السعودية والخليج ومتطلبات التغيير «7»
ماهر العبد الله * - 12 / 12 / 2007م - 10:45 م

الوهابية «شركة الاستثمارات السياسية السعودية»:

وجد آل سعود في ظل هذه الأجواء المشحونة على الوهابية وانشغال البيت الوهابي بنفسه بين الداعين لتحسين صورة الإسلام في الغرب والداعين لحرب الحكومات الكافرة فرصة ذهبية بفضل ما وفره الجو الإعلامي لإطلاق عقيدة آل سعود الجديدة نحو الوهابية, ففي نوفمبر عام 2001م، وفي إطار التشاور مع الهيئات الشرعية بعد اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر، استقبل ولي العهد العلماء وحذرهم من «الغلو في الدين». ويمكن لمس مدى تشنج الأجواء بين الأطراف الوهابية وأسرة آل سعود في المقال الذي كتبه الأمير تركي الفيصل في صحيفة الشرق الأوسط، في 20/1/2002م بسبب كلمه لشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي، الأمين العام للعصبة الإسلامية العالمية ووزير الشؤون الدينية للملك عبد الله في أطار هذا اللقاء يقول فيها بأن «أولي الأمر هم القادة والعلماء» واضعاً العائلة المالكة ورجال الدين في نفس الرتبة القيادية فكتب الأمير تركي في مقاله «أنا لست أخصائياً في الشؤون الدينية، لكن هذا الرأي بدا لي غريباً، ولم يسبق أن طرح في بلادنا. بل يمكن مقارنته بالشيعة ونظريات الإمام الخميني المرفوضة حول «ولاية الفقيه» وأنا أرفض هذه النظرة فالسلطة هي للقادة والعلماء هم مجرد مستشارين لهم ولذلك كتبت مقالاً للاعتراض على هذا التفسير».

وقد كتبت صحيفة «اللوماند» الفرنسية عن هذا التقرير وأشارت في حاشيتها بأن وجهة نظر الإمام الخميني لـ«ولاية الفقيه» هي ليست محل أتفاق بين علماء الشيعة وهو ما يدل على أن هناك نوع من التمويه يراد له. فإقحام الشيعة هنا له أكثر من دلالة سياسية ودينية. فالأمير (و هو رئيس الاستخبارات السابق) يعلم أن وصم هذه النظرة بـ«الشيعة» كفيل بتشويهها وتنفير الوهابية منها وهو ما كان يريده في نهاية المطاف والتي وصفها صراحة بكلمة «المرفوضة».

تم تطبيق هذه العقيدة بحزم واضح من قبل الدولة, حيث لم تتوقف سلسلة الاعتقالات وتغيير أئمة المساجد والخطباء حتى مع نهاية الحرب الأفغانية وهو ما أكد بأن آل سعود بصدد تأهيل دولتهم من جديد لتحافظ على أهميتها في العيون الأمريكية, وبدا ذلك واضحاً عن طريق بث شائعات (لجس النبض) تتحدث عن حل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتهديد وإعداد النفسية السعودية للمرحلة القادمة حيث رافقت هذه الشائعات عمليات تحديد وتقليل سلطات الهيئة وتحويلها من مليشيا دينية عسكرية لفرقة كشافة تقع تحت إدارة الشرطة. وتبع ذلك خطوات اتخذتها السعودية لإنشاء مراكز حكومية لتأهيل وتدريب الخطباء وأئمة المساجد لتقديم الشريعة الإسلامية بالشكل «الصحيح». ولم تكن الدولة تتوقف عن التصريح مراراً وتكرراً على لسان الأمير نايف بأن الدولة ما زالت تحكم بالشريعة الإسلامية وأن القرآن والسنة النبوية هما دستور الدولة بعد وقبل كل سلسلة اعتقالات ومداهمات أمنية للمساجد.

والحقيقة أن الدولة دخلت في حرب باردة مع الوهابية القديمة لم تتوانى فيها عن استغلال البعض ضد البعض وتأليب خط على خط لتنتهج الخط الذي تريده من خلال التقاط وانتقاء العناصر التي تريدها من هذه التيارات والخطوط مستثمرة في ذلك نجاحها في إقناع ما يُسمى بالنخب السعودية في وضع اللوم على الوهابية في كل شيء. ويمكن اعتبار ما حدثا للتعليم السعودي مثالا على ذلك. فالمديرية العامة لتعليم البنات وهو جهاز تعليمي مستقل عن وزارة المعارف يُشترط في رئيسها الانتماء للمؤسسة الدينية وذات برامج مختلفة حيث يكون للدين الثقل الأكبر فيها. والتغيير الجوهري جاء في أعقاب «استغلال» الدولة لحريق اشتعل في مدرسة للبنات بمكة رقمها 31 التي تظم 800 طالبة فيالبنات وأجر أعد لاستيعاب 250 طالبة فقط، والمبنى مستأجر منذ 13 عاماً مع أن الخدمة القانونية المقررة لا تخدم أكثر من عشر سنوات ويبدو بأن هناك تقصير «أٌريد له» حيث وحسب الرواية الرسمية فإن شهود عيان ومن ضمنهم عناصر في فرق الإنقاذ المدني نفسه صرحوا بأن أعمال الإنقاذ التي كانوا يحاولون القيام بها في المدرسة قد أعيقت على يد أفراد من «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» خشية أن يدخل الرجال مدرسة للبنات أو أن يخرج البنات من المدرسة دون حجاب وقد تسببت هذه الإعاقة في موت العديد من الفتيات. وفي الأيام التالية للحادث غرقت الصحافة السعودية بالتقارير حول الحالة الرثة للمباني المدرسية وعجز مديرية تعليم البنات والبرامج غير المتكيفة مع العالم المتطور والتعليم القائم على مجرد الحفظ عن ظهر قلب.

وقد وصلت الحملة الإعلامية على مديرية تعليم البنات وجهاز الهيئة حداً من عنف اللهجة دفعت رئيس الهيئة «إبراهيم الغيث» لإنكار هذه التهم والتصريحات والدفاع عن نفسه مؤكداً على أن رجال الهيئة لم يصلوا لمكان الحادث إلا بعد السيطرة على الحريق. وبينما كانت الحكومة تشكل لجنة تحقيق حول الفساد الإداري «لأول مرة في تاريخها» قام وزير الإعلام في 19 مارس 2002 بجمع رؤساء تحريالاعتبار.إعلام وإعطائهم تعليمات «غامضة» ظهرت فيما بعد على أنها تعليمات للصحفيين كي يمتنعوا عن نشر بعض الأخبار وقد فضح طبيعة هذه التعليمات الكاتب «داوود الشريان» في جريدة الحياة في 21 مارس وبعدها تم تنفيذ عقوبة في حق جريدة الحياة وهي إخضاعها لرقابة مسبقة بعد تصريح وزير الداخلية الأمير نايف في نفس اليوم والذي قال فيه «إن الطريقة التي اعتمدها كتابنا وصحفنا في معالجة القضية لم نكن نتوقعها، فقد بالغوا في الأمور بدون أي توازن وأصدروا أحكامهم بدون اطلاع على الوقائع» وشدد على عدم إلقاء اللوم على مديريـة تعليـم البنات في إشارة على أن خطة ما تحاك لها. ولم يكن ليأتي اليوم الثالث من هذا التصريح (السياسي المهدئ) صدر قرار ملكي بحل المديرية العامة قبل انعقاد اجتماع مجلس الوزراء والذي جرت العادة أن تتم أمور كهذه بعد اجتماعه. والجدير ذكره هنا هو أن قرار حل مديرية التعليم تم اقتراحه بالفعل قبل ثلاث سنوات من هذا القرار في «مجلس الشورى» لكنه لم يوضع في الاعتبار.

وبهذا تم إلحاق تعليم البنات بوزارة المعارف وخرقوا إحدى مسلمات التوزيع الوزاري وهي جعل مساعد وزير المعارف من رجال الدين. ثم بدئوا بمهاجمة «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» بنشر تقرير لجنة التحقيق بكامله في الصحف بالإضافة لنشر بعض الوثائق السرية التي لم تتورع الصحف عن إسنادها لمصادر واسعة الإطلاع مما يعني وجود تدخل ويد للآلهة السعودية. وبهذا تمكنت الأسرة من حصار الهيئة في زاوية ضيقة وسلبتهم بشكل كامل أي مشاركة في وزارة التعليم استعدادا للبدء في مشروع التغريب مستعملة ورقة (فساد التعليم وتخلفه) و(ضرورة رفع مستوى السعوديين في المعرفة والثقافة) مدعومة بتصفيق حار من دعاة الإصلاح الذين وجودوا في ذلك فرصة ذهبية للدخول في صياغة العقل السعودي الجديد وتصفيق من الشيعة الذين تعلقت آمالهم في عنان السماء طالبين من حكومتهم بأن تلغي أو تخفف من عملية تشويه وتكفير المذهب الشيعي في المناهج الجديدة وتبعه تصفيق عوام الشيعة الذين رأوا ذلك انتصارا كاسحاً لهم وتشفياً من الوهابية حيث بدئوا يتكلمون بحماسة شديدة حول ضرورة انتهاز هذه الفرصة والتوجه لحكومتهم ليهدوها إلى سبيل الرشاد.

ألا أن كل ذلك أثبت بأن الشيعة ما زالت تُفضل التعامل مع الموقف بشكل بريء جداً وساذج وهو ما أثر ويؤثر في تحركهم الذي كان سيصبح أكثر قوة ومتانة لو تحركوا بوعي وأدراك حقيقي للمرحلة وربط للأحداث المحلية بالأحداث الخارجية والذي بدا فقرهم في هذه الأمور واضح فقد كان العنصر المهيمن على تفاعلهم مع هذه التغيرات محصوراً في عنصر الانتقام من الوهابية‍‍‍ أي وضع الوهابية في موقع الإدانة الأول كمسئولين عن الحالة الرثة التي وصلت لها الشيعة وهو ما يدل صراحة على ضحالة وهبوط مستوى الوعي السياسي لديهم.

وما فعله الشيعة من مناشدة الحكومة لتعديل المناهج الدينية فيما خص الشيعة كان تحصيل حاصل ستقوم به الدولة شاءت أم أبت وذلك لإعادة صياغة الوهابية الجديدة وتحويلها لمذهب يقبل بالتعددية وعليه يكون هذا التحرك السياسي المطلبي غير صحيح لأنه وفر أولا الغطاء الاجتماعي والسياسي لإنقاذ ماء وجه الدولة السعودية أمام العالم وأمام مجتمعهم الشيعي وثانياً شطبوا من حسابهم 70 سنة من تكفير وظلم من قِبل المؤسسة السياسية لا الدينية.

وعد النجاح الذي حققه آل سعود في معركتهم الأولى مع الوهابية بدمج المديرية العامة لتعليم البنات مع وزارة المعارف تم عقد مجلس الوزراء الذي ضخمت الصحافة السعودية والمعارضين من نتائجه حيث رأوا بأنه سيطلق إصلاحات واسعة وجوهرية لمواجهة الخطر الأمريكي على السعودية وحاجة الدولة لإعادة علاقاتها مع المواطنين ألا أنهم صُدموا جميعاً عندما وجدوا بأن الإصلاحات التي أطلاقها المجلس لم تتعدى تغيير بعض الوزراء من آل سعود واستبدالهم بآخرين من آل سعود أو تغيير وزراء من غير آل سعود واستبدالهم بآخرين من غيرهم أيضاً ولكنه تضمن تغييراً واحداً يستحق الوقوف عنده طويلاً, هذا التغيير كان حل وزارة المعارف واستبدالها بوزارة «التربية والتعليم». هذا التغيير الذي لم يستوعبه الكثيرين أو بشكل أدق لم يفهموه فهو لم يكن مجرد تغيير في الاسم وإنما كان آل سعود يعنون فعلاً ما يحمله الاسم وإن كان على طريقتهم الخاصة. وقد تفاجئ دعاة الإصلاح من هذه التغييرات وعبروا عن إحباطهم الشديد لنتائج هذا المجلس الوزاري, وتساءل البعض ببراءة والبعض الآخر متظاهرين بالبراءة حول تشدد آل سعود على وزارة المعارف وتركيزهم عليها ليدل كل هذا على أن دعاة الإصلاح والمعارضة لم يعوا بعد حاكمهم الذي حكمهم لمدة 100 سنة ولم يعوا بعد المحرك الحقيقي للديناميكية السياسية السعودية ودل على فقر معارف (النخبة السعودية) التي يعيش بعضها في الخارج حيث يستطيعوا أن يقرأ صحفها وتقارير وزارة خارجيتها.

فوزارة المعارف كانت مركز اهتمام وتفكير آل سعود وليست وزارة الصناعة والكهرباء أو وزارة المالية بما فيها من فساد أو وزارة التخطيط أو وزارة الإعلام التي تعمل كمنقي لكل ما يدخل أو يخرج من السعودية. والسبب في ذلك هو أن هذه الوزارة بالذات ستكون البوابة الأولى لآل سعود لإعادة صياغة الدولة حسب مقتضيات المرحلة الجديدة وسيبدو هذا الاهتمام بارزاً فيما بعد حيث حازت وزارة التربية والتعليم على جائزة الأمير محمد بن فهد للأداء الوزاري! و«فجأة» صُدم الوهابية حينما وجودوا أن باب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وباب «الولاء والبراءة» قد تم حذفها بالكامل في كتب الفقه. كما تم تغيير الكثير من المسائل الفقيه, فأصبح طعام أهل الكتاب المذبوح على الطريقة التوراتية هو طعام مباح للمسلم (أي لا يُشترط الإسلام في الذبح) مخالفاً المذهب الحنبلي المتشدد في هذه المسائل ومدرسة أبن تيمية, ومسائل أخرى عديدة كانت مركزة على خصوص أهل الكتاب.

وتم إخراج أول منهج دراسي ضمن هذه الوزارة «كتاب اللغة الإنجليزية للصف الأول المتوسط» ليضع خطوط جديدة في المنهج السعودي الجديد, فالكتاب بالكامل من تأليف العنصر النسائي, وكان ذو مستوى صعب جداً (تفوق صعوبته صعوبة كتاب صف الأول الثانوي) وقد برزت جدية المنهج في كل صفحاته ويركز على الأفكار الثقافية الغربية كالتركيز على التقويم الميلادي وشهوره والتحيات الأمريكية وأسلوبها. ويحوي الكتاب في صفحته الأخيرة على استبيان حول جودة الكتاب حيث يعبئه أستاذ المادة أو طلاب المدرسة أو ذويهم. كما يمكن اكتشاف وبسهولة شديدة من خلال تصفح الكتاب بشكل سريع عن طبيعة توجه المؤلفين للكتاب وهو التوجه الليبرالي. ولا يمكن تجاوز ملحق القراءة في النصف الثاني من الكتاب حيث يمكن قراءة حياة أربعة شخصيات وهي الملك عبد العزيز, كاتب سعودي ليبرالي, عالم أمريكي عربي مسلم من أصل سعودي ومفتي المملكة الرسمي السابق عبد العزيز بن باز. والمثير في الأمر أن الكتاب وضع صورة مفتي المملكة على الرغم من تحريم التصوير بحسب فتاواه! ويبقى السر الحقيقي والدافع الرئيسي وراء تركيز آل سعود على تلك الوزارة كان بسبب كونها تقع على خط إنقاذ المأزق السعودي في أمريكا.

السعودية «سؤال كن أولا تكون»:

إن الإعلام الأمريكي في حملته الهجومية كان يركز بالأساس على تمازج النظام السياسي بالنظام الديني وحقوق المرأة. ومع أنه أيضا ركز على حقوق الأقليات الدينية وبالخصوص الشيعة, ألا أن آل سعود كانت تنظر للأمور من زاوية أخرى. فآل سعود وجدوا أنفسهم بحاجة فعلية لتخفيف قوة الوهابية (و ليس القضاء عليها) في التأثير السياسي مما يعني اتفقت مصلحة كلا الطرفين الأمريكي والسعودي في هذا فجاء تخليص وزارة المعارف من أيدي الوهابية يمثل حجر الزاوية في الإعداد للحرب الباردة الطويلة بينها وبين الوهابية القديمة. أما بالنسبة لحقوق المرأة, فقد وجدت الدولة السعودية أنها ورقة لعب مهمة لضرب الوهابية وهز صورتها ومن ثم إجبارها على تليين مواقفها كهزيمة أولية تلحقها عدة هزائم قادمة. فحقوق المرأة هي قضية أرقت سياسة الدولة السعودية الخارجية في كل مكان بسبب قوة منظمات حقوق المرأة.فستطاع آل سعود المراوغة على الساحة الدينية (التي لا تبرر بساحقتيها الشيعية والسنية تلك الإجراءات كقيادة السيارة وفرض العباءة وعدم دخول المرأة أقسام علمية معينة) وعدم قدرتها على المراوغة سياسياً (بسبب عدم وجود أي مبرر أمني أو سياسي لتلك التصرفات).

أما بالنسبة لحقوق الشيعة, وجدها آل سعود عملية غير ملحة لأنها بالنسبة لهم وإن ركزت عليها الصحافة الأمريكية ليست بتلك الأهمية بالنسبة لحكومة الولايات المتحدة لعدم تعلق أي مسألة سياسة بهم إن لم يكونوا يعارضون ذلك أصلاً بسبب عداء إيران كما لا يزال ينظر المواطن الأمريكي للشيعي كنموذج راديكالي متطرف للإسلام والمتعطش للحروب وإثارة المشاكل. هذا الشعور الذي تشربه الأمريكيين كان بسبب استغلال الوهابية للأحداث التي عصفت بواشنطن وطهران أبان انتصار الثورة الإسلامية لتشويه صورة الشيعة وإيران كلما سنحت لهم الفرصة لذلك, ويكفي الإشارة بأن الكثير من الأمريكيين كانوا يعتقدون بأن صدام حسين هو شيعي مثلاً. ومن ناحية أخرى, فإن انعزال إيران عن أمريكا (بغض النظر عن الأسباب), وانشغال شيعة لبنان بإسرائيل في جنوب لبنان وغياب أو تغييب الشيعة في الخليج وضياع شيعة العراق لعب دوراً كبيراً في عدم توعية المجتمع الأمريكي وخصوصاً النخب الأمريكية لعدم وجود الشيعة على الساحة الدينية أو السياسية في أمريكا وإذا وجد فإنه ذو مستوى ضئيل وأداء ضعيف جداً وفردي في أغلب الأحيان. وأخيراً فإن السعودية استطاعت أن تراوغ في هذا الملف بشكل واسع جداً في كلتا الساحتين السياسية والدينية.

من هنا فإن الدولة السعودية ركزت على وزارة التربية والتعليم وبدأت العمل في نفس الوقت وبشكل هادئ على حقوق المرأة. فتم إصدار بطاقة الأحوال المدنية وإعطاء بعض النساء رخص قيادة وتوظيف عدد هائل من النساء في شركات كبرى كشركة أرامكو والبنوك وشركات إدارية أخرى حيث تم في بعض الحالات فصل رجال ذوي خبرة وتعويضهم بنساء. وجاء تغيير وزارة المعارف ودمجها مع المديرية العامة لتعليم البنات ليمثل قمة هذا التمازج. ولذا فإن ظهور خروج كتاب اللغة الانجليزية بأيدي نسائية ليس إلا مجرد بطاقة لعب سعودية لتحقيق مادة دفاعية للهجمات الأمريكية.

فكل التحركات السعودية الداخلية والتي قد تظهر للبعض على أنها تحركات غريبة أو غير مفهومة يمكن فهمها ومعرفتها ولكن ليس في منطقة الشرق الأوسط وإنما في مناطق ما وراء البحار (أمريكا) وأوروبا حيث يُصرح فيها الدبلوماسيين السعوديين عن طبيعة الأسباب السياسية الكامنة وراء كل التحركات الجديدة بشكل أو بآخر. وبل بعض هذه التصريحات تُقال بصراحة وحرية كاملة مستفيدين من حالة أمية الأمة العربية في لغتهم ناهيك عن اللغات الأجنبية وندرة وصول الصحف والمجلات الأمريكية والأوروبية «الصهيونية» والتي يجب الابتعاد عنها حسب تصنيف الإعلام العربي.

ونشاط السعوديين وتوجهاتهم الداخلية كان يحركه ويؤثر عليه ما يُقال ويُكتب في الصحف الأمريكية, بعد أن رأى آل سعود مدى ضرورة خلق خط دفاع متقدم في عمق المجتمع الأمريكي فهو الناخب في النهاية والقادر على دفع أي حرب أو هجوم سياسي على السعودية ولمخاطبة هذا الناخب الساذج سياسياً لا بد من وجود مواد «حقيقية» يجب خلقها بسرعة إن لم تكن موجودة وتدمير مواد أخرى إذا كانت معرقلة لهذا الخطاب وذلك في حملة شديدة ومكثفة قرر السياسيين السعوديين بدأها لتعامل المكثف والواسع مع الساحة الأمريكية ومباشرة من خلال الأقلام الأمريكية الزائرة أو المستكتبة من خلال شركات الاتصالات وشركات العلاقات العامة داخل الولايات المتحدة الأمريكية.

كما حركت السعودية جماعات الضغط الموالية لها (اللوبي السعودي), فأحد أكبر وأبرز لوبي في أمريكا هو اللوبي النفطي الذي يجمع كبار رجال الأعمال ورؤساء الشركات النفطية أو التابعة لها والمستثمرين في هذا القطاع. وباعتبار السعودية أكبر مصدر نفطي في الكرة الأرضية فإن هذا اللوبي مرتبط بشكل قوي جداً بالسعودية. ولعل خطوة الجمهوريين في عرقلة دخول الشركات الأمريكية لاستثمار الغاز الطبيعي في الأراضي السعودية جاء لشل حركة هذا اللوبي في حال قيام الولايات المتحدة باتخاذ أي إجراءات سياسية ضد السعودية. وهناك (لجنة أصدقاء السعودية) التي تضم في عضويتها الكثيرين أغلبهم من رجال الأعمال أو الأثرياء والموظفين الذين عملوا في السعودية أو أنشئوا مشاريع فيها وهذه الجمعية ظهرت على السطح فجأة وأخذت تنموا بشكل مطرد بعد أن فتحت الباب أمام الأمريكيين لعضويتها. وهناك أيضاً الجمعيات الإسلامية السنية بكاملها والتي تلقى دعماً مالياً كبيراً من قبل السفارة السعودية والتي تنسق في نشاطاتها مع سفير السعودية في واشنطن. أما على مستوى الحركات المحلية داخل السعودية, فقد رحبت السعودية باقتراح قدمه أهالي جدة باستضافة طلبة جامعيين أمريكيين في عطلة الصيف في منازلهم وعلى حساب هذه العوائل الشخصي من أجل إبراز «سماحة الإسلام» و«اعتداله». وطبعاً جدة كانت وما زالت مقر تجارب آل سعود في التفسخ الأخلاقي والشاهد الذي لا يخيبهم متى ما أرادوا إبراز مدى تحرر الشعب السعودي وانفساخه.

ولم تكد أمريكا تعلن نيتها ضرب العراق في شهر فبراير 2002م وإسقاط نظامه, وهي قد بدئت تتحرك جدياً على المستوى الدولي لضرب العراق عسكرياً إذا ما لم ينفذ قرارات الأمم المتحدة ويسمح بعودة المفتشين الدوليين لتضرب ناقوس الخطر السعودي. وأعلنت أمريكا رسمياً بأن العراق معرض لضربة عسكرية وأنها ستبدأ بلقاء مع فصائل المعارضة العراقية للتنسيق معها حتى زار الأمين العام للجامعة الدول العربية «عمرو موسى» السعودية على عجل وهي أول زيارة له منذ حرب الخليج الثانية بعد لقائه الرئيس العراقي في بغداد. ومع أن السرية والكتمان أحاطت بهذه الزيارة, ألا أن أحد أعضاء مجلس الشورى السعودي وهو الدكتور فهد العرابي الحارثي قد كشف عن أمرين تخللا هالأمريكية.و سيطرت عليها في قناة ال بي سي في برنامج «اليوم الثامن» بتاريخ 10فبراير 2002.

الأمر الأول: بحث نتائج ما توصل إليه الأمين العام مع الرئيس العراقي صدام حسين حول ضرورة عودة المفتشين الدوليين للعراق لسحب الحجج والمزاعم الأمريكية.

الأمر الثاني: مناقشة عودة العراق إلى الصف العربي مع السعودية بدون شروط معينة كالإفراج عن أسرى كويتيين تدعي بغداد عدم وجودهم في أراضيها أو تقديم اعتذار للأمة العربية على احتلال الكويت.

ثم رافق كل هذا تحرك عناصر قيادية سعودية رفيعة المستوى في سياق الوفد السعودي الكبير لاجتماعات منتدى «دافوس» في أوائل فبراير 2002م حيث رأس الوفد السعودي الرئيس الجديد للاستخبارات السعودية (الأمير نواف بن عبد العزيز) ورافقه عدد من الأمراء الذين كثفوا من الإدلاء بتصريحات سياسية وإعلامية وأجروا العديد من المقابلات التلفزيونية في أمريكا محاولين التأكيد على الدور التعاوني للسعودية في الماضي وفي الحاضر المستمر وفي القادم المحتمل وضرورته لحفظ المصالح الأمريكية. ولمس الكثيرين تراجع الخطاب السعودي من مستوى رفض الاتهامات الأمريكية بطريقة هجومية إلى مستوى الدفاع عن علاقات البلدين ورفض التعامل مع عناصر إعلامية الأمريكية تصفها السعودية بأنها معادية ومنحازة للصهيونية وخصوصاً صحيفة «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست». وهذا كان مؤشر عن وجود أزمة حقيقة على وشك الظهور على السطح, وأن هذه الأزمة هي من القوة والحدة بحيث ألجأت مؤسسات صنع القرار السعودي لدفع عشرات الملايين من الدولارات للحصول على المشورة السياسية والإعلامية من شركات الاستشارات الأمريكية لتلافي الأزمة السعودية – الأمريكية حتى وإن كانت بعض تلك الشركات صهيونية التوجه. ويمكننا تخيل حجم هذه الأزمة إذا عرفنا بأن السعودية قامت بحرق قضية فلسطين بالكامل متجاوزة كل ما قد يترتب حولها في مقابل تأمين العرش النجدي فكانت مبادرة الملك عبد الله.

ظهر الأمير عبد الله في إحدى المحطات الأمريكية في مقابلة تلفزيونية بدت وكأنها مقابلة عادية مع صحفي يهودي حتى فجر الأمير عبد الله الملك (الغير متوج وقت إجراء المقابله) مفاجأة عربية حيث قال بأنه كان ينوي منذ زمن أن يقدم مبادرة سعودية تعرض على إسرائيل التطبيع الكامل مع السعودية مقابل انسحاب الأخيرة من أراضي 1967م وأنفجر الوطن العربي بالبكاء والضحك في آن واحد. فزلة اللسان كما حاول الإعلام السعودي أن يحولها بعد فشلها وعدم اكتراث إسرائيل بها لم تكن في الحقيقة سوى عملية معد لها لتثير فرقعة إعلامية وسياسية بطريقة مثيرة حيث يظهر الأمير السعودي الموصوف بالتشدد تجاه إسرائيل والأكثر حماساً لقضية فلسطين في التلفزيون الأمريكي وهو يفجر مفاجأة أمام المشاهد الأمريكي وربما الإسرائيلي خصوصاً والغربي عموماً لكسب عطف ورضا المواطن الأميركي وقد حققت هدفها وكان لهذه المبادرة ثمن عربي وإسلامي على السعودية أن تدفعه خصوصاً أن ذلك الخيار بدا للمجتمع العربي والإسلامي بأنه قد جاء على حساب مشاعره وتوجهاته دون أن يكون له صوت مسموع لهذه المبادرة فأسقطت أهم جسر «وهمي» كان يصل بين الدولة السعودية والعالم الإسلامي. وعلى ما يبدو فإن السعودية قد أجرت حسابات الربح والخسارة جيداً واستعدت له وكان المحاسب هو «عمرو موسى» الذي أطلع على نية السعودية وتفاصيل المبادرة خلال زيارته الرياض.

ولتلافي هذه الأزمة حرصت السعودية بعد أخذ ورد مع الدول العربية ولتلافي كابوساًد من التعديلات على مشروعها التطبيعي وإقراره في القمة العربية في بيروت والتي تم عقدها من 27 إلى 28 مارس 2002م, وتمت الموافقة عليها بالإجماع من قبل زعماء الدول العربية. ألا أن هذا لم يقلل من آثار هذه المبادرة لأنه الجميع شعر بأن الحكومة السعودية تريد تنفيس الاحتقان في العلاقات الأميركية السعودية على حساب القضية الفلسطينية التي كانت لوقت قريب تنادي بها. فـ«زلة لسان» رجل السعودية الأول وبهذا الشكل الإعلامي المثير جاء لتلافي كابوساً يعتقد السعوديين بأنهم تخلصوا منه حتى يعود لتأريقهم من جديد, أنه الكابوس العراقي الذي بات واضحاً بأنه أصبح كابوس الجميع.

فالعناق الحميم بين الأمير عبد الله وعزت الدوري نائب الرئيس العراقي لم يكن بدافع الحب أو الشوق وإنما كان بدافع وقوع السعودية في حالة نفسية أسقطتها من إمكانية أن تلعب دوراً يمسك بزمام المبادرة في مستقبل العراق, وكانت وراء الإجماع العربي في القمة وقراراته شديدة اللهجة على الرفض القاطع لضرب العراق عسكرياً أو أي بلد عربي آخر وكأنهم يعلمون أن هناك دولاً أخرى في القائمة الأمريكية، لذا جاءت كل هذه المفاجآت العربية من التطبيع الكامل مع إسرائيل لعناق الأمير عبد الله مع عزت الدوري لسد ثغرة أمام أمريكا قبل أن تتسع لتشمل السعودية لاحقاً.

السعودية أرادت أن تحفظ كيانها السياسي ومكانتها في السلم الغربي حتى لو كان الثمن جر المنطقة العربية برمتها نحو التطبيع الكامل مع إسرائيل وإعادة عراق صدام حسين للصف العربي لامتصاص الغضب الشعبي واحتواء تبعات ضرب العراق وتغيير نظامه البعثي الذي قامت المنطقة برمتها على توازناته. لقد أتحد الكل في هذا المشروع وسعوا وراءه بكامل ثقلهم فالعرب الذين اتفقوا على أن لا يتفقوا قد اتفقوا هذه المرة وفاجئوا العالم وفاجئوا أنفسهم وفاجئوا شعوبهم التي أدرك بعضهم اللعبة وغاب عن أكثرهم السبب وراء هذا التطبيع.

فهمت إدارة الرئيس بوش سريعاً هذه اللعبة التي كانت ترمي لضرب سياستها ومشروعها في العراق وثنيها عن العمل العسكري لخلق عراق جديد ديمقراطي قد يتمخض عنه تغيير شامل وجذري لأركان النظم العربية كالسعودية ومصر والأردن. فالجامعة العربية كانت وما زالت عبارة عن نادي يجمع الزعماء العرب لتبادل المعلومات الإستخباراتية وتناول مختلف المشاريع والخطط المستقبلية التي تبحث في كيفية استمرار بقائهم على سدة الحكم وليكون إتحاداً شاملاً ضد أي إصلاح وأي تحرك شعبي لنزع سلطتهم لا لبحث وحل الأمراض التي عصفت بشعوبهم واقتصادهم ووضعهم السياسي. فجاء الرد الأمريكي عنيفاً وغير متوقع عربياً وعالمياً وإن كان بطريقة غير مباشرة حين اجتاحت الدبابات الإسرائيلية منطقة جنين ودكتها عن آخرها والقمة العربية لم تنتهي بعد لتمثل قمة الاستهزاء والتحدي الأمريكي للدول العربية. فإسرائيل وأمريكا تدرك تماماً أن هذه المبادرة ما هي إلا خروج من أزمة سعودية في المقام الأول ومصرية في المقام الثاني والتي تحولت لأزمة عربية تدرك أمريكا بأن الشعوب العربية ليست ورائها وبالتالي فإن هذا ليس حلاً للمشكلة العربية الإسرائيلية.

ولم تكن مظاهرات التنديد والاستنكار في أرجاء العالم العربي وتصريح الرئيس بوش بأن شارون «رجل سلام» وإعلان العراق بقطع نفطه عن أمريكا بعد أسبوع واحد من دعوة أطلقها آية الله السيد علي خامنئي والتي أبدت ليبيا استعدادها للمشاركة في الحظر ألا أن تهز صورة السعودية سياسياً في العالم العربي والإسلامي. فالسعودية والكويت أعلنوا عن عدم استعدادهما لاستخدام النفط كسلاح ضد الولايات المتحدة، لما تجمعهما بالأخيرة علاقات جيدة. وقَُمعت المظاهرات في السعودية باستعمال العنف والعقوبات الجماعية مكتفيةً بجمع تبرعات لدعم فلسطين عن طريق التلفزيون السعودي الرسمي وعلى الهواء مباشرة لمدة 3 أيام.

ولم يثني كل هذا الدولة السعودية أن تأتي بمن يمتدح هذه المبادرة ويثني عليها في القنوات العربية ولم تثنيها أيضا موقف العراق الجريح أن تهاجم من يدعوا لقطع النفط واستعماله كسلاح ضد أمريكا بحجة تقوية الجيوش العربية. بل يمكن القول بأن أكبر هزة نالتها السعودية في تاريخها كانت هذه (مبادرة قطع النفط) بالذات وإن حاول الأمير سعود الفيصل أن يعالجها بطريقة اللعب على أوتار التناقضات كما أعتاد دائماً حين قال في برنامج «حوار الأسبوع» بقناة mbc في 18 مايو 2002م «لقد أعطى الله الأمة العربية مورداً اقتصاديا مهماً وبدلاً من تقوية واستغلال عائداته في تنمية الأمة العربية وتحديث جيوشها وزيادة مواردها يريدون سد هذا المورد وأن إسرائيل نفسها تتمنى أن يُقدم العرب على مقاطعة بترولية حتى يحرموا من هذه العوائد المالية» وأنه يرفض «كلام المزايدون والذين يطالبون بقطع البترول العربي عن أمريكا».

ولم يخجل سعوديو الهوى والمال بالظهور على شاشات التلفزة لمدح هذه المبادرة (مبادرة الملك عبدا لله) والتأكيد عليها وتعمية المشاهد العربي الذي أُريد له أن يضل صارخاً «الموت لأمريكا وإسرائيل». وليس من المفاجأ أن يظهر الدكتور عثمان الزواف وهو متخصص سعودي في الشئون العربية على قناة mbc في شهر إبريل 2002م ليؤكد على أن المثقفين المصريين والأردنيين والمغاربة الذين التقوا مع الأمير عبد الله قالوا أنه كان يتألم وهو يتكلم عن أحوال الفلسطينيين ولذلك تقدم بمبادرته والتي حققت نجاحاً داخل إسرائيل لدرجة أن رئيس الكنيست الإسرائيلي شن حملة على شارون في إطار «شرحه وتحليله» لمبادرة الأمير عبد الله التي تعسر فهمها على الكل كما يبدو. وبالتالي أصبحت هذه المبادرة التي جاءت من أجل إخراج السعودية من مأزق أمريكي وبتنسيق مع شركات أمريكية صهيونية والتي لم تكترث لها إسرائيل لدى المواطن العربي الساذج مبادرة جاءت بسبب تألم الأمير السعودي على الفلسطينيين وبتنسيق مع مثقفين مصريين وأردنيين ومغاربة وأنها أقضت مضاجع الإسرائيليين وخلقت خلافاً وانشقاقا داخلها. هذا ما أراد الإعلام السعودي تسويقه على العقل العربي والحصار على جنين لم يُفك بعد في ذلك الوقت.

للحديث تتمة في الجزء القادم...