمي إقليمها و تطرد القوى الخارجية و توفر الخدمات الأساسية لأنصارها .إضافة إلى التشابهات البيئية بين لبنان آنذاك و العراق الآن، هناك عامل آخر، و هو أن حزب الله أصبح بعد حرب صيف (2006) بينه و بين إسرائيل نموذجاً للمقاومة و البسالة العسكرية، تود الميليشيات العراقية أن تقلده.

ومع هذا فالفوارق بين لبنان و العراق و بين الميليشيات فيهما تظل قائمة، و على أية حال فهناك عدة مشاكل على طريق المقارنة بين الميليشيات العراقية و بين حزب الله ، في مقدمتها أن المناخ الذي سمح لحزب الله لأن يتطور و يغدو "دولة داخل الدولة " و قوة عسكرية نافذة، ظل قائماً لأكثر من ثلاثة حقب قبل اندلاع حرب صيف عام (2006) بين حزب الله و بين القوات الإسرائيلية . فلبنان هو تاريخياً دولة ضعيفة تحكم فيها سبعة مجموعات دينية بواسطة قيادات طائفية و تنظيمات فئوية بدلاً من الحكومة الفدرالية. و قد استمرت الحال هذه منذ استقلال لبنان (1943)، و أصبحت أكثر بروزاً بعد العديد من المذابح الطائفية التي دفعت البلاد إلى الحرب الأهلية الدموية التي استمرت خمسة عشر عاماً بعد أن بدأت في عام 1975.

إما العراق ، فبدا على الضد من ذلك ، إذ سيطرت عليه دكتاتورية شمولية حتى نيسان عام 2003 ، لم يدخل في حالته الحالية إلا منذ أن قادت الولايات المتحدة غزواً في ذلك العام و أطاحت بصدام حسين، و تركت بعده فراغاً في السلطة، علاوة على هذا فان حزب الله هو منظمة أكثر نضجاً و انضباطا من أية ميليشيا عراقية شيعية . و كما اشرنا سابقا، فأن تطور حزب الله إلى قوة سياسية ناضجة تتصرف كنصف دولة في الجنوب اللبناني، في " وادي البقاع " و أطراف بيروت الجنوبية، حدث لعقود من السنين. فما ظهر في بداية الأمر كمجرد مجموعات متفككة من الشيعة المسلحين، تطور مع مرور الزمن إلى شبكة توفر للمجتمع خدمات تعليمية و طبية و غيرها. كذلك تمتعت تنظيماته بدعم مالي و مادي من إيران على نطاق قد يزيد كثيراً على كل ما كان متوفراً للمجموعات العراقية. فليست هناك أية ميليشيات عراقية، باستثناء البيشمركة في المناطق الكردية، من المتوقع أن تتصرف بنفس المستوى من الانضباط و التنظيم الذي تميز به حزب الله في لبنان . ومما يجدر بالملاحظة أيضا هو طول الفترة الزمنية التي كانت فيها قوات الدفاع الإسرائيلية تتمتع باليد الطولي في مواجهة حزب الله في ميادين القتال، حيث أن حزب الله لم يحقق أية نجاحات مهمة في ميادين القتال ضد القوات الإسرائيلية إلا في التسعينيات . ففي هذه الحقبة تمكن الحزب من تطوير تكتيكاته و أصبح تدريجياً أكثر خبرة في استخدام أنظمة أسلحته من جانب، و هذا ما لفت أنظار المراقبين في حرب الصيف الماضي، و غدا من الصعب على المخابرات الإسرائيلية التسلل إلى صفوفه من جانب آخر . و كانت نجاحات حزب الله في صيف 2006 هي نتيجة دعم ثابت لمساندين خارجيين مثل سوريا و إيران، وكذلك نتيجة للتحضيرات المكثفة التي أعقبت انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000 و كذلك التطوير العسكري السياسي الآخذ بالتصاعد منذ عام 1982.



تقدم في قدرات قتال المسلحين العراقيين

ورغم أن الميليشيات في العراق قد لا تكون قادرة على القتال بنفس كفاءة حزب الله ، فأن المخططين الأميركان على صواب حين يعتبرون نجاحات حزب الله في لبنان نموذج الهام للميليشيات العراقية، و أن رجل الدين الشيعي " مقتدى الصدر" الذي أعلن هو و الميليشيا التابعة له دعمه و تضامنه مع حزب الله خلال حرب الصيف ، و وافق كما أعلنت ذلك حديثاً الاستخبارات الأميركية على أن يتلقى هو و مقاتلوه تدريباً من حزب الله في كل من لبنان و العراق . و أن أمام الميليشيا العراقية طريقاً طويلاً قبل أن تبدأ بمضاهاة حزب الله على صعيدي التكتيك و الانجاز في ساحة المعركة . وعلى أية حال فأن العديد من المعلومات المزعجة ذهبت إلى القول بأن الميليشيات و المجموعات المتمردة في العراق أحرزت تقدماً و بسرعة مخيفة في إعداد نفسها و استخدامها للأسلحة الأساسية و أنظمتها المتطورة . وفي الأسابيع القليلة المنصرمة تم إسقاط ست طائرات هيلوكوبتر أميركية في العراق .

وتختلف المصادر فيما إذا كانت هذه الطائرات أسقطت بأسلحة تقليدية صغيرة أو بأسلحة أكثر تقدماً كالصواريخ التي تطلق من الكتف. فإذا كانت الأسلحة التقليدية الصغيرة هي التي استخدمت فعلى المراقبين أن يستنتجوا بأن المليشيات العراقية من المجموعات المتمردة أصبحت أكثر دراية و خبرة في استخدام الأسلحة الصغيرة ضد طائرات الهليوكوبتر الأميركية ، وتلك علامة تثير قلقاً لدى العسكريين الأميركيين الذين اعتادوا على الاستفادة من طائرات الهليوكوبتر في الحرب المضادة للمتمردين . إما إذا كانت الصواريخ التي تطلق من الكتف هي التي استخدمت ، فسيكون لقلق الأميركيين سبباً جديداً ، مختلفا ، وهو أن الميليشيات العراقية التي تهاجم الوحدات العسكرية الأميركية لا تزود بالأموال فقط، و إنما تزود بالسلاح و تدرب عليه بواسطة قوى خارجية مثل إيران. و قد ازداد هذا القلق أثر صدور تقارير ذكرت بأن إيران مسؤولة عن إنتاج أكثر القنابل التي تنفجر على الطريق قوة و تستخدم في هجمات الميليشيات الشيعية ضد قوافل المدرعات الأميركية و دورياتها، إضافة إلى ما جاء في تقرير وزارة الدفاع بشأن تفاصيل الدعم العسكري الإيراني للمليشيات .



الطموح في المضاهاة

إن حزب الله شأنه شأن الميليشيات العراقية هو نتاج بيئة سياسية و اجتماعية فريدة الطراز. ولذا يترتب على المخططين الأميركان أن يكونوا حذرين في رسم مقارنة واسعة بين حزب الله و المليشيات العراقية فأن خصائص احداهما قد لا تتطابق مع خصائص الأخرى، وفي الوقت ذاته فأن المخططين الأميركان على صواب في افتراضهم بأن الميليشيات العراقية تسعى لأن تضاهي حزب الله في أدائه في ميدان المعركة ، وفي تكتيكاته و نجاحاته . ولهذا لا بد ان يقلق المخططون الأميركيون تجاه أية أسلحة أو تدريب يجعل الوجود الأميركي في العراق أكثر فأكثر تعرضاً للخطر بذات الدرجة من الخطورة التي عانتها القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان .

و لذا فأن معرفة نوع اللعبة التي يلعبها الإيرانيون في العراق تكتسب أهمية خاصة.. ربما تنتظر إيران لترى أية ميليشيا شيعية ستبرز هي الأقوى قبل ان تساند أي طرف مساندة كاملة، أو ربما تحاول دعم ميليشيا موالية منسقة بذات الطريقة التي انشقت فيها أمل الإسلامية _ حزب الله لاحقاً _ عن ميليشيا أمل اللبنانية في بداية ثمانينات القرن الماضي .

كل هذا يظل موضع نظر، ففي الوقت الحاضر يجب على المخططين أخذ الدروس من ظاهرة حزب الله مع الانتباه الدقيق إلى البيئة العراقية الشديدة التعقيد سياسياً و عسكرياً.