[align=justify][align=center]بسم الله الرحمن الرحيم

عظّم الله أجوركم بمناسبة أربعين الحسين عليه السلام
عظّم الله أجوركم باستشهاد الكواكب النيرة من زائري مدينة الشهادة والفداء.[/align]

أخوتي في الله:
ما يلي ذكرياتٌ من زيارتي للحسين (ع) عام 2004 في عاشوراء حيث بدأ مسلسل الأجرام القذر لمخانيث الجزيرة بتحريض أمرائها وفسقتها من بائعي الشرف والضمير..


[align=center]كنت في كربلاء الحسين (ع) يوم العاشر من محرّم الحرام[/align]


صَفَتْ النيِّةُ وتمَّت المشاورةُ واكتَمَلَ العزْمُ. ثمَّ ما جاء يومُ العبّاس في السابع من محرّم الحرام إلاّ وانطلقت بنا السيّارةُ أول الصباح متهاديةً في طريقها إلى مدينة الفداء.. صاح بنا أحدنا لنصلّي على محمدٍ وآل محمّد فعلى الهتاف مرّة ومرتين وثلاث مرّاتٍ.. وبدأ منّا من بدءَ بقراءة القرآن فيرينُ السكون إلاّ من هديرٍ رفيقٍ للسيارة، والآذانُ ومعها القلوب تنصتُ في صفاء إلى كلمات الله النافذة في الآفاق.. بعضنا يسبّحُ وبعضنا رافعاً يديه يلهج بالتصديق والتأمين.. وبعضنا يحدّق عبر الأفق البعيد وآخرون لمعت ومضاتٌ من نور الشمس من على دموعهم الندية التي انساحت من أعماق العيون..

وبعدها.. حان الحينُ للعزاء.. فقام قارئنا ليحكي لنا صوراً من ملحمة الحسين (ع) ونحن نلطم على صدورنا مردّدين خلفه ذلك المقطع البهي الذي يقول (حبّيتك يا حسين آني حبّيتك.. وجيتك أتمنى لو فاديتك.. وبروحي لو حاميتك.. حبّيتك .. حبّيتك..)، وما مرّت ساعة أو بعض ساعة إلاّ وكنّا على أديم أرض البطولات وعلى مسافةٍ غير بعيدةٍ منّا كانت منائر سيّدنا العباس عليه السلام تتلألأُ بأنوار الشمس المنعكسة عنها لترسم أشكالاً زاهيةً استشعرتها القلوب تقول: (مرحّباً بزوّار الحسين "ع").

ثمَّ افترقنا كلُّ جمعٍ لسبيله.. واستأذنت أخوتي لكي أمضي سائحاً وزائراً لوحدي.. فمضيت أشقُّ الطريق عبر جموعٍ لا أول لها ولا آخر.. من موكبٍ إلى موكبٍ.. من مسيرةٍ إلى أخرى .. وعيناي تنقلان الأخبار.. هذا موكب الفاطمية فمعه معه.. حتى الحسين.. وذاك موكب (العباسية).. إلى الحسين.. موكب الصدّيقة الزهراء.. موكب أحباب الحسين.. يا لله ووجوه العاشقين.. يا لله وهذا الحماس الربّاني الذي لم أشهد له مثيلاً.. يا لله ورايات الحسين تخفق بقوّةٍ وثبات.. يا لله وتلك الزناجيل ترتفع للعنان لتحطّ بعنفٍ على الظهور.. على الرؤوس.. على الوجوه.. يا لله وتلك الدموع.. أنهار من الدموع.. حيثما درتُ دموع أينما صرتُ دموع.. وجوه حزينة جاءت من كلِّ ناحيةٍ من العراق.. من إيران.. من لبنان.. من الخليج.. من الهند.. من باكستان.. وبعضٌ قليلٌ من آفاقٍ أخرى.. وجوهٌ تعيش مأساتها الحسينية التي لن تنطفيء حتى ينطفيء الدهر.. قلوبٌ كزبر الحديد تتمنّى لو كانت حاضرة المعركة.. بركانٌ على وشك أن ينفجر ليقضَّ مضاجع المستكبرين ورثة شمرٍ ويزيد وأذنابهم..

ومضى النهار وآب الجميع إلى السيارة ليكون عوداً مبروراً وزيارة مقبولةً.. ولكنَّ قلبي بقى.. قال لي (سأبقى هنا فعن قريبٍ ذكرى عاشوراء.. سأبقى!).. فقلتُ في قرارتي: (أبق أيها القلب.. أبق.. وما أسرع ما سأعود ولو حبواً على الشوك!).. وبعد يومين تدثّرتُ العزم وحيداً إلى كربلاء لألتقي قلبي والحسين.. خرجتُ من البيت ضحىً.. ووصلتُ حوالي العصر بعد طريقٍ طويلٍ حفّت بها مئات القوافل وقاطعتها نقاطٌ من التفتيش لعشرات من الشباب الحسيني الحبيب الذي كان يطلب منّا برجاءٍ أخويٍّ ليفتّشنا وأمتعتنا..(هاك يا أخي.. هاك صدري.. بل وروحي.. هاك آلاف من الحب العظيم) وفي الأثناء يقدّمون لنا الماء.. العصائر.. البساكت المختلفة.. الحلوى.. وطيب الخاطر الذي لا أجمل منه..

وعلى مسافةٍ لا تقلُّ عن عشر كليومترات وجدتني أغذُّ الخطى مشياً إلى كربلاء، وحيث أنني جئت من شمال المدينة من بغداد لكنني مشيتُ إليها من جنوبها من طريق النجف الأشرف.. كانت هذه حيلة السائق الذي عرف الطريق الفرعي الذي يخفّ من الزحام.. طريقٌ يخترق عشرات البساتين الخلاّبة الساحرة بمحاذاة جدولٍ عريضٍ ينساب بمائه الصافي عبر قرىً عديدةً كلها لبست ثوب الحداد وهبّت لتستقبل الزائرين بكل مودة وترحاب وبضيافةٍ نقيةٍ لا ترتجي إلاّ الثواب من الله تعالى..

وفي الطريق لن تجد إلاّ الماشون.. الماشون سراعاً كأنّهم على موعدٍ للشوق يدفعهم دفعاً فما سابقٌ إلاّ وقبله من يلحقه وما لاحقٌ إلاّ وبعده من يسبقه.. زرافات.. زرافات.. رجال.. نساء.. صبيةٌ.. أطفال.. مشايخٌ أحدودبت ظهورهم ومعها عصيّهم.. وآخرون ما برح الشوقُ بهم حتى جاءوا من أبعد فجٍّ على مقاعد العربات برغم شدّة أسقامهم وشيب لحاهم وضعف بنيتهم.. هؤلاء هم المقعدون..

وبعد مسيرةٍ بين هذا الركب الجليل.. انتصب فجأة أمامي مرقد سيّد الشهداء فلم أتمالك إن هتفتُ (اللهم صلّ على محمد وآل محمد) فيردُّ الصدى عبر حناجر ضيوف الحسين بنفس الهتاف وبحدّةٍ تنمُّ عن حبٍّ عميقٍ لأهل البيت الكرام عليهم السلام..

وأنخت ركابي لدى أبي عبد الله في خشوعٍ معمّدٍ بالدموع.. وبقلبٍ مفجوع ورأسٍ حاسرٍ محاولاً أن يتلقّف ذكرى عاشوراء بكلِّ ما تحمله من رزءٍ وظلمٍ من أبناء المارقين والقاسطين.. وبكلِّ من تحمله من أباء وشممٍ من أبناء الأنبياء والأولياء.. وهناك سرّحتُ روحي مسلّماً على أحبّة الله: على سيدي الحسين (ع) وعلى سيدي عليّ بن الحسين (ع) وعلى سادتي أصحاب الحسين ومناصريه عليهم من الله السلام التام.. على سيدي حبيب الله حبيب بن مظاهر الاسدي.. وعلى عبد الله المجاب.. وركعتُ لأقبِّل الجدار القريب من المذبح ومعي العشرات الذين كانوا ينتظرون دورهم للتشرّف بتقبيل هذه البقعة المباركة حيث المذبح القدس الذي انتقل فيه الحسين (ع) إلى جوار الله.. ولقد أقفل الباب دون الدلوف إلى هذا المكان الطاهر لشدّة الزحام..

حتى إذا أنهيتُ الزيارة ذهبتُ إلى حيثُ أخوةٍ أحبّة جعلوا بيتهم مضيفاً لزوّار الحسين (ع).. أخوةٍ طال الشوق لرؤاهم وهناك أخذتُ شيئاً من راحةٍ وصلاة، وغيّرتُ ثيابي بعد إن اغتسلت وتوضّأت.. ثمَّ عدتُ إلى المعمعة حيث المواكب الرهيبة.. حيثُ الملايين من الزائرين الذين انتظموا في مسيراتٍ لم أشهد لها مثيلاً عمري كلّه.. وبينما أنا سائرٌ تذكّرتُ يوم أتيتُ إلى عاشوراء كربلاء ذات هجيرٍ حارٍ قبل أكثر من خمسة عشر عاماً أو تزيد فلم أجد حول المرقد إلاّ قلّة قليلة من الناس وكانت كربلاء خاوية من الزائرين.. بل كانت هذه القلّة في معظمها من زبانية يزيد العصر من أمنٍ ومخابراتٍ ووكلاء.. وعجبتُ لنفسي حينها وحيداً.. كنتُ أتيتُ جنديّاً وحيداً!!.. يا سبحان الله لهذا الفارق بين يومٍ ويوم..

قربتُ من العبّاس (ع) آتياً للسلام عليه شاقّاً طريقي بين المواكب عبر الساحة التي تتوسط بين المرقدين وحاولت الدخول لمرّاتٍ ثلاثٍ ولكن أنّى وهذه المجاميع الضخمة كالبحر لا يكاد يرى آخره! فاكتفيت بالوقوف أمام الباب الرئيسي المقابل لمرقد سيد الشهداء وهناك ترنّمت بكلمات الزيارة والسلام.. وبعدما انتهيتُ وأدرت ظهري مولياً شطر الحسين (ع) وإذا بموكبٍ قيد التشكيل أرى في ملامحه وجوهٌ كأنّها المجان المطرقة وفي مقدمته لافتةٌ تختلط فيها العربية بالفارسية.. وإذن فهؤلاء فتية فارس!.. ولقد جاءوا من مدينة يزد.. كان موكباً لهم مهيباً يتزامن فيه صوت الدفّ مع ضربات الزناجيل على الظهور وبين الضربة والضربة يصدح الرادود بما يخالج القلب قبل السمع!!.. ومضيت مع هذا الموكب إلى حيث هو ماضٍ صوب الحسين (ع) تُرافقنا أنفسٌ حرّى لآلاف اصطفت لتملأ أعينها من هذا المشهد الآسر الذي تابع مسيره إلى داخل الصحن الحسيني الشريف ليقدّم العهد من أجل نصرة الحسين (ع) ونهضته المباركة.. ولا أدري كيف أخذني السرى عبر الأثير إلى أيّام ملحمة الدفاع المقدّس حيث الحرب السجور بين الإيمان والفجور.. الحرب التي شنّها صدّام الذليل على الجمهورية الإسلامية في إيران.. الحرب التي كنتُ شاهداً عياناً على الكثير من تفاصيلها وبطولاتها بحكم كوني قريباً منها في البصرة وجامعتها.. والله تعالى يشهد أنَّ الألم كان يعتصرني لأنَّ هذه البطولات التي تفوق الخيال يقوم بها شبابٌ يريد أن يكحل عينه برؤية قبر الحسين (ع)، وكنت كلّما حانت مني فرصةٌ لزيارة كربلاء فيما سبق أزورُ عنهم شهيدهم وشاهدهم وأدعو الله أن يأتي اليوم الذي يتحقّق فيه لهم حلم الزيارة للحسين (ع).. والحمد لله على دعاءٍ مستجاب.. وكأملٍ شخصيٍّ فإني أرجو من كلِّ من يقرأ موضوعي هذا الدعاء بأن يمنَّ الله عليَّ بزيارة سيدي الإمام الرضا (ع) في مشهد المقدّسة وله من الله خير الجزاء..

وبعد..

فقد مضيتُ الليل أشهد المواكب تترى.. ومعظمها مواكب أهالي كربلاء الأبطال وهي تتقدّم فارعةً يبدأ أولها من صحن العباس (ع) أو حوله وينتهي آخرها في صحن الحسين (ع).. موكب في إثر موكب.. عهد في إثر عهد.. هتاف في إثر هتاف.. وحينما مددتُ ناظري إلى البعيد قرأت لافتةً ضخمة تقول موكب الجامعة المستنصرية.. تاالله لقد جاء هذا الموكب الكبير الموكب الذي تحدّى الطغاة.. الموكب الذي لا زالت تقوده روح الشهيد المقدام د. نوري طعمة أحد أبطال قبضة الهدى التي قام بقتلها نظام البعث المجرم عام 1975.. جاء هذا الموكب خارجاً من قمقمه ليتحدّى بهديرٍ عالٍ وبحناجر فتية أبت إلاّ أن تتمّ المسير.. كنت أصرخ بهم .. هيّا يا شباب .. هيّا طلاب.. خذوها بقوّة.. فالراية لن تنكفأ أبداً طالما هم هم الشهداء.. ومددتُ يدي إلى من أعرفه ومن لا أعرفه من هؤلاء اليافعين الحبيبين.. طلبة جامعة المستنصرية البطلة.. ومضت عادتي مع كل موكب لهم.. هؤلاء طلبة الهندسة.. وعقبهم الطب.. وبعدهم الإدارة والاقتصاد.. والآداب.. ثم هؤلاء شباب جامعة بغداد بكلِّ كلياتها.. وجامعة كربلاء وبابل وطلبة المعاهد.. وكلّهم يهتفون بألوانٍ زاهيةٍ من الشعارات ويرددون مع اللطم الأبي كلمات الوفاء لسيد الشهداء.. وكان القاسم المشترك لهذه الجموع هو الهتاف الخالد الذي بدأ وسيبقى ما بقيت أرضُ الرافدين تقدّمُ من قرابين على طريق ذات الشوكة.. الهتاف الذي يشقّ عنان السماء لترجعهُ الأكوانُ صدىً يهزَّ كلّ المدائن.. الهتاف الذي أرعب كل الشياطين.. الهتاف الذي فيه حتفهم النهائي.. هتاف النصر القادم العظيم..

(أبد والله.. يا زهراء.. ما ننسى حسينا)

أجل.. وأبد والله.. ولو كان المصير جهنّم .. ما ننسى حسينا.. فموتوا بغيظكم يا قتلة الحسين وأنصار الحسين في كلِّ آنٍ ومن كل مكان..

ثمَّ.. ما قفز الزمن إلى ما بعد منتصف الليل.. حوالي الساعة الثانية فجراً بتوقيت بغداد حتى بدأت المواكب الرهيبة.. مواكب السيوف والأكفان والوجوه الملفّعة بالإصرار والتحدّي.. مواكب التطبير.. ويا ما أقساها.. ما أقسى روعتها.. ويحاً لكم يا أهل كربلاء.. فعلتموها والله!! فكان هو عشقاً منكم نافذاً من القلب إلى القلب.. ويحاً لشهداؤكم.. منارٌ من الرتل المقدّس.. ويحاً لنا جميعاً محبّي الحسين (ع) مشاريع القتل للاستبداد والطغيان.. (ويحاً لعمّارٍ تقتله الفئة الباغية)..

سيوفٌ تلمعُ وأكفٌ كأكفِّ العباس عليه السلام وأغطيةٌ سوداء تلفُّ الرؤوس وملابس سوداء تعلوها الأكفان وفُرَقٌ من حاملي الدفوف الجلدية والمعدنية تتوسط حلقات من الشباب الرسالي.. وصيحةٌ واحدةٌ تنسابُ بهدوء مشوب بالرهبة.. (يا لثارات.. حسين) (يا لثارات.. حسين).. ما أشدّ الوقع على الحاضِرِ.. وما أشدّ الأسف على الغائب.. أفمثلها ليلة؟!

ولكني عجبتُ.. فسألتُ أحد الزائرين قائلاً: (ولكن.. يبدو أن التطبير بلا دماء!!).. أجاب: (رويداً يا أخي.. ويأتي الفجر.. ثم ترى!!).. فقلت له وكلّي أسف: (عسى والله لا فجر!).. فقال: (ولِمَ يا أخي).. فقلتُ: (إمّا التطبير فنعم.. إنما لا دماء.. يا أخي لو اكتفوا بما ترى.. فالعالم كلّه يرى.. فانظر إلى أجهزة التلفزة ومراسلي ومراسلات الدنيا.. العالم.. كلّه يحدّق هنا الآن.. ولا حدّق في الفجر)!!.. أجابني: (صدقت.. أخي ولكن.. غصّة وستبقى حتى يأذن الله بخير).. قلتُ: (إنشاء الله..)

موكب تطبير الفاطمية.. موكب سيد الشهداء.. موكب أحباب الحسين.. موكب أبناء الصدر الثاني.. موكب العباسية.. موكب الزينبية.. مواكب.. ومواكب.. تمتد مع امتداد الليل إلى أن صدح قرآن الفجر.. فوجدتني أفترش الأرض بسجادتي التي كنت أحملها على كتفي.. ثم ما أسرع ما غفوت ملتحفاً بالسماء.. فقد أتعبني هذا الليل المهيب.. وبعدها بفترةٍ قد لا تزيد عن دقائق عشر أيقظني أحد الذين كانوا بجواري للصلاة.. فنهضتُ مسرعاً إلى بيت أصدقائي القريب لأتوضّأ ثم أصلّي الفجر ثمَّ أعدَّ نفسي للعودة إلى بغداد بعد زيارة الوداع.. وهكذا ومع خيوط الفجر الأولى كنت سائراً بجوار المرقد المشرّف لسيد الشهداء ومارّاً بجانب الساحة بين الحرمين.. الساحة التي بدأت تسير فيها مواكب التطبير الدموية.. والتي لم أشأ أن أسير إلاّ بعيداً عنها ملقياً نظرةً من بعيدٍ استشفّ معها ألف سؤال وسؤال.. وما كنت عنها براضٍ والله.. كان هذا هو شعوري عنها وقتها.. ثم مشيتُ قريباً من سيدنا العباس بن عليٍّ (ع) حتى إذا ودّعته سرت باتجاه الشمال إلى حيث أفترض أن السيارات تنتظر الزائرين لتقلّهم إلى حيث أوبتهم.. وفي هذا الطريق حدث أنني شئت احتساء قدح من الشاي وكان هذا على مسافة قليلةٍ من فندق القمر الذي يقع في رأس الشارع بمواجهة مرقد العباس (ع) حيث وضع سياجٌ حديديٌّ مؤقتاً وبجانبه موزّعي الشاي المجاني من الشباب الكربلائي الطيّب، وهناك أردت أن أتمازح مع أحد هؤلاء وقد كان ينظّف الارضية القريبة بمكنسةٍ يحملها فقلت له: (يا أخي. هل أنت على يقين؟ هل أنت تؤمن بالله حقّاً ويقيناً وتفعل ما تفعل لوجه الله؟) فاشرأب إلي بعينيه متعجّباً، بل ومستنكراً هكذا سؤال وصاح بحدّة (نعم.. نعم) فقلتُ له: (مهلاً أخي.. ولكن حتى العباس (ع) لا يقول مثلك؟!) فنظر إليِّ بتوفّزٍ ثم قال: (وكيف؟) قلت: (ألا تقرأ تلك اللافتة ما تقول على لسان سيدنا العباس عليه السلام مخاطباً نفسه " وتشربين بارد المعين ما هكذا فعال صادق اليقين"؟!)، لم يجبني وعاد لينشغل بالتنظيف حتى إذا أنهيت الشاي ربتت على ظهره وقلتُ له: (أخي..إنشاء الله.. قل إنشاء الله أنا على يقينٍ يا أخي) فصاح برضىً (إنشاء الله وفي أمان الله)..

ثمّ قطعت مسافةً طويلةً لأجد مركبةً تقلني إلى بغداد التي وصلتها بعد ساعتين.. وفي بيتي لم أجد أحداً من أهلي فأسلمتُ نفسي للرقاد.. وكانت الساعة حوالي التاسعة والنصف صباحاً. واستيقظت عند الساعة الثالثة بعد الظهر على جلبة الأطفال الذين كانوا بصحبة أمهم في زيارة أهلها.. وما رأوني أنهض إلا وأخبروني بالنبأ المفجع عن الكاظمية وكربلاء..

تالله.. أقسمُ بالله الذي لا إله إلاّ هو.. لقد كنت أسير الليل في سوح كربلاء وأنا أهتف بالقنابل أين أنت هيّا تفجّري يا سؤة اللئام فقد أتيتُ.. أتيتُ أيّها الجبُنُ اليزيدي.. أتيتُ يا بغايا الحجّاج.. أتيتُ يا بُغضَ الدوانيقي.. أتيتُ يا حُقد اللارشيد.. أتيتُ يا دناءة المتوكّل.. أتيتُ يا أبالسة الشرّ الصدّامي.. أتيتُ يا أحفاد بن ملجم.. خوارج الجزيرة.. أتيتُ يا أبناء الزنا والخنا.. فهيّا انسفي واجعلي الركام فوق الركام.. فلا والله ما ننسى حسينا..

وإذن فقد فاتني مسير الشهداء.. فاتني أروع موكب في الدنيا.. ولله الأمر من قبل ومن بعد والحمد لله رب العالمين.. وما هي إلاّ أيام ثلاثةٍ وكنت في كربلاء مرّة أخرى.. وهذه المرّة مع عائلتي كلّها.. ووآسفاه يا شارع الدماء.. وآسفاه أيها الشهداء وآسفاه يا من كنت منهم قريباً.. وآسفاه يا من تشرّفت بشايهم الطاهر.. وآسفاه أيها الأخ اليقيني..وأجل إنّك لعلى يقين.. فالى الجنة والله..

لقد علمت من الإخوة الذين كانوا شهوداً أن أحد الشياطين قد فجّر نفسه أمام المكان الذي احتسيت فيه الشاي على بعد حوالي متر منه.. واستشهد هؤلاء ومعهم العشرات.. فلم أجدني أغالب دمعةً فقد جفّت الدموع ولكني وجدتني أغالب نداءً لم يلبث إنِ انطلق بقوّةٍ:

[align=center][align=center]أبد والله يا زهراء ما ننسا حسينا[/align][/align]

رحم الله شهداؤنا الأبرار.. وليعلم الكاذبون من أهل اللحى الخارجة.. ليعلم هؤلاء الذين يتسمون بأسماء مشايخ السوء.. ليعلموا أننا مهما قذفوا ومهما فجّروا ومهما قتلوا ومهما عربدوا سنبقى ننهل الشهادة من الحسين.. ونتجرع الموت للحسين.. ونتحمّل الويل للحسين.. وسنبقى نهتف دائماً وأبداً : (يا ثارات.. حسين)..

[/align]