زهير المخ*
ظاهرة استئثار فئة ذات ارتباط طائفي محلي واضح، كانت عنوان الحياة السياسية في عراق صدام حسين، بل كان يصعب تصور بدائل لهذه الظاهرة خارج العودة إلى مزيد من التلاحم بين الدولة العراقية ومجتمعها المدني بأكثريته الشيعية الواضحة.
في يوليو (تموز) 2003 حدث ما لا يصدق: اختير الشيعي إبراهيم الإشيقر رئيساً لمجلس الحكم الانتقالي في العراق، ولو بشكل دوري ولو بصفة مؤقتة، لكن الانتخاب بحد ذاته أشار إلى تغيير حاسم وجوهري في معادلة السلطة العراقية منذ تأسيس الكيان العراقي الحديث في عام .1921 يعترف له القاصي والداني بذكاء حاد وتجربة واسعة في شؤون السياسة العراقية وشجونها، وبقدر وفير من الاستقامة والعمق. ورث من انتمائه إلى فئة «السادة» فصاحة الخطباء وبلاغتهم، إلا أن لهجته ظلت تنطوي على لكنة كربلائية لا تخطئها الأذن. لا يعرف التعب ولا الكلل، دائم الحضور والحركة، أظهر مهارة ملفتة في التنظيم وطاقات في التنفيذ.
يتقن استخدام مفردات الدين في السياسة ولغة اللاهوت في الإيديولوجيا، لكنه مع ذلك يوضح أكثر مما يوحي. واقعي، يتعامل من منظور موازين القوى القائمة، ويطبّق في إدارته للمأزق العراقي الحالي سياسة الحد من الخسائر من خلال المحافظة على التفاهم مع الحاكم المدني الاميركي، مع اجتناب تحويل البلاد حكراً لقرار هذا الحاكم0 إنه يعترف بأنه لا يستطيع شيئاً بدون مساعدة الحاكم الاميركي ولكنه لا يستطيع أيضاً أن يعمل كل شيء معه.
ولد إبراهيم الإشيقر في عام 1947 في مدينة كربلاء، وتلقى «الفتى» كبقية أقرانه التعليم الابتدائي فيها. وفي مرحلة دراسته الثانوية، كان منحى التسيس الشيعي يتصاعد على نحو ملفت بين صفوف علماء الشيعة وبدأ نفوذ حزب الدعوة الإسلامية يتزايد من خلال كتابات آية الله محمد باقر الصدر وغيره في مجلة «رسالة الإسلام»، وانتقلت هذه الكتابات تدريجياً إلى الدعوة الصريحة إلى إقامة نظام حكم إسلامي في العراق.
وفي الوقت الذي كان فيه حزب الدعوة الإسلامية يسعى جاهداً إلى ترسيخ نفوذه وتقوية بنيته وتنظيماته في المدينة، انتسب إبراهيم إليه وهو لم يكد يبلغ العشرين من العمر. لقد كان ذلك «عصراً ذهبياً» للحزب طوى انقلاب يوليو 1968 مع مجئ البعثيين إلى السلطة مرة ثانية في بغداد.
والواقع أن البعثيين ضربوا طوقاً متيناً حول نشطاء حزب الدعوة الإسلامية، ومن بينهم إبراهيم وصحبه، خصوصاً في مدينة كربلاء حيث أقدمت السلطات في عام 1973 على اعتقال العديد من أعضائه وتعرض بعض هؤلاء للتعذيب في أقبية الأجهزة الأمنية، مما تسبب في وفاة أحد أبرز نشاطه: صاحب دخيل رفيق إبراهيم في مسيرته الحزبية.
في هذه الأثناء، واكب إبراهيم عمليات القمع الدموية هذه عن بعد، فقد كان حينها منغمساً بدراسة الطب في جامعة الموصل. ومع إنه ظلا أمين لخياراته الحزبية، إلا أنه حصر اهتمامه الأساسي في التحصيل العلمي ولو إلى حين.
وبعيد تخرجه في عام 1974، توجه إبراهيم من جديد إلى كربلاء لينغمس في العمل السياسي المباشر، فيما راح مأزق الحزب مع السلطة يتفاقم على نحو خطير، ولينتقل من طور الاعتقالات إلى مرحلة التصفيات الجسدية. ففي فبراير (شباط) 1977، شهد الجسم الشيعي تحركات عبرت عن نفسها في تظاهرات غاضبة ضد أجهزة السلطة التي ضربت طوقاً عسكرياً وأمنياً لمحاصرة حشود كانت تتجه في مسيرة من النجف إلى كربلاء، فشنت السلطة حملة اعتقالات طاولت الآلاف من أعضاء حزب الدعوة الإسلامية لتطويق احتمالات وقوع انفجار لا تحمد عقباه.
كان لا بد أن يدفع انتصار الثورة في غيران عجلة هذا التيار في العراق إلى الامام، فسارعت السلطة مرة أخرى إلى مواجهته بمزيد من القمع فاعتقلت الآلاف وأعدمت الكثيرين من بينهم زعيم الحزب الروحي آية الله محمد باقر الصدر.
في ظل هذه التطورات، استشف إبراهيم بحدسه السياسي مستقبله الشخصي القاتم إذا ما اصطادته أذرع أجهزة النظام الأمنية، لكنه استطاع في عام 1980 الإفلات من قبضتها والهروب إلى إيران.
بدون قيادة الصدر الملهمة، أمسى حزب الدعوة الإسلامية تنظيماً بلا رأس، وراح يفتش عن زعامة من طراز جديد تحاول لملمة مفاصل التنظيم وإعادته مرة أخرى إلى واجهة الساحة السياسية المهجرية العراقية. وقد تصدى إبراهيم مع آخرين للنهوض بهذه المهمة في ظل ظروف استثنائية. ففي طهران، حاول الإشيقر أن يضع تنظيمه فوق الخلافات التي كانت تعصف بقادة التيارات الشيعية العراقية الأخرى، وهم الذين جعلوا من أنفسهم أسرى الخيارات الإيرانية، وأن يحافظ، ولو نسبياً، على مسافة ما عن السياسية الرسمية في طهران بالتنسيق هذه المرة مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية. تولى مسؤولية اللجنة التنفيذية والمكتب التنفيذي للمجلس، لكنه مع ذلك ظل بمنأى عن تأثيرات آخرين كانوا يشدون التنظيم باتجاه تكييفه مع توجهات السياسة الإيرانية، حتى مغادرته الأراضي الإيرانية باتجاه بريطانيا في عام .1989 وفي الحقيقة، فإن الاتجاه الذي مثله إبراهيم لعب دوراً في إعادة الضوء إلى نوع من «الهوية الشيعية العراقية» التي كانت انطفأت إلى حد بعيد، كما لعب دوراً في انفتاح حزب الدعوة الإسلامية على الأحزاب والحركات العراقية الأخرى، عارضاً فكراً تحديثياً يخدم مشروع الديمقراطية في العراق.
وبالفعل، فقد نجح الحزب في نسج تحالفات مرنة مع أقطاب المعارضة العراقية الأخرى. ففي مارس (آذار) 1991، كان لإبراهيم الدور الكبير في قرار الحزب بالمشاركة في مؤتمر لجنة العمل الوطني الذي التأم في بيروت، وكان بمثابة الولاّدة للمؤتمر الوطني العراقي الذي تأسس في يونيو (حزيران) 1992 في العاصمة النمساوية فيينا. وبالرغم من مقاطعة حزب الدعوة الإسلامية لمؤتمر فيينا، إلا أنه كان حاضراً في مؤتمر صلاح الدين الذي انعقد في أكتوبر (تشرين الأول) .1992 وكان لإبراهيم الدور الكبير في انتقال الحزب من مرحلة «الحرد السياسي» إلى مرحلة الفعل السياسي في خارطة المعارضة العراقية.
مع ذلك، فقد ظل بعض «الحرد» يطغى على مواقف بعض أقطابه خصوصاً الجناح المتمثل في رئيس المكتب السياسي للحزب أبو بلال الأديب الذي يميل باستمرار إلى تبني الأجندة الإيرانية، بخلاف الجناح الذي يمثله إبراهيم الإشيقر الميال إلى التعاطي البراغماتي مع الأطراف المختلفة، دولية كانت أم إقليمية.
وبكثير من الصبر راح إبراهيم يكدس بهدوء بعض المكاسب الهامشية التي أتاحتها بعض المناسبات المؤاتية. ففي الوقت الذي استبعد فيه الاتفاق مع مؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد في ديسمبر (كانون الأول) 2002 في لندن، فقد أبقى على إمكانية الحوار مع أطرافها. وفي الوقت الذي أدان فيه التدخل الخارجي في الشأن العراقي، فقد سافر في يناير (كانون الثاني) 2003 إلى واشنطن للاجتماع بمبعوث الرئيس الأمريكي لدى المعارضة العراقية زلماي خليل زاد بغرض تنسيق المواقف في شأن مستقبل العراق ما بعد صدام، وهو اليوم عضو أصيل في مجلس الحكم الانتقالي، وهذه مكافأة له لصبره المقرون بالحكمة.
* أكاديمي من العراق مقيم في فيينا

===========================

منقول عن الشرق الاوسط