لا أريد أن أخوض في حقيقة العملية السياسية في العراق، أو ماهية الحكومة العراقية، وكل ما أريد أن أقوله إن الواقع العراقي والظروف الاستثنائية أفرزت حالات خاصة في العراق، فكان في الحكومة السقيم والصحيح والصالح والطالح والعناصر المخلصة والمشبوهة، والأيام كفيلة بكشف أعداء الوطن والامة ومؤاخذتهم ومحاسبتهم. وعلينا أن لا نخلط الأمور وأن نكون منصفين في اطلاق الاحكام، فما أسهل على الذين يجلسون بعيدين عن المسؤولية ولم يكتووا بنار الواقع العراقي، أن يطلقوا الاحكام ويقيموا المسؤولين والعملية السياسية كما يحلو لهم. ومن أجل أن نكون منصفين في التقييم سواء بالنسبة للعملية السياسية والحكومة العراقية في العراق أو غيرها من المواضيع علينا ملاحظة نقطتين وهما:
أولا:الإطلاق والتعميم.
ثانيا:معايير التقييم.

أولا: الإطلاق والتعميم، مع ان الاطلاق والعميم امور عقلية لها اهميتها في اكتشاف الكثير من القوانين الطبيعية، لان التجربة لو تكرر اعادتها الاف المرات، لا تفيد الا نتيجة جزئية في حدود التجربة ذاتها، وياتي دور العقل البشري لاستنتاج القانون بعد ان تثبت التجارب المتكررة نتيجة متشابهة، ومن هذا المنطلق يشكل على التجريبيين، الذين يعتبرون التجربة هي اساس المعرفة البشرية لانه لابد ان يرجع الى العقل ليحكم على الامور في حالة الحصول على نتائج متماثلة من تكرار التجارب.فالاطلاق والتعميم مسائل عقلية يستفيد منها الانسان في اكتشاف القوانين الطبيعية التي يتحكم بواسطتها على الطبيعة ويسخرها لخدمته.ولكن قد يستخدم الناس الاطلاق والتعميم بطرق غير منطقية كأن يحكم على امة بكاملها او جماعة من خلال الحكم على بعض الاشخاص سواء كان الحكم سلبيا او ايجابيا كما يقال اهل هذا البلد سفهاء، لملاحظة سفاهة بعضهم. اويقال سكان هذه المدينة كرماء، لملاحظة كرم بعضهم.
وكما يأتي التعميم والاطلاق على الامم والجماعات بشكل لامنطقي، يأتي على الشخص الواحد من خلال بعض المواقف فيحكم على الشخص بانه كذا وكذا من خلال سوء تصرفه في موقف واحد، وبالمقابل يمدح شخص لحسن تصرفه في موقف معين، ومن الاخطاء الشائعة في تربية الناشئة ان نقول للطفل انت كذاب بسبب الكذب لمرة واحدة، أو ان نقول انت سئ الخلق لسلوك بذئ ، والصحيح ان نقول له هذا القول خطأ او هذا السلوك قبيح.
في حالة التقييم يجب اعطاء الشخص حقه، فقد يتصف الانسان بكثير من الاخلاق الحميدة والكمالات الانسانية ولكنه قد اخفق في جانب معين من حياته، فالحق ان نقول له كل شئ فيك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا، وهذا ما علينا ملاحظته في تربية الناشئة فلا نخلط بين نقاط القوة والضعف وعلينا التمييز بين الجوانب الايجابية والسلبية ليميز الناشئ الصواب من الخطأ والصالح من الطالح والجيد من الردئ، لينمي الصحيح والجيد والصالح إلى الاحسن ويصحح الخطأ ويقوم الطالح ويصلح الردئ.
فعلينا الانتباه في الاطلاق والتعميم فلا نطلق ونعمم الاحكام على الامم والشعوب والجماعات من خلال ملاحظة بعض الاشخاص، كما لا نعمم ونطلق الاحكام على الاشخاص من خلال بعض مواقفهم، مع ان مواقف الاشخاص وسلوكياتهم، انعكاس لما يحملونه من افكار ومبادئ، إلا أن بعض المواقف تبقى غير كافية لتعميم الحكم واطلاقه، فقد تدخل مسائل اخرى في صياغة المواقف.

ثانيا: وكما علينا الانتباه في مسألة الاطلاق والتعميم فلا نطلق الاحكام ونعممها على الامم والشعوب والجماعات من خلال ملاحظة بعض المنتسبين اليهم كذلك علينا مراعاة المعايير التي نعتمدها في التقييم، ولا أريد ان اخوض في تلكم المعايير فالمسألة نسبية بين الحضارات والايديولوجيات ولكل مقاييسه في معرفة الشخص المثالي والموقف المثالي، وعلى سبيل المثال يكون المبدأ الاسلامي في التقييم حسب معايير مذكورة في نصوص شرعية، كقوله تعالى ( ان اكرمكم عند الله اتقاكم) سورة الحجرات آية 13،وقوله (فضل الله المجاهدين باموالهم وانفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين اجرا عظيما) سورة النساء آية 95،وقوله ( يرفع الله الذين امنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات) المجادلة آية 11، وقوله ( اجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الاخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله) التوبة آية 19.
وإن لكل ايديولوجية او حضارة معاييرها الخاصة في تقييم الاشخاص ولكن تبقى هناك ثوابت انسانية عامة مشتركة بين كل الحضارات والاديولوجيات فالعلم افضل من الجهل والعمل احسن من الكسل كما هناك اتفاق في كمال جملة من الاخلاق الانسانية كالصدق والامانة والوفاء بالوعد وغيرها. ومع كل هذه الثوابت سواء المشتركة بين الايديولوجيات أو الخاصة بكل ايديولوجية يبقى بعض الناس إن لم يكن أغلبهم يقيموا الأمور حسب ما تعود عليهم من منفعة ومصلحة شخصية، فيفضلون أشخاص على آخرين حسب مقياسهم الشخصي، حيث يرفعون من يشاؤون ويسقطون كما يحلو لهم. ومن تضيق نظرته في تقييم الاشخاص والجماعات والمواقف، في حدود المصلحة والمنفعة الشخصية، ينظر من زاويته الخاصة فقط للأمور، فلو أنجزت الحكومة مثلا مشاريعا كثيرة فلا قيمة لهذه المشاريع مهما كانت مادامت لم تمسه بشكل مباشر، ولو نجحت المحاولات في ارجاع أملاكه الشخصية فما أعظم هذه الحكومة، والأمثلة كثيرة في هذا المجال. تعكس أنانية الإنسان ونظرته الضيقة للأمور حسب مصلحته ومنفعته الشخصية.
وعليه ينبغي مراعاة النقطتين السابقتين في التقييم بشكل عام ومنه تقييمنا للحكومة العراقية والعملية السياسية، لنكن منصفين ولا نطلق الأحكام كما يحلو لنا.