بغداد تحتضر

في الشهر القادم يجتمع المثقفون العراقيون للبحث في وضعهم. وهذه جملة فيها كثير من التجاوز. هل قلت «يجتمع المثقفون العراقيون؟» استغفر الله. المثقفون العراقيون لا يجتمعون على شيء. فلأقل سيلتقون. وسيكون لهم لقاءان، واحد في اربيل في اوائل مايس (مايو) والثاني في عمان في 14 مايس. لا ذكر لبغداد في الأمر. وهذا خير تصوير وايجاز لمحنة المثقف العراقي. لم يعد في امكانه ان يلتقي بزملائه وبخصومه في عاصمة بلده، بغداد ام الحضارة العربية، بلد السياب والجواهري والوردي.

كنت قد وصفت لندن قبل سنوات فقلت انها غدت عاصمة الفكر العربي. ودليلي على ذلك انني اشتغل فيها. ولكن يظهر أن مركز الثقل انتقل الآن الى عمان بدون علمي. «المجلس العراقي للثقافة» المزمع عقده في العاصمة الاردنية هو اللقاء الثاني الذي ينظمه الزميل ابراهيم الزبيدي للمثقفين العراقيين لجمع كلمتهم. ويظهر انه سيكون فاتحة للقاءات متواصلة فهذا ما تشير اليه مذكرة المشروع. الغرض هو انتشال المثقفين العراقيين من حالة التشتت والضياع التي يعيشونها الآن. وهذه الحالة اخذت تعم حتى المتواجدين منهم في العراق. استطيع ان افهم سعي المغتربين منهم الى عمان، ولكن، ويا ويل، ما سر المتبقين منهم لهذا السعي. لا ادري كيف ذكرني حالهم بأغنية محمد القبانجي رحمه الله:

* حبيبي لا تقول الدهر سرنا - هجرنا ديارنا و للغرب سرنا

* وحياتك قد ظهر للناس سرنا - لكن دمعي فضحني وعم علي

بالطبع انني تجاوزت على ما غناه المطرب الكبير. فما قاله هو «ما ظهر للناس سرنا». وسر المثقفين العراقيين الذي ظهر هو ديدنهم في محاربة بعضهم البعض.

مشروع المجلس العراقي للثقافة مشروع كبير المطامح. ومن ذلك انه يعتزم اقامة مراكز ثقافية في العواصم الاجنبية تخدم رسالة الفكر العراقي بإعطاء العراقيين رئة يتنفسون فيها ثقافيا. وهذا طموح للعودة الى التقليد العراقي في اقامة مراكز مشرفة لمنجزات البلد و البلدان العربية عموما.

يركز المشروع ايضا على حماية المثقف العراقي. وهذه نقطة حيوية فقد اصبح اصحاب القلم والفكر والعلم وكل ما هو نافع للعراق يواجهون اخطار التصفية الجسدية، بخطفهم واراقة دمائهم وتشريدهم من ديارهم. جرت عمليات تصفية عبر التاريخ ضد العلماء والمفكرين لأسباب واضحة، يأتي في مقدمتها التجاوز على المعتقدات او على الحكام. وهو امر نستطيع ان نفهمه. ولكن ما يتعرض له العلماء والاطباء والمفكرون في العراق الآن شيء يعجز العقل عن فهمه. هذه اول مرة يجابه فيها الطبيب الخطف والاغتيال لمجرد عمله في معالجة امراض الناس. ويتعرض المفكر للتصفية ليس بسبب افكاره وانما لمجرد انه يفكر.

كيف سيستطيع هذا المشروع معالجة هذه المصيبة، لا ادري. ولكن دعونا نفكر بها على الأقل.



www.kishtainiat.com