النتائج 1 إلى 6 من 6
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    Arrow |محاضرات في التاسيس للمنطق الذاتي|||محمد باقر الصدر|( تنشر للمرة الاولى)

    [align=center][frame="7 80"][align=center]

    [/align]
    [align=center][overline]
    محاضرات في التاسيس للمنطق الذاتي
    [/overline]
    تأليف : محمد باقر الصدر


    بقلم:السيد عبد الغني الاردبيلي
    تنظيم : الشيخ احمد ابو زيد
    ينشر لأول مرة بترتيب مع مجلة المنهاج
    القسم الاول
    [/align][/frame][/align]

    [align=justify]

    البحث الحالي عبارة عن ست عشرة محاضرة شرع في القائها المفكر الاسلامي الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره على طلابه في النجف الاشرف في 5 / رمضان / 1384ه، وفرغ من القائها في 29 منه. وكانت فكرة هذه المحاضرات قد بدات بالظهور لديه عند بلوغه بحث (القطع) في دروسه الاصولية في العام 1383ه، قبل ان ينشر عام 1965م مقالا حول (اليقين الرياضي والمنطق الوضعي) ضمنه لاحقا في كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) الصادر عام 1972م، والذي تعبر هذه المحاضرات عن نواة كثير من افكاره الرئيسية، حيث قام هناك بعرضها والبرهنة عليها بشكل اعمق ومنظم.وعلى من يرغب في الوقوف على آرائه النهائية حول الموضوع ان يراجع الكتاب المذكور، واهمية هذه المحاضرات تكمن في الزاوية التاريخية لدراسة تطور نظرية المذهب الذاتي عند السيد الصدر.

    يشار الى ان (المنهاج) تنشر هذه المحاضرات للمرة الاولى، بعد ان بقيت لسنوات مديدة محفوظة في تراث المرحوم السيدعبد الغني الاردبيلي رحمه اللّه احد خلص طلابه الذي كان قد دونها دون ادنى تصرف، الى ان تفضل (مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر قدس سره) في مدينة قم والذي يعنى بتحقيق ونشر تراث السيد الصدر بوضعها في متناول يد المجلة، والتي كلفت الشيخ احمد ابو زيد بتهذيبها وتنظيمها وتصحيحها، دون المساس بافكارها وبترتيبها
    .

    تمهيد :

    نهدف من وراء هذا البحث الى التاسيس لمنطق جديد نطلق عليه حاليا اسم (المنطق الذاتي)، وذلك تمييزا له عن المنطق العقلي الارسطي وعن المنطق التجريبي. وما دفع بنا الى هذا البحث هو ان المقدار التي تحقق وبين من هذين المنطقين لايكفي لاداء الرسالة الكاملة الشاملة، فلا بد من اجل تكميلها من اضافة المنطق الذاتي ليكون مكملا للمنطق الارسط ي من ناحية، ومفلسفاللمنطق التجريبي من ناحية اخرى.

    ومن هنا، فان وظيفة المنطق الذاتي بالنسبة الى المنطق الارسطي هي وظيفة التكميل، وبالنسبة الى المنطق التجريبي هي التاسيس العقلي والفلسفي.

    كيفية توالد المعرفة في المنطق الارسط ي يؤمن المنطق العقلي الارسط ي بوجود تصورات وتصديقات اولية ضرورية، وهو يبحث في هذه التصورات والتصديقات المعلومة من حيث ايصالها الى تصورات وتصديقات مجهولة. ولهذا قيل في الكتب المعروفة الموضوعة في علم المنطق: ان موضوع هذا العلم هو التصور والتصديق من حيث ايصالهما الى مطالب اخرى تصورية وتصديقية.

    ومن خلال موضوع علم المنطق، يمكن اقتباس وظيفة هذا العلم، وهي بناء على تحديد الموضوع التوصل من تصوروتصديق معلومين الى تصور وتصديق مجهولين. ويبين لنا علم المنطق كيفية الانتقال من معرفة الى معرفة اخرى، او كيفية تولد معرفة من معرفة اخرى، وكيف يتسلسل التفكير لدى الانسان وينتهي من مقدمات معينة الى نتائج، ثم يجعل هذه النتائج مقدمات لينتقل منها الى نتائج اخرى، وهكذا...

    وعندما كان المنطق العقلي بصدد البحث في كيفية تولد الفكر من الفكر وتولد المجهول من المعلوم، آمن بطريقة واحدة في توالد المعرفة، وهي التي يمكننا ان نسميها «الطريقة الموضوعية في التوالد»، وذلك في قبال الطريقة الذاتية التي سنتحدث عنها. والطريقة الموضوعية للتوالد هي الطريقة التي لاحظها المنطق القديم في كل بحوثه، فانه بحث في التصورات والتصديقات من حيث ايصالها الى تصورات وتصديقات اخرى وتوليدها لها على اساس هذه الطريقة.

    ونقصد بالطريقة الموضوعية في تولد معرفة من معرفة اخرى التولد الناتج عن الارتباط بين متعلق الفكرة الام وبين متعلق الفكرة البنت، اي بين متعلق الفكرة (السبب) وبين متعلق الفكرة (المسبب). وهذان المتعلقان نصطلح على كل منهمابموضوع المعرفة. فالمقصود اذن ان بين موضوعي المعرفتين ارتباطا ولزوما، وهذا الارتباط واللزوم ينعكس على المعرفتين نفسيهما، فيتولد من المعرفة الاولى معرفة ثانية.

    في الشكل الاول من القياس هناك لزوم حتمي واقعي بين صدق الكبرى والصغرى وبين صدق النتيجة، وهذا اللزوم والربط الواقعي بين الامرين ثابت على كل حال، مع قطع النظر عن اى مفكر او عاقل، فحتى لو لم يكن هناك مفكر لكان هذا اللزوم الواقعي المنطقي ثابتا في نفس الامر والواقع.

    وهذا الربط الواقعي الذاتي واللزومي بين الامرين انعكس على الفكر، فاصبحت معرفتنا بالصغرى ومعرفتنا بالكبرى سببا في اقتضائها لمعرفة اخرى، وهي النتيجة، فيكون تولد النتيجة من الكبرى والصغرى ناشئا من التوالد والارتباط بين الامور الواقعية بما هي واقعية، ومع قطع النظر عن الفكر والتصور كماقلنا. وحيث ان الارتباط قائم بين موضوعات الافكار والامور الواقعية التي نفكر بها، اسمينا طريقة التفكير هذه بالموضوعية.

    وبهذا البيان يظهر ان علم المنطق العقلي بحسب الحقيقة لا يبحث عن التصور والتصديق من حيث ايصالهما الى مجهول تصوري او تصديقي كما هو المتعارف ان يعبر عنه، وانما يبحث في الامور الواقعية نفس الامرية التي هي في ثبوتها في الواقع غير محتاجة الى المفكر والعاقل والمدرك.

    لكن السؤال المطروح هو ان علم المنطق حول اى من هذه الامور الواقعية يبحث؟! والجواب: انه يبحث حول الامورالواقعية التي هي قوانين عامة لها دخل في توليد الافكار من الافكار.

    ومن هنا نخلص الى ان علم المنطق يبحث حول امور واقعية هي عبارة عن موضوعات المعرفة، من حيث دورها في توليد الافكار من الافكار، او قل المعرفة من المعرفة.

    ففي قولنا: «الشي الشامل لشي يشمل كل ما يشمله ذلك الشي»، نحن نعرف ان الحد الاوسط ثابت للحد الاصغر في المقدمة الصغرى، كما نعرف ان الحد الاكبر ثابت للاوسط في المقدمة الكبرى، فنعرف ان الاكبر ثابت للاصغر في النتيجة.ومرد ذلك الى هذه الحقيقة الثابتة الازلية، وهي ان الشي الشامل لشي شامل لما يشمله ذلك الاخر، وهذا امر واقعي ثابت بقطع النظر عن وجدان اى عاقل او مفكر او متصور، وهو يلعب دور توليد الافكار غير الموجودة من خلال الافكارالموجودة. فعلم المنطق اذن يمارس هذه الامور الواقعية.

    اشكال المحدثين على علم المنطق وهناك اشكال يثيره العلماء المحدثون حول علم المنطق، وهو يرد على منطقنا الذاتي ايضا، الاان الجواب عنه على ضوء منطقنا يختلف عن طبيعة الجواب على ضوء المنطق العقلي.

    ولكن هذا الاشكال يندفع بالبيان الذي قد مناه.

    وحاصل الاشكال: ان علم المنطق يمارس الموضوع الذي يمارسه علم النفس، فهو ليس علما مستقلا، بل هو فرع وشعبة من شعب علم النفس، لان علم النفس يبحث عن النفس البشرية وظواهرها وخصوصياتها، وذلك: اما بالطريقة القديمة، واما بالطريقة الحديثة القائمة على اساس التجربة والملاحظة.

    فعلم المنطق اذن يتطفل على علم النفس، لانه يبحث عن قوانين الفكر البشري وكيفية تسلسلها ونشوئها من الافكار الاخرى عند الانسان، والفكر ظاهرة من ظواهر النفس البشرية، ولهذا لا ينبغي ان يكون علم المنطق علما قائمابراسه، بل حقه ان يكون فرعا من فروع علم النفس، لانه يتناول ظاهرة من ظواهر هذه النفس وهي التفكير ويجعلها موضوعا لدراسته.

    وهذا الاشكال الموجه الى علم المنطق معروف في اوساط الاتجاهات الحديثة.

    الجواب عن اشكال المحدثين على ضوء المنطق العقلي لقد اجيب عن الاشكال المتقدم بان علم المنطق موضوعه هو التفكير الصحيح، وان هذا العلم انما يسعى لتنظيم التفكير لدى الانسان ليجعله صحيحا.

    ولكن الصحيح في مقام الجواب عن هذا الاشكال يظهر مما بيناه: فان علم المنطق العقلي لا يبحث عن الفكر وخواصه،وانما يبحث عن امور واقعية ذاتية ازلية ابدية، تدخل في عملية توليد الفكر للفكر. فهو يبحث عن تلك الامور الواقعية الاجنبية عن الفكر وخواصه، والثابتة على اى حال، سواء وجد انسان ام لم يوجد. وليس موضوع علم المنطق هو الفكرحتى يقال: ان موضوعه مت حد مع موضوع علم النفس، فينبغي للمناطقة ان يوكلوه الى علماء النفس ليقرروا مشاكله،باعتبار انهم اي المناطقة غير اخصائيين في هذا العلم.. فان المنطق العقلي كما قلنا لا يبحث اصلا عن الفكر، وانمايبحث عن تلك الامور الواقعية من حيث دخالتها في عملية توليد الفكر للفكر، فاى ربط لعلم المنطق بعلم النفس؟! طريقتان لتوالد المعرفة البشرية.. موضوعية وذاتية كنا بصدد الحديث عن المنطق العقلي الذي يتناول الامور الواقعية الازلية التي يكون لها دخل في عملية توالد الافكار من الافكار، وطريقة التوالد الملحوظة في هذا المنطق هي طريقة التوالد الموضوعي، اي التوالد الناشئ من الارتباط بين المتعلقات. وهذه الطريقة هي التي كانت معتمدة عند المنطق العقلي القديم، ولكنها لا تفي باداء رسالة علم المنطق بشكل كامل وتفسير المعرفة البشرية.

    وما نريد بيانه في الابحاث الاتية هو ان هناك طريقتين لتوالد المعرفة:

    احداهما: الطريقة الموضوعية.

    والثانية: الطريقة الذاتية.

    وبيان ذلك: ان الفكرة تارة تتولد من فكرة اخرى على اساس الارتباط اللزومي بين موضوعي الفكرتين، واخرى على اساس التلازم والعلية والسببية بين نفس الفكرتين.((1)) ووظيفتنا المنطقية تختلف بين هاتين الحالتين: ففي باب التوالد الموضوعي حيث تتولد الفكرة من فكرة اخرى باعتبارالربط بين موضوعيهما واللزوم بينهما يجب البحث حول تلك الامور الواقعية الازلية التي هي ملاك الربط بين نفس الافكار الثابتة، سواء وجد مفكر ام لم يوجد، فنبحث عنها على غرار بحث المتقدمين الذين اسسوا لهذا الغرض علم المنطق.

    واما في طريقة التوالد الذاتي فيجب ان لا نبحث عن شي خارج عن نطاق فكر الانسان، فان موضوع بحثنا هو نفس فكرالانسان، وليس من وظيفتنا ان نتساءل عن السبب الخارجي الذي اد ى بهذه الفكرة الى ان ولدت تلك الفكرة، بل وظيفتناان نتساءل عن السبب الداخلي لذلك، فنبحث عن العلية في الداخل لا في الخارج.

    في المنطق العقلي كنا نبحث عن الصغرى وعن الكبرى في الخارج، وكنا نبحث عن سبب تولد العلم بالنتيجة من خلال الصغرى والكبرى. وفي هذه الاجواء يكون تولد العلم بالنتيجة على اساس بديهي من البديهيات، والامر البديهي امر واقعي ثابت في نفس الامر والواقع، مع قطع النظر عن وجود اي فكر انساني، وهذا البديهي مفاده هو ان «الشي الشامل لشي شامل لما يشمله ذلك الشي الاخر».

    ام ا في المنطق الذاتي، فعندما تتولد فكرة من فكرة اخرى بلا ربط لزومي بين موضوعيهما، لا نبحث عن سر هذه السببية خارج نطاق الفكر البشري، وانما نبحث عنها داخل هذا النطاق، اي اننا نبحث عن امتياز هذه الفكرة التي ولدت تلك، وعن السبب الذي يقف وراء توليدها هي بالذات لها دون غيرها من الافكار، فنقف على الخصوصيات الذاتية لنفس الفكرة، لا الامور الواقعية خارج نطاق الفكر والمفكر. ومن هنا نسمي هذا المنطق بالمنطق الذاتي، لانه المنطق الذي يكشف قوانين علية الافكار بعضها لبعض.

    ومن هنا يظهر بان المنطق الذاتي يختلف موضوعا عن المنطق العقلي: فان موضوع الاخير هو نفس الامر والواقع كماذكرنا، بينما موضوع الذاتي بحسب الحقيقة هو الفكر البشري بما هو هو، فنبحث عن العلية والسببية بوصفها عرضاذاتيالنفس الفكر، حيث تكون الفكرة بما هي فكرة علة لفكرة اخرى.

    اذن: موضوع علم المنطق الذاتي هو الفكر البشري، وغرض هذا المنطق بيان قوانين التوالد الذاتي لفكرة من فكرة اخرى.

    عودة الى اشكال المحدثين والجواب عنه على ضوء المنطق الذاتي ولو ان المحدثين وجهوا الاشكال السابق الى منطقنا الذاتي لكان اولى من توجيهه الى المنطق العقلي، فان باستطاعتهم ان يقولوا لنا: ان المنطق الذاتي بحسب الحقيقة هو فرع من فروع علم النفس، لانه يبحث في الفكر، والفكر هو احد الظواهرالتي يدرسها علم النفس، ومن هنا كان من الافضل ان تسموا هذا البحث «بحث علم النفس» لا «علم المنطق».

    وجوابنا عن هذا الاشكال يتضح من خلال التمييز بين المنطق الذاتي وبين الدراسات المتعارفة في علم النفس والتي تتناول الفكر البشري، وان كان من الممكن اعتبار المنطق الذاتي فرعا من فروع علم النفس باعتبار آخر كما سوف نوضح الان. وفي مقام التمييز بينهما نقول:

    ان الانسان في تفكيره يتاثر بعدة عوامل ومؤثرات، احدها العقل.

    وهناك مؤثرات اخرى تساهم مع العقل في تحديد سيرالتفكير وخطواته، من قبيل العاطفة بمختلف اقسامها، فان العواطف لها تاثير ولو غير مباشر في تحديد سير التفكيربحسب الخارج.

    ومن هذه العوامل والمؤثرات التبليغات [او الدعايات]الاجتماعية في عالم الخارج، فانها تنعكس على مستوى العواطف وتؤثر فيها. وكذلك الامر بالنسبة الى العقائد الدينية التي تنعكس على شكل عواطف وتؤثر بشكل غير مباشر.

    وما نريد ان نقوله هو ان هناك مؤثرات كثيرة غير العقل تؤثر في سير تفكير الانسان، وهذا امر واضح.

    وهنا حالتان تختلف احداهما عن الاخرى، والاولى يتكفل بها علم النفس، اما الثانية فيتكفل بها المنطق الذاتي:

    فنحن تارة ندرس التفكير الخارجي للانسان الذي يعيش محكوما لكل هذه العوامل والمؤثرات المتقدمة، والذي قد تؤثرفيه عواطفه، فيشكك في كثير من الامور المعلومة وبالعكس، فنقيس افكاره واعتقاداته من خلال الملاحظة والتجربة التي يعتمد عليها العلم الحديث، وهذه وظيفة علم النفس بمعناه الحديث. والانسان الذي يخضع الى دراسة من هذا القبيل مع تمام هذه العوامل والمؤثرات التي لا يتحرر من جملة منها في حياته الفكرية، يكون موضوعا لعلم النفس.

    وتارة اخرى نجرد هذا الانسان عن كل المؤثرات في التفكير باستثناء العقل، ونفرضه بذلك كالمعصوم الذي لا يخضع تفكيره لاي مؤثر ما عدا عقله، ثم نرى كيف يتسلسل تفكيره. او نفرضه كالرياضي في تفكيره، فان الرياضي لا يتاثربعامل آخر غير عامل العقل في بيانه للعمليات الرياضية.

    اذن، نحن نتحدث عن مثل هذا الشخص الذي يجرد ذهنه عن كل المؤثرات ما عدا العقل، وهذا الشخص عندما يرى بعقله ان النار متى ما وجدت في الغرفة اصبحت الغرفة حارة، فهل يحصل له القطع بان النار علة لذلك ام لا؟ واذا حصل له القطع بذلك، فما هي النكتة في حصول هذا القطع؟ وكيف حصل له ذلك بمجرد رؤيته الحرارة مع النار عدة مرات؟! هذا مانجيب عنه.

    اذن فالفرق بين المنطق الذاتي وبين علم النفس يكمن في ان علم النفس يتناول في بحوثه العادية الفكر محكوما لتمام العوامل والمؤثرات، لان عملية التجريد لا تنطبق على الواقع الخارجي، وعلم النفس يلجا الى التجربة وملاحظة الافراد في عالم الخارج، شانه في ذلك شان سائر العلوم التجريبية. ام ا المنطق الذاتي فيتناول الفكر مجرداعن كل العوامل والمؤثرات عدا العقل، ثم يبحث في كيفية تولد الفكر من الفكر.

    التمييز بين مادة الفكر وصورته((2)) كنا بصدد الحديث عن المنطق الذاتي وتمييزه عن سائر فروع المعرفة، وقد شرعنا في بيان ما يختلف فيه مع المنطق العقلي الارسط ي، الذي عنينا به المنطق البرهاني.

    وقلنا في هذا الصدد:
    ان كلا من هذين المنطقين يبحث عن طريقة فيالتفكير تختلف عن الطريقة التي يبحث عنها المنطق الاخر ، فالمنطق الذاتي يبحث عن قوانين الطريقة الذاتية في تولد المعرفة، بينما يبحث المنطق العقلي عن قوانين الطريقة الموضوعية في ذلك.

    وتوضيح الفكرة: ان الفكر من وجهة نظر المنطق العقلي تارة يلحظ من حيث مواده، واخرى من حيث صورته:

    ففي قولنا: «العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث»:

    (تغير العالم) و(حدوث المتغير) مادتان من مواد الفكر البشري،فيلحظ صدقهما او كذبهما في مقام حكايتهما عن الخارج.

    وتارة اخرى لا يلحظ صدق المواد او كذبها، وانما تلحظ صورة الفكر، ويتم ذلك من خلال تبديل جميع المفصلات بالمبهمات. وبعبارة اخرى: تبديل جميع المواد بالرموز، وذلك عبر قطع النظر عن خصوصية المادة. وافضل طريقة لتحقيق ذلك تتاتى عبر اهمال ذكر «العالم» و«التغير» و«الحدوث»، وناتي في مقابل ذلك بالرموز التي تتناسب مع كل مادة من الموادالتي يتصورها العقل، فنقول: «ا» هو «ب»، و«ب» هو «ج»، اذن: «ا» هو «ج». وفي هذه الحالة نكون قد طبقنا القياس نفسه، الا انناقطعنا النظر عن مواده وصيرناه رموزا صرفة.

    ونلاحظ في هذه الحالة انه لم يبق من الفكر الاصورته وشكله، ام ا مضمونه: فلم يعد موجودا، لانه لا مطابق له في عالم الخارج، ولكنه في الوقت نفسه احتفظ بالصورة نفسها التي كانت موجودة في قولنا: «العالم متغير، وكل متغير حادث،فالعالم حادث». فهاتان الصورتان متطابقتان من حيث الايجاب والسلب، ومن حيث الكلية والجزئية، ومن حيث الشرطية والحملية، الى غير ذلك من الجهات والمقولات المنطقية.. غاية الامر ان احداهما صيغت على اساس الرموز، والاخرى على اساس المواد الخارجية.

    وظيفة علم المنطق بعد التمييز بين صورة الفكر وبين مادته، قالوا بان مواد الفكر على قسمين: فمنها الاولي، ومنها الثانوي، والاولي لايحتاج الى تاسيس علم لمعرفته، لانه اولي.

    واما الثانوي فتتكفل بتمييز صوابه عن خطئه هذه العلوم التي اسست في الدنيا، فان كل علم ينال حظا ونصيبا من هذه العلوم الثانوية، ويحقق فيها ويدرسها ويستكشف ما هو الحق فيها وما هو الخطا.

    وعليه، فالمواد لا تقع ضمن وظيفة علم المنطق، لان بعض المواد لا حاجة الى البحث فيها باعتبارها اولية كما قلنا،والمواد الاخرى الثانوية تتوزع على فروع المعرفة البشرية، والتي تنقسم بحسب ترتيب القدماء لها الى علوم عالية ومتوسطة وسافلة.

    اذن، فما يتبقى للمنطق هو صورة الفكر، فيبحث في ان الصيغة الفكرية للفكر متى تصدق نتيجتها عندما تكون موادهاومقدماتها صادقة؟! وهنا نلاحظ ان صدق المواد قد اخذ امرا مسلماومفروغا عنه، لانه خارج عن مهمة المنطقي ولا يعنيه بحال من الاحوال. ولذلك عندما يقولون: ان موضوع علم المنطق ولا اقل منطق البرهان هو التصديق من حيث ايصاله الى تصديق مجهول والى معرفة مجهولة، فان هم ناظرون الى هذه الجهة، اعني صورة الفكر، والى ان مواد الفكر اذا ركبت مثلا بنحو الحد الاصغر والاوسط والاكبر فان النتيجة ستكون ضرورية وصادقة لصدق المقدمات، ولا ينظرون الى موادالفكر.

    وبهذا يظهر ان المنطق العقلي وهو الذي يعبر عنه اليوم بالمنطق الصوري عندما يبحث عن صورة الفكر، فهو في الحقيقة يبحث عن الملازمة بين الصورة وبين النتيجة، ايجابا وسلبا، فيميز بين الصورة التي تلزم منها النتيجة وبين التي لاتلزم منها.

    اذا اتضح هذا، يتضح ان ما يعالجه المنطق العقلي او الصوري عندما يتناول الملازمة بين صدق الصغرى والكبرى وبين صدق النتيجة، هو بحسب الحقيقة امر واقعي محفوظ في لوح الواقع، مع قطع النظر عن الفكر وعن اى مفكر في عالم الخارج. وهو يبحث في هذه الامور الواقعية التي يكون لها دخل في تنظيم صورة الفكر بهدف ان يكون تولد المعرفة تولداصحيحا مطابقا لنفس الامر الواقع.

    ونخلص من هذه المقدمات الى تحديد موضوع علم المنطق العقلي بتعبير آخر، فنقول: ان اي امر واقعي يكون له دخل وتاثير في تنظيم صورة الفكر، ويوجب صحة تولد فكر من فكر، ومطابقة الفكر المتولد مع ما هو عليه الواقع، يكون موضوعا لعلم المنطق.

    وهنا ناتي الى تحديد اعمق لموضوع علم المنطق العقلي: فقد اتضح لنا ان لكل فكر متعلقامحفوظا في عالم الواقع، وهوالمعبر عنه بموضوع الفكر او موضوع المعرفة، وان تولد فكر من فكر آخر والربط الموجود بينهما ناشى بحسب الحقيقة من الربط المحفوظ في عالم الواقع بين متعلقيهما. والمنطق العقلي لا يتناول بالبحث تولد فكر من آخر، وانما يتناول التولدالاعمق الحاصل في رتبة سابقة، فلا يكون موضوع علم المنطق العقلي هو تولد الفكر من الفكر، وانما التولد الحاصل بين متعلقيهما، وهو الذي نعبر عنه بالتوالد الموضوعي في مقابل التوالد الذاتي.

    موضوع المنطق الذاتي وطريقة توالد المعرفة يتناول المنطق الذاتي الطريقة الذاتية في تولد المعرفة، فهو يتناول بالبحث الفكر نفسه ولا علاقة له بمتعلق هذا الفكر.

    اوبتعبير آخر: هو يبحث عن اللزوم الحاصل بين معرفة واخرى، وكيف ان احداهما تستلزم الاخرى، دون ان يكون بين موضوعي هاتين المعرفتين لزوم في نفس الامر والواقع.

    ولنضرب على ذلك مثالا: فان الانسان يرى انه كلما قرب الورقة الى النار احترقت، وانه كلما تناول الدواء الفلاني آالاسبرين مثلا حصلت لديه حالة معينة، كزوال الصداع. وما يراه الانسان في هذه الحالة يولد لديه اعتقادا بان حبة الاسبرين مثلا علة لرفع الصداع.

    دعونا الان ننظر الى المسالة من وجهة نظر المنطق العقلي:

    فالمنطق العقلي لا يرى علة او لزوما بين تناول الاسبرين وبين ارتفاع الصداع، اذ لعل اقتران هاتين الظاهرتين كان صدفة، فيكون اللازم (وهو ارتفاع الصداع) اعم من الملزوم (وهو تناول حبة الاسبرين)، بمعنى انه قد يكون ناتجا عن كون التناول علة لزوال الصداع، وقد يكون الزوال قد وقع صدفة.ومع كون اللازم اعم من الملزوم فلا مجال للاعتقاد باللازم الخاص، وهو العلى ة بين الامرين، فيكون الاعتقاد المتولد لدينااعتقادا باطلا.

    هذا كما قلنا من وجهة نظر المنطق العقلي. ولكننا مع ذلك نجد من انفسنا هذا الاستنتاج على الرغم مما يقوله المنطق العقلي.

    وهذا الاستنتاج في الحقيقة عبارة عن طريقة اخرى في التفكير والتوالد تختلف عن طريقة التوالد الموضوعي التي سبق ان تحدثنا عنها، ونطلق عليها اسم طريقة (التوالد الذاتي)، وذلك باعتبار انه لا ربط ولا لزوم بين متعلقي الفكرين وموضوعيهما، بل ان الفكرة بما هي فكرة استدعت فكرة اخرى.

    ومن هنا كان موضوع المنطق الذاتي هو الافكار نفسها بما هي هي، بخلاف المنطق العقلي البرهاني القائم على التوالدبين الافكار لا بما هي هي، بل بما هي انعكاس لموضوعاتها ومتعلقاتها في عالم الواقع.

    تمييز المنطق الذاتي عن علم النفس بناء على بياننا للمنطق الذاتي وموضوعه، نصل الى الاعتراض الذي قد يسجل عليه، وذلك من جهة انتمائه الى علم النفس.

    وهذا الاشكال سبق ان ذكرنا انه وجه ايضا الى المنطق العقلي، وذكرنا هناك ان اثارته حول المنطق الذاتي اقوى واكثر استحكاما من اثارته على المنطق الصوري، لان موضوع المنطق الصوري على ضوء ما بيناه ليس الفكر، وانما الامورالواقعية التي يكون لها دخل في تنظيم صورة هذا الفكر.

    وحيث اننا اعترفنا بان موضوع المنطق الذاتي هو الفكر، فاننا مطالبون بالتمييز بينه وبين علم النفس، لكي يكون علماقائما براسه في مقابل علم النفس.

    وحاصل التمييز بين العلمين هو ان علم النفس يتناول الفكر بوصفه جزءا من مجموع العوامل والمؤثرات النفسية الدخيلة في توليد الافكار. اما المنطق الذاتي فيتناول الفكر معزولا عن سائر هذه العوامل المذكورة ما عدا العقل. فعندمايتحدث المنطق الذاتي عن علية تناول حبة الاسبرين لارتفاع الصداع، فانه يقصر النظر على عامل العقل، بينما يتناول علم النفس الموضوع دون تهميش العوامل النفسية الاخرى التي تتداخل مع بعضها البعض، فياخذ بعين الاعتبار مثلا الرغبة النفسية تجاه حبة الاسبرين الموجودة عند مكتشف هذا الدواء، بينما يخرج ذلك عن مد نظر المنطق الذاتي.

    تمييز المنطق الذاتي عن المنطق التجريبي المنطق التجريبي هو المنطق الذي تميز به المناطقة الجدد، من قبيل فرانسيس بيكون وجون لوك وغيرهما من المناطقة،فقد اسسوا لمنطق اطلقوا عليه اسم (المنطق التجريبي).

    والحقيقة ان النسبة بين المنطق الذاتي وبين المنطق التجريبي هي النسبة بين البناء والاساس وبين المصداق، لان المنطق الذاتي يتناول بالبحث الاساس الذي يقوم عليه المنطق التجريبي، ويستبعد عن بحثه المصاديق التي يتناولها المنطق المذكور.

    ولناخذ على ذلك مثالا مما يتعرض له المنطق التجريبي:

    ففي هذا المنطق يتحدثون عن طريقة (التكرار)، فيقولون: ان «ا» لو اقترنت ب«ب» مائة مرة لكانت «ا» علة ل«ب».

    ولديهم طريقة اخرى يسمونها طريقة (النفي والاثبات)، فلو لاحظنا في مائة مرة انه عند وجود «ا» توجد «ب»، ولاحظناه كذلك مائة مرة انه عند انعدام «ا» تنعدم «ب»، لكانت «ا» في هذه الحالة علة ل«ب». وهناك طريقة ثالثة يطلقون عليها اسم «الترابط النسبي»، حيث يلاحظون انه عندما توجد «ا» توجد «ب»، وعندما تشتد «ا» تشتد معها «ب»، وعندما تضعف «ا» تضعف «ب».

    وهذه الامور في الحقيقة امور صحيحة ولطيفة، الا انها مصاديق للطريقة الذاتية في التفكير وتوالد المعرفة، ولا تتعدى ذلك، لان المنطق التجريبي لم يشرح من خلالها سبب كون هذا علة لذاك، وان حاول بعض الفلاسفة الاوروبيين القيام بذلك على نحو الاستقلال، الا ان المنطق التجريبي بما هو منطق تجريبي لم يعالج هذه الناحية. ومن هنا اعتبرنا ان المنطق الذاتي بمثابة الاساس لذلك المنطق.

    طبيعة المعرفة المتولدة في المنطق العقلي((3)) بعد ان اتضح الفارق بين المنطق الذاتي الذي نحن بصدد الحديث عنه وبين المنطق البرهاني، وذلك على اساس الفارق بين الطريقة المعتمدة لكل منهما، لا بد من اجل تكميل البحث من الاشارة الى الفارق بين المعرفتين الناتجتين عن كل من هاتين الطريقتين:

    فالمعرفة الناتجة عن الطريقة الموضوعية في توالد الفكر والتي يدرسها المنطق العقلي هي في الحقيقة تفصيل للمجملات، بينما تعتبر المعرفة الناتجة عن الطريقة الذاتية في التفكير والتي يدرسها المنطق الذاتي معرفة جديدة غيرمستبطنة ومحفوظة ولو على نحو الاجمال في المعلومات السابقة.

    وتوضيح ذلك: ان المنطق الصوري الارسط ي بعد ان عدد انواع الحجج، ذكر انها يجب ان ترجع جميعا الى القياس، ولولم ترجع اليه فهي لا تولد فكرا جديدا. وفي خطوة اخرى منه في هذا الاتجاه، قام بارجاع اشكال القياس المتعددة الى الشكل الاول منه. وبذلك يكون الشكل الاول من القياس هو القانون الذي تعتمد عليه عمليات التوالد الموضوعي في الفكر.

    والشكل الاول كما هو معلوم يشتمل على ثلاثة حدود: اكبر واوسط واصغر، ويكون الاكبر معلوم الثبوت للاوسط في الكبرى، والاوسط بدوره معلوم الثبوت للاصغر في الصغرى، وعندما نضع هذه الحدود في قياس، ينتج ثبوت الاكبرللاصغر، من قبيل ان الشي الشامل لشي شامل لما يشمله ذلك الشي لامحالة.

    وقد اشرنا في بحث اصول الفقه الى عملية الاحصاء والاستيعاب التي نقوم بها للحدود الصاعدة والنازلة والسافلة والعالية. فبعد ان نحصي هذه الحدود، نضع كل حد اصغر تحت الحد الاكبر منه. وفي هذه القائمة لدينا نوعان من الثبوت بين الحدود:

    احدهما هو ثبوت كل حد للحد الذي يليه مباشرة، وهذا الثبوت اولي غير برهاني، لانه يثبت بواسطة حدا وسط يتوسط بينهما، والا لكان خلف كونهما متصلين بلا واسطة كما هو الفرض.

    والثبوت الاخر هو ثبوت الحد للحد الذي يليه عبر الواسطة، وهذا الثبوت برهاني، لما قدمناه من توسط حد بينهما.

    هذه هي تمام المعرفة البشرية التي يبحث عنها المنطق العقلي.

    ومن الواضح ان هذه المعرفة لا تتعدى كونها تفصيلا للمجملات وابرازا للمستبطنات، فان الحدالاصغر مثلا مشمول للاكبر في عالم الواقع، غاية الامر ان نا لم نلتفت الى كونه كذلك حتى وسطنا الحد الاوسط، فكشف لنا عن ذلك، وفصل لناالاجمال، وازال عنا الابهام.

    ولناخذ مثالا على ذلك القياس التالي: «العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث»: فالقانون الموجود في الكبرى «كل متغير حادث» هو في الواقع يشمل العالم، لان العالم متغير، فيكون العالم بالتالي مشمولا لقانون الحدوث المذكور. ومع اننا نعلم ان العالم متغير، الا اننا لم نلتفت الى كونه حادثا حتى وسطنا الحد الاوسط بين المقدمة الاولى (الصغرى) وبين المقدمة الثانية (الكبرى)، حيث وقع محمولا في الاولى وموضوعا في الثانية.

    اذن، فالحد الاوسط وهو التغير هو الذي جعلنا نعرف ان الحد الاكبر وهو الحدوث شامل للعالم، ولكن هذه المعرفة كانت مستبطنة في معرفتنا الاولى وموجودة فيها على نحو الاجمال، غاية الامر ان المجمل قد تم تفصيله وتبيينه وتوضيحه.

    وعلى هذا الاساس يمكننا ان نقول: ان ممارسة القياس في المنطق العقلي عبارة عن تطبيق للمبادئ الكلى ة، وكلماتمت ممارسة المعرفة وفق الطريقة الموضوعية التي شرحناها حصلنا على توسع في التطبيق، وعلى مزيد من اكتشاف للمصاديق عن طريق عملية القياس.

    شبهة عقم المنطق العقلي ما تقدم كان على نحو الاجمال واقع المعرفة التي تحصل عن طريق التوالد الموضوعي، والتي يقنن قوانينها المنطق العقلي.وهنا ياتي دور الحديث عن وجهتي النظر المتنازعتين حول جدوى المنطق العقلي، حيث تذهب احداهما الى ان المنطق العقلي منطق خصب ومنتج، وان ه يحقق معرفة جديدة، بينما تسير وجهة النظر الاخرى في اتجاه معاكس تماما، مدعية عقم هذا المنطق وعجزه عن توليد معرفة جديدة، واذا كان ثمة ما ينتجه فان انتاجه لا يعدو كونه دوريا، اي مبنياعلى الدورالمبحوث عنه في المنطق، لان المعرفة في هذا المنطق ان كانت مبنى ة كما ذكرنا على الشكل الاول من اشكال القياس،وكان الشكل الاول في نفسه مبنيا على الدور، كانت المعرفة العقلية برمتها مبنية على هذا الدور، فينهار كل ما يصدر عبرالتوالد الموضوعي.

    وتوضيح هذا الدور: اننا عندما نقرر القضية الكبرى المحفوظة في القياس التالي: «زيد انسان، وكل انسان فان، فان زيدافان»، فلا يخلو الامر من احدى حالتين:

    1- اما ان نكون قد تتبعنا كافة افراد الانسان ومنهم زيد وعلمنا انهم فانون، وبالتالي نحصل على الكبرى التالية:

    «كل انسان فان»، ثم نضعها في القياس لتنتج لنا نتيجة، وهي ان زيدا فان. وفي هذه الحالة يقال للمنطق العقلي: ان العلم بفناء زيدقد حصل ونحن بصدد تشكيل الكبرى، اي قبل ان نضع هذه الكبرى في القياس المذكور، حيث الفرض اننا تتبعنا كافة افراد الانسان ومنهم زيد.

    وهذا هو معنى ان القياس عقيم لا يولد علماومعرفة جديدة، وانما يستبطن دورا منطقيا، لان العلم بالامر الجزئي (وهوفناء زيد المطلوب اثباته في النتيجة) كان متوقفا على تحقيق الكبرى (وهي ان كل انسان فان)، وفي الوقت نفسه كانت الكبرى المذكورة متوقفة فيما تتوقف عليه على تحقيق الجزئي نفسه (وهو فناء زيد)، وهذا دور واضح.

    2- اما اذا فرضنا ان التتبع لم يكن شاملا لكل افراد الانسان، فحينئذ لا يبقى معنى للكبرى المذكورة في قولنا: «كل انسان فان»، اذ لعل بعض هذه الافراد لا يفنى، فتكون الكبرى جزافية.

    الا ان هذا الاعتراض على اطلاقه غير وجيه، لانه مبنى على ان العلم بالكلي لا بد وان ينشا دائما من استقراء تمام الجزئيات، وقد تعرضنا في كتاب (فلسفتنا) لهذه المقولة، وبينا هناك اننا لو اردنا اثبات الكبرى بالتجربة ولم يكن لنا((4))مقياس غيرها، لكان علينا ان نفحص جميع الاقسام والانواع لنتاكد من صحة الحكم، وتكون النتيجة حينئذ قد درست في الكبرى بذاتها ايضا.

    وفي هذه الحالة يستقر الاعتراض السابق، ويكون ثابتا بلا اشكال.

    واما اذا كانت الكبرى من المعارف العقلية التي ندركها بلا حاجة الى التجربة، كالاوليات البديهية والنظريات العقلية المستنبطة منها، من قبيل ان الاثنين نصف الاربعة، فلا يحتاج المستدل في مقام اثبات الكبرى الى فحص الجزئيات حتى يلزم من ذلك ان تتخذ النتيجة صفة التكرار والاجترار، وانما العلم في هذه الحالة انصب على القاعدة ابتداء، وهذا معنى عدها من الاوليات.

    والحاصل مما قدمناه انه عندما تكون المعرفة الكلية ماخوذة عن طريق البداهة الاولية، لا عن طريق استقراء جزئيات ذلك الكلي، فلا مجال حينئذ لتوجيه اشكال الدور وان القياس المنطقي لم يثمر معرفة جديدة.

    ولكن قبل ان ننهي كلامنا حول طبيعة المعرفة المتولدة بالتوالد الموضوعي، لا باس بتوضيح مرادنا من كون المعرفة الحاصلة من الاوليات معرفة جديدة، فهل المراد ان هذه المعرفة الجديدة المولدة موضوعيا معرفة مباينة للمعرفة القديمة التي تولدت منها؟! وفي مقام الجواب نقول: لا، ان نسبة المعرفة الجديدة الى المعرفة الام نسبة المبين والمفصل الى المجمل، فالجدة هناجدة التفصيل بعد الاجمال، وليست الجدة الحاصلة بين متباينين.

    والنتيجة النهائية هي اننا نقول بالوسطية في هذا الموضوع، فلسنا نقول بعقم المنطق العقلي الكامل، وفي الوقت نفسه لانقول باخصابه الكامل، وانما بالامر بين الامرين.

    حقيقة المعرفة المتولدة في المنطق الذاتي ما تقدم الى الان كان مرتبطا بالمنطق العقلي وطبيعة المعرفة المتولدة موضوعيا. اما المعرفة المتولدة على اساس التوالدالذاتي فهي معرفة جديدة غير مستبطنة في المقدمات، فنحن عندما نمارس الاستقراء ونجد انه متى تناولنا حبة الاسبرين زال الصداع، نخرج بنتيجة: وهي ان تناول الاسبرين عل ة لارتفاع الصداع وزواله. وفكرة العلية هذه التي خرجنا بها ليس مستبطنة في فكرة الاقتران، ففكرة العلية شي، وفكرة الاقتران شي آخر. وعندما خرجنا بهذه النتيجة، فان معلوماتنا زادت حقيقة، لا انها فصلت بعد ان كانت مجملة.

    وسيزداد هذا الامر وضوحا في الابحاث القادمة عندما نبرهن على ان المنطق الذاتي في التفكير يخضع للعقل الاول ولايمكن استنباطه من البديهيات. ونكتفي الان بالتمييز بين الامرين على مستوى التصور، ريثما ياتي تحقيق الموضوع على مستوى التصديق، اذ علينا ان نبرهن على ان الطريقة الذاتية لا يمكن ارجاعها الى البديهيات الاولية.

    ومهما يكن من امر، فان المنطق الذاتي يقدم طرحا جديدا في نظرية
    [/align]





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    [align=justify]
    المعرفة، يختلف عما استعرضناه لحد الان في ما يرتبط بالمنطق العقلي والمنطق التجريبي وعلم النفس، حيث يحقق في اصل الافكار ومصدر المعلومات البشرية وقيمتها.

    وانتم تعلمون ان هناك خلافا رئيسيا في نظرية المعرفة ومحاولة تحديد مصدرها، وهل انه العقل ام التجربة.

    والفلاسفة بشكل عام انقسموا الى قسمين:

    1- القسم الاول يمثله انصار المذهب العقلي وهم اتباع ارسطو الذين ذهبوا الى ان العقل هو مصدر المعرفة، بمعنى ان هناك معلومات يعتقد بها الانسان ويؤمن بها بصورة سابقة على التجربة، وهذه المعلومات هي اصل المعرفة البشرية.

    2- وقسم آخر يعتبر ان التجربة هي اصل المعرفة، وان الانسان لا يعرف شيئا بمعزل عنها.

    ولا بد من الاشارة هنا الى ان مراد العقليين من (السبق) في اعتبارهم ان هناك مبادئ عقلية سابقة على التجربة، هوالسبق الرتبي لا السبق الزمني، فلا ينقض عليهم بما وجهه اليهم الفلاسفة الاوروبيون، من ان الطفل عندما يولد لا يعرف استحالة اجتماع النقيضين او استحالة اجتماع الضدين..

    فان هذا الاشكال مبنى على ان مرادهم هو السبق الزمني، والحال ان مرادهم ليس هذا.

    نعم، هنا ينفتح باب السؤال حول سبب ظهور هذه المعارف لدى الانسان في مرحلة زمنية متاخرة.

    وقد ذكر ارسطو واتباعه من المسلمين وغيرهم وجوها وشروحات للجواب عن هذا السؤال، اصحها ما اشرنا اليه في كتاب (فلسفتنا): من ان المعرفة التصديقى ة تتوقف على تصور اطرافها، والتصور ينبع من الحس، لانه هو المصدر الاساسي له، وحيث لا يمارس الحس وظيفته فلا يحصل التصور الكامل للاطراف، وحيث لا يحصل ذلك فلا تحصل المعرفة لدى الانسان، حتى الضرورية منها، لان معنى كونها ضرورية هو ان النفس تصد ق بالحكم بمجرد تصورها للاطراف، وتصورالاطراف يتوقف على وجود استعداد خاص في النفس، وهذا الاستعداد الخاص انما يحصل عن طريق الحس. وهذا هوتفسير ارسطو لتاخر ظهور المعارف الضرورية.

    وعلى اية حال، فان مراد المنطق العقلي من وجود معارف اولية سابقة على التجربة هو السبق الرتبي لا الزمني كما قلنا،ثم يتم على اساسها استنباط سائر المعارف عن طريق التوالد الموضوعي.

    وتعليقنا على ما تقدم هو ان ما قدمه المنطق العقلي صحيح باحد شقيه، وخطا بشقه الاخر: فهو محق في ذهابه الى ان هناك معارف اولية مصدرها العقل، وانها سابقة على التجربة سبقارتبيا ، وانها مصدر سائر المعارف لدى الانسان. ولكنه اخطا في حصره طريقة توالد المعرفة من هذه المعارف الاولية بالتوالد الموضوعي، لان المعرفة تتولد من هذه المعارف الاولية بطريقتين: احداهما موضوعية والاخرى ذاتية، ولكن العقليين وعلى راسهم ارسطو لم يلتفتوا الى طريقة التوالدالذاتي، وقصروا نظرهم على طريقة التوالد الموضوعي، فاوجب ذلك ظهور نقطة ضعف كبيرة في المنطق العقلي. وقد فتحت هذه الثغرة المجال للنظرية الثانية لتقول: ان العقل عاجز عن ان يمثل مصدر المعرفة البشرية، لان كثيرا من هذه المعارف لايمكن تفسيره على اساس العقل الضروري.

    ومن هذا المنطلق قام هؤلاء بقلب الامر راساعلى عقب، فبعد ان عجزوا عن ارجاع كثير من المعارف الحاصلة عن طريق التجربة في الحقول العلمية والحياتية الى المعارف الضرورية، قاموا بارجاع المعارف الضرورية الى التجربة، وادعواان التجربة هي اساس المعارف البشرية.

    والصحيح ان هذين الاتجاهين اخط معا في ما ذهبا اليه وتبنياه، وقد اوقعهما في ذلك غفلتهما عما يبتني عليه المنطق الذاتي، فنحن نعتقد في نظرية المعرفة ان مصدر المعرفة هو العقل لا الحس والتجربة، ودليل هذه الدعوى وبراهينهاواشكالاتها بالشكل المفصل خارجة عن محل الكلام، ولكن ما نقوله هو ان مصدر المعرفة عبارة عن المعارف الضرورية للعقل، غاية الامر ان توالد المعارف منها تارة يتم وفق طريقة التوالد الموضوعي، وهي الطريقة المتبعة في المنطق الصوري والرياضيات وغيرها، واخرى يتم وفق طريقة التوالد الذاتي، وهي الطريقة المتبعة في مجال العلوم الطبيعية. فالاختلاف اذن يكمن في طريقة التوالد واستقاء المعارف من المعارف الاولية.

    وبهذا يكون المنطق الذاتي قد عمل على حل الاختلاف بين وجهتي النظر المذكورتين، وساهم في ازالة نقاط الضعف الموجودة، ومن هنا تظهر قيمة ما يقد مه في نظرية المعرفة.

    هل يعتمد المنطق الذاتي على الصيغة القياسية؟((5)) بعد ان اوضحنا الاختلاف بين المنطق الذاتي وبين المنطق الموضوعي، لا باس بالاجابة عن سؤال يطرح نفسه في المقام، وهو انه: هل يلجا المنطق الذاتي في طريقة التوالد الذاتي الى القياس؟ ام ان القياس من مختصات المنطق العقلي القائم على التوالد الموضوعي؟! وفي مقام الجواب عن هذا السؤال نقول: ان المنطق الذاتي يعتقد بوجود مرحلتين لتولد المعارف: المرحلة الاولى هي مرحلة التوالد الذاتي، والثانية هي مرحلة التوالد الموضوعي.

    وفي المرحلة الاولى لا نلجا الى القياس، لانه من مختصات التوالد الموضوعي. لكن بعد ان نفترض انتهاء عملية التوالد الذاتي وحصولنا عن طريقها على معارف كلية، حينئذ ياتي دورالتوالد الموضوعي في المرحلة الثانية، حيث نقوم بتطبيق المعارف الكلية المتولدة في المرحلة الاولى على مصاديقهاالخارجية، وهنا يمكن اللجوء الى القياس، وتكون الاستعانة به صحيحة.

    ولمزيد من التوضيح نعود الى المثال السابق، حيث يقترن ولمرات عديدة زوال الصداع عند تناول حبة الاسبرين:

    فهناتحصل لنا معرفة بالتوالد الذاتي تفيدنا بان تناول حبة الاسبرين علة لزوال الصداع. وهذا التوالد توالد ذاتى لا يستخدم عادة القياس المنطقي. ولكن بعد ان نحصل على هذه المعرفة، يمكننا اللجوء الى القياس من اجل الحصول عبر التوالدالموضوعي على معارف اخرى اخص منها، فنقول:

    «هذه حبة اسبرين، وكل الاسبرين مزيل للصداع، فهذه الحبة مزيلة للصداع».

    اذن لا يمكن استخدام القياس في مرحلة التوالد الذاتي، ولكن بعد الحصول على معارف كلية في هذه المرحلة يمكننافي المرحلة التالية اللجوء اليه من اجل الحصول على معارف جزئية تتولد وفق طريقة التوالد الموضوعي.

    وهنا نعود لنثير مجددا اشكال الدور الذي اثير حول المنطق العقلي، لنقول: ان هذا الاشكال لا يجري هنا ولا يمكن توجيهه الى المنطق الذاتي، وبيان ذلك: ان المنطق العقلي لا يمكنه التوصل الى الكبرى التالية: «كل الاسبرين مزيل للصداع» الامن خلال ما يصطلح عليه ارسطو بالاستقراء التام، اي استقراء تمام حبات الاسبرين، وهذا ما سمح للتجريبيين بتوجيه اشكال الدور اليه كما تقدم شرحه سابقا. اما بالنسبة الى المنطق الذاتي فالوصول الى الكبريات وكما ياتي ان شاء اللّهتعالى يتم من خلال ما يصطلح عليه ارسطو بالاستقراء الناقص، حيث تتولد المعرفة الكلية تولدا ذاتيا بحكم الطبيعة، وبعدذلك يمكن اللجوء الى القياس ليولد لنا بطريقة التوالد الموضوعي معارف جزئية. وتطبيق القياس في هذه الحالة لن يستبطن الدور، لان الكبرى قد سبق ان توصلنا اليها في المرحلة السابقة عندما كان التوالد ذاتيا.

    ومن هنا يتحدد دور الصيغة القياسية في منظومة المنطق الذاتي.

    مصادرات المنطق الذاتي كنا الى الان نتحدث عن علاقة المنطق الذاتي بمنطق البرهان، وعن علاقته بعلم النفس، وعن موقف المنطق الذاتي من نظرية المعرفة، ودور الصيغة القياسية فيه.

    والان ننتقل الى الحديث عن مصادرات المنطق الذاتي، فان كل معرفة لها مصادرات، وهي ما نصطلح عليه في علم الاصول ب «الاصول الموضوعية». وهذه الاصول الموضوعية تؤخذ في البحوث اخذ المسلمات ولا يقام عليها برهان، وهي تسمى في العرف الحديث ب«المصادرات».

    وهذه المصادرات على قسمين: فمنها ما تشترك فيه جميع حقول المعرفة البشرية، من قبيل الاوليات، ومنها ما يختص ببعض الفروع دون البعض الاخر.

    ولناخذ مثالا على ذلك من علم الهندسة: فاقليدس اعتبر ان هناك مجموعة من القواعد مسلمة الصحة، ولم يقم عليهابرهانا، بل ادعى انها بديهية، وبنى عليها المعارف الهندسية الاخرى، من قبيل قوله: «ان الخط المستقيم هو اقصر مسافة بين نقطتين»،((6)) حيث فرغ عن صحتها وبنى عليها مسائل هندسية اخرى.

    ونذكر مثالا آخر من علم الحساب: فقولهم: «ان مساوي المساوي مساو لما يساويه ذلك المساوي» عبارة عن مصادرة اعتبروها من مبادئ علم الحساب الاولية التي لا يقام عليها برهان، وبنوا عليها مسائل حسابية اخرى.

    وهنا ناتي الى تحديد مصادرات المنطق الذاتي التي لا يكون مطالبا بالبرهنة عليها، وهي عبارة عن ثلاث مصادرات،نتناولها في الابحاث التالية:

    المصادرة الاولى من مصادرات المنطق الذاتي المصادرة الاولى من مصادرات المنطق الذاتي هي حصول العلم والجزم لدى الانسان، بمعنى ان المنطق الذاتي ياخذ حصول العلم لدى الانسان امرا مفروغا عنه ولا يسعى للبرهنة عليه وايجاده عند من لم يحصل لديه. فعند اقتران زوال الصداع بتناول الاسبرين لمر ات عديدة، يحصل العلم لدى الانسان بان تناول الاسبرين علة لزوال الصداع، وليس من وظيفة المنطق الذاتي البرهنة على حصول هذا العلم او ايجاده لدى الانسان، وانما يتعامل معه بوصفه امرا مفروغا عنه. ثم تبداوظيفته من حيث يحصل العلم المذكور ليفلسف الموضوع ويقدم تفسيرا لحصوله.

    ثم ان المنطق الذاتي عندما يتحدث عن العلم لا يقصد به اليقين بالمصطلح المنطقي، وهو الموصوف هناك بانه «مضمون الحقانية»، وانما يتحدث عن العلم بمعناه اللغوي، وهو الجزم الذي لا لبس فيه ولا شك. فالانسان عندما يضع الماء على النار، لا يحتمل ان الماء سيبقى على حاله من عدم الغليان حتى لو طال بقاؤه على النار، بل يجزم بانه سوف يغلي.

    وجزمه بغليان الماء يستوي مع جزمه بسائر المحسوسات، من قبيل جزمه بالنار مثلا.

    اذن حصول العلم بمعنى الجزم لا بمعنى اليقين المنطقي يؤخذ في بحثنا بوصفه اصلاموضوعيا. ولذلك، لو اتانا من ينكر حصول الجزم لديه بان النار علة لغليان الماء، مدعيا ان ذلك مرد ه الى الصدفة، فعندها لا يمكن للمنطق الذاتي ان يقدم له شيئا او يزيل هذا الشك من نفسه. الاان نا مع ذلك نعتقد بان الشك في هذه الامور لا يحصل لدى الناس، وانما كثير منهم اصطنعوه.

    وعلى اية حال، فالواجب علينا ان ننظر في مدى تقبل الناس لهذه المصادرة، اي في مدى تقبلهم لفكرة ان التجربة يمكن ان تفيدنا بان «ا» علة ل«ب».

    ونحن نجد ان هذا الامر متسالم عليه في بلادنا وفي ثقافتنا، كما نجد ان الفلاسفة العقليين التابعين لارسطو تلقوا هذاالامر على نحو القبول، حيث قالوا: ان التجربيات قضايا جزمية لا مجال للشك فيها، وعدوها ضمن اليقينيات [لدى حديثهم عن مبادئ الاقيسة، وهناك ذكروا انه يحصل لدينا بتكرر المشاهدة ما يوجب رسوخ حكم في النفس لا شك فيه، كالحكم بان كل نار حارة، وان الجسم يتمدد بالحرارة. وقد ذكروا في مقام تبرير حصول هذا العلم ان الاستنتاج في التجربيات هو من نوع الاستقراء الناقص المبني على تعليل افترضوه وذكروا انه يفيد القطع بالحكم، لاعتماده بحسب زعمهم على قياسين خفيين:

    احدهما استثنائي والاخر اقتراني، وهما قياسان يستعملهما الانسان في قرارة نفسه من غيرالتفات غالبا].((7)) وفي مقابل هذا التيار ظهر تيار قوى لا يستهان به في اوساط الفلاسفة التجريبيين الذين آمنوا بالتجربة واعتبروهامصدر المعرفة البشرية، وهذا التيار انكر فكرة العلية والسببية، وقصر اعترافه بحصول الجزم على مجال التجربة الحسية المباشرة فحسب، وما يقع في حدود الحس المباشر هو نفس النار لا على تها للاحراق.

    ومن هنا نجد ان جماعة من التجريبيين ذهبوا الى ان المعارف الحاصلة من التجربة عبارة عن قوانين ثابتة على نحوالاحتمال لا على نحو الجزم. واذا ضممنا الى هذا الاعتقاد اعتقادهم بان جميع المعارف البشرية قائمة على اساس التجربة،خرجنا بنتيجة، وهي ان كل معارفنا عرضة للشك، حتى المعارف الرياضية من قبيل ان «الواحد نصف الاثنين» الناتجة آعندهم عن التجربة.. نعم، حت ى هذه عرضة للشك، شانها في ذلك تماما شان القضية القائلة بان «كل نار محرقة».

    والحقيقة ان المجال لا يسع للدخول في هذا البحث بشكل مفصل لبيان مختلف الاتجاهات الموجودة لدى تيارات المنطق التجريبي، ومدى اعتراف كل منها بالشك واليقين، فانه بحث مفصل، غير اننا نكتفي بالاشارة الى مسالة، وهي انه من المحتمل احتمالا قويا ان يكون عجز الفلاسفة التجريبيين عن تفسير حصول العلم هو الذي يقف وراء انكارهم له،فكانهم اثر عجزهم عن ذلك منوا ببلبلة اصابت فكرهم، فادت بهم الى انكار اصل حصول العلم. وهذا الانكار يمكن تفسيره على اساس ما ذكرناه، وان حالة الشك الحاصلة لديهم ناجمة عن انحراف في سير فكرهم، فانهم من ناحية انكرواوجود معارف عقلية اولية، ومن ناحية اخرى ارجعوا جميع المعارف الى التجربة، ومن ناحية ثالثة راوا ان دائرة الكليات اوسع من دائرة التجربة، فما كان منهم الا ان انكروا من راس حصول العلم.

    اذن مسالة الانكار لديهم لم تعد مشكلة منطقية بقدر ما تعبر عن مشكلة نفسية عاشوها، والا فهل يشك احد حقيقة في ان عنق الانسان اذا حزت فانه يموت؟! او في ان من يدخل النار يحترق؟! وهنا ياتي دور المنطق الذاتي ليعالج المشكلة النفسية التي عاشها هذا الاتجاه من التجريبيين. ولو استطاع هذا المنطق ان يقدم تفسيرا معقولا يقبله هؤلاء حول كيفية حصول العلم من خلال التجربة، فان هذا سيعيد بصيص الامل في رجوعهم الى حظيرة اليقين.

    المصادرة الثانية من مصادرات المنطق الذاتي بعد افتراض حصول العلم بان «ا» علة ل«ب»، ياتي دور الحديث عن المصادرة الثانية من مصادرات المنطق الذاتي.

    وحاصل هذه المصادرة هو الاعتراف بان هذا الجزم الحاصل ليس مجرد وهم يعيشه الانسان نتيجة لغفلته عن برهان عقلي، وانماهو بالفعل ناتج عن قوة العقل.

    وتوضيح ذلك: ان الفلاسفة العقليين ذكروا ان لدى الانسان الى جانب ملكة العقل ملكة اخرى يطلقون عليها «ملكة الوهم»، وهذه الملكة تدعو الانسان الى الاعتقاد بجملة من الامور اعتقادا اولى ا، بمعنى انها تنتج اعتقاداتها مباشرة وابتداء ،دون ان تفترض اعتقادات سابقة عليها كانت سببا في حصولها.

    وكثيرا ما يخيل للانسان الذي لم يمارس صناعة البرهان ان معطيات الوهم عبارة عن معطيات العقل الاول، وانهامعارف عقلية اولية لا كلام فيها. ويبقى الحال على ما هو عليه الى ان ياتي دور العقل في ممارسة ما يشبه الحيلة، ليفسدبذلك على الوهم ما هو فيه، فيبدا بترتيب المقدمات ثم يصل منها الى النتائج، والوهم غافل عما يدبره له العقل. وتستمرعملية البرهان بين العقل الاول والثاني الى ان يفضي الامر الى نتيجة تتصادم مع بعض معطيات الوهم الاولية. وهنابالتحديد يستيقظ الانسان من غفلته، ويعي ان ما قدمه له الوهم بصفته مبادئ عقلية ومعارف اولية لم يكن كذلك، وانما كان مجرد وهم. وهو لا يستطيع البقاء على موقفه السابق من تلك المعارف، لان الفرض ان النتيجة التي توصل اليها العقل وتصادمت مع هذه المعارف كانت نتيجة مبرهن عليها وموضع قبول لديه، وحيث ان العقل لا يكذب نفسه، فلا يبقى حينئذشك في ان ما حسبه من المعارف العقلية الاولية لم يكن كذلك.

    ومن باب المثال نقول: ان قوة الوهم لا تتصور ان يكون العالم متناهيا، بحيث يتاح للانسان ان يصل الى مكان يمد يده خارجه فتقع خارج هذا العالم. ولذلك نجد ان هذه القوة تقذف في نفس الانسان وتنفث فيها بان العالم غير متناه.

    هنا ياتي العقل كما قلنا ليحتال على الوهم، فيبدا بترتيب المقدمات والوصول الى النتائج، الى ان يقيم البراهين القاطعة على تناهي الكميات المتصلة. وخلال هذه العملية تكون النفس بصدد مواكبة ما يجري والمصادقة عليه، حتى تصادق على النتيجة، بينما تصادق قوة الوهم على المقدمات وترفض الاذعان للنتيجة. وهنا يظهر للنفس ان ما تلقته بوصفه من مدركات العقل الاول لم يكن سوى مجرد وهم. ومع تكرر هذه العملية وانس النفس بالبرهان، تزداد قوتها على التمييز بين مدركات العقل الاول وبين مدركات الوهم، حتى اعتبر بعض فلاسفتنا ان علم المنطق هو صناعة يميز بها بين مدركات العقل الاول وبين مدركات الوهم، وان الغرض من تاليف هذا العلم هو ترويض النفس على هذا التمييز.

    وفي ذيل الحديث عن قوة الوهم لا باس بالاشارة الى ان السيطرة على هذه القوة ليست بالعملية السهلة، وهي مرتبطة بما يمنحه اللّه تعالى للانسان من قدرة على السيطرة عليها اكثر من ارتباطها باقامة البرهان على كونها مجرد وهم.

    فاقامة البرهان العقلي على كون شي وهما لا يكفي على الاطلاق لاجتثاث جذور هذا الوهم من النفس. ومن هنا نجد ان الانسان الذي يعلم بالوجدان او البرهان ان الموتى لا يمكن ان يرقصوا امامه، يخيل له عندما يذهب الى المقبرة انهم يفعلون ذلك، اللهم الا قوي الجنان، وهذا معنى ما ذكرناه من ان العملية مرتبطة بما يمنحه اللّه للانسان.

    ومن هذه المقدمات نخرج بنتيجة، وهي اننا عندما نتحدث عن المعرفة الوهمية، فاننا نقصد منها تلك المعرفة التي يحكم العقل الاول ببطلانها لدى اعمالنا الطريقة البرهانية في التفكير.

    وهنا نعود الى اصل المصادرة الثانية التي ذكرناها، وهي ان لا يكون العلم بعلية «ا» ل «ب» الناتج عن تكرر الاقتران علماولدته قوة الوهم، بحيث يزول اذا لجا العقل الاول الى صناعته البرهانية، بل ان يكون علما يحصل لدى الانسان فيما لوعزل تماما عن قوة وهمه. ومن هنا تتحدد وظيفة المنطق الذاتي بتفسير العلوم غير الناتجة عن الوهم.

    وقبل الانتقال الى الحديث عن المصادرة الثالثة، يبقى ان نشير الى موقف كل من المنطق العقلي والمنطق التجريبي من هذه المصادرة:

    اما المنطق العقلي فيصادق على ما قلناه، لانه يعترف بان العلم الحاصل هو عبارة عن معرفة عقلية صحيحة وليس وهما،فلا يمكن ان تخالفه احكام العقل الاخرى، لان العقل لا يعارض نفسه.

    واما التجريبيون فهم على قسمين، تبعا لموقفهم من اصل حصول العلم: فمن انكر منهم اصل وجود هذا العلم، لم يعد من الممكن لديه الحديث حول منشئه، وهل انه من مدركات العقل ام مدركات الوهم. واما بعض من يعترف منهم بحصول علم من هذا القبيل، فيفسره بما يقرب من الوهم، لانه في الحقيقة يفسره على اساس العادة، والعادة قريبة الى الوهم.

    وعلى اية حال، سياتي التعرض لهذا الموضوع في الابحاث القادمة باذن اللّه تعالى مع بقية الاشكالات والتفاصيل.

    المصادرة الثالثة من مصادرات المنطق الذاتي المصادرة الثالثة من مصادرات المنطق الذاتي عبارة عن فرض الايمان بالعقل الاول، على فروق سوف تظهر بين المعارف المولدة بالمنطق الذاتي، من حيث مساحة المبادئ العقلية الاولية التي تتطلبها، فبعضها يتوقف على مبادئ اولية اكثر ممايتوقف عليه البعض الاخر: فكل تطبيقات المنطق الذاتي تتوقف على مبدا استحالة اجتماع المتناقضين، وهو المبدا الذي لاتتم بدونه معرفة على الاطلاق، بينما يزيد بعضها في توقفه كذلك على مبدا العلية الذي هو ايضا من مكتشفات العقل الاول.وحينما نشرح المنطق الذاتي وكيفية تفسيره للعلم التجريبي، سوف تتضح حينئذ الحاجة الى فرض هذه المبادئ الاولية،التي هي عبارة عن مصادرة بالنسبة الى المنطق الذاتي.

    تعميم حصول العلم على حدوث العالم وفي هذا المقام يمكن ان نستفيد فائدة دينية مهمة، وذلك انطلاقا من تفسير المنطق الذاتي لطريقة حصول العلم من خلال التجربة، فان المنطق الذاتي يفترض مبدا العلية في مرحلة متقدمة على التجربة، وهذا يعني ان مبدا العلية مبدا عقلي وليس مبدا تجريبيا، وهذا يعني بدوره عدم امكانية تفسير العلوم الطبيعية بمعزل عن هذا المبدا.

    هنا نقول: اننا اذا تناولنا شخصا يعتقد بحصول العلم من خلال التجربة وان ما ينتج منها ليس وهما، ثم استطعنا ان نبين له انه لا يمكن تفسير هذا العلم الا على اساس الاعتراف بمبدا عقلي اولي سابق على التجربة هو مبدا العلية، فان ذلك سيكون من ناحية تاييدا للالهيين الذين يعتقدون بهذه الفكرة، ومن ناحية اخرى سيكون من الممكن تعميم هذا المبدا الى اصل العالم والى اصل الكون، باعتباره قانونا من قوانين العقل العامة.

    واما اذا فرضنا ان مبدا العلية مستفاد من التجربة، فان التعميم سيكون مرهونا بمقدار ما تسمح به التجربة من التعميم.

    مبادئ العقل الاول لدى المنطق العقلي عندما نتحدث عن العقل الاول، فاننا نتفق مع المنطق الارسط ي من بعض الجهات حول المراد منه، ونختلف معه من جهات اخرى:

    اما المقدار الذي نتفق فيه معه فهو ان العقل الاول عبارة عن المعلومات الثابتة في النفس دون برهان، فلو كانت كل معرفة ثابتة ببرهان للزم التسلسل او الدور كما يقولون، فلا بد اخيرا من الانتهاء الى معارف غير مكتسبة عن طريق البرهان، ومن هنا اطلق على هذا العقل اسم العقل الاول. والى هنا نحن متفقون مع المنطق العقلي في اطلاق العقل الاول على المعارف الاولية التي لم تكتسب عن طريق البرهان. الا ان اختلافنا معه يكمن في تحديد اصناف العقل الاول وانواعه.والمعروف عند المنطق العقلي ان معارف العقل الاول عبارة عن ستة:

    1- الاوليات: [وهي قضايا يصدق بها العقل لذاتها، اي بدون سبب خارج عن ذاتها، بان يكون تصور الطرفين مع توجه النفس الى النسبة بينهما كافيا في الحكم والجزم بصدق القضية]((8))، وذلك من قبيل استحالة اجتماع النقيضين.

    2- المشاهدات: او المحسوسات، وهي عبارة عما يحكم بوجوده الانسان عن طريق الحس في الخارج، من قبيل الحس بوجه زيد في الخارج، وهكذا ..

    3- التجربيات: [وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منا في احساسنا، فيحصل بتكرر المشاهدة ما يوجب ان يرسخ في النفس حكم لا شك فيه]((9))، من قبيل حكم الانسان على النار بانها علة للحرارة، وذلك عن طريق وضع الورقة على النار مرات كثيرة، فيرى انه متى ما وضعها على النار احترقت.

    4- المتواترات: وهي القضايا التي يقطع بها الانسان عن طريق كثرة النقل الذي يصل حدايمتنع معه تواطؤ الناقلين على الكذب، من قبيل الاخبار عن وجود الكعبة.

    5- الفطريات: وهي القضايا التي تكون قياساتها معها، من قبيل ان الاثنين نصف الاربعة.

    6- الحدسيات: وهي كالتجربيات، الا ان الفرق بينهما بحسب المنطق الارسط ي يكمن في ان[الحدسى ات لم تستفد من التجربة المباشرة وان جربت آثارها وعلائمها وقرائنها، من قبيل الحدس بكروية الارض من خلال مشاهدة السفن في البحار، حيث تبدو اعاليها ثم تظهر بتمامها، وذلك بخلاف التجربيات التي تحصل من التجربة المباشرة لمؤدياتها ].((10))

    التجربة بين المنطق العقلي والعلم الحديث وينبغي هنا ان نلفت النظر ونحن نتناول بعض المصطلحات الى ان التجربة التي تحدثنا عنها لدى حديثنا عن اصناف العقل الاول تختلف عن التجربة في مصطلح العلم الحديث.

    والاختلاف بينهما على نحو العموم والخصوص، اي ان التجربة في المصطلح القديم اعم منها في المصطلح الحديث، لانها في المصطلح القديم عبارة عما ذكرناه، واما في المصطلح الحديث فهي اضيق من ذلك، لان التجربة التي يعيشها الناس في حياتهم لا يسمونها تجربة، والتجربة عندهم عبارة عن الفروض التي يفترضها العالم ثم يتامل فيها، ويتساءل: ماذا سيجد اذا كان هذا الفرض صادقا، وماذا سيجد اذا كان كاذبا.. وبعد ان يحدد الاشياء التي يترقب ان يجدها على فرض صدق هذا الافتراض، وكذلك الاشياء التي يترقب ان يجدها على فرض كذب ذاك، حينئذ يفكر كيف يمكنه ان يحقق في المصنع والمعمل الاثار التي يترقب وجودها على فرض صدق هذه الفرضية، والاثار التي يترقب وجودها على فرض كذبها.

    ونحن نلاحظ ان هذا العالم يتامل في هذه المسالة ويرسم مخططا عمليا ويمارس العمل بقصد علمى معين، وهذا هومفهوم التجربة في مصطلح العلم الحديث.

    عودة الى قضايا العقل الاول ذكرنا فيما سبق ان قضايا العقل الاول عند المنطق العقلي عبارة عن القضايا الست آنفة الذكر:

    1، 2- اما الاوليات والفطريات: فلا شك في كونها من مبادئ العقل الاول.

    3- واما في باب المشاهدات او المحسوسات، فنحن نواجه في الواقع تصورا وتصديقين:

    اما التصور: فهو عبارة عن الصورة المحسوسة المنقوشة في افق من آفاق الادراك البشري، وهي المعبر عنه بالمحسوس بالذات في مقابل المحسوس بالعرض، والاخير هو عالم الخارج نفسه.

    والى جانب هذا التصور هناك تصديقان:

    التصديق الاول عبارة عن اصل وجود عالم خارجي وراء هذا التصور، خلافا للاتجاهات المثالية والسوفسطائيين الذين ينكرون وجود واقع خارجي. ونحن نصادق على كون هذا التصديق من مبادئ العقل الاول.

    والتصديق الثاني عبارة عن مطابقة الصورة المحسوسة بالذات للواقع الخارجي المحسوس بالعرض. وبعبارة اخرى:اعطاء المحسوس بالعرض تمام الصفات والخصوصيات الثابتة لما هو محسوس بالذات.

    والحقيقة ان تصديق الانسان بمطابقة ما يحس به للواقع الخارجي ليس مستفادا من العقل الاو ل ولا من غيره من العقول، وانما هو ناجم عن مجرد توهم ينشا وينمو مع الانسان منذ طفولته، هو الذي يقف وراء ذلك، ولا يمكن السيطرة عليه الا للصديقين. وهذا التوهم منشؤه عدم تمييز الانسان بين المحسوس بالذات وبين المحسوس بالعرض، نتيجة ضعف الفكر وعدم دقة النظر وقلة ممارسته للبراهين الفلسفية.

    اذن، عندما يحكم الانسان بان الواقع الخارجي ابيض نتيجة بياض الصورة المحسوسة لديه بالذات، فهذا الحكم لايمكن ارجاعه الى العقل الاول، فكثيرا ما يخطئ الانسان في حكمه ذاك، والبياض في الواقع من الصفات الذاتية التي تثبت للصورة المحسوسة.

    الان يدعى بحسب المفهوم العلمي السائد ان الالوان عبارة عن صفات ذاتية وليست صفات واقعية، وهي دعوى لم يبرهن عليها بعد. ولكن سواء قدم لها برهان ام لم يقدم، فاننا لا نستطيع القول بانها خلاف البداهة، وان حال مدعيها حال من ينكر بان الخط المستقيم هو اقصر مسافة بين نقطتين، فان كل من ينكر القضية الاخيرة يمكن لك ان تكذبه.

    يبقى مسالة تتعلق بالمحسوسات، وهي ان اختلاف الصورة المحسوسة بالذات يكشف عن اختلاف الواقع الخارجي، وان التمييز بين الاشياء في عالم الخارج يقوم على اساس التمييز بين آثار هذا العالم لدى الانسان، وهي عبارة عن الصورة المحسوسة بالذات. ولكن هذا لا يعني اضفاء صفة الصورة المحسوسة على هذا الواقع، وانما غاية الامر ان كل موجود في عالم الخارج يقابله رمز، وعلاقة الصورة المحسوسة بالذات بالواقع المحسوس بالعرض تكون حينئذ علاقة الرمز بما يرمزاليه. واذا تحدثنا عن المطابقة فالمقصود بها هذا المعنى، اي المطابقة على نحو الرمزية.

    4- الان ياتي دور الحديث عن المتواترات، وهي في مصطلح المنطق التقليدي القضايا التي يحصل لدى النفس علم بهابشكل قاطع، عن طريق اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب،((11)) من قبيل حصول العلم بوجود الكعبة لدى اخبارجماعة عن وجودها بعد فرض امتناع تواطئهم على الكذب.

    فهنا في الواقع حكمان عقليان: احدهما يستند الى الاخر.

    والاول هو حكم العقل بوجود الكعبة. الا ان هذا الحكم مستند الى حكم عقلي آخر سابق عليه، وهو استحالة تواطؤ الجماعة على الكذب.

    ومن هنا يظهر الفرق بين المحسوسات والمتواترات: ففي المحسوسات يستند العقل في حكمه الى الاحساس، بينمايستند هنا الى حكم عقلي آخر هو امتناع التواطؤ على الكذب.

    وعلى هذا الاساس نحن لا نعد القضايا المتواترة من القضايا الاولية، لاستنادها الى حكم عقلي آخر سابق عليها، ولكنناسنبرهن في الابحاث الاتية ان الحكم العقلي السابق هذا هو بدوره ليس حكما عقليا اوليا، وانما هو ناتج عن الطريقة الذاتية في التفكير.

    5، 6- يبقى التعليق على التجربيات والحدسيات، حيث الحكم في كلتا الحالتين قائم على اساس تكرر المشاهدة والممارسة بحيث يمتنع معه الاتفاق.((12)) وهنا ياتي نفس ما سجلناه على المتواترات، لان هذا التعريف يفترض وجودحكم عقلي سابق باستحالة الاتفاق عند تكرر المشاهدة، وسنوضح في ما ياتي ايضا ان هذا الحكم ليس حكما عقليا اوليا،وانما مرده الى الطريقة الذاتية في التفكير.



    انتهى القسم الاول
    [/align]





  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205
    بارك الله بجهودكم الخيرة اخي سيد مرحوم وحشرنا الله واياكم مع الشهيد السعيد الصدر.


    شجعتني لاكتب منذ مدة طويلة تكاسلت ولم اكتب والخص ما اقراه وانشره بالشبكة =x:
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    [align=justify]وبارك فيك وبجهودك اختي الكريمة منازار ، ومهما فعلنا لهذا الشهيد السعيد فلن نوف حقه علينا وعلى الامة جمعاء ، والحمدلله ان كانت احدى بركات هذا العملاق في يوم ذكراه من خلال هذا الموضوع هو فتح شهيتك من جديد للكتابة والتلخيص:verneig: ، وننتظر عطائك وجهودك في هذا المجال كماهي دائما جهودك الكبيرة والمثابة عند الله بلاشك قبل ان تكون مشكورة ومقدرة لدى جميع اعضاء هذه الشبكة المباركة.[/align]





  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jul 2003
    المشاركات
    144

    افتراضي

    لابد انها بحوث ثريبة بالعلم والمعرفة

    سوف نحتفظ بها لنستمتع بها في اوقات الفراغ

    بوركت سيدنا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    وبارك الله فيكم أخي الكريم الغدير .


    [align=center][frame="7 80"][align=center]

    [/align]
    [align=center][overline]
    محاضرات في التاسيس للمنطق الذاتي
    [/overline]
    تأليف : محمد باقر الصدر
    بقلم:السيد عبد الغني الاردبيلي
    تنظيم : الشيخ احمد ابو زيد
    ينشر لأول مرة بترتيب مع مجلة المنهاج

    القسم الثاني
    [/align][/frame][/align]


    [align=justify]استرجاع وتعميق لبعض النتائج قلنا: ان المصادرة الثالثة عبارة عن الايمان بالعقل الاول، ثم حاولنا اعطا فكرة عامة عن العقل الاول من وجهة نظر منطق البرهان، وقلنا: ان قضايا العقل الاول في منطق البرهان عبارة عن ست قضايا: الاوليات والفطريات التي ذكرنا هناك انها بلا شك من قضايا العقل الاول.

    اما المتواترات والتجربيات والحدسيات، فلا يمكن ان تكون كذلك بحسب تعريفها التقليدي المذكور في منطق البرهان× لانها وكما ذكرنا ايضا تستند الى حكم عقلي آخر اسبق منها، فالاولى ان يكون هذا الحكم العقلي هو احد قضايا العقل الاول، لا المتواترات نفسها.

    اذن، لو تم اصلاح التعريف وفق ما ذكرناه سابقا، فستكون هذه الاحكام الاولية التي تقع في مرحلة سابقة على المتواترات هي القواعد الكلية، ولامكن الاستفادة منها ضمن صيغة القياس وبالطريقة‏الموضوعية× لانها اساس التواتر والتجربة والحدس، فتصبح هي في عرض الاوليات، ويكون من الخطا ان نقول: ان لديناوليات، وفي عرضها لدينا حدسيات ومتواترات وتجربيات، بل بنا على اصلاح التعريف على ضوء الاشكال الذي ذكرناه سيكون لدينا اوليات، وتقف الى جانبها هذه القوانين العامة، ويكون الاستنتاج منها على حدالاستنتاج من الاوليات والفطريات عن طريق التوالد الموضوعي.

    نعم، يبقى في المقام ثغرة تتعلق بالحسيات، وهي القضايا المحسوسة× فانه بعد الفرض بان التصديق باصل المحسوس امر ضروري ومن قضايا العقل الاول، لا بد من التساؤل حول طبيعة القضية التي يدركها الحس، هل هي قضية جزئية؟ ام قضية كلية على نهج الاوليات والفطريات والقوانين العامة التي وقفت خلف تفسير التجربيات والحدسيات والمتواترات؟ ومرادنا من القضية الكلية هو ان العقل متى ما احس بشي موجود، فهذا يعني بالملازمة [التطابق والتشابه بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي].((2)) فاذا قلنا بوجود هذا الحكم الكلي وهو التطابق بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي فسينفتح الباب امام الاشكال الذي تقدم سابقا لدى الحديث عن المتواترات والتجربيات× لان الحكم بوجود هذا المحسوس في الواقع الموضوعي ليس حكما اوليا، بل مستنبطا وفق موازين الصيغة القياسية، وذلك بان نقول: ان كل محسوس موجود (الكبرى)، وهذا محسوس (الصغرى)، فهذا موجود.

    ونحن نلاحظ ان الحكم بوجود المحسوس في عالم الخارج سيكون حينئذ من سنخ القضايا الفطرية التي تكون قياساتها معها ويمكن البرهنة عليها بقياس، لا من سنخ القضايا الاولية× لان العقل لايصدق بها بمجرد تصور طرفيها، بل يوسط ما لا يكاد يغيب عن الذهن، الى درجة ان العقل يخطو معه الى النتيجة بدون فاصل زمني او تامل.

    واما ان نقول: ان القضية المحسوسة قضية جزئية لا كلية، والعقل لا يحكم بان كل محسوس موجود على نحو القضية الكلية، بل يحكم بان هذا موجود على نحو القضية الجزئية× وذلك ان الاحساس‏يوجد في الانسان التصديق، [ولا شك في ان الانسان الاعتيادي يذهب الى الاعتقاد بدرجة كبيرة من التطابق والتشابه بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي((3))]، وهذا قانون جعله اللّه تعالى في الحس، كما جعل النار موجدة للحرارة، بحيث ينصب القطع على قضية جزئية من اول الامر.

    وهناك عدة فوارق ظاهرة بين هذين التصويرين، احدها: اننا اذا فرضنا ان القضية المحسوسة عبارة عن تلك القضية الكلية العامة كما ذكرنا، فيصدق بهذا ان معارف العقل الاول كلها معارف شرطية واجمالية ومعلقة، وليست معارف وجودية بحسب مصطلح العصر الحديث، او تنجيزية بحسب اصطلاحنا في علم الاصول× بمعنى ان جميع معارف العقل الاول ترجع الى قضايا اجمالية او قضايا شرطية: فان «الاثنين نصف الاربع‏» معرفة شرطية وليست معرفة وجودية، بمعنى انه لو وجد شي وكان اثنين، فسيكون نصف الاربعة. وهذه القضية لا تنبئ عن شي في عالم الوجود بالفعل، وانما تنبئ عنه على نحو القضية الشرطية، وهكذا قولنا «الجزء اصغر من الكل‏». وهذا الامر يجري حتى في القضايا المحسوسة× لاننا ارجعنا حكم العقل الاول في القضايا المحسوسة الى قضية كلية، والقضية الكلية قضية شرطية، بمعنى ان الانسان اذا احس بشي من عالم الخارج، فهذا يعني ان ما احس به موجود في ذلك العالم.

    اذن، العقل الاول لا ينبئ عن معرفة وجودية، وانما ينبئ عن امور ومسائل معلقة، وما لم تضم اليها صغرياتها وهي عبارة عن الشرط فلا يثبت شي في عالم الخارج.

    اما الشرط في القضايا الشرطية: فتارة يثبت عن طريق العلم الحضوري، فتكون النتيجة محرزة لا محالة ومضمونة الحقانية، باعتبار ان الكبرى مدركة بالعقل الاول، والصغرى معلومة بالعلم الحضوري، فينتج عنهما ان الشي موجود في الخارج.

    واخرى يثبت عن غير طريق العلم الحضوري، اي عن طريق العقل الثالث، فتكون الكبرى مستفادة من العقل الاول، والصغرى من العقل الثالث، وتكون النتيجة تابعة لاخس المقدمات.

    عودا على بدء، فانه بنا على ارجاع القضية المحسوسة الى قضية كلية، يكون العقل الاول منبئا عن قضايا معلقة وشرطية لا تثبت شيئا بالفعل، وانما تفتقر الى اثبات صغرياتها ومقدماتها، ليتم بعد ذلك اثبات النتيجة عن طريق التوالد الموضوعي. وهذه الصغريات خارجة عن دائرة العقل الاول، حتى في حال ثبوتها بالعلم الحضوري.

    نعم× لو قلنا بان القطع في القضية المحسوسة ينصب على القضية الجزئية مباشرة، فحينئذ سيشكل ذلك استثنا من احكام العقل الاول× لان قضاياه ستكون عبارة عن قضايا شرطية معلقة باستثنا هذه القضية، حيث ستكون قضية وجودية ومعرفة تنجيزية.

    هذا بنا على الطريقة الموضوعية في توالد المعرفة التي لم يثبت العقلان الاول والثاني فيها شيئا في الخارج، خلافا للطريقة الذاتية.

    هذا ما اردنا بيانه بالنسبة الى مصادرات المنطق الذاتي.

    الفائدة العملية للمنطق الذاتي وقبل الدخول في موضوع بحثنا، تبقى مسالة لا بد من بيانها، وهي ترتبط بالفائدة العملية المرجوة من المنطق الذاتي: فالمنطق الذاتي على ضوء ما عرفناه حتى الان ياخذ على عاتقه بيان وتوضيح قوانين الطريقة الذاتية في توالد المعرفة، فهل لذلك فائدة ترتجى في عصمة ذهن الانسان وصيانته عن الوقوع في الخطا في الفكر كما هو الحال لدى اصحاب المنطق البرهاني بحسب ما يدعونه؟! فان فائدة المنطق البرهاني تكمن في ان مراعاة قوانينه تعصم الذهن عن الوقوع في الخطا، او بتعبير متواضع وصحيح: تحد من الاخطا وتقلل منها. وهذا ما عبرنا عنه بالفائدة العملية.

    اما آليات هذه العملية وكيفية مساعدة هذا المنطق على الحد من الاخطا، فبتزويده الانسان بالقدرة على التمييز بين الوهم وبين العقل، اي بالقدرة على ابطال القضايا التي تنشا من الوهم، وسنستعرض في البحوث المقبلة كيف ان الوهم هو احد مناشئ الخطا الذي يقع فيه الانسان.

    اذن، الوهم يجر الانسان في كثير من الاحيان الى الوقوع في كثير من الاخطا، ووظيفة منطق البرهان ازا ذلك تزويد الانسان بالقدرة على التمييز بين العقل والوهم، وذلك عبر تزويده بصناعة البرهان التي تخوله ترتيب المقدمات، واستدراج الوهم بالنحو الذي ذكرناه في محاضرة سابقة، الى ان ينتهي الى دفعه من خلال البرهنة على بطلان ما انتهى اليه.

    هذه فائدة مهمة سجلت لمنطق البرهان.

    وهذه الفائدة بنفسها يتمتع بها المنطق الذاتي وتحظ‏ى بها الدراسات التي سوف نقدمها الان تحت هذا الاسم× لانها تتكفل بفضح الوهم والكشف عن جملة من قضاياه بهدف تغليب سلطان العقل على سلطانه، والحؤول دون حصول العلم لدى الانسان من خلال ما يقدمه له الوهم من معطيات.

    وقد المحنا سابقا ونذكره الان بشي من التفصيل ان القضية التي ينتهي اليها الوهم تكون باحد نحوين: فتارة تكون بحيث يمكن للعقل الاول والعقل الثاني ابطالها بالصناعة ابطالا جازما، وذلك باثبات نقيضها كما في المثال الذي قدمناه في محاضرة سابقة، حيث ذكرنا ان الانسان قد يقطع تحت تاثير وهمه بعدم تناهي العالم، ثم ياتي دور العقل الاول ليرتب المقدمات بصناعة البرهان وينتهي الى نتيجة متناقضة تماما مع النتيجة السابقة، ويفرض بذلك على الانسان القطع بتناهي العالم والكميات المتصلة فيه. اذن، انتهى العقل في هذه الحالة الى نتيجة قطعية مضادة للنتيجة التي اوهم الوهم بصحتها.

    وتارة اخرى لا يكون الحكم الذي يصدره العقل في مقابل الوهم حكما قطعيا، وانما يولد في مقابله احتمالا لا يصل الى درجة القطع، ولكنه يعمل على المحافظة على هذا الاحتمال وصيانته، بحيث لا يمكن القضا عليه الا اذا تم تهميش دور العقل بشكل كامل والانصياع الكامل لسلطان الوهم، والانغماس في احكامه.

    والمنطق الذاتي بحسب ما سنبينه في هذه المحاضرات يتكفل امر محاربة الوهم على كلا الصعيدين، ويحد من انسياق الانسان مع الوهم في كلتا الحالتين.

    الى هنا نكون قد انتهينا من بيان مقدمات البحث، ولنشرع في اصل الموضوع.

    نطاق المعرفة التي يبحثها المنطق الذاتي ان المعرفة الناجمة عن الطريقة الذاتية في التفكير تنتمي الى ميدان الحس والتجربة× فنحن نعرف ان الصورة المحسوسة التي تحصل لدى الانسان لها جانبان: احدهما يرجع الى العلم الحضوري، وآخر الى العلم الحصولي.

    اما ما يرجع الى العلم الحضوري فاصل وجود هذه الصورة، اضافة الى خصوصياتها المحسوسة بالذات، وهذا كله مما لا علاقة للمنطق الذاتي به. كما لا علاقة له بالمقدار الذي يعترف به العقل من مطابقة الصورة المحسوسة مع الواقع، بل هو من وظيفة العقل الاول والعقل الثاني.

    وهناك علاقات وروابط قائمة بين الاشيا الخارجية المحسوسة يمكن اثبات قسم منها بالبرهان ايضا. فمثلا عندما يحس الانسان بالما، ثم يحس مرة اخرى به، ويرى تماثل هاتين الصورتين المحسوستين بالذات، فيستكشف حينئذ ان ما ترمز اليه هذه الصورة هو نفس ما ترمز اليه تلك من حيث الجنس والنوع، ولا يحتمل ان يكون ما اثار الصورة الاولى عبارة عن سائل حار، بينما اثار الثانية جسم كقرص الشمس، بحيث يكون التفاوت بين الصورتين كالتفاوت بين قرص الشمس وبين البحر.

    هذا الاحتمال لا يسمح العقل بافتراضه× باعتبار ايمانه بلزوم السنخية بين الرمز وذيه، وعن طريق هذا الايمان يعرف التماثل والتقارب. واحيانا اخرى يدرك التغاير والتباين لا التماثل، كما لو راى انسانا ثم راى ذئبا، ففي هذه الحالة لا يحتمل ان ما رآه في الحالة الاولى هو ما رآه في الحالة الثانية× لانه لا مبرر لاختلاف الصورة بهذا الشكل.

    اذن، روابط وعلاقات التماثل بين الشيئين الخارجيين او التغاير بينهما، يمكن اثباتها بالعقل الاول.

    الا ان جملة منها لا يمكن اثباتها بالعقل الاول ولا العقل الثاني.

    وهذه المساحة بالذات هي مساحة المنطق الذاتي وميدان الطريقة الذاتية في التفكير. فاذا اردنا تحديد ميدان هذا المنطق، امكننا القول: ان ميدان المنطق الذاتي هو خصوص العلاقات والروابط التي لا يمكن ادراكها بالعقل الاول او الثاني. ونجدد التاكيد على قيد عدم امكان الادراك بالعقلين الاول والثاني.

    وعلى سبيل المثال، فان من جملة هذه العلاقات والروابط علاقة العلية، اي كون الشي علة لشي آخر، وهذه العلاقة في ما هو محسوس بالعرض لا يمكن اثباتها بالبرهان، وهو ما سنقيم البرهان عليه. وهنا ياتي دور الطريقة الذاتية في التفكير.

    ومثال آخر: حكمنا بان الشخص الذي نراه هو صديقنا× فعندما نرى السيد الاشكوري((4)) نحكم بانه هو الشخص الذي نعرفه ونعاشره، مع ان هذا الحكم ليس مما يمكن اثباته بالعقل الاول× لان هذا العقل لا يابى عن تفسير التماثل بين الصورتين المحسوستين باحد تفسيرين: فاما ان يكون الشخص الذي نراه هو فعلا صديقنا الذي نعرفه ونعاشره. واما ان لا يكون هو، ويكون هناك تماثل من سائر الجهات بين الصورتين، وهو ما لا يابى العقل الاول افتراضه. وهنا ايضا ياتي دور الطريقة الذاتية في التفكير.

    اذن، المنطق الذاتي لا يبحث عن نفس الصور المحسوسة بالذات وعن العلاقات القائمة بينها، بل عن العلاقات القائمة بين الصور المحسوسة بالعرض مما لا يمكن اثباته باللجوء الى العقل الاول.

    ما يتعلق بالمحسوس بالعرض((5)) كنا بصدد تحديد نطاق المعرفة التي يتناولها المنطق الذاتي.

    وقلنا: انه يتحرك في ميدان الحس والتجربة. والان نقول: ان ما يحصل العلم به لدى الانسان: تارة يكون معلوما بالعلم الحضوري، وهو عبارة عن المحسوس بالذات، اي ما يقوم قائما في افق من آفاق النفس.

    واخرى يكون معلوما بالعلم الحصولي، وهو عبارة عن المحسوس بالعرض او الواقع الموضوعي في الخارج.

    والحالة الاولى خارجة بالكلية عن محل الكلام× لانها بتمام خصوصياتها وشؤونها معلومة بالعلم الحضوري بفعل قيامها في افق من آفاق النفس المدركة.

    وكذلك الحال بالنسبة الى العلاقات والروابط القائمة بين نفس الصور المحسوسة بالذات بما هي محسوسة بالذات× كما لو حكم الانسان بان هذه الصورة المحسوسة بالذات اشد بياضا من تلك الصورة الاخرى المحسوسة بالذات ايضا، فهذا حكم في نطاق المعلوم بالذات على اى حال، وليس حكما في نطاق العلم الحصولي.

    واما الحالة الثانية التي نبحث فيها عن المحسوس بالعرض، ففيها عدة مقامات:

    المقام الاول: في اثبات اصل وجود المحسوس بالعرض عن طريق الحس، وذلك في قبال من يدعي ان ما يحصل من الحس تصور ساذج لا يكون معه تصديق بوجود واقع موضوعي.

    المقام الثاني: في مطابقة هذا الواقع الموضوعي مع خصوصيات ما هو معلوم بالذات، بحيث ان كل ما يتراى لنا في الصورة المحسوسة بالذات يحكي عن مقدار مطابقة للواقع الموضوعي الذي ثبت اصل وجوده في المقام الاول.

    المقام الثالث: في العلاقات والروابط القائمة بين الاشيا الواقعة في الخارج، والمحسوسة بالعرض، من قبيل علاقة العلية او العينية مثلا.

    ففي العلية حيث يكون شي علة لشي آخر لا نتناول العلية بين الصوريتن بما هما صورتان، وانما نتناول علية شي في عالم الخارج لشي آخر في عالم الخارج كذلك. وكذلك عندما نتناول علاقة العينية، حيث نقول بان هذا هو ذاك، فهذه العلاقة ظرفها عالم الخارج. اضف الى ذلك مثلا علاقة المثلية، حيث نقول بان هذا مثل ذاك، الى غيرها من العلاقات القائمة في عالم الخارج.

    اذن، هذه مقامات ثلاثة:

    المقام الاول: في اثبات اصل المحسوس في الخارج اما المقام الاول وهو اثبات اصل المحسوس في الخارج فهو على نحو القضية الكلية الراجعة الى العقل الاول. وحيث ذكرنا سابقا ان مدركات العقل الاول عبارة عن الاوليات والبديهيات، فعلينا اخراجها عن محل الكلام× لانها لا ترجع الى العقل الثالث ولا تمت اليه بصلة.

    المقام الثاني: تطابق الواقع الموضوعي مع المعلوم بالذات واما المقام الثاني، فقد ذكرنا اننا نتناول فيه مطابقة الصورة بخصوصياتها مع الواقع الموضوعي.

    ونحن عندما نصف الواقع الموضوعي بالبياض او الحمرة وما الى ذلك على اساس انها حالات قائمة بمحسوستنا بالذات، فهذه العملية مردها الى الوهم× لاننا في الحقيقة نسحب على المحسوس بالعرض (الواقع الموضوعي) ما هو محسوس بالذات (الصورة المنقوشة). وهذا الوهم والخطا ينحو اليه كل انسان بسذاجته التي تملي عليه ان المحسوس في عالم الخارج هو المحسوس بالذات. وهذا الوهم قد يكون مستحكما الى درجة يصعب معها التغلب عليه.

    وما قلناه في ما سبق صحيح، الا انني احتمل الان ان جملة من هذه الخصوصيات المحسوسة بالذات ايضا يمكن ارجاعها الى العقل الذاتي الذي يدرسه المنطق الذاتي، بمعنى ان جملة من خصوصيات مطابقة الصورة المحسوسة للخارج ليست قائمة على اساس الوهم، بل على اساس الطريقة الذاتية في توالد الفكر، فتكون متولدة من العقل الاول، لكن بالطريقة الذاتية في التفكير.

    ولكن تحقيق هذا المطلب يحتاج الى مزيد من التعب، وسوف نؤجل البحث في تحقيق هذه الدعوى التي تحظ‏ى باهمية بالغة الى ما بعد المقام الثالث، حيث نتحدث عن شؤون العقل الذاتي وقوانينه. وسنستانف تفكيرا وجهدا في معرفة المقدار الذي يمكن اثباته بالعقل الذاتي من خصوصيات المطابقة، وما هو المقدار الذي لا يمكن اثباته به، [ونعني بالعقل الذاتي العقل في تفكيره بطريقة ذاتية. ] المقام الثالث:((6)) العلاقة بين الاشيا القائمة في عالم الخارج واما المقام الثالث، فنتناول فيه الروابط والعلاقات القائمة بين الاشيا في عالم الخرج. وهنا ايضا يمكن اثبات جملة من هذه العلاقات بالعقل الذاتي، وجملة منها لا يمكن اثباته به.

    ومن هنا، فاننا سناخذ نموذجا رئيسيا من هذه العلاقات والروابط، لنتحدث عن العقل الذاتي وطريقته في توليد الفكر وقوانينه التي تحكم هذا النموذج، حتى اذا فرغنا عن ذلك وتكونت لدينا معرفة كاملة بقوانين العقل الذاتي، انتقلنا الى العلاقات الاخرى واحدة تلو الاخرى، وذلك بحسب الطاقة المستمدة من اللّه تعالى، فنطبق قوانين هذا العقل الذاتي على العلاقات المتنوعة التي تندرج في المقام الثالث.

    والنموذج الرئيسي الذي نختاره الان من هذه العلاقات ونتحدث عنه ونجعله اداة التعبير في تمام هذه البحوث المقبلة، هو علاقة العلية والسببية، التي تعتبر من اهم العلاقات القائمة في عالم الخارج والتي نتناولها في هذا المقام، وان كنا سوف نخلط مع هذا النموذج ايضا في الانشا بعض النماذج الاخرى.

    وهذه العلاقة التي سوف نتحدث عنها تعتبر ايضا من اهم ميادين العقل الذاتي، وسوف نتحدث عنها ونقوم بشرح خصوصياتها على ضوء المنطق الذاتي وقوانينه.

    وتقوم على علاقة العلية في منطق البرهان ثلاثة انواع من القضايا: هي القضايا التجربية والحدسية والمتواترة.

    التجربيات: ففي القضية التجربية وبحسب كلامهم يحكم العقل بكون شي (ا) علة لشي آخر (ب) على اساس تكرر واقتران وجود (ب) عند ايجاد (ا).

    الحدسيات: اما في الحدسيات، فيحكم العقل بسببية احد الشيئين للاخر نتيجة لاقترانهما، ولكن من دون عمل وايجاد، [فلم تستفد القضية من التجربة المباشرة وان جربت آثارها وعلائمها وقرائنها ].((7)) وابتنا هذين النوعين من القضايا على قانون السببية في غاية الوضوح.

    المتواترات: والكلام نفسه في المتواترات× لان روح التصديق بالقضية التي يجتمع عليها جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب هو دعوى ان الاخبار مرتبط بواقعية المطلب المخبر عنه، وان واقعية المطلب وثبوته في الواقع هو علة اخبار هذه الجماعة.

    فاخبار الالاف والملايين عن وجود مكة مرتبط بنحو من انحا الارتباط السببي بنفس وجود مكة في عالم الخارج× اذ لو لم تكن موجودة لما وجد لديهم الداعي الى الاخبار عن وجودها. ولذا ترجع القضية المتواترة بحسب الحقيقة الى علاقة السببية.

    اذا تحصل لدينا ان هذه القضايا الثلاث التي جعلت ضمن قضايا العقل الاول في منطق البرهان، يقوم القطع واليقين فيها في الحقيقة على علاقة السببية.

    مقدمات حول حصول العلم في التجربيات واخواتها وبعد اخذ كافة المصادرات المتقدمة بعين الاعتبار، ننتقل الى التساؤل حول كيفية حصول العلم بالقضية القائمة على اساس التجربة او الحدس او التواتر؟! والذي يدفعنا الى اثارة هذا التساؤل هو اننا لا نرى مانعا في اجتماع شيئين صدفة من دون ان يكون بينهما علاقة سببية او علية.

    ونقصد بالصدفة هنا الصدفة بمعناها العلمي لا الفلسفي: فالصدفة بمعناها الفلسفي عبارة عن وجود المعلول بلا علة، وهذا محال فلسفيا.

    اما الصدفة بمعناها العلمي فهي اجتماع معلولين لعلتين مختلفتين صدفة وبلا علاقة لزومية. كما لو سافر شخص لعلة، وسافر آخر لعلة اخرى، فان سفر كل منها معلول لعلة، فلا يكون صدفة بالمعنى الفلسفي، ولكن اجتماعهما ليس ناتجا عن علاقة لزومية، اذ ليس سفر هذا علة لسفر ذاك ولا معلولا له.

    وبما ان هذه الصدفة تقع في عالم الخارج ولا تمتنع، فانه يمكن استحضارها الى بحث السببية والعلية الذي تقوم عليه القضايا الثلاث المتقدمة،
    التجربيات والحدسيات والمتواترات.

    التجربيات: ولناخذ مثالا التجربيات: فلو تناولنا حبة اسبرين فزال الصداع، وكررنا هذه المحاولة للمرة الثانية والثالثة، وفي كل مرة كان الصداع يزول لدى تناول الاسبرين، فهنا لدينا ظاهرتان: احداهما: تناول الاسبرين، والثانية: زوال الصداع. واقتران هاتين الظاهرتين مرده الى احد امرين: فاما ان يكون زوال الصداع وصحة المزاج معلولا لتناول الاسبرين.

    واما ان تكون هناك علة اخرى غير تناول الاسبرين تقف ورا زوال الصداع، ولنفترض مثلا انها حركة خاصة في الدم اتفق وقوعها صدفة مع تناول الاسبرين، وكانت هي العلة الحقيقية ورا زوال الصداع.

    وهذا الاحتمال غير ممتنع× لان غاية ما يتطلبه هو فرض اجتماع تناول الاسبرين مع حركة الدم الخاصة صدفة، وهذا لا يمنعه العقل، اذ كما لا يمنع اجتماع الصديقين في السفر صدفة في المثال السابق، فانه لا يمنع ذلك هنا.

    ولاجل تسهيل الامر، سوف نتحدث بلغة رمزية: فنضع (ا) بدل الاسبرين الذي نبحث في كونه علة او ليس بعلة، و(ب) بدل المعلول، وهو زوال الصداع، و(ت) بدل ما نحتمل كونه علة مجهولة تقف ورا زوال الصداع اقترانا مع تناول الاسبرين.

    اذن: (ا) هو العلة المفترضة، و(ب) هو المعلول، و(ت) هو العلة المحتملة المجهولة. فاذا ترتبت (ب) على (ا)، لا يمكن التسرع بالقول بان (ا) علة ل(ب)، اذ لعل (ت) كانت هي علة (ب) وظهرت صدفة بالتزامن مع (ا) الذي لم يكن في الحقيقة علة ل(ب). وقد قلنا سابقا بان العقل لا يمنع ظهور (ت) صدفة مع ظهور (ا).

    ولو تكررت هذه الظاهرة مرة اخرى، فما المانع في ان تظهر (ت) صدفة مع ظهور (ا)، وتكون هي العلة الحقيقية ل(ب)؟ ولو ابتلينا بشخص يثير هذا السؤال في كل مرة ويشكك في وقوف (ا) ورا (ب)، محتملا الاقتران بالصدفة بين (ا) و(ت)، فكيف بوسعنا ان نوضح له السر في حصول العلم بان (ا) علة ل(ب)؟ هنا تارة نلجا الى المنطق العقلي، فنرجع له القضية الى العقل الاول، ويكون علمنا بذلك قائما على اساس طريقة التوالد الموضوعي× واما ان نرجعه الى قضايا العقل الاول لكن وفق الطريقة التي يؤمن بها المنطق الذاتي الذي نحن بصدد بحثه وبيانه× واما ان نبحث له عن مصدر آخر يخلصنا من هذه المشكلة.

    والمنطق الذاتي هو الذي سيتكفل ان شا اللّه تعالى بالاجابة عن هذا السؤال وحل هذه المشكلة اعتمادا على الطريقة الذاتية في التفكير، وسيبين انه لا يمكن حلها عن طريق الطريقة الموضوعية في توالد الفكر، ولا على اساس آخر من الاسس التي تتصور في المقام مع حفظ المصادرات التي بيناها سابقا.

    يبقى ان نشير الى ان كافة موارد التجربة بالمعنى العلمي الحديث مشمولة وداخلة ضمن نطاق البحث× لان التجربة بمعناها الحديث فرع من فروع التجربة بمعناها المنطقي القديم. وعليه، فالمشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل.

    الحدسيات: هذا في ما يتعلق بالتجربيات. وفي الحدسيات، ياتي الكلام نفسه، فعند اقتران (ا) و(ب) في المرة الاولى، نحتمل وجود (ت) مجهولة كانت هي العلة في وجود (ب)، وان وجودها اجتمع صدفة مع وجود (ا) التي يظن انها علة (ب).

    فالكلام هو الكلام.

    المتواترات: وكذلك الامر ايضا في المتواترات، ففي القضية المتواترة نواجه اخبار عدد من كبير من الناس، ولكن بوسعنا تحليل هذه العملية: فلو جانا شخص واحد واخبرنا عن وجود مكة، لما حصل لدينا العلم بذلك، لاحتمال كذبه ووجود مصلحة دعته الى الاخبار بذلك، لا ان واقعية المخبر عنه وهو وجود مكة هي التي دعته الى ذلك.

    فوجود مكة هو (ا)، واخباره بوجودها هو (ب)، والمصلحة المحتملة التي تقف ورا اخبارها عن وجودها هي (ت). فلو فرض عدم وجود مصلحة في الكذب، فسيكشف خبره لا محالة عن وجود مكة، واما مع وجود المصلحة في كذبه ووقوفها ورا اخباره، وان اخباره ليس ناتجا عن واقعية مكة في عالم الخارج، فلن يكشف خبره عن ذلك.

    وما ياتي في المخبر الاول ياتي في المخبر الثاني، وهكذا..

    ولكن السؤال هو اننا اذا كنا نحتمل في كل مخبر على حدة وقوف المصلحة في الكذب ورا اخباره عن وجود مكة، وان هذا الاخبار لم يكن ناجما عن واقعية وجود مكة في عالم الخارج، فكيف يحصل لنا الجزم بوجودها عند ضم هذه الاخبار الى بعضها البعض؟! والجواب هنا عين الجواب المتقدم في التجربيات والحدسيات: فاما ان نلجا الى العقل الاول وفق طريقة التوالد الموضوعي× واما ان نلجا اليه ايضا، لكن وفق طريقة التوالد الذاتي× واما علينا ان نضع اساسا آخر يفسر لنا ذلك.

    التفسيرات المطروحة لحصول العلم((8)) بعد ان طرحنا المشكلة، صار لزاما علينا ان ندخل في صلب الموضوع لكي نحاول تفسير عملية حصول القطع والجزم القائمة على اساس الحس والتجربة.

    قلنا: ان اقتران وجود (ا) مع وجود (ب) لا يكفي وحده للحكم بالعلية عقلا× اذ من الممكن ان يكون هناك علة اخرى (ت) هي العلة الحقيقية ل(ب)، واتفق وجود (ا) صدفة عند تاثيرها في معلولها (ب). وقد قلنا ان هذه الفرضية فرضية ممكنة ومعقولة، وتسالنا انه ما المانع في ان نطرح هذه الفرضية في كل مرة نقوم بها بهذه التجربة؟ بان نقول في كل مرة: ان (ت) هي التي تقف ورا ظهور (ب)، وان وجود (ا) عند تاثير (ت) في معلولها (ب) كان من باب الصدفة.

    كما قلنا: ان من الممكن تقديم عدة تفسيرات لحصول العلم بعلية (ا) ل(ب): التفسير الاول: هو ارجاع القضية الى العقل الاول او الى العقل الثاني المتولد منه، وذلك وفق طرق التوالد الموضوعي للفكر التي يقررها منطق البرهان، فتكون هذه المعارف من قبيل المعارف الرياضية التي تتولد من العقل الاول بطريقة التوالد الموضوعي.

    وهذا الراي هو الذي يبدو من اكابر فلاسفة المنطق العقلي، وقد اشار اليه الشيخ الرئيس في منطق الشفا، حيث صرح بان التجربة بحسب الحقيقة تستبطن قياسا خفيا مركبا من كبرى عقلية وصغرى: اما الكبرى، فهي ان الاتفاق لا يكون غالبيا او دائميا. ومراده من الاتفاق الصدفة بمعناها العلمي لا الفلسفي، فقد قلنا انها بمعناها العلمي تعني وجود المعلول بلا علة.

    واما الصغرى، فهي ان (ا) و(ب) قد اقترنا غالبا ودائما.

    والنتيجة هي ان (ا) علة ل(ب)× اذ لو لم يكن الامر كذلك للزم كون الاتفاق غالبيا ودائميا.

    ويمكن صياغة هذا البرهان بلغة القضية الشرطية، فنقول: ان (ا) لو لم يكن علة ل(ب) للزم كون الاتفاق دائميا وغالبيا× لان (ب) لو لم يكن معلولا ل(ا) لكان معلولا ل(ت) في تمام هذه المرات، وكان اجتماع (ت) مع (ا) صدفة في تمام هذه المرات، وهذا هو معنى كون الاتفاق دائميا. والتالي باطل، فالمقدم مثله في البطلان.

    هذه طريقة من طرق التوالد الموضوعي التي يقررها منطق البرهان. ولو تمت هذه الدعوى، فسيكون علمنا بعلية (ا) ل(ب) متولدا من العقل الاول بطريقة التوالد الموضوعي.

    والشيخ الرئيس وغيره ممن اشار الى هذا المطلب لم يصرحوا بان هذه القاعدة الكلية وهي ان الاتفاق لا يكون غالبيا ودائميا هل هي قاعدة اولية من مدركات العقل الاول، ام انها قاعدة مبرهن عليها، فتكون من مدركات العقل الثاني لا الاول.

    وغاية ما يستفاد من كلماتهم ان هذه القاعدة قاعدة عقلية وماخوذة من العقل الاول، لكن لم يتضح من كلماتهم هل هي جزء من العقل الاول ومن الفطريات ام انها قاعدة مبرهن عليها عن طريق بعض الاوليات والفطريات.

    وهذا الكلام ياتي بعينه في تفسير حصول العلم بالقضايا المتواترة، فيقال: لو لم يكن الاخبار عن وجود مكة ناتجا عن واقعية وجودها، بل كان ناتجا عن وجود مصلحة في الاخبار عن ذلك عند زيد وعمر و... للزم من ذلك ان تكون مصالحهم قد اتفقت دائما على الاخبار عن وجودها مع انها في الواقع غير موجودة، مع العلم بانه لا ربط لزوميا بين مصلحة احدهما ومصلحة الاخر، والتالي باطل، فالمقدم مثله في البطلان.

    ورواد المنطق العقلي لم يذكروا تفسيرا آخر لحصول العلم في هذه الموارد، اما غفلة منهم، واما بسبب اعتقادهم بان قاعدة استحالة الاتفاق الدائمي من مدركات العقل الاول التي لا تحتاج الى برهان.

    الا ان تفسير حصول العلم في القضايا التجربية والقضايا المتواترة على اساس هذه القاعدة التي يدعى كونها عقلية، سوا كانت من مدركات العقل الاول، ام مبرهنا عليها بالعقل الثاني تفسير غير صحيح.

    ونحن عندما نقبل بهذه القاعدة، فهذا يعني قبولنا دعوى القطع من قبل العقل بعدم اجتماع مجموعة كبيرة من الصدف، بمعنى ان العقل يحتمل اجتماع (ت) مع (ا) لمرة او مرتين مثلا، ولكنه لا يحتمل بل يمنع اجتماعهما صدفة ولمرات كثيرة متكررة، كمئة مرة او الف مرة مثلا.

    فلو فرضنا ان الحد الادنى من التجارب اللازم لحصول العلم هو مئة مرة: فعندما نتناول قرص الاسبرين في كل مرة ينتابنا فيها الصداع، ويتكرر حصول ذلك مئة مرة، ونرى ان الصداع يزول في كل مرة من هذه المرات المئة، فهنا يحكم العقل بان من الممكن وجود علة اخرى (ت) هي التي تقف ورا زوال الصداع لا تناول الاسبرين، ولكنه يحتمل ذلك في المرة الاولى والثانية مثلا، ولكنه لا يحتمل وجود
    [/align]





ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني