لنستمد من خراب باكستان على أيدي الوهابية والأمريكان دروساً للعراق

د. حامد العطية

ما أكثر خبراء السياسة، في الباكستان والعراق وغيرهما، وبأمكان أي فرد أن يصبح خبيراً بالسياسة هذه الأيام، أو هكذا الانطباع العام، فالشهادة غير ضرورية، والممارسة غير مطلوبة، بالأمس كانت حكراً على المتعلمين قراء الصحف، أما اليوم وبفضل وسائل الإعلام الفضائية حتى الأميين أصبحوا خبراء في السياسة، وبعد أن جربنا حكم المتعلمين والنخب قرابة المائة عام في العراق وحصدنا القتل والتهجير والخراب لعلنا نجد لدى الناس العاديين وصفة تنتشلنا من هاوية الخراب، لذا سنلجأ هذه المرة لمجرب بدلاً من "الحكماء"الأكاديميين، لنسأله إن كانت الباكستان خربة مثل بلادنا وأسباب خرابها إن وجد؟
يهمنا الإجابة على هذا السؤال لنستفيد منها نحن العراقيون في المقارنة بين تجربتنا وتجربتهم في الخراب، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المنهج الاستقرائي للمجرب العراقي غير الإكاديمي، وبالتحديد الجنوبي، يعتمد على الشواهد، فإذا أراد تحليل وضع ما استحضر شواهد من حالة أو حالات مماثلة في الماضي، انتهت إلى نتائج معروفة، ليستنتج حول الوضع الراهن بناءً على شواهد الماضي، وعادة ما يستهل استنتاجاته بقوله: " وشاهدنا"، حيث يبين السبب أو الهدف من استقراء حالات سابقة، وهذه المنهجية أشبه بطريقة المقارنة المستعملة في الدراسات الإجتماعية الرصينة، وهي متفوقة بمراحل على أسلوب "الخبير" الأكاديمي الذي تضج القنوات الفضائية وصفحات مواقع الانترنت بتحليلاته الجوفاء وحلوله العقيمة، والذي غالباً ما يركن إلى رأيه وتقييمه الشخصي من دون إجراء مقارنات. ليس هنالك من هم أكثر تجربة ودراية بالخراب من العراقيين المعاصرين، ولن يتردد العراقي المنكوب بالخراب طويلاً قبل أن يؤكد لك بأن نعم الباكستان خرب، والأدلة كثيرة بعضها حديث مثل إغتيال السيدة بينظير بوتو والإرهاب، والبعض الأخر قديم متجدد وشبه مزمن، ويكفيك وجود عسكري على رأس حكومة إنقلاب في الحكم لتجزم بأن باكستان متخلفة وخربة سياسياً، ولا يغير في الأمر شيئاً امتلاكهم القنبلة الذرية ولا حصول باكستاني على جائزة نوبل، والذي يفضح خراب باكستان هي الهند، أو بالأحرى المقارنة مع الهند، ومنذ استقلال الباكستان وانفصالها عن الهند ونظامها الديمقراطي هزيل ومتداعي وبلا جذور اجتماعية وفكرية، فيما يشهد الجميع بنجاح النظام الديمقراطي في الهند، وإذا أخذنا في الإعتبار التجانس الكبير في الأصل الإثني والانتماء الديني واللغة في الباكستان مقارنة بتعدد الأثنيات واللغات والديانات والمذاهب وضخامة عدد السكان والمساحة الجغرافية في الهند لاستنتجنا بأن النظام السياسي الباكستاني فاشل تماماً، ولا يحتاج العراقي المجرب لأكثر من هذه المعلومة للاستنتاج بأن باكستان خربة، لأنها أشبه بالسمكة فإذا كان رأسها فاسد فإعلم بأن بقيتها فاسدة وخربة.

لا توجد وصفة واحدة لتحقيق التنمية المستدامة، كما تتعدد أسباب التخلف أو الخراب، ولكن ذلك لا ينفي وجود عوامل مشتركة بين التجارب الإنسانية، والتي ازدادت مؤخراً نتيجة ازدياد الاتصال والروابط والتفاعلات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بين الأمم، أو ما يعرف بالعولمة، لذا تبقى الدراسات المقارنة وسيلة مفيدة في فهم تجارب الدول المختلفة في التنمية والخراب على حد سواء، ولو طبقنا هذه المنهجية على تجربتي الباكستان والعراق في الخراب لتعرفنا على عوامل مشتركة كامنة وراء هذا الخراب، ومن أبرزها التركيبة العشائرية لقطاع كبير من المجتمع في كل منهما، والتباعد والتباغض بين الفئات الإثنية والطائفية وقهر الأقليات، وظاهرة الانقلابات العسكرية وتدخل الجيش في أمور السياسة، والجنوح للمغامرات العسكرية خارج الحدود، ومن المعروف بأن العشائرية حاجز منيع أمام نضوج الدولة والمواطنة والوحدة الوطنية مفهوماً وممارسة، وليس من المستغرب أن تكون منطقة القبائل على حدود الباكستان مع إيران وأفغانستان خارجة على سيطرة الدولة ووكراً للإرهاب والتمرد وبؤرة للأعمال اللاقانونية، ومنذ انسلاخ العراق من الإمبراطورية العثمانية لم تنجح الدولة في إذابة الروابط والانتماءات القبلية الضيقة بدرجة كافية لتحل محلها الهوية الوطنية الموحدة، بل عمدت النظم التي حكمت العراق إلى تشجيع الانتماء العشائري وإضفاء شرعية رسمية عليه، مما ساهم في تعميق الفجوات الاجتماعية بين فئات المجتمع العراقي، نتيجة انتقال عدوى الاتجاهات والسلوكيات الناتجة عن التعصب القبلي إلى كافة مناحي الحياة للفرد والجماعة، وبالتالي فقد أصبح التعصب المفرط السمة الغالبة على الفرقاء السياسيين والاجتماعيين، مما أضعف الاتصال والحوار بينهم، وبقدر تقليله لفرص التوفيق بين المواقف الحادة زاد من احتمال اللجوء إلى العنف الديني والطائفي والسياسي.

لا يسود الوئام بين الفئات العرقية والطائفية في الباكستان، وقد ساهمت عوامل خارجية مثل الفكر الوهابي وداخلية كسياسات التمييز العرقي الحكومية في تصاعد حدة الاستقطاب الطائفي والإثني، فلا يكاد يمر وقت طويل من دون حصول مواجهات طائفية بين الأكثرية السنية والأقلية الشيعية، كما تشتكي الأقليات الإثنية من الاضطهاد المنهجي وتدني الأنشطة الحكومية الخدمية والتنموية في مناطقها كماً ونوعاً، وحتى الوقت الحاضر لم تنجح الباكستان في الحد من التوتر بين سكانها الأصليين والمهاجرين الذين انتقلوا إليها بعد الانفصال من الهند.
بالمقارنة لم تكن الحكومات العراقية المتعاقبة متوازنة وعادلة في تمثيلها لفئات الشعب الطائفية والإثنية، وحتى الأمس كانت الأكثرية الشيعية مستاءة من استئثار السنة بالقيادة السياسية والمناصب الإدارية العليا، وحمل الأكراد الذين يشكلون أكبر أقلية إثنية السلاح ضد الحكومات العراقية الملكية والجمهورية للتعبير عن سخطهم على سياساتها المجحفة بحقوقهم، ورسخ الاضطهاد والقهر الحكومي المزمن المشاعر السلبية وعدم الثقة بين الفئات الطائفية والعرقية.

أرخت الانقلابات العسكرية بظلالها القاتمة على مختلف جوانب الحياة في الباكستان والعراق، وسواء كانت الانقلابات نتيجة لفشل العملية السياسية الديمقراطية أم لا فقد تسببت من دون شك في تعميق تخلفهما السياسي مقارنة بدول حديثة العهد بالديمقراطية، وبدلاً من أن تأتي هذه الإنقلابات بالاستقرار والأمن كما وعد منفذوها فقد أدت إلى مزيد من الاضطراب والتسلط والاضطهاد، وكان لتأثير العسكر في البلدين دوراً كبيراً في دفعهما إلى مغامرات عسكرية فاشلة، فقد أخفقت الحملات العسكرية الباكستانية في الحفاظ على وحدة الباكستان، فانفصلت عنها باكستان الشرقية (بنجلادش)، ولم تنجح الحرب الحدودية مع الهند في تسوية وضع ولاية كشمير التي بقيت مقسمة ين البلدين، ولا يزال البلدان الجاران منهمكين في سباق محموم للتسلح، تجاوز في مراحله الأخيرة القنابل الذرية والصواريخ البالستية، مما أرهق ميزانية الباكستان الضعيفة أصلاً.
كان للإنقلابات العسكرية الأربعة الناجحة في العراق نتائج وخيمة على العملية السياسية، ومنذ أول انقلاب في 1958م وحتى وقت قريب لم يكن للعراق دستور دائم ولا انتخابات برلمانية ديمقراطية ولا حريات سياسية، كما هيمن ضباط على الحكم حتى أواخر السبعينات حين استولى على السلطة الطاغية صدام حسين، والذي كان عهده أحلك الفترات في تاريخ العراق الحديث نتيجة مغامراته العسكرية الفاشلة واستعماله للقوة العسكرية والأمنية المفرطة في قمع معارضيه.

يستدل من نتائج المقارنة بين تجربتي الباكستان والعراق وجود عاملين آخرين للخراب فيهما، هذان العاملان مستوطنان في الباكستان منذ زمن ومستحدثان في العراق، وهما الوهابية السلفية والنفوذ أو الاحتلال الأمريكي، فمن المعروف بأن الباكستان هو البلد الثاني بعد السعودية موطن الوهابية الذي شهد انتشاراً واسعاً لهذا المذهب التخريبي بين سكانه ودوائره السياسية، ولولا أموال المخابرات السعودية ودعم ومباركة المخابرات المركزية الأمريكية لما نبتت للإرهاب السلفي جذور في الباكستان لتثمر في أفغانستان تنظيم القاعدة الإرهابي وحركة طالبان، ولأن الوهابية أشبه بأفعى سامة غادرة فقد كان لزاماً انقلاب المكر الأمريكي –الباكستاني-السعودي على أصحابه، فكانت ضربة الحادي عشر من سبتمبر 2001م في أمريكا وتوطن الإرهاب في الباكستان وتمرد القاعدة على المخابرات السعودية، وعلى الرغم من الضربة الموجعة والمذلة التي سددها الإرهاب السلفي الوهابي لأمريكا في فلم تتخلى أمريكا عن حلفائها الوهابيين في السعودية ليقينها بأن هذا المذهب المنحرف يستهدف بالدرجة الأولى وحدة المسلمين، وهو خير وسيلة لتفريق المسلمين وبث العداء والتقاتل بينهم، لذا فإن فوائده للأمريكان أكثر بكثير من مضاره، ومن المؤكد بأن الأمريكان قد أيدوا وشجعوا انتشار الوهابية في الباكستان، كما نجزم بأنه لولا الاحتلال الأمريكي ودعوة الرئيس بوش للإرهابيين لمنازلة الأمريكان في العراق لما أصبح العراق الحلبة الرئيسة للصراع بين القوات الأمريكية وجناح القاعدة المنشق على وهابيي أمريكا.

منذ الاحتلال الأمريكي للعراق نشرت المقال تلو المقال محذراً من خطر الاحتلال الأمريكي والوهابية علينا حاضراً ومستقبلاً، وهذه تجربة الباكستان دليل آخر مقنع على صحة مقولتي، وعندما يتفق العراقيون، أو معظمهم على الأقل، مع هذه الإطروحة السياسية، ويعملوا بما تقتضيه من طرد للأمريكان وللوهابية من أرضهم فستبدأ مرحلة تعافي العراق.

24 كانون الثاني 2008م