صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 16 إلى 22 من 22
  1. #16
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    الشهيد الصدر يحتضن الدعوة:

    وإذا كان الشهيد الصدر قد انفصل عضوياً عن حزب الدعوة، فإنه ظل يحتضن حزب الدعوة احتضاناً لا حدود له، بحيث لم يعرف بانفصاله إلاّ قيادة الحزب كما يؤكد الشيخ علي الكوراني(175). الذي لم يكن ليطلع على انفصاله إلاّ في العام 1968م كما أشرنا إلى ذلك، ولذلك كان معظم روّاده ومؤيديه وأنصاره من الحزب أو من محيط الحزب، بل كان معظم وكلائه من المنتمين إلى حزب الدعوة.



    ويؤكدّ الشيخ محمد باقر الناصري، في شهادته ـ أنه ـ أي الشهيد الصدر ـ لم يسمِّ شخصاً لمنطقةٍ ما وكيلاً له إلاّ وكانت له علاقة حزبية وسياسية وحركية، ولذلك كان الشهيد الصدر يأخذ بتوثيقات حزب الدعوة في ذلك(176). نشير إلى أن الشيخ الناصري كان وكيله ومعتمده في جنوب العراق ومستشاره في تنسيب الوكلاء إلى مناطق الجنوب.

    ويؤكد السيد محمد باقر الحكيم الارتباط الوثيق بين الشهيد الصدر وحزب الدعوة، ويشير إلى التساؤلات القائمة ـ يومذاك ـ في بعض أوساط الحوزة حول علاقة الشهيد الصدر بالحزب، تلك التساؤلات التي تستند إلى الشواهد والأرقام والتي منها أن أكثر المرتبطين به وخاصتهم يرتبطون عضوياً بالعمل المنظَّم الخاص(177).

    وقد اتخذ هذا الاحتضان للدعوة صيغة تنظيمية أيضاً، إذ عهد حزب الدعوة إلى الشهيد عبد الصاحب دخيّل تنسيق العلاقة بين الشهيد الصدر وبين الحزب(178). وكان ذلك إثر انفصاله العضوي من الحزب، وسيأتي الحديث عن الأطر التنظيمية الأخرى اللاحقة.



    وقد تحدَّث السيد حسن شبر عن اجتماعات مطولَّة كانت تعقد في بغداد ـ أثناء مجيء الشهيد الصدر إليها ـ ضمَّت عدداً من قيادات حزب الدعوة. وقد سمَّى السيد شبر نفسه بالإضافة إلى محمد هادي السبيتي، وعبد الصاحب دخيّل وداود العطار والسيد فخر الدين العسكري(179).



    ويُسجَّل للشهيد الصدر تاريخياً دوره في حماية حزب الدعوة من الانشقاق إذ أسهم متوسطاً بين جناحين في الحزب كاد التجاذب بينهما أن يشقَّ الحزب الواحد إلى حزبين(180).

    ولم تنجح السلطة في اكتشاف دليل حسي على علاقة الشهيد الصدر بالدعوة إذ كانت العلاقة بينهما بتوسط الشهيد عبد الصاحب دخيِّل، ولم توفَّق السلطة إثر اعتقاله في انتزاع اعترافٍ منه على الشهيد الصدر(181)، مع ما تعرَّض له الشهيد دخيِّل من التعذيب الذي انتهى به إلى إلقائه في حامض الأسيد، وبذلك بقيت العلاقة بين الشهيد الصدر والحزب مورداً للشك، جنَّدت لها السلطة طاقاتها لاكتشافها كما سنشير إليه لاحقاً.

    إنَّ التعاون بين الشهيد الصدر والحزب لا ينفي أن يكون ثمة خلاف بينهما ينشأ من اختلاف وجهات النظر أحياناً، أو من عدم الانسجام في المنهج السلوكي أحياناً أخرى.



    ويشير الشيخ النعماني في مذكراته إلى أن من أسباب الفتور الذي أصاب العلاقة بين الشهيد الصدر والحزب "" أن السيد الشهيد طلب من قيادة الحزب إخراج شخص معيَّن من قيادة الحزب، بسبب عدم صلاحه ـ وقد ثبت ذلك فيما بعد ـ فرفضوا ذلك، وأصرّوا على بقائه، فحدث ما يشبه القطيعة بين السيد الشهيد وحزب الدعوة"" (182) ويشير الشيخ النعماني بذلك إلى الشيخ علي الكوراني.




    ولم أقف على مصدر يؤكد ما ذكره الشيخ النعماني بخصوص طلب الشهيد الصدر إعفاء الشيخ الكوراني وإقصاءه من القيادة، وإن كان سيأتي الحديث عن رغبة للشهيد الصدر تقترب من هذا المعنى الذي يشير إليه النعماني.

    ولكننا في الوقت ذاته نؤكِّد على اضطراب العلاقة القائمة بين الشهيد الصدر وبين الشيخ الكوراني، والتي ترجع ـ فيما يبدو ـ إلى عالم السلوك أكثر ما ترجع إلى عالم الاختلاف الفكري والسياسي، على الرغم من العلاقة الصميمية بين الشهيد الصدر والشيخ الكوراني(183).

    وكانت للشهيد الصدر ثقة بقدرات الشيخ الكوراني وتميّزه على مستوى الفاعلية والنشاط(184).

    إلاَّ أنه في الوقت نفسه يرى فيه تطرفاً يعبِّر عن نزعة خارجية (نسبة إلى الخوارج) في طريقة التفكير والعمل(185).

    وقد سجلت لنا عدة شهادات يفيد بعضها أن الكوراني كان موضع نقد الشهيد الصدر عندما كان في الكويت(186)، وقد بلغ هذا النقد حدوده القصوى في وصف الشهيد الصدر الشيخ الكوراني بالمعمم المنحرف(187).

    وقد بادله الشيخ الكوراني ـ وفقاً لبعض الشهادات ـ بوصف أقسى يعبّر عن طبيعة الشيخ الكوراني الانفعالية، إذ وصف الشهيد الصدر بالأمريكي(188).


    وبالعودة للكوراني نفسه، فإنّه حدَّد مصادر توتّر علاقته مع الشهيد الصدر بعدة أسباب منها:

    أنه كان يعتب على الشهيد الصدر لسبب إخفاء أمر انسحابه ـ عضوياً ـ من حزب الدعوة في وقت كان فيه الكوراني يتعاطى معه كواحد من قيادة الحزب، وأن الشهيد الصدر قد تنكّر للمبادئ التي يتبنّاها وذلك كما ظهر في إناطة مسؤولية الإمامة والتبليغ في جامع الهاشمي بالسيد حسين الصدر نجل أخيه السيد إسماعيل الصدر. في وقت لم يكن فيه السيد حسين مؤهلاً لمثل هذه المسؤولية والقيام بهذه المهمة لصغر سنه ـ يومذاك ـ وحداثة تجربته على أقل تقدير. وأن الشهيد الصدر أخذ يميل في حقبة متأخرة من حياته السياسية بتأثير من عددٍ من مريديه ومحيطيه وتلامذته إلى المداراة والمهادنة في العمل السياسي، تلك المهادنة التي قادته ـ كما يقول الكوراني ـ إلى لقاءات مع رؤوس السلطة كما هو في لقائه مع زيد حيدر عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي، وبرقيته للبكر بصدد تأييد ما يُسمى بتأميم النفط ومحو الأمية ،وأن الشهيد الصدر كان متحفظاً تجاه الثورة الإسلامية في إيران يوم انطلاقتها وتفاعلها سياسياً. ويدّعي الكوراني أنه كان يريد من الشهيد الصدر تأييداً أكبر لها على الرغم من أنه يتفهم حرص الشهيد الصدر على الدماء التي كانت تسيل والتي كانت تمنعه من التأييد الواسع للثورة. بل يأخذ على الشهيد الصدر خضوعه لضغط السلطة، ذلك الذي أدّى إلى صدور فتوى تحريم انتماء الطلبة لحزب الدعوة في وقت كان يمكن أن يكتفي فيه بمنع انتماء الطلبة من ذوي المستويات العليا في الحوزة دون تعريض الجميع بحيث توزّع الفتوى في وقت كان فيه الدعاة وشيوخ العمل في السجون وفي طليعتهم الشيخ عارف البصري(189).

    وبغض النظر عن الاختلاف في وجهات النظر وتحديد الأولويات وفقاً لوجهات النظر هذه، فيمكن أن نشير إلى طبيعة الفهم الاجتماعي للشيخ الكوراني الذي يختلف عن طبيعة فهم الشهيد الصدر فضلاً عن طبيعة مزاجه النفسي الذي عرف به مما شكلّ سبباً للقطيعة بينهما(190).

    هذه الطبيعة الاجتماعية والنفسية التي وصفها الشهيد الصدر بالنزعة الخارجية والتي قال عنها أنها تفكّر بالسنـتمترات(191).

    والتي كشفت عنها التغيرات التي مرّ بها الشيخ الكوراني لاحقاً(192).




    فضلاً عن ملاحظة أساسية يمكن أن يسجّلها الباحث حول بعض دعاوى الشيخ الكوراني، وتحديداً تلك التي تتصل بدعوى مطالبته الشهيد الصدر تأييداً أكبر للثورة الإسلامية، إذ يمكن أن نشير إلى أنَّ مثل هذه الدعوى لا تمت إلى الواقع بصلةٍ، إذ تشير المعطيات التاريخية التي أفادها المختصون بالشيخ علي الكوراني والقائمون على العمل الإسلامي يومذاك ـ وتحديداً في حزب الدعوة ـ إلى أن الشيخ الكوراني نفسه كان سيء الرأي بالثورة الإسلامية وأنه لم يكن يرى لها أفقاً للنجاح والانتصار وأن هذا الرأي بقي يراوده إلى وقت قريب من انتصار الثورة الإسلامية كما نقل عن الشيخ الأصفي(193)، بل إنه كان سيئ الرأي بالإمام الخميني نفسه الذي كان يصفه با(مطية الشيوعية)(194).

    بل أنَّ أقل ما كان يراه في الإمام الخميني أنه لا يفهم بالسياسة، وقد بعث الشيخ الكوراني رسالة للإمام الخميني يطالبه بالزهد الذي كان يتصف به الإمام علي (ع)(195).

    وإذا كان قد تغيّر رأي الشيخ الكوراني في الإمام الخميني والثورة الإسلامية ـ كما حدث لاحقاً ـ إلاّ أنه لم يكن ليسبق الشهيد الصدر في تأييد الثورة الإسلامية.



    وإذا كان قد تم تجاوز الأزمة بين الشهيد الصدر وبين الشيخ الكوراني عبر عدد من الرسائل المتبادلة بينهما والتي أظهرت رجوع الابن إلى أبيه على حدِّ تعبير الشهيد الصدر نفسه(196)، إلاّ أنها لم تتجاوز التناقض بين الشخصيتين، وهو ما يفسِّر رغبة الشهيد الصدر على قيادة حزب الدعوة استبعاد الشيخ الكوراني من القيام بدور تمثيل حزب الدعوة في الخارج، وتمنّى على حزب الدعوة اختيار الشهيد عبد الهادي السبيتي للتنسيق مع ممثله في الخارج وهو السيد محمود الهاشمي(197)، وهو ما يشير إليه السيد حسن شبر في تأكيد الشهيد الصدر على نقل توجيهاته إلى السبيتي لا الكوراني(198)، حيث اتهمه الشهيد في رسالة كان بعثها إلى الكوراني بالتفرد في القرارات المصيرية وعدم مرجعته ومشاورته(199).

    ومهما يكن من أمر، فإنّ العلاقة التاريخية بين الشهيد الصدر وبين حزب الدعوة كانت من القوة بحيث لم يكن بالإمكان فصم عراها، فقد ظلّ الشهيد الصدر في أرشيف السلطة الحاكمة المؤسس والقائد، بحيث لم تكن لتصدِّق ما يظهر من التمايز في علاقتهما، ذلك الهاجس الذي دأبت السلطة على التفكير به ومحاولة كشف خيوطه للوقوف على ما يكشف ـ بضرس قاطع ـ الدور الحقيقي للشهيد الصدر في الحزب، تلك العلاقة التي أصبحت حكراً على الطلائع الأولى للحزب، والتي لم تكن على استعداد لكشف مثل هذه العلاقة وإن تحت الظروف القاسية والتي تمثلت في التعذيب والقتل(200).



    [align=center][/align]

    هذا الهاجس لم يكن ليختص به النظام الحاكم، فقد تعدّاه إلى القوى التقليدية في الحوزة، إذ كانت تنظر إلى الشهيد الصدر بريبة شديدة على خلفية علاقته التاريخية بالحزب، ولم تكن لتصدِّق ـ كما هو حال السلطة الحاكمة ـ التمايز الذي أظهره الشهيد الصدر عن حزب الدعوة، حيث أصرت هذه القوى التقليدية ـ والتي وصف بعضها السيد محمد باقر الحكيم بالمخلصة ـ على اتهام الشهيد الصدر ومحاولة عزله عن محيطه في إثارة الشكوك حوله(201).

    وكان في جملة هذه القوى أبناء أسرة المرجع السيد الحكيم ممن وصفهم السيد محمد باقر الحكيم بالمخلصين.



    يتبع / حزب الدعوة في المواجهة.





  2. #17
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي


    حزب الدعوة في المواجهة:





    وفي العام 1971 تعرض حزب الدعوة إلى هجوم من السلطة عبر اعتقال رموزه، وكان في مقدمتهم الدكتور داود العطار وعدد آخر من الكوادر الأساسية، ثم اعتقل أحد أعضاء القيادة العامة وهو الشهيد عبد الصاحب دخيّل (وقد انتهى به اعتقاله بعد تعذيب شديد إلى استشهاده) ثم اعتقل السيد حسن شبر، ليطلق سراح معظمهم باستثناء الشهيد دخيّل.


    وفي العام 1972 تصاعد الاعتقال، فكانت البداية من الشامية، وكانت العلاقة سيئة بين الشباب والسيد محمد علي الموسوي وكيل السيد الخوئي(202)، حيث أدى هذا الاعتقال إلى اعتقال الشيخ خالد العطيّة، ثم الشيخ محمد مهدي الظالمي، كما تعرّض للاعتقال معظم رموز الحزب، ليشمل عدداً من المؤسسين منهم الحاج محمد صالح الأديب، فيما استطاع بعضهم الإفلات، كما هو الشيخ محمد مهدي الآصفي مسؤول اللجنة المحلية للتنظيم في النجف يومذاك، وأفلت ـ أيضاً ـ محمد هادي السبيتي أحد أعضاء القيادة العامة(203)، واعتقل الشيخ عارف البصري، إلاّ أن أمره لم يكتشف، ولم تتعرف السلطة على كونه أحد أعضاء القيادة العامة. وكان في جملة من اعتقل السيد محمد باقر الصدر، والشيخ عز الدين الجزائري والسيد محمد تقي التبريزي(204).


    وعلى الرغم من حصول اعترافات من عددٍ من أعضاء التنظيم، إلاّ أن شمولية الاعتقال والمطاردة لم تكن لهذه الجهة وحسب، إذ أن طبيعة السلطة الحاكمة في العراق لم تكن معنيّة باتِّباع الطرق القانونية بقدر ما كانت معنية بسياسة البطش العام الذي من شأنه إيقاع الجميع. خاصة وأنَّ هذه الرموز ـ وإن كان الحزب سرّياً ـ لم تكن مجهولة، فقد كانت فاعلة ومعروفة منذ عهد السيد محسن الحكيم.


    هذه الاعترافات وإن كان لها دور في كشف الخطوط التنظيمية، فإن هناك صموداً كبيراً لعدد غير قليل من كوادر الحزب، ابتداءً من السيد داود العطار إلى السيد حسن شبر، إلى الشهيد دخيّل إلى الشهيد حسين جلوخان.. وهو ما يفسِّر إفلات عدد من كوادر الحزب، وفي مقدمتهم الشيخ عارف البصري وعدم التعرف على موقعه القيادي الأول في الحزب.


    وفي العام 1972 تعرَّض ـ أيضاً ـ للاعتقال السيد محمد باقر الحكيم، وقد جرى اعتقاله من الشارع، بعد خروجه من مرقد الإمام علي (ع)، في طريقة تعمَّد معها السيد الحكيم أن تكون أكثر علنية، وذلك عن طريق مماطلته رجال الأمن في عملية لإشهار اعتقاله بين الناس من المارَّة، وكان من بين هؤلاء السيد عبد الغني الأردبيلي أحد أبرز تلامذة الشهيد الصدر، الذي أسرع إلى إخبار الشهيد الصدر بذلك. فيما تم اعتقال الشهيد الصدر نفسه بعد فترة وجيزة، إلاّ أنه لمّا كان قد تعرَّض لطارئ صحي على خلفية ما كان يعانيه من مشاكل صحية في القلب، فقد نُقل إلى مشفى النجف ليودع هناك رهن الاعتقال، ولكن بعض الأطباء امتنعوا من وضعه في مثل هذه الحال تحت مسؤوليتهم فنقل إلى مشفى الكوفة بسبب وجود سجن خاص فيه، ثم نقل مرة أخرى إلى مشفى النجف بعد أن أبدى بعض الأطباء خشيتهم على وضعه الصحي(205)، وقد لعب الشيخ مرتضى آل ياسين دوراً كبيراً في تطويق السلطة، وإبراز ما عليه الشهيد الصدر من مركز مرموق في الحوزة العلمية.


    ونقلت عنه كلمته الشهيرة في مديري المشفى عندما خاطبهم : "" إن ضيفكم لعظيم""، وعلى لسان أحد المقربين للشهيد الصدر أنه قال: "" أوصيكم بحجة الله فإنه حجة الله""، وكان معه السيد محمد صادق الصدر الذي أجهش بالبكاء وهو يسمع هذه الكلمات من الشيخ آل ياسين(206).


    [align=center][/align]


    وقد لعب الشيخ مرتضى آل ياسين دوراً في تكثيف الدعم للشهيد الصدر من خلال زيارات العلماء له، ولذلك ضغط على السيد الخوئي لإقناعه بزيارة الشهيد الصدر وهو في اعتقاله في مشفى الكوفة، إلاّ أن هذه الزيارة لم تحصل بسبب خشية السيد الخوئي من ردود فعل حاشيته والسلطات، مما ولّد عند الشيخ آل ياسين امتعاضاً شديداً تجاهه، متسائلاً عن سبب إحجام السيد الخوئي عن الاستفادة من علاقته بالسلطات وبيانه التأييدي للتأميم، إلاّ أن زيارة السيد الخوئي المرتقبة والتي حاول الشيخ آل ياسين حصولها وهو في مشفى الكوفة، حصلت بعد فك الحصار عن الشهيد ونقله إلى مشفى النجف(207).


    نشير إلى أن الشهيد الصدر قد كلَّف ـ إبّان اعتقاله ـ السيد محمود الخطيب بمهمة إبلاغ السيد الخوئي بالاعتقال، ولهذا الغرض ذهب السيد الخطيب برفقة السيد كاظم الحائري إلى منزلي السيد الخوئي في الكوفة والنجف، إلاّ أنهما لم يفلحا في لقائه(208).


    كما نشير ـ أيضاً ـ إلى أن السيد كاظم الحائري زار السيد الخميني والتقاه لغرض إطلاعه على نبأ اعتقال السيد الصدر، إلاّ أنه لم يجد تفاعلاً مع الاعتقال وشدة خطورته، مما أدى إلى انفعال السيد كاظم الحائري وتذمره(209).


    لم تكن ردود فعل النجف كبيرة، وإذا كان من دور فاعل فهو دور الشيخ آل ياسين الذي تفرّد في حشد ما يمكن تحشيده لهذا الغرض ومحاولة إفهام السلطة بخطورة ما تفعله وما تحاوله من اعتقال الشهيد الصدر.

    وفي هذا الصدد ينقل بعض تلامذة الشهيد الصدر ـ وهم من مريدي آل ياسين ـ أن الأخير كلّفهم بتحشيد طلبة العلوم الدينية وتنظيم زيارات لهم للشهيد الصدر مهما أمكن، ودفع لهم أجور نقل هؤلاء الطلاب. وينقل المصدر نفسه أن الاتصال بالسيد صادق البطاط، وهو وكيل الشهيد الصدر بمدينة الكفل، لتنظيم زيارة أهالي الكفل بعدد ـ ربما لا يصل، إلى العشرين ـ كان إنجازاً كبيراً(210)، ولذلك يمكن القول إن من المبالغة إدّعاء "" حدوث ضجة كبيرة في الوسط الحوزوي وفي أنحاء مختلفة من العراق"" (211) إثر اعتقال الشهيد الصدر، كما تشير إليه بعض المصادر، إذ أن الأمر لا يعدو حركة الشيخ آل ياسين ومن حوله من العلماء.


    نشير إلى دور الشهيدة (بنت الهدى) شقيقة الشهيد الصدر وحضورها معه في المشفى بعد نقله من مشفى الكوفة، إلى درجة نُقل ـ معها ـ أنها كانت تتحسس الفراش الذي وضع للشهيد الصدر في المشفى، بحيث كانت تشير إلى مدى العلاقة المميزة بين الشقيق وشقيقته(212).


    ويمكن القول ـ كما عن الشيخ النعماني(213)ـ إن السلطة كانت في حالة شك غريبة بشأن علاقة الشهيد الصدر بالحزب (حزب الدعوة) خاصة وإن الشهيد عبد الصاحب دخيّل ـ وكان رابطاً بين الشهيد والحزب ـ لم يعترف أو يدلي بشيء من المعلومات التي تفيد السلطة في هذه القضية. ولذلك كانت الإعتقالات تشمل المقربين جداً إليه بغية انتزاع اعترافات منهم بما يكشف هذه العلاقة، وكان في جملة من اعتقلته السلطة السيد محمود الهاشمي والسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر والسيد الشهيد محمد باقر الحكيم على اختلاف في مواعيد اعتقالهم، فضلاً عن عددٍ كبير من طلابه ومريديه. وكان يلجأ الشهيد الصدر إلى بعض الوجوه الاجتماعية لإنقاذ بعضهم في محاولةٍ منه للتخفيف عنهم، فيما إذا كانت فرصة لذلك، كما حصل مع السيد محمد الصدر حيث تم الإفراج عنه إبّان اعتقاله عام 1972 بواسطة السيد محمود الخطيب ـ أحد العاملين في مكتب الشهيد الصدر ـ حيث كانت تربطه علاقة بأحد رموز السلطة، فسعى الأخير إلى التدخل، وكان ذلك بإيحاء من الشهيد الصدر نفسه(214)، وقد أفادت بعض المصادر(215) أن السيد محمود الهاشمي ـ وكان معتقلاً معه في جملة المعتقلين عام 1974م ـ كلّفه إبلاغ الشهيد الصدر بعد خروجه من المعتقل بضرورة تدخله لإنقاذه إذا كان ذلك ممكناً، وذلك لشدة ما كان يعانيه من التعذيب وكان ذلك بغية انتزاع اعتراف منه على الشهيد الصدر أو السيد محمد باقر الحكيم.


    وهذا ما يفسر إصرار الشيخ عارف البصري والسيد عماد التبريزي على الإيصاء بعدم الاعتراف، وتشجيع السيد الهاشمي وغيره على عدم الاعتراف كما يذكر السيد الحكيم(216)، الذي أرجعه إلى الرغبة في حفظ الشهيد الصدر، إذ أن اعتراف السيد الهاشمي ـ ولو صورياً ـ سيلحق الضرر بالشهيد الصدر ويمنح السلطة مبرراً لاعتقاله فيما بعد(217).


    ويدعي السيد الحكيم أن هناك قراراً بالاعتراف ـ ولو صورياً ـ أوصي به المعتقلون من قبل كوادر وأعضاء حزب الدعوة، ولذلك كانوا يشجعونهم على الاعتراف الصوري وإن لم يكونوا في صفوف حزب الدعوة أصلاً(218). الذي ينفيه مسؤولو حزب الدعوة، والمعتقلون منهم في ذلك الوقت، وإن لم ينفوا حقيقة ما جرى من الاعتراف على أشخاص غادروا العراق إلى الخارج أو ماتوا للتخلص أو التشويش على مجرى التحقيق كما أفادت بعض مصادر حزب الدعوة(219).


    وكانت الإعتقالات قد بلغت أوْجها في العام 1974، بغية تصفية حزب الدعوة، وكشف دور الشهيد الصدر وموقعه في الحزب، وهو ما لم يحصل عليه النظام، وذلك على خلفية عدم حصول السلطة على اعتراف من هذا القبيل.


    ولكن، ذكرت بعض المصادر(220) أن قيادة الدعوة ـ وبطلب من الشيخ عارف البصري ـ أصدرت قراراًـ وصفته بالهام ـ إلى المعتقلين يقضي بالاعتراف في الحالات القصوى على عدة أشخاص من قيادة الدعوة خارج العراق بغية الحيلولة دون الاعتراف على الشهيد الصدر.


    ولكن هذه المصادر في الوقت الذي تشير فيه إلى هذا القرار تذكر أن الشهيد الصدر قد تعرَّض للاعتقال في العام 1974 مع الشيخ البصري ورفاقه وهو غير صحيح.





    يتبع / فتوى الانفصال .





  3. #18
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي



    حزب الدعوة في المواجهة:





    وفي العام 1971 تعرض حزب الدعوة إلى هجوم من السلطة عبر اعتقال رموزه، وكان في مقدمتهم الدكتور داود العطار وعدد آخر من الكوادر الأساسية، ثم اعتقل أحد أعضاء القيادة العامة وهو الشهيد عبد الصاحب دخيّل (وقد انتهى به اعتقاله بعد تعذيب شديد إلى استشهاده) ثم اعتقل السيد حسن شبر، ليطلق سراح معظمهم باستثناء الشهيد دخيّل.


    وفي العام 1972 تصاعد الاعتقال، فكانت البداية من الشامية، وكانت العلاقة سيئة بين الشباب والسيد محمد علي الموسوي وكيل السيد الخوئي(202)، حيث أدى هذا الاعتقال إلى اعتقال الشيخ خالد العطيّة، ثم الشيخ محمد مهدي الظالمي، كما تعرّض للاعتقال معظم رموز الحزب، ليشمل عدداً من المؤسسين منهم الحاج محمد صالح الأديب، فيما استطاع بعضهم الإفلات، كما هو الشيخ محمد مهدي الآصفي مسؤول اللجنة المحلية للتنظيم في النجف يومذاك، وأفلت ـ أيضاً ـ محمد هادي السبيتي أحد أعضاء القيادة العامة(203)، واعتقل الشيخ عارف البصري، إلاّ أن أمره لم يكتشف، ولم تتعرف السلطة على كونه أحد أعضاء القيادة العامة. وكان في جملة من اعتقل السيد محمد باقر الصدر، والشيخ عز الدين الجزائري والسيد محمد تقي التبريزي(204).


    وعلى الرغم من حصول اعترافات من عددٍ من أعضاء التنظيم، إلاّ أن شمولية الاعتقال والمطاردة لم تكن لهذه الجهة وحسب، إذ أن طبيعة السلطة الحاكمة في العراق لم تكن معنيّة باتِّباع الطرق القانونية بقدر ما كانت معنية بسياسة البطش العام الذي من شأنه إيقاع الجميع. خاصة وأنَّ هذه الرموز ـ وإن كان الحزب سرّياً ـ لم تكن مجهولة، فقد كانت فاعلة ومعروفة منذ عهد السيد محسن الحكيم.


    هذه الاعترافات وإن كان لها دور في كشف الخطوط التنظيمية، فإن هناك صموداً كبيراً لعدد غير قليل من كوادر الحزب، ابتداءً من السيد داود العطار إلى السيد حسن شبر، إلى الشهيد دخيّل إلى الشهيد حسين جلوخان.. وهو ما يفسِّر إفلات عدد من كوادر الحزب، وفي مقدمتهم الشيخ عارف البصري وعدم التعرف على موقعه القيادي الأول في الحزب.


    وفي العام 1972 تعرَّض ـ أيضاً ـ للاعتقال السيد محمد باقر الحكيم، وقد جرى اعتقاله من الشارع، بعد خروجه من مرقد الإمام علي (ع)، في طريقة تعمَّد معها السيد الحكيم أن تكون أكثر علنية، وذلك عن طريق مماطلته رجال الأمن في عملية لإشهار اعتقاله بين الناس من المارَّة، وكان من بين هؤلاء السيد عبد الغني الأردبيلي أحد أبرز تلامذة الشهيد الصدر، الذي أسرع إلى إخبار الشهيد الصدر بذلك. فيما تم اعتقال الشهيد الصدر نفسه بعد فترة وجيزة، إلاّ أنه لمّا كان قد تعرَّض لطارئ صحي على خلفية ما كان يعانيه من مشاكل صحية في القلب، فقد نُقل إلى مشفى النجف ليودع هناك رهن الاعتقال، ولكن بعض الأطباء امتنعوا من وضعه في مثل هذه الحال تحت مسؤوليتهم فنقل إلى مشفى الكوفة بسبب وجود سجن خاص فيه، ثم نقل مرة أخرى إلى مشفى النجف بعد أن أبدى بعض الأطباء خشيتهم على وضعه الصحي(205)، وقد لعب الشيخ مرتضى آل ياسين دوراً كبيراً في تطويق السلطة، وإبراز ما عليه الشهيد الصدر من مركز مرموق في الحوزة العلمية.


    ونقلت عنه كلمته الشهيرة في مديري المشفى عندما خاطبهم : "" إن ضيفكم لعظيم""، وعلى لسان أحد المقربين للشهيد الصدر أنه قال: "" أوصيكم بحجة الله فإنه حجة الله""، وكان معه السيد محمد صادق الصدر الذي أجهش بالبكاء وهو يسمع هذه الكلمات من الشيخ آل ياسين(206).


    [align=center][/align]

    وقد لعب الشيخ مرتضى آل ياسين دوراً في تكثيف الدعم للشهيد الصدر من خلال زيارات العلماء له، ولذلك ضغط على السيد الخوئي لإقناعه بزيارة الشهيد الصدر وهو في اعتقاله في مشفى الكوفة، إلاّ أن هذه الزيارة لم تحصل بسبب خشية السيد الخوئي من ردود فعل حاشيته والسلطات، مما ولّد عند الشيخ آل ياسين امتعاضاً شديداً تجاهه، متسائلاً عن سبب إحجام السيد الخوئي عن الاستفادة من علاقته بالسلطات وبيانه التأييدي للتأميم، إلاّ أن زيارة السيد الخوئي المرتقبة والتي حاول الشيخ آل ياسين حصولها وهو في مشفى الكوفة، حصلت بعد فك الحصار عن الشهيد ونقله إلى مشفى النجف(207).


    نشير إلى أن الشهيد الصدر قد كلَّف ـ إبّان اعتقاله ـ السيد محمود الخطيب بمهمة إبلاغ السيد الخوئي بالاعتقال، ولهذا الغرض ذهب السيد الخطيب برفقة السيد كاظم الحائري إلى منزلي السيد الخوئي في الكوفة والنجف، إلاّ أنهما لم يفلحا في لقائه(208).


    كما نشير ـ أيضاً ـ إلى أن السيد كاظم الحائري زار السيد الخميني والتقاه لغرض إطلاعه على نبأ اعتقال السيد الصدر، إلاّ أنه لم يجد تفاعلاً مع الاعتقال وشدة خطورته، مما أدى إلى انفعال السيد كاظم الحائري وتذمره(209).


    لم تكن ردود فعل النجف كبيرة، وإذا كان من دور فاعل فهو دور الشيخ آل ياسين الذي تفرّد في حشد ما يمكن تحشيده لهذا الغرض ومحاولة إفهام السلطة بخطورة ما تفعله وما تحاوله من اعتقال الشهيد الصدر.

    وفي هذا الصدد ينقل بعض تلامذة الشهيد الصدر ـ وهم من مريدي آل ياسين ـ أن الأخير كلّفهم بتحشيد طلبة العلوم الدينية وتنظيم زيارات لهم للشهيد الصدر مهما أمكن، ودفع لهم أجور نقل هؤلاء الطلاب. وينقل المصدر نفسه أن الاتصال بالسيد صادق البطاط، وهو وكيل الشهيد الصدر بمدينة الكفل، لتنظيم زيارة أهالي الكفل بعدد ـ ربما لا يصل، إلى العشرين ـ كان إنجازاً كبيراً(210)، ولذلك يمكن القول إن من المبالغة إدّعاء "" حدوث ضجة كبيرة في الوسط الحوزوي وفي أنحاء مختلفة من العراق"" (211) إثر اعتقال الشهيد الصدر، كما تشير إليه بعض المصادر، إذ أن الأمر لا يعدو حركة الشيخ آل ياسين ومن حوله من العلماء.


    نشير إلى دور الشهيدة (بنت الهدى) شقيقة الشهيد الصدر وحضورها معه في المشفى بعد نقله من مشفى الكوفة، إلى درجة نُقل ـ معها ـ أنها كانت تتحسس الفراش الذي وضع للشهيد الصدر في المشفى، بحيث كانت تشير إلى مدى العلاقة المميزة بين الشقيق وشقيقته(212).


    ويمكن القول ـ كما عن الشيخ النعماني(213)ـ إن السلطة كانت في حالة شك غريبة بشأن علاقة الشهيد الصدر بالحزب (حزب الدعوة) خاصة وإن الشهيد عبد الصاحب دخيّل ـ وكان رابطاً بين الشهيد والحزب ـ لم يعترف أو يدلي بشيء من المعلومات التي تفيد السلطة في هذه القضية. ولذلك كانت الإعتقالات تشمل المقربين جداً إليه بغية انتزاع اعترافات منهم بما يكشف هذه العلاقة، وكان في جملة من اعتقلته السلطة السيد محمود الهاشمي والسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر والسيد الشهيد محمد باقر الحكيم على اختلاف في مواعيد اعتقالهم، فضلاً عن عددٍ كبير من طلابه ومريديه. وكان يلجأ الشهيد الصدر إلى بعض الوجوه الاجتماعية لإنقاذ بعضهم في محاولةٍ منه للتخفيف عنهم، فيما إذا كانت فرصة لذلك، كما حصل مع السيد محمد الصدر حيث تم الإفراج عنه إبّان اعتقاله عام 1972 بواسطة السيد محمود الخطيب ـ أحد العاملين في مكتب الشهيد الصدر ـ حيث كانت تربطه علاقة بأحد رموز السلطة، فسعى الأخير إلى التدخل، وكان ذلك بإيحاء من الشهيد الصدر نفسه(214)، وقد أفادت بعض المصادر(215) أن السيد محمود الهاشمي ـ وكان معتقلاً معه في جملة المعتقلين عام 1974م ـ كلّفه إبلاغ الشهيد الصدر بعد خروجه من المعتقل بضرورة تدخله لإنقاذه إذا كان ذلك ممكناً، وذلك لشدة ما كان يعانيه من التعذيب وكان ذلك بغية انتزاع اعتراف منه على الشهيد الصدر أو السيد محمد باقر الحكيم.


    وهذا ما يفسر إصرار الشيخ عارف البصري والسيد عماد التبريزي على الإيصاء بعدم الاعتراف، وتشجيع السيد الهاشمي وغيره على عدم الاعتراف كما يذكر السيد الحكيم(216)، الذي أرجعه إلى الرغبة في حفظ الشهيد الصدر، إذ أن اعتراف السيد الهاشمي ـ ولو صورياً ـ سيلحق الضرر بالشهيد الصدر ويمنح السلطة مبرراً لاعتقاله فيما بعد(217).


    ويدعي السيد الحكيم أن هناك قراراً بالاعتراف ـ ولو صورياً ـ أوصي به المعتقلون من قبل كوادر وأعضاء حزب الدعوة، ولذلك كانوا يشجعونهم على الاعتراف الصوري وإن لم يكونوا في صفوف حزب الدعوة أصلاً(218). الذي ينفيه مسؤولو حزب الدعوة، والمعتقلون منهم في ذلك الوقت، وإن لم ينفوا حقيقة ما جرى من الاعتراف على أشخاص غادروا العراق إلى الخارج أو ماتوا للتخلص أو التشويش على مجرى التحقيق كما أفادت بعض مصادر حزب الدعوة(219).


    وكانت الإعتقالات قد بلغت أوْجها في العام 1974، بغية تصفية حزب الدعوة، وكشف دور الشهيد الصدر وموقعه في الحزب، وهو ما لم يحصل عليه النظام، وذلك على خلفية عدم حصول السلطة على اعتراف من هذا القبيل.


    ولكن، ذكرت بعض المصادر(220) أن قيادة الدعوة ـ وبطلب من الشيخ عارف البصري ـ أصدرت قراراًـ وصفته بالهام ـ إلى المعتقلين يقضي بالاعتراف في الحالات القصوى على عدة أشخاص من قيادة الدعوة خارج العراق بغية الحيلولة دون الاعتراف على الشهيد الصدر.


    ولكن هذه المصادر في الوقت الذي تشير فيه إلى هذا القرار تذكر أن الشهيد الصدر قد تعرَّض للاعتقال في العام 1974 مع الشيخ البصري ورفاقه وهو غير صحيح.





    يتبع / فتوى الانفصال .





  4. #19
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    فتوى الانفصال:

    [align=justify]
    في خضم هذه الظروف، وفي أجواء الاعتقالات ـ التي أشرنا إليها ـ صدرت فتوى الشهيد الصدر بتحريم انتماء طلبة العلوم الدينية إلى الأحزاب الإسلامية، إذ ورد في نصها:
    "لا يجوز انتماء طلاب العلوم الدينية إلى الأحزاب الإسلامية لأن وظيفة طالب العلم هي التبليغ والإرشاد على الطريقة المألوفة بين العلماء ".
    وكانت صدرت في أوائل شهر (آب) من العام 1974، الموافق للعاشر من شعبان من العام 1394 للهجرة.


    حسين هادي الصـدر

    وقد أفاد السيد حسين هادي الصدر بشهادة خاصة في حيثيات الفتوى أنه
    ""كانت الأخبار تصل إلينا أن السلطة تزداد قناعتها يوماً بعد يوم بأن السيد الإمام الشهيد (رض) هو الذي يتزعم بالفعل حزب الدعوة. ومعنى ذلك في القاموس البعثي أنها لن تتردد في الإقدام على قتله وحرمان الأمة من بركات وجوده، لقد بدأت أفكر في طريقة مناسبة تنهي هذه المرحلة الحافلة بالهواجس والظنون والتربصات الخبيثة. وكان مما خطر ببالي في هذا الشأن تقديم استفتاء خطي لسماحته، وبطبيعة الحال فإن موقفه الصارم من منع الحزبية في الحوزات سينعكس على السلطة وسيظهر براءته من التهم المنسوبة إليه. عرضت هذا المقترح على سماحته في مجلس خاص (عائلي) دون أن يكون هناك أحد من خارج هذه الدائرة الخاصة، فلم يجزم بشيء محدد في مقام الجواب، وحين قفلت راجعاً إلى بغداد أرسل (قده) الفتوى بخطه في ورقة كان قد ترك في أعلاها فراغاً وأمرني أن أكتب بخطي صيغة الاستفتاء، الذي كان قد حددها هو ـ أيضاً ـ في ذلك الفراغ والتوقيع عليه باسمي الصريح. وكان مما قاله لي بأنه أراد أن يُحصنني أيضاً من السلطة الغاشمة""(221).
    ومهما يكن من أمر، فقد وزعت هذه الفتوى من قبل رجال الأمن على المعتقلين من المتهمين بحزب الدعوة، وفي جملتهم الشيخ عارف البصري ورفاقه، وكان قد اعتقل بتاريخ 17/7/1974، وتقرر إعدامه بتاريخ 13/11/1974.
    هذه الفتوى ـ وفقاً لعددٍ من الشهادات ـ كانت لها مرحلتان، إعلانها بهذه الصيغة هو الشكل العلني لها، فيما سبق ذلك مرحلة أولى، وهي مرحلة فصل جهازه ـ أي جهاز الشهيد الصدر ـ المرجعي عن التنظيم(222).
    وقد كان طرح الشهيد الصدر على المجلس الاستشاري الخاص به أواخر العام 1393ه‍ ـ 1973م ـ موضوعاً حساساً حول العلاقة بين الحوزة العلمية والتنظيم ـ وتم التوصل إلى قرار عملي يتضمن النقاط التالية حسب ما أفاد السيد الشهيد محمد باقر الحكيم(223):
    1ـ أن يتم الفصل كلياً، على مستوى أجهزة المرجعية الخاصة، والعناصر الإدارية والاستشارية لها، وبين العمل المنظّم الخاص، لتحقيق الاستقلال على هذا المستوى.
    2ـ أن يتم الفصل بين الحوزة بشكل عام، والعمل المنظم على مستوى دراسة السطح(*) والخارج، بحيث يتم إبلاغ الطلبة المنظمين على هذا المستوى بشكل خاص بفك الارتباط العضوي مع التنظيم الخاص.
    3ـ يسمح للطلبة ذوي الدراسات الأولية (المقدمات) بأن يرتبطوا بالتنظيم الخاص مؤقتاً من أجل تحقيق التوعية السياسية في هذا القطاع مؤقتاً.
    4ـ يستثنى من البند الثاني الأشخاص المرتبطون بالتنظيم الخاص الذين يكون لوجودهم دور مهم في إدارته وتثقيفه، بحيث يؤدي فك ارتباطهم منه إلى إيجاد الاختلال في الوضع التنظيمي الخاص على المستوى العلمي والثقافي.
    وقد ذكر السيد الحكيم أن هناك اختلافاً شهدته هذه الجلسات بين أعضاء اللجنة الاستشارية حول هذه القرارات.
    ولذلك انسحب عدد من جهازه المرجعي من حزب الدعوة، لعل أبرزهم الشهيد السيد عماد التبريزي(224)، بالرغم من أنه اعتقل وسجن بتهمة انتمائه إلى حزب الدعوة، ومن ثمَّّ أعدم بالتهمة نفسها مع الشهيد عارف البصري، ورفاقه الآخرين.
    وقد شرع عدد من طلاب الشهيد الصدر بمحاولات إقناع الآخرين بفك ارتباطهم بالحزب، وقد نقل لي الشيخ الزهيري أن السيد عماد التبريزي حاول إقناعه بذلك، بعد أن كان قد فاتحه بالانتماء إلى حزب الدعوة(225).
    وكان جملة من طلبة الشهيد الصدر من أمثال السيد محمد الصدر والسيد عبد العزيز الحكيم والشيخ قاسم العزاوي(226) وآخرون تحملوا مهمة فك ارتباط طلبة العلوم الدينية بحزب الدعوة، وقد نسب ذلك إلى الشهيد الصدر نفسه حيث نقل الشيخ خير الله البصري عن الشيخ راشد الطويرجاوي وكيل الشهيد الصدر في (الحيرة) أن الشهيد الصدر أرسل إليه السيد عبد العزيز الحكيم لترك العمل مع حزب الدعوة(227). وقد نقل لي السيد عبد العزيز الحكيم أن الشهيد الصدر هو الذي أشار علينا بالتحرك على طلبة العلوم الدينية لإخراجهم من حزب الدعوة(228).
    وتشير بعض المصادر إلى أن هناك تعسفاً مارسته جماعة الشهيد الصدر والمرتبطون بجهازه في عملية حمل طلبة العلوم الدينية على فك ارتباطهم بحزب الدعوة على خلاف ما كان عليه الشهيد الصدر نفسه، الذي لم يكن إلاّ بصدد تمييز مرجعيته عن الحزب. ويذكر الشيخ الزهيري أن الشهيد محمد الصدر أخبره بضرورة أن يكون أحد الطلاب الذين يحضرون مجلس الشهيد الصدر أثناء زيارة زيد حيدر عضو القيادة القومية لحزب البعث، مع أن الشهيد محمد الصدر يعرف أنني في الحزب، ولكنني عندما حضرت في الوقت المقرر صدرت من قبل بعض أفراد جهاز الشهيد الصدر فعرفت أن هناك رغبة بعدم حضوري، مع أن الشهيد محمد الصدر سألني عن سبب عدم حضوري. هذا فضلاً عن الشهيد الصدر نفسه الذي حدثني وجملة من الطلاب، عن زيارة زيد حيدر وما دار في هذا اللقاء(229).
    وقد أعرب بعض طلاب الشهيد والمقربين إليه عن إنزعاجهم من الطريقة هذه في حمل طلبة العلوم الدينية على فك ارتباطهم بحزب الدعوة، فأفاد الشيخ كامل الكابري بأنه حادث الشهيد الصدر في هذه المسألة، فبرّر له الشهيد هذه الخطوات بداعي حفظ الحوزة، مشيراً إلى اعترافات الشيخ صالح الظالمي الذي كان الشهيد يقول إنه (ألَّف قصيدة) في إشارة إلى كثرة اعترافاته(230). كما أفادني الشيخ طالب السنجري وكان مقرباً من الشهيد الصدر أن الشهيد حسين باقر (صهر السيد محمد باقر الحكيم) وأحد المقربين من الشهيد الصدر ـ أيضاً ـ قال له إنه يفترض فيه فك ارتباطه بالحزب، فكان أن أجابه الشيخ السنجري بأن ينقل للشهيد الصدر أنه مشتبه في هذه المسألة(231).
    وبغض النظر عن ذلك، فإن هناك اعتراضات شديدة برزت تجاه أصل إعلان الفتوى وفك ارتباط الحوزة بالتنظيم، وكان جملة من طلاب الشهيد الصدر في أشد الغضب، من أمثال الشهيد حسين معن، والشيخ ماجد البدراوي، والشيخ خير الله البصري، والسيد عمار أبو رغيف، والشيخ عبد الرضا الجزائري، والشيخ الشهيد خزعل السوداني.
    وتفيد بعض المصادر أن شباب البصرة كانوا ينظرون إلى حزب (الدعوة) بمثابة المقدس ولذلك كانوا شديدين على الشهيد الصدر، وقد صدرت من بعضهم كلمات غير مناسبة تجاه الشهيد الصدر، فاعتبره بعضهم نظيراً للشيخ علي كاشف الغطاء (الذي يعتبره البعض حليفاً للسلطات الرسمية العراقية)، بل إنه أسوأ منه. لكن حالات الانفعال هذه كانت محدودة، وكان أغلبها يصدر من خارج العراق كما يفيد السيد عبد العزيز الحكيم(232).
    ويفيد الشيخ خير الله البصري أنه والشيخ ماجد البدراوي ناقشا الشهيد الصدر في هذه المسألة، كما أنه يقول: إنه قال للشهيد الصدر إن جدك موسى الكاظم (عليه السلام) خُيِّر بين أن يلحق الأذى بنفسه أو شيعته فاختار أذى نفسه، بينما اخترت أذى شيعتك على أذى نفسك فسكت الشهيد الصدر، كما يفيد الشيخ البصري أنه قال للشهيد الصدر: اسمع ما يقوله الشيخ أحمد البهادلي متسائلاً عما فعله الصدر وإنه نظير تصريحات السيد محمد البغدادي حول ما نسب إلى السيد مهدي الحكيم من اتهامه بالجاسوسية، فأجاب بالآية: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أن تقطع ...""(233).
    وإذا كان قد افترق جمهور الشهيد الصدر إلى فريقين
    أحدهما:
    الفريق المنسجم معه في التصورات والعمل.
    وثانيهما:الغاضب من ذلك، فقد كان لأحد أبرز طلابه موقفاً سرياً - إن صحّ التعبير - إذ فضّل السيد كاظم الحائري أن يُبقي على ارتباطه بالحزب دونما الدخول في جدل مع الشهيد الصدر في موقفه من علاقة الحوزة بالتنظيم.
    ويذكر السيد محمد باقر الحكيم أن الشهيد الصدر صُدم صدمة نفسية وسياسية وأصيب بالمرض عندما اعترف السيد الحائري(*) له ببقاء علاقته التنظيمية بالحزب(234)، كما ذكر أن الشهيد الصدر لم يكن مقتنعاً لما أبداه السيد الحائري من اعتذار حول فهمه لقرار الشهيد الصدر بضرورة انسحاب طلابه من حزب الدعوة، بل أن السيد الحكيم يحمل على السيد الحائري حملة شعواء في هذه المسألة، ويرى أنه استفاد من موقعه واعتماد الشهيد الصدر عليه للامتداد في الحوزة وجهاز المرجعية وتوظيف ذلك خدمة لحزب الدعوة، والذي أوجب غضب أبناء السيد الحكيم (المرجع) كما يذكر السيد محمد باقر الحكيم(235).
    ويذكر الشيخ الزهيري أنه سمع من السيد الحائري نفسه أن الشهيد الصدر قد تأذى منه للموقف المشار إليه(236). كما يذكر الشيخ الزهيري عن الشهيد حسين معن بواسطة السيد علي أكبر الحائري عن الشهيد الصدر نفسه أن سبب غضبه منه هو أنه لم يسمع منه اعتراضاً لقراره ليحترمه ويقدِّره(237).
    وكنت سألت السيد الحائري شخصياً حول موقفه من قرار الشهيد الصدر بفك ارتباط طلبة العلوم الدينية بالحزب، وموقف الشهيد الصدر منه لعدم الانسجام معه، فلم يجب بشيء وامتنع عن التعليق.
    ومهما يكن من أمرٍ، فقد كانت الفتوى في صيغتها العلنية سبباً لانزعاج حزب الدعوة وكوادره، وينقل الشيخ عفيف النابلسي أن بعض أقطاب حزب الدعوة شكوا الأمر إلى السيد موسى الصدر(238)، ولذلك حاول الشهيد الصدر إبلاغ الدعوة بحيثيات قراره وأنه لا يستهدف وجودها، وقد كلّف لهذا الغرض السيد عبد الكريم القزويني أثناء زيارته للكويت مروراً بها إلى مكة المكرمة للحج، وذلك للاتصال بالشيخ محمد مهدي الآصفي(239). ويذكر السيد محمد باقر الحكيم أنه أبلغ الشيخ عارف البصري قرار الشهيد الصدر، وذكر البصري أن الدعوة لا تجد فرقاً بينها وبين الصدر(240). ولكن نذكّر أن الاتصال بالبصري الذي يشير إليه السيد الحكيم كان سابقاً على إعلان الفتوى.
    كان الشهيد الصدر يشعر بالحرج الشديد تجاه معاتبيه، فيجيب أن فتواه صدرت وأُعلنت بداعي حفظ الحوزة، التي أُخليت من الواعين، فهم بين مطارد وبين معتقل. وهذا ما أجاب به الشهيد الصدر على عتاب الشهيد عبد المجيد الثامر الذي يعدُّ من كوادر الحزب، وكانت له صلة بالشهيد الصدر وأخرى تنظيمية مع الشهيد عارف البصري(241). وهو جواب سمعه آخرون أيضاً(242).
    ولكن، يبقى من يعترض على الشهيد الصدر في إعلانه فتوى فك ارتباط الحوزة عن الحزب وبهذه الطريقة التي استفاد منها النظام أكثر مما استفادته الحوزة والحزب، إذ كان من الممكن الاقتصار على فصل المستويات العليا في الحوزة عن الحزب(243).
    والمهم، أن الشهادات بمجموعها تفيد أن الشهيد الصدر كان قد أصدر فتواه بداعي حفظ الحوزة والحزب معاً، خاصة وأن أعداداً كبيرة من طلبة الحوزة العلمية اتجهت نحو العمل الحزبي.
    هذا، فضلاً عن السياق الأمني الذي مرَّ به الحزب والاعتقالات التي تعرَّض لها المتهمون بانتمائهم لحزب الدعوة، وما صاحب ذلك من ظروف وبالأخص الاعترافات التي ظهرت في العام 1971م، والتي تركت تأثيراً كبيراً في نفس الشهيد الصدر، وإن كان بعضها اعترافات صورية، إلاّ أنه كان يفضل الصمود والثبات عليها(244).
    وفي تسلسل الأحداث يمكن أن نلاحظ أن العام 1972 كان بداية لحملة الاعتقالات الواسعة والكبيرة للمتهمين بالانتماء لحزب الدعوة، والتي بدأت في الديوانية، وما رافق ذلك من اعترافات صدرت من بعض المتهمين بحزب الدعوة، وإن كان بعضاً من هذه الاعترافات صورياً وتفادياً للقمع والمزيد من التعذيب، إذ عمد بعضهم إلى الاعتراف لهذه الجهة. وحرصاً منهم على إخفاء قدر كبير من المعلومات عن المحققين.
    وفي العام 1974 تعرَّض الحزب لحملة من الاعتقالات شملت العدد الأكبر من المتهمين بالانتساب إلى حزب الدعوة، ويذكر السيد محمد باقر الحكيم "" أن التفكير العام الذي كان يسود أفراد التنظيم الخاص هو صحة الاعتراف بالانتساب إليه والتكّتم مهما أمكن على أكبر قدر ممكن من المعلومات، وإن هذا هو أفضل طريق لمواجهة حملة القمع والاعتقالات باعتبار وجود تجربة سابقة مشابهة في السنين الماضية""(245)، في قياس منهم على ما تعرضوا له في العام 1972، بل ادّعى السيد الحكيم أن الدعوة أصدرت قراراً يحمل عناصره على الاعتراف، وكانوا يحملون المعتقلين على ذلك وإن لم يكونوا من أعضاء حزب الدعوة، ويشجعونهم على الاعتراف(246).
    إلاّ أن قيادة حزب الدعوة تنفي ذلك، وتعترف بحصول اعترافات بعض المتهمين على الأشخاص الذين أفلتوا من قبضة النظام ونجحوا في السفر إلى خارج العراق أو الأموات مثلاً(247)، مثل الاعتراف على الشيخ صبحي الطفيلي ـ الذي تولّى قيادة حزب الله في لبنان ـ أو الحائري(248).
    وفي أواخر العام 1973 يطرح الشهيد الصدر على مجلسه الاستشاري فكرة الفصل بين الحوزة والحزب.
    وفي أواخر العام 1974 يصدر فتواه بتحريم انتماء طلبة العلوم الدينية إلى الأحزاب.
    وهنا يمكن أن نتساءل: لماذا تأخر الشهيد الصدر في إعلان فتواه هذه؟!
    بالتأكيد ثمة بُعد آخر غير الذي هو معلن إذ كان يكفي لفك الارتباط هو ما تقرر في العام 1973، فلما تأخر إلى العام 1974 ليعلن فتواه بذلك، خاصة وإن السيد محمد باقر الحكيم يقول إنه أعلم الشيخ عارف البصري بقرار فك ارتباط الحوزة عن الحزب، ثم تلاحقت الأحداث، واعتقل الشيخ عارف البصري(249). ولكن يُلاحظ على ما يذكره السيد الحكيم أن هناك فاصلاً زمانياً طويلاً بين قرار الشهيد الصدر بفك ارتباط الحوزة عن الحزب والذي كان في أواخر العام 1973، وبين اعتقال الشيخ البصري الذي حصل في 17/7/1974، والذي أعدم أو تقرر إعدامه بتاريخ 13/11/1974. فيما كانت الفتوى في أوائل شهر آب من العام 1974، أي بعد أقل من شهر على اعتقال الشيخ عارف البصري، وكان قد أبلغ بها وهو في السجن.
    وعليه فلماذا تأخر الشهيد الصدر عن إعلان الفتوى واختار وقتاً غير مناسب تقريباً وفق بعض وجهات النظر؟! وكان يمكن أن يعلنها وقائياً قبل هذا التاريخ، خاصة وإن الاعترافات حصلت في صيغتها الشمولية في العام 1972؟!
    الشيخ النعماني يؤكد أن إعلان الفتوى كان بناءً على تهديد السلطات وضغطها، وإلاّ فإنها ستقوم بتصفية الوجود الإسلامي وخاصة في الحوزة، ولذلك طلبت السلطات إصدار فتوى بهذا الشأن من الشهيد الصدر والشيخ مرتضى آل ياسين والسيد محمد باقر الحكيم(250).
    وإذا كان الشيخ النعماني لم يذكر ـ لي ـ سبب مطالبة السلطات السيد محمد باقر الحكيم بإصدار فتوى بهذا الخصوص والحال أنه لا يُعدُّ في المراجع، فإن ما يؤكده يجيب عن تساؤلات ـ لي ـ طرحتها على مجموعة من طلاب الشهيد الصدر بخصوص فتوى الشيخ آل ياسين في تحريم انتماء طلبة العلوم الدينية لحزب الدعوة خصوصاً والأحزاب عموماً، وهي فتوى كنت مطلعاً عليها شخصياً.
    وربما لهذا المعنى يشير السيد محمد باقر الحكيم، وهو يتحدث عما أسماه قوائم معدَّة للمزيد من الاعتقالات ـ إثر اعتقالات عام 1974ـ كان ضمنها الشهيد الصدر نفسه والسيد محمد باقر الحكيم أيضاً وآخرين(251).
    وقد ذكر لي الشيخ خير الله البصري أنه في مناقشاته مع الشهيد الصدر حول فتواه وإعلانها بهذه الطريقة، أجابه بأنها سرّ وتكتيك والسرّ والتكتيك لا يُكشف عنه(252).
    وربما يستكشف من الجواب ما يؤكده الشيخ النعماني من ضغط السلطات وتهديدها الشهيد الصدر وتخييره بين إعلان فتوى بالتحريم ـ المشار إليها ـ وبين تصفية الحزب والحوزة معاً.
    ويبدو أن ما كان يفكّر فيه الشهيد الصدر هو في الحقيقة محاولة للتهدئة وامتصاص حقد الوسط الحوزوي من جهة والذي كان ينظر بريبة إلى الشهيد الصدر وعلاقته بحزب الدعوة في صيغ عديدة(253)، وامتصاص حقد السلطة عليه وتربصها به، وذلك بتخفيف الصبغة السياسية والحزبية التي أُلصقت به، والدخول في (تقية) إلى أن يحين الظرف المناسب، وهذا ما يفسر عدداً من المبادرات التي تدخل في هذا الإطار دونما قطيعة تامة مع حزب الدعوة، ففي الوقت الذي يبادر فيه إلى فك العلاقة مع حزب الدعوة وإحداث فاصلة مناسبة بينهما، تتصاعد عملية التهدئة مع السلطات عبر زيارات لمسؤولين من أمثال زيد حيدر عضو القيادة القومية في حزب البعث، وهو شقيق أحد طلابه ـ الشيخ أديب حيدر ـ اللبناني، فضلاً عن قبوله إجراء أحاديث صحفية معه حول بعض المكتسبات التي يتحدث عنها حزب البعث مثل التأميم ومحو الأمية(254). وكانت السلطات تعرض على الشهيد الصدر ـ وباستمرار وبطرق شتى ـ خدماتها وإنها مستعدة للإسهام في طبع بعض كتبه مثل (فلسفتنا) و(اقتصادنا)، إلاّ أنه كان يتذرع بأن حاجتهما انتفت مع تضاؤل حظوط الشيوعية والماركسية(255).
    وكان ثمة عدد من طلاب الشهيد الصدر من يستغرب هذه الصيغ للتقارب مع السلطة، بحيث يطلع الشهيد الصدر متحدثاً في بعض صحف النظام ومحاولة إظهاره من قبل السلطات المرجع العربي، في وقت تدافع فيه بعض أجهزة مرجعية الشهيد الصدر عن مثل هذه الخطوات وأنها صحيحة ومتبناة وليست ملفقة من قبل السلطة كما يحاول البعض تصويرها كما هو المعتاد في تفسير مثل هذه الخطوات(256).
    ولعلّ بعض هذه الخطوات وبعض هذا التفكير بما يُعدُّ انقلاباً في استراتيجية العمل عند الشهيد الصدر، كان بتأثير وبوحي من أفكار بعض طلاب الشهيد الصدر، من ذوي الهم العلمي المحض، أو من المتعبين أو من المشفقين عليه والخائفين على حياته، أو من المتأثرين بالظرف العام، الذي لا يجد فيه المراقب ثمة بارقة أمل سوى الشهيد الصدر، بعد الصمت المطبق والخذلان الشديد.
    ولذلك شاء بعض طلابه أن ينصرف الشهيد الصدر ـ وبشكل أساسي ـ للبحث والدرس والعمل الحوزوي المحض، شأنه شأن الفقهاء والمراجع الذين لا يشغلهم عن ذلك شاغل، ولا يصرفهم عنه صارف. وفي هذا الخصوص يذكر الشيخ خير الله البصري أنه كان يلمس هذا التوجه عند أبرز طلاب الشهيد الصدر، إذ يرى السيد محمود الهاشمي ضرورة أن يبرز الشهيد الصدر ويظهر إلى الناس، كما هو المرجع السيد محمود الشاهرودي ـ مثلاً ـ، في وقتٍ لا يرى البصري ـ وهو من المقربين إلى الشهيد الصدر أيضاً ـ ذلك للشهيد الصدر، بل أنه يأمل منه أن يكون مرجعاً فكرياً ينظّر للمسلمين، على مستوى ما صدر عنه من (البنك اللاربوي في الإسلام) و(مجتمعنا) و(اقتصادنا).. لأنه ليس هناك من يقوم بهذا الدور سواه، في وقت تجد فيه أكثر من واحد ممن يقوم بدور المرجع السيد محمود الشاهرودي وأمثاله(257).
    وكان بعض مقربي الشهيد الصدر ومحبيه من يعتقد أن محاولات جهاز السيد الشهيد في دفعه إلى التمحض للبحث العلمي والاتجاه نحو المرجعية أضر بالشهيد الصدر، لأن ذلك مما يستفز السلطة من جهة والمرجعيات من جهة أخرى، كما يعتقده السيد طالب الرفاعي، الذي يذكر أنه قال للسيد محمود الهاشمي: إنه وجهازه ورَّط الشهيد الصدر في المرجعية التي لم تكن مكتملة العناصر، إلاّ أن السيد الهاشمي كان يعتقد أن الاتجاه نحو المرجعية يُحصِّن الشهيد الصدر وينفي عنه تهمة السياسي ويلبسه ثوباً دينياً ومرجعياً بعيداً عن وضعه وتاريخه السياسي(258). وربما من المفيد الإشارة إلى أن السيد طالب الرفاعي كان سيئ الظن بعدد من أركان وجهاز السيد الصدر، ويذكر أنه كان يحذّر الشهيد الصدر من الشيخ علي الكوراني والسيد محمد باقر الحكيم الذي وصفه أنه حكيمي من قرنه إلى قدمه، والسيدين الحائري والهاشمي.
    ويذكر الشيخ عبد الحليم الزهيري أنه كان جالساً في مجلس الشهيد الصدر وقد وفد عليه مسافر من القاهرة، حمل رسالة من السيد طالب الرفاعي، فقرأها الشهيد الصدر، ثم التفت إلى حاملها بشيء من الغضب، لأن الخط ليس خطه، وكانت تحمل التعريض بالسيدين الحائري والهاشمي وإنهما لا ينفعان في مرجعية الشهيد الصدر. وقد أكَّد السيد الرفاعي للشيخ الزهيري حقيقة الرسالة، وإنها كانت تحمل ذلك، ولم تكن بخطه، بل أنه أملاها بالهاتف على الشيخ منير الطريحي، وحملها غالب الطريحي، لأنه لم يكن على سعة من الوقت ليكتبها بنفسه(259).
    رؤية الشهيد الصدر للعمل على مستوى الاستراتيجية والتكتيك تختلف عن ممارسة جهازه، فهو لم يكن يهدف إلى خلق القطيعة مع الحزب، لأنه يعرف أنه ذراعه وانه أقرب الناس إليه، ولم يكن ليدخل في صراعٍ أو خصومة مع أكثر الحزبيين تطرفاً، بل كان يحبهم ويحترمهم(260).
    ولكن هناك جوّاً آخر في فضاء جهازه المرجعي، ربما أمعن في تطبيق بعض قراراته بتعسفٍ شديد، وقد ضاقوا ذرعاً بالواعين والمحسوبين على حزب الدعوة، إلى درجة لم يبق منهم من يتردد على منزل الشهيد الصدر إلاّ القليل، كان من ضمنهم الشيخ عبد الحليم الزهيري الذي يذكر أنه بقي يتردد على منزل الشهيد الصدر بناءً على تشجيع الشهيد الشيخ حسين معن(261).
    في وقت أبلغ فيه السيد عمار أبو رغيف وهو من طلاب الشهيد الصدر المحسوبين على حزب الدعوة بعدم التردد على منزل الشهيد الصدر، وذلك بعد إطلاق سراحه من السجن في العام 1974، ويذكر في هذا المجال أنه طلب من الشيخ محمد البهادلي ـ صهر الشيخ محمد أمين زين الدين المرجع ـ أن يكون كفيله ـ لأن إطلاق سراح الموقوفين كان يتم بكفالات ـ فأشار الشيخ أحمد البهادلي إليه أن السيد عمار أبو رغيف من جماعة الشهيد الصدر وهم يكفلونه. فتحدث الشيخ محمد البهادلي مع بعض جهاز السيد الصدر، فأجيب بأنهم لا علاقة لهم بالسيد عمار(262).
    هذا، في وقت يشعر فيه هؤلاء الواعون أن هناك انفتاحاً على المحسوبين على السلطة، ممن أخذ بالتردد على منزل الشهيد الصدر، مما يوحي بانقلاب الوضع في دار السيد الشهيد(263). وقد انعكس هذا التوجه الذي كان يعيشه جهاز الشهيد الصدر المرجعي وتحسسه من المحسوبين على حزب الدعوة على كتابات السيد محمد باقر الحكيم لاحقاً، فادعى أن من جملة ما اتخذه السيد الشهيد من إجراءات: ""المنع من الحديث عن علاقته بالتنظيم الخاص، سواء على مستوى التاريخ أو التأييد أو الرعاية، وكان يظهر انفعالاً شديداً من سماع ذلك""(264).
    وهو ما يعبّر عن طبيعة الفهم المتباين بين الشهيد الصدر وجهازه المرجعي، لأن ما يذكره السيد الحكيم مما لا واقع له على المستوى التاريخي، ولا تسعفه المعطيات التاريخية إذ لم يكن بالإمكان الحديث عن حزب الدعوة ودور الشهيد الصدر فيه، بأي مستوى من مستويات، فأين منع الشهيد الصدر؟! إذ أن الحديث في العراق عن موضوع من هذا القبيل يكلّف المتحدث فضلاً عن غيره حياته والسيد الحكيم يعرف ذلك جيداً. فأين منع الشهيد الصدر؟ ومما يؤيد ذلك أن الشيخ النعماني وهو بصدد حديثه عن حزب الدعوة ودور الشهيد الصدر فيه يقول: "" إنني لم أسمع من السيد الشهيد شيئاً يتعلق بهذا الموضوع، ولعل السبب أن الفترة التي عشتها معه ـ وهي مرحلةٍ المرجعية الفعلية ـ قد تجاوزت تلك النشاطات، أو أن الضرورة لم تكن تتطلب ذكر تلك النشاطات، خاصة أن السلطة كانت تحاول اجتثاث المرجعية الدينية من خلال توجيه الاتهامات الحزبية إليها، فكان من الطبيعي أن يتجنب (رضوان الله عليه) طرق هذا الموضوع بجذوره التاريخية وتفاصيله الدقيقة""(265). وهو ما يؤكد أن منعاً من الحديث عن حزب الدعوة ودور الشهيد الصدر فيه، لم يكن إلاّ في نفوس بعض أركان جهاز الشهيد المرجعي، ممن ضاق ذرعاً بالحزب والمحسوبين عليه.
    ويمكن القول إن هذا التكتيك الذي لجأ إليه الشهيد الصدر لم يفده شيئاً، فلا هو أقنع السلطات ببراءته وسلامة نياته تجاهها، وهو ما تكشفه الأيام اللاحقة، وما انتهت إليه العلاقة بينهما، من استشهاد السيد محمد باقر الصدر واغتياله على يد السلطة العراقية، ولا هو أقنع رجال المرجعية والحوزة في النجف بتغيّر (محمد باقر الصدر) وأنه ليس ابن الحركة الإسلامية، ولم يعد منتمياً إليها، فقد بقي الحزبي والسياسي، الذي يشار إليه بحذر وباتهام دائمين.
    ويمكن أن أشير إلى مفردة واحدة يذكرها الشيخ النابلسي بخصوص بعض المتذمرين من الشهيد الصدر فيقول: "".. وأذكر بالمناسبة أن السيد محمد رضا الحكيم(*)، كانت علاقته بالسيد الصدر سيئة وكذلك في أخيه السيد محمد باقر الحكيم، والسبب كما قيل بأن السيدين من أقطاب حزب الدعوة وهو لا يحب الأحزاب، لا حزب الدعوة ولا غيره. ورغم أن السيد الصدر أفتى صريحاً بمنشور وزع بالحوزة بحرمة انتساب طالب العلم لأي حزب إسلامي أو غير إسلامي، مع ذلك بقي السيد محمد رضا على حنقه من السيد الصدر"(266).
    [/align]


    يتبع / تصعيد العلاقة.





  5. #20
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي


    تصعيد العلاقة:
    [align=justify]

    يبدو أن الانفصال عن العمل الحركي في حياة الشهيد الصدر لم يكن إلاّ حالة طارئة، إذ لم يكن بمقدوره أن ينسلخ عن تفكيره بالإسلام وهمّه الكبير تجاهه وتفانيه فيه، وهو يؤمن إيماناً عميقاً بالعمل التنظيمي ونجاعته، وكونه مفصلاً حيوياً في العمل السياسي الإسلامي.



    كتب الشيخ النابلسي بما يكشف عن الرؤية الحقيقية للشهيد الصدر في هذا الموضوع: "" ولما أصبحت على صلة أوثق مع السيد الشهيد سألته عن حزب الدعوة وعن صلته بالحزب. فأجاب عن الشق الأول أنه يوجد حزب في العراق اسمه حزب الدعوة، ولا مانع من الناحية الشرعية أن يعمل الإنسان المسلم في إطار حزبي لمصلحة يراها. لأن العمل المنظّم مهم في الحياة السياسية. والدليل عليه أن النبي (ص ) في بداية الدعوة، كان عمله سرياً، وكان أعداد الدعوة لا يتجاوز العشرين شخصاً وكانوا يجتمعون سراً في دار الأرقم في زقاق مكة، وبما أن النبي (ص) بدأ دعوته بالعمل السري فيجوز لكل مجموعة ولكل إصلاحي إذا خاف على نفسه من الملاحقات أن يعمل عملاً سرياً مع رفاقه وأتباعه، وهذا رأيي في العمل الحزبي، ولكن حفاظاً على طلاب العلوم الحوزوية أفتيت بحرمة العمل الحزبي لحفظ الطلبة من الملاحقة، وبالتالي لحفظ الحوزة العلمية من وحشية النظام وجنونه""(267).



    ويشير الشيخ محمد رضا النعماني أن الشهيد الصدر كان يعتقد أن العمل الحزبي في العراق ضرورة، وأن الشباب المثقف لا يمكن أن يُستوعب عن طريق الحوزة، لأن طاقاتها محدودة، ولذلك يمكن استيعابهم عن طريق الحزب(268).



    وقد نقل الشيخ الزهيري أنه حدَّث الشهيد الصدر عن مشكلة ضياع الشباب، وكان ذلك بحدود العام 1978، فكان جواب السيد الشهيد الصدر بإمكان استيعابهم عن طريق حزب الدعوة، وأشار إلى ضرورة أن تحل مشكلة الشروط الصعبة للانفتاح على الجمهور، والتي درج عليها حزب الدعوة.

    وبالرغم من إعلان الانفصال بين الحوزة والحزب، فإن السيد الشهيد أبقى على بعض الإستثناءات، بحيث يمكن لبعض العلماء البقاء في الحزب إن كان بقاؤهم حاجة حزبية(269)، كما يمكن لعدد من الطلاب من المستويات الدنيا الانتماء أيضاً، وبرَّر السيد الشهيد الصدر ذلك بأنهم لا يمثلون المرجعية(270).

    ويمكن القول:إن موقف الشهيد الصدر تجاه الحزب والعمل التنظيمي بقي على حاله، وما تغير هو طبيعة العلاقة بين الحزب والحوزة، وضرورة الانفصال بينهما، على نحو يبقي مسافة ما، تبدو فيه الحوزة كياناً مستقلاً وتبدو فيه الحركة والحزب كياناً مستقلاً أيضاً، وذلك لحفظهما معاً.



    وقد كتب السيد عبد الكريم القزويني ـ وهو من طلاب الشهيد الصدر ومقربيه: "" فالشهيد الصدر حينما يؤيد هذه الحركات كان يحاول أن تسعى لتطبيق الأهداف السامية وترتبط عملياً بالإسلام، لا أن تتقوقع في إطار الحركة وتعيش أفقها الضيق الذي يعيقها عن رسالتها الخالدة، فالشهيد الصدر يؤيد ويبارك الحركات الإسلامية، لا كما يصوره البعض من أنه مخالف لها، ولكن تأييده مشروط بإلتزامية هذه الحركات بالأهداف الإسلامية النبيلة مع أنه لا يحبذ لأهل العلم والعلماء الانخراط في التنظيمات التي تحدد طاقاتهم وتقييدهم، لأن العالم الروحاني ينبغي أن يكون أباً للجميع وفوق الميول والتنظيمات. وعدم المحبوبية هذه عند الشهيد الصدر هي بمثابة النهي الإرشادي لا النهي المولوي(*)"" (271).

    ولذلك يمكن القول: إن الشهيد الصدر لم ينفصل عن حزب الدعوة(272). وإن كان ترك مسافة ما بينهما على المستوى التنظيمي والعضوي، وعلى مستوى التخطيط والتكتيك.

    وعلى هذه الخلفية علّق الشهيد الصدر بعد انتصار الثورة الإسلامية تكتيكه، وما قرَّره من الانفصال بين الحوزة والحزب، وينقل السيد علي أكبر الحائري شقيق السيد كاظم الحائري أن أحد وكلاء الشهيد الصدر ـ وكان مكلفاً بالإشراف على التنظيم في منطقته ـ سأل الشهيد الصدر مباشرة عن طبيعة عمله، وقد أجابه الشهيد بتعليق قراره السابق في الانفصال، وإن قراره كان مؤقتاً، وبإمكانه أن يجمع بين عمله الحزبي وعمله وكيلاً عن الشهيد الصدر(273).



    ويذكر السيد كاظم الحائري أنه وبعد انتصار الثورة الإسلامية جاء السيد محمود الهاشمي إلى إيران وأخبره أن الشهيد الصدر بعث إلى أحد الوجوه البارزة آنئذٍ لحزب الدعوة الإسلامية، وقال له فيما قال: إن كلمتي التي أصدرتها حول انفصال الحوزة عن العمل الحزبي قد انتهى أمدها(274).

    ومهما يكن من الأمر، فإنه من الممكن القول:

    إن الشواهد الحالية تؤكد مدى عمق العلاقة بين الشهيد الصدر والمحسوبين على حزب الدعوة، إذ كان معظم الواعين والعاملين للإسلام منهم(275)، وكان وكلاؤه من المحسوبين على حزب الدعوة والمرتبطين به، بل إنه ـ الشهيد الصدر ـ كان يأخذ توثيقاتهم في إرسال الوكلاء وتنسيـبهم(276)، ولكن شاءت الظروف أن يجرِّب الشهيد الصدر المدارة والمهادنة مع السلطة من جهة، ومع رجال الحوزة من التقليديين والمتربصين به، مع أنه "" كان ملتزماً بالحركة الإسلامية في كل مراحله لأنها كانت إحدى نتائج عمره، بالإضافة إلى أنها الوسيلة العملية الحركية للوصول إلى الأهداف.. ولم ينفصل عن الحركة بالرغم من كل ما يقال لا نفسياً ولا فكرياً، ولكنه انفصل حركياً من خلال الظروف المحيطة والضغوط""(277).

    ولكن هذه (التقية) التي فرضت نفسها على الشهيد الصدر، في الوقت الذي حفظت فيه لنا حياته وحياة مجموعة من صحبه وروّاد الوعي، فإنها أفقدته فاعليته السياسية، وقطعت عنه مصادر التمويل المعلوماتي ـ إن صح التعبير ـ وبالتالي إشرافه المباشر على العمل السياسي وإمساكه بالمفاصل الحيوية، خاصة في ظل نظام قلَّ نظيره. وهي تقية لم ترض السلطة عنه، بل زادتها ريبة وتوجساً مع توجهه المرجعي، ولم ترضِ خصومه التقليديين في الحوزة، بل زاد حنقهم عليه لجهة تصديه إلى المرجعية وانصرافه إلى العمل المرجعي التقليدي.

    غير أنَّ هذه الأجواء لم تمنع الشهيد الصدر من التحرك السريع حال رغبته في إعادة نشاطه السياسي وذلك بعد انتصار الثورة الإسلامية، فإنه ـ كما مرَّ ـ لم يقطع الصلة مع حزب الدعوة، بالرغم من أنّا لا نعلم شيئاً عن طبيعة هذه الصلة والآليات التي تتم فيها تفصيلاً.

    وعلى أية حال، بدأ الشهيد الصدر يفكر ـ قبيل انتصار الثورة الإسلامية في إيران ـ بطريقة مختلفة، وتصاعد عمله مع انتصارها وفي ظل انتصارها، وبدأ يصعّد علاقته مع حزب الدعوة، وتم الاتصال المباشر عبر شخصيتين بهذا الخصوص من قيادات حزب الدعوة، أحدهما الحاج مهدي عبد مهدي الذي اتصل بالسيد الشهيد واتفق معه على التواصل وتكريس العمل الموَّحد(278)، وثانيهما السيد حسن شبر(279) وقد أخبرهما السيد الشهيد بضرورة التنسيق مع ممثله في الخارج وهو السيد محمود الهاشمي الذي أرسله السيد الشهيد لهذا الغرض وقد افلت بجواز سفر أعَّده له الشيخ عفيف النابلسي عندما كان في بيروت(280)، مفضلاً أن يكون ممثل الدعوة في الخارج من غير علماء الدين وهو يشير إلى المهندس محمد هادي السبيتي، إلاّ أنه لم يفرضه عليهم(281) كما يذكر الحاج مهدي عبد مهدي، إلاّ أن السيد حسن شبر أكّد أن السيد الشهيد كان يؤكد على أن أنقل توجيهاته إلى السبيتي لا إلى الكوراني(282).



    ويذكر السيد حسن شبر(283) أن السيد الهاشمي زار الأردن حيث مقر إقامة الشهيد المهندس السبيتي والتقاه لهذا الغرض، كما إلتقاه عدد آخر من العلماء منهم السيد العسكري، والسيد الحائري والشيخ الأصفي والسيد فضل الله. ويذكر بعض الباحثين في جملة قنوات الاتصال بين الشهيد الصدر وحزب الدعوة الشهيد جواد كاظم الزبيدي(284) ، ولا أعرف طبيعة هذه القناة وعلاقتها بالقنوات الأخرى.

    كما كلّف الشهيد الصدر الشيخ عبد الحليم الزهيري ـ تلميذه وأحد مقربيه وهو كادر متقدم في حزب الدعوة ـ بالبقاء على مقربة منه ليتاح له الاتصال به وتبليغ قيادة الحزب بالمستجدات والتشاور، وكان هو الرابط بين الشهيد الصدر والحاج مهدي عبد مهدي (أبو زينب) (285).

    كما كان الشيخ الزهيري وسيطاً بين مسؤوله ـ في حزب الدعوة ـ الشهيد الشيخ حسين معن وتلميذ الشهيد الصدر ـ وبين الشهيد الصدر نفسه، حيث نقل إلى الشهيد الصدر تساؤلات الشيخ حسين معن حول عدة قضايا منها:


    الموقف من إعلان النظام إجراء انتخابات تشريعية ، وتأليف المجلس الوطني، ومسألة الوحدة مع سوريا ، واحتمالات قيام حرب بين العراق وإيران، وقد أجاب عنها الشهيد الصدر بأنه لابد من مراقبة نوايا السلطة بخصوص تأليف المجلس الوطني، وإمكانية استثمار الفرصة للمشاركة في الانتخابات والحصول على تمثيل مناسب في المجلس الوطني لو كان النظام صادقاً، فيما استبعد الشهيد الصدر احتمال انجاز مشروع الوحدة مع سوريا، واستبعد ـ أيضاً ـ نشوب حرب بين البلدين لعدم قدرة إيران على خوضها، وعدم قدرة العراق على افتعالها لخوفه من المد الإسلامي(286).

    ومن باب الاستطراد، يمكن القول: إن توقعات الشهيد الصدر كانت سديدة إلى حدٍ ما، سوى توقعه بخصوص الحرب بين البلدين.

    وقد تُوِّج التنسيق بين الشهيد الصدر وحزب الدعوة بالدعم المالي الذي يمكّن الحزب من إدارة عملية الصراع(287)، وحثَّ طلابه على دعم حزب الدعوة والتنسيق معه في هذا الصدد كما يشير الشيخ حسين البشيري(288). لأنه كان يعتقد أن حزب الدعوة رصيده(289) في المعركة ضد النظام، بل نقل عنه السيد محمود الهاشمي أنه قال: "" أوصيكم بالدعوة خيراً فإنها أمل الأمة""(290).



    ولذلك لم يكن يأمل الشهيد الصدر في طلابه ومقربيه أن يقع بينهم الخلاف على خلفية الانتماء الحزبي، إذ بلغه عدم الوئام بين حزب الدعوة وممثله في الخارج السيد محمود الهاشمي، فابلغ الشيخ الزهيري عبر السيد عبد العزيز الحكيم ـ وكان في العراق ـ أن يبلغ السيد الهاشمي، أنه لا يرضى بالاثنينية بين حزب الدعوة والسيد الهاشمي فضلاً عن الخلاف، وهو ما تم إبلاغه السيد الهاشمي بالفعل. وعندما وقع الخلاف بين السيد محمد باقر الحكيم وبين الدعوة وكان السيد عبد العزيز الحكيم في تيار أخيه تندّر السيد محمود الهاشمي على ما نقله إليه الشيخ الزهيري على لسان السيد عبد العزيز الحكيم من وصية الشهيد الصدر، وطلب منه أن ينقل إلى السيد عبد العزيز الحكيم أنه يقوم بالدور نفسه(291).

    وبالرغم من محاولات تجسير العلاقة بين حزب الدعوة والسيد محمود الهاشمي ـ ممثل الشهيد الصدر في الخارج ـ عبر اللقاءات بينه وبين القيادة إلاّ أن ذلك لم ينتج شيئاً له فائدة على المستوى السياسي، فقد كان السيد الهاشمي محدود الإمكانات، ولم تكن له شخصية ذات بُعد سياسي أو قيادي ليفرض نفسه كحاجة سياسية ودينية.

    هذا على صعيد الخارج، أما على مستوى العلاقة بين حزب الدعوة والشهيد الصدر، داخلياً فقد تصاعدت إلى أعلى مستوى ممكن، وقد تم التنسيق بينهما على مستوى تحريض الجمهور، ابتداءً بما يعرف با(وفود البيعة) وانتهاءً بالتظاهرات في شهر رجب عقيب اعتقال الشهيد الصدر ثم إطلاق سراحه بسبب هذه التظاهرات.

    وكان قد اتخذت (لجنة العراق) في حزب الدعوة تعليمات خاصة لمواكبة تحرك الشهيد الصدر ـ من بينها ـ جميع وشراء الأسلحة، التحريض على التظاهر والإضراب، وتوزيع المنشورات(292).
    [/align]

    يتبع / دراسات في فكر السيد الشهيد-البحث الفقهي





  6. #21
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    [line]-[/line]دراسات في فكر السيد الشهيد/ البحث الفقهي[line]-[/line]
    تمهيد:
    في وقت مبكر من حياته حمل الشهيد الصدر مشروعاً نهضوياً متكاملاً لانبعاث الأمة الحضاري ووضعها في مسارها الصحيح، واستعادة دورها الريادي وفقاً لمتطلبات (المقولات) الإسلامية الأساسية في الفكر الإسلامي، من خلافة وإشهاد وإعمار للأرض.


    وكما هي كلمات الإسلام متكاملة قوية وشاملة ـ جاء مشروعه الثقافي النهضوي متكاملاً قوياً وشاملاً، يحكي الترابط العضوي لمقولات الإسلام وقوانينه ومفاهيمه، ويجسد القيمومة العامة لهذه المقولات على مناحي الحياة، حياة الفرد والمجتمع.

    ومشروع من هذا القبيل لا يستوفي حقه عدد من السطور والكلمات وإن انتظمت بدقة متناهية واختزلت مراحل الاستدلال والبرهان والشرح والبيان.

    ووفقاً لهذه الملاحظة ـ المشار إليها آنفاً ـ تكرس هذه السطور نفسها للحديث عن جانب مهم من هذا المشروع الثقافي، وهو الجانب الفقهي والقانوني تحديداً.

    لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه السطور وإن كانت تعنى بالدرجة الأساسية بالمشروع الفقهي للسيد الشهيد، إلا أنها لا تغفل المحيط الفقهي العام عبر مقطع زمني طويل تطور فيه الفقه الإسلامي ـ وفقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام ـ تطوراً كبيراً وقفز فيه الفقه قفزات هائلة، واجتاز مراحل فنية وفكرية عديدة، انتقل فيها من (رحم) الحديث ولغته الخاصة المفعمة بالأسانيد والعنعنة إلى شيء من الانطلاق والتحرر من اسر هذه القيود، ليعلن عن نفسه وذاته وإن أبقي على متون الروايات والأحاديث في لغة الفقه وطريقة التعبير عن مسائله.

    ومع تطور وتنامي الخبرات وتضافر الجهود أخذ الفقه يكتسب شخصية مستقلة وإطاراً خاصاً، ليتوفر على شيء من الاستدلال والبرهان بعد أن كان الفقيه يختزل هذه المراحل التي هي ـ في الغالب ـ متن الحديث نفسه.

    وعلى خلفية اتساع الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية وتنامي حاجات المجتمع والأفراد، أخذ الفقيه يفكر في كيفية استنطاق المصادر الأساسية وفقاً لما هو مأذون به شرعاً، فنشأت مدارس عديدة في دراسة الحجج وطرق التفكير الفقهي ووسائله وآلياته وآلياته المشروعة. ومع هذا التطور الكبير أنتجت الذهنية الفقهية عدداً من (الكتب) والدراسات شكلت في يوم من الأيام معلماً واضحاً في مسيرة الفقه، بما تضمنته من إبداع وابتكار. لكن مع خلو الميدان العلمي من عقليات كبيرة في وقت من الأوقات كانت تظهر عمليات المحاكاة والتقليد، والتي مهدت لانتشار ما عرف بــا (الشروح والحواشي والتعليقات على المتون) ثم تجاوز هذه المرحلة كلما بزغ نجم هنا وطلع آخر هناك.

    هموم الفقيه

    للفقيه - إسلامياً - وضعاً حقوقياً وسياسياً لا نظير له في أي مذهب أو إطار فكري غير الإسلام، خاصة على المستوى الإسلامي الشيعي الإمامي، حيث أصبح هذا الوضع من مسلمات فقه الشيعة الإمامية، لتضفي عليه طابع القيمومة تارة والولاية والشهادة تارة أخرى، وإن اختلفت الصيغ القانونية الشرعية، في تصويرها ومداها وسعة دائرتها.

    ولم يكن تكريس هذا المضمون الحقوقي والاجتماعي في شخص الفقيه محض رغبة أو امتيازاً تاريخياً أهَّل الفقيه لهذا المستوى المتقدم، وإنما هو عبارة عن موقف فكري حُمِّل على أساسه الفقيه مسؤولية التفكير في الشأن الإسلامي والعمل في سبيله والتضحية لأجله، وافترض أن تكون همومه كبيرة كما هي هموم الإسلام، وعطاءاته متواصله كما هي عطاءات الإسلام حية ومتجددة وزاخرة.

    وكلما اقترب الفقيه من مواقع الإسلام وتجسدت فيه رؤى الإسلام والتحمت مع روحه وعقله وأفكاره ومبادئه كان الأقدر على تحقيق وإنجاز مهامه المفترضة، والأجدر على اكتساب حقوق المركز القانوني للفقيه.

    هذه الحقيقة أدركها الشهيد الصدر مبكراً، ووعاها وعياً كاملاً قدر وعيه للإسلام وأهدافه وغاياته. كتب – الشهيد الصدر -: ""وقدر عظمة المسؤولية التي أناطتها الشريعة بالعلماء شددت عليهم وتوقعت فيهم سلوكاً عامراً بالتقوى والإيمان والنزاهة، نقياً من كل ألوان الاستغلال للعلم، لكي يكونوا ورثة الأنبياء حقاً""( ).

    وبغض النظر عن مصداقية الشهيد الصدر ـ كفقيه ـ من حيث توفره على ما افترضته الشريعة من خصائص في الفقيه فثمة مهمة أساسية تتصدر مهام الفقيه، ونعني بها المهمة العلمية التي يفترض أن يتكفل بإنجازها الفقيه في ضوء الضوابط الشرعية ومعاييرها.

    وقد حدد الشهيد الصدر ـ فقهياً ـ هدف (الإنتاج الفقهي) وعملية الاجتهاد إذ يقول: ""وأظن أننا متفقون على خط عريض للهدف الذي تتوخاه حركة الاجتهاد وتتأثر به، وهو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة، لأن التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها( )""، ولذلك لاحظ السيد الشهيد على الفقهاء استغراقهم في التفكير الفردي وتقزيم الشريعة وتجزئة الاجتهاد وتضييقه.



    وانطلاقاً من هذه الملاحظة شرع الشهيد في ملء الفراغ الذي تشكو منه المكتبة الفقهية، فكان كتابه (اقتصادنا) انعطافاً كبيراً في حركة الاجتهاد والإنتاج الفقهي، وكان كتابه (البنك اللاربوي في الإسلام) تحضيراً لاستنزال الفقه إلى الشارع وإلى حياة المجتمع البشري المسلم، في ظل المعطيات وتعقيدات الأوضاع الاقتصادية التي تخلَّف الفقه عن مواكبتها لفترة من الزمن ليست القصيرة، فيما كانت (الفتاوى الواضحة) تجسيداً لهموم الفقيه المجاهد الدؤوب على الحركة، لخلق أكثر الشروط ملاءمة لانطلاقة حضارية جديدة، يتاح للإسلام فيها القيمومة على حياة الإنسان.

    وفي زحمة همومه واهتماماته كفقيه تنبه إلى حجم التحديات والاشكالات التي تعيق حركة الفقه كعلم وتشريع حاكم يمارس قيمومته أو يفترض أن يمارسها، وقد حدد وفقاً لحجم هذه التحديات معالم مشروعه الثقافي في إطاره الفقهي لترشيد الذهنية الفقهية وتعميقها من جهة، وتعميم المعطيات الفقهية التي أنتجتها حركة الفقه ودورته العلمية والاجتماعية على أكبر قطاع اجتماعي، وتنمية فاعليته في الحياة.

    تعميق الثقافة الفقهية:

    كان من أبرز معالم مشروعه ـ الشهيد الصدر ـ الثقافي خطواته الجريئة ودوره الكبير في تعميق التفكير الثقافي وتأصيله. ومعاناته في هذا المجال واضحة على مستوى طرق الاستدلال وقراءة النصوص بدقة متناهية وعقلية مرهفة وملاحظات متعاقبة، فضلاً عن البعد الاستثنائي الذي تميزت به دراساته في حقل الفقه، من عمق وجِدّة إلى درجة لا يترك معها لخلفائه ـ من فقهاء وباحثين ـ ما يمكنهم إضافته أو تجديده. وتلك خصوصية استثنائية تؤطر دراسات الشهيد الصدر على تنوعها، وتصنفها ضمن الإبداعات التاريخية لا الرائدة وحسب.

    وقد لا تسمح هذه السطور بمواكبة إبداعه الفقهي تفصيلياً ودوره الريادي فيه، لجهة الطابع الاختصاصي لهذا الحقل العلمي وما يفرضه من قراءة دقيقة ومتأنية للنصوص الفقهية وملاحقتها في ثنايا البحوث والدراسات العالية في هذا المجال. وربما نوفق فيما يأتي من بحوث في الإشارة إلى بعض معالم مدرسته الفقهية وملامحها الرئيسة، على مستوى المنهج وعلى مستوى الخصائص.

    ومهما يكن من أمر، فلا يخفى على القراء على اختلاف وتباين ثقافاتهم واختصاصاتهم الدور الريادي للشهيد الصدر في كتابة البحث الفقهي المعمق والمعاصر في آن واحد، الذي تمظهر في كتابية (اقتصادنا) و(البنك اللاربوي في الإسلام)، إلى درجة لم يظهر معها إلى الآن كتاب في المكتبة الإسلامية يوحي بشيء من المضاهاة لهذين الكتابين، في الوقت الذي لم يفكر فيه الشهيد الصدر أن يكونا كذلك، بل افترض فيهما ـ معاً ـ أنهما بداية الطريق ـ وأنهما مجرد اقتراحات فكرية ولَبِنات تأسيسية قابلة للتطوير والتأصيل.

    وعوداً على بدء يمكن القول إن (اقتصادنا) و (البنك اللاربوي في الإسلام) هما الكتابان الفريدان من نوعهما في المكتبة الفقهية، اللذان توفرا على عنصري المعاصرة والوفاء بمتطلبات العصر والدقة العلمية فقهياً. ولا أجد أدنى مبالغة في تأكيد هذه الملاحظة، فما نتوفر عليه ـ اليوم ـ في المكتبة الإسلامية، أما أن يكون معاصراً خلواً من الاختصاص العلمي/ الفقهي، وإما أن يكون وفياً للمنهج الفقهي التقليدي على نحو تغيب فيه روح المعاصرة ومعالجة الإشكاليات الحديثة غياباً تاماً.

    أما على المستوى الفقهي ـ تقليدياً ـ فقد قدر للشهيد الصدر أن يلقي أبحاثه الفقهية العالية في ظرف زمني يقرب من العشرين عاماً تخرج من مجلسه عدد من الفقهاء ومن يقرب من درجة الفقاهة، وأنتجت هذه الممارسة الفقهية كتابه الفقهي المعروف بـا(بحوث في شرح العروة الوثقى) في أربعة أجزاء دون أن تكتمل، لتضيع أبحاثه الأخرى على خلفية همجية النظام الحاكم، وتشاغل طلابه عن مواصلة المسيرة والوفاء لمدرسة أستاذهم.

    ولو قدر - على الأقل - لكتابه - هذا - الاكتمال لأعطى للمكتبة الفقهية بُعداً لم تألفه الكتب الفقهية السابقة على قيمتها العلمية والتاريخية باعتبارها بحوثاً تعبر عن ممارسة علمية فقهية كتبت بقلم الفقيه ـ الأستاذ ـ نفسه دونما اختزال أو حرق لمراحل الاستدلال الفقهي كما هي عادة الفقهاء.

    تعميم الثقافة الفقهية:

    ولئن كان تعميق الثقافية الفقهية هو الأبرز في مشروع الشهيد الصدر الثقافي فقهياً، فإنه لم يمنعه من التفكير بتعميم الثقافية الفقهية في الوسط الاجتماعي، باعتبارها القانون (القيّم) على حياة الإنسان المسلم ـ والذي يحدد وفقاً لها موقفه تجاه الأشياء والأحداث.

    وكما هو العلم بالقانون لا يختص بمواطن دون آخر، فالفقه كـا(القانون) لا يختص بمسلم دون آخر ـ لأنه مشاع والناس فيه سواء. أما موضوع التخصص به فهو ينحصر بالاستدلال الفقهي وطرقه وحجيته ومستوياته ونتائجه ومعطياته، فضلاً عن الصناعة والتكييف الفنيين لأحكامه.


    ووفقاً لهذه الملاحظة سعى السيد الشهيد إلى تفعيل الفقه في حياة المسلم، وانفتاح الأخير على هذه الثقافة انفتاحاً مباشراً، بعيداً عن الاتكالية المطلقة. وباعتبار أن ما يعرف بــا (الرسالة العملية) هي النافذة الرئيسة لإطلالة المسلم على الفقه، فقد توجهت جهود السيد الصدر إلى إعادة النظر في هذا الفن الفقهي ودرجة تفاعل المسلم المقلد ـ بكسر اللام ـ معه وانفتاحه عليه. وقد لاحظ أنَّ هذا النوع من الكتابة الفقهية لا زال تقليدياً إلى حد كبير من جهة، ووفياً إلى اللغة القديمة والتقسيم الموروث من جهة أخرى، كما لاحظ على هذا الفن الفقهي أنه لا يبدأ في كل مجال بالأحكام العامة ثم التفاصيل، ولا يربط كل مجموعة من التساؤلات بالمحور المتين لها، ولم تعط فيه المسائل التفريعية والتطبيقية وصفها الصحيح بما هي أمثلة صريحة لقضايا أعم منها لكي يستطيع المقلد ـ بكسر اللام ـ أن يعرف الأشباه والنظائر، وبذلك فات المقلد أن يكوِّن لنفسه الثقافة الفقهية المطلوبة على الأقل.
    وقد تخطى الشهيد الصدر هذه الملاحظات في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة) حيث تكفل ذلك بتعديل كبير في اللغة الفقهية، وتغيير جذري للتقسيم الشكلي لمسائل الفقه وموضوعاته. ولم يأنف السيد الشهيد عن التخلي عن اللغة العلمية الاختصاصية ورموزها وطلاسمها لصالح المسلم المقلد، وحاول قدر الإمكان تزويده بثقافة فقهية للأساس الشرعي لما اشتملت عليه الفتاوى من أحكام شرعية، والذي عنون له ـ (مصادر الفتوى)، كما تدرج في عرضه للمسائل لغة واصطلاحاً وقاعدة، لينتهي في التطبيقات المنتزعة من حياة المقلد نفسه.

    وسيأتي الحديث مفصلاً في إنجاز السيد الشهيد على مستوى تطوير (الرسالة العملية) على مستوى الشكل والمضمون واللغة.

    [line]-[/line]يتبع /تحديث الخطاب الفقهي





  7. #22
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    [align=justify]تحديث الخطاب الفقهي: [line]-[/line]وعلى صعيد الخطاب الفقهي لاحظ الشهيد الصدر غياب المنهج الواقعي الذي يجسد حقيقة الترابط بين التشريعات الإسلامية وقيمومتها على حياة المسلم كفرد ومجتمع ودولة، ورفض ضمناً التقسيمات الشكلية الموروثة لمسائل الفقه، على خلفية ما توحي به من تجزيئية وتغييب لعدد كبير من التشريعات في أحايين كثيرة، فعمد إلى تقسيم جديد يقوم على أساس حضور الحقيقة المشار إليها ـ آنفاً ـ في حياة المسلم.

    وانطلاقاً من النظرة الواعية لرسالة الإسلام وهدفها في صياغة الإنسانية وضع تقسيمه الشكلي (الرباعي) للفقه كبديل عن التقسيم الموروث، والذي يبدو فيه الفقه أكثر حيوية وأكثر انسجاماً مع الهدف والغاية، فشمل تقسيمه: العبادات والأموال بقسميها الخاص والعام، والسلوك الخاص والعام.
    ومن أسف أن تتعثر جهوده في إكمال المشروع إذ صدر منه الجزء الأول فقط، والذي ضم القسم الأول منه. وإنما عمد السيد الشهيد إلى هذا التقسيم الجديد دون غيره من التقسيمات الموروثة والمتعارفة في الكتب الفقهية والرسائل العملية فذلك نظراً إلى ما تقدمه هذه الرسائل من انطباع للشريعة وفقاً لهذه التقسيمات إذ أن

    ""أكثر الرسائل العملية تقدم عادة الصورة المحدودة لأنها تتعامل مع فرد متدين يريد أن يطبق سلوكه على الشريعة رغم تواجده في مجتمع غير ملتزم بالإسلام منهجاً في الحياة""( )
    دونما إشارة إلى البعد المجتمعي للأحكام الشرعية والأبعاد الأخرى المرتبطة بفقه الدولة وحركتها.

    أما على مستوى (النص الفقهي) نفسه فإنه يفتقر إلى تغير كبير يأخذ بنظر الاعتبار تطور أساليب التعبير اللغوي من جهة، وتعقد الحياة وأساليبها ونشوء أوضاع جديدة من جهة أخرى، لذلك افترض الشهيد الصدر في الرسالة العملية أن تكون قادرة على (مواكبة التطور الشامل في مناهج ووقائع الحياة) وهو ما أخذه بنظر الاعتبار في رسالته (الفتاوى الواضحة)، وإن كان قد تردد في أخذه في بحوثه ودراساته العليا، واعتذر عن مثل هذا التحديث على أمل توفر الشروط الموضوعية لإنجازه( ).

    تأصيل التفكير الفقهي:

    وقد نبَّه السيد الصدر في وقت مبكر إلى ضرورة إعادة النظر في مناهج الفقه، في مقام استنباط الحكم الشرعي والكشف عنه من أدلته المعتبرة شرعاً. وهي مناهج تتحدد ـ أساساً ـ طبقاً لهدف الاجتهاد نفسه، الذي يمكن تلخيصه برفد حركة المسلمين أفراداً ومجتمعات ودولة.

    وكمدخل لهذا التفكير لاحظ السيد الشهيد على الفقيه بشكل عام انصرافه إلى تغطية حاجات الفرد المسلم فقهياً، والاستغراق في تلبية هذه الحاجات على حساب الجانب المجتمعي وفقه الدولة، وهو انصراف أملته الظروف التاريخية، حيث أدت إلى انكماش هدف الاجتهاد في وعي الفقيه ليختزله في المجال التطبيقي الفردي، فضلاً عن تسرب الفردية إلى النظرة الفقهية نحو الشريعة نفسها، لتسود عدة قواعد فقهية مطلقة من قبيل (الاحتياط) و(لا ضرر ولا ضرار)، دونما تمييز بين المجال الفردي والمجتمعي.

    كما أدى ذلك إلى غياب الضابط الموضوعي للتمييز بين الأحكام الشرعية وبين الأحكام الولايتية.

    وربما تساعد هذه الرؤية على حل بعض الإشكاليات القائمة لفهم بعض النصوص وفي المجالات الحيوية تحديداً. وعلى سبيل المثال نشير إلى مسالة حصر الزكاة في (الغلاّت الأربع)، وهي مسألة خطيرة جداً، إذ تستثني الغلات الأخرى على أهميتها ودورها الاقتصادي والمالي في رفد الميزانية العامة.

    ومن المعلوم أن الموقف الفقهي السائد يميل إلى حصر الزكاة في هذه (الغلات الربع) دونما تعدٍّ إلى غيرها إلا بالعناوين الثانوية ـ إن أمكن ذلك ـ كما لو فرض الحاكم الشرعي الزكاة على ما سوى الغلات الأربع، وهو موقف تبناه السيد الشهيد نفسه( ).

    وفي إطار الملاحظة السابقة حذَّر الشهيد الصدر من محاولات تقزيم الشريعة تبعاً للاتجاه النفسي للفقيه، عندما يتجه نفسياً نحو الأحكام التي تتصل بالسلوك الخاص للأفراد على حساب الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة، وهو منهج لم يقتصر تأثيره على إخفاء بعض (المعالم التشريعية) بل أدى ـ أحياناً ـ إلى التضليل في فهم النص التشريعي.

    ومن جهة أخرى، لاحظ السيد الشهيد على المنهج الفقهي السائد أنه يميل إلى التجزئة في مقام فهم النصوص الشرعية، على خلفية الابتعاد عن الواقع وعلاقة هذه النصوص به، من حيث أنها تطبيقات له وفيه.

    وقد كتب السيد الشهيد في تقرير هذه الملاحظة ما نصه:

    "".. ومن ناحية أخرى لم تعالج النصوص بروح التطبيق على الواقع واتخاذ قاعدة منه، ولهذا سوَّغ الكثير لأنفسهم أن يجزئوا الموضوع الواحد ويلتزموا بأحكام مختلفة له. وأستعين على توضيح الفكرة بمثال من كتاب الإجارة، فهناك مسالة هي: أن المستأجر هل يجوز له ـ بدوره ـ أن يؤجر العين بأجرة أكبر من الأجرة التي دفعها هو حين الإيجار. وقد جاءت في هذه المسالة نصوص تنهى عن ذلك، والنصوص ـ كعادتها ـ في أغلب الأحيان جاءت لتعالج مواضيع خاصة، فبعضها نهى عن ذلك في الدار المستأجرة، وبعضها نهى عن ذلك في الرحى والسفينة المستأجرة، وبعضها نهى عن ذلك في العمل المأجور، ونحن حين ننظر إلى هذه النصوص بروح التطبيق على الواقع وتنظيم علاقة اجتماعية عامة على أساسها سوف نتوقف كثيراً قبل أن نلتزم بالتجزئة، وبأن النهي مختص بتلك الموارد التي صرَّحت بها النصوص دون غيرها، وأما حين ننظر إلى النصوص على مستوى النظرة الفردية لا على مستوى التقنين الاجتماعي فإننا نستسيغ هذه التجزئة بسهولة( )"".

    وقد جاءت تعليقة السيد الشهيد على هذه المسألة من كتاب الإجارة في (منهاج الصالحين) ( ) منسجمة إلى حد كبير مع هذه الملاحظة، فعمم الحكم على سائر الأعيان، ولم يقتصر على الأعيان المشار إليها في النصوص.

    وقد نبه السيد الشهيد إلى الدور الكبير الذي يمكن أن تسهم به هذه النظرة في تذليل بعض المشاكل الفقهية وفي مقدمتها ما يمكن أن نسميه بــا(تشظي) الأحكام الشرعية وذلك لأن

    "" كثيراً من الأحكام بُينت عن طريق الجواب على أسئلة الرواة ولم تبين بصورة ابتدائية وبلغة تقنينية، والرواة إنما يسألون في الغالب عن الحالات الخاصة التي يحتاجون إلى معرفة حكمها فيجيء الجواب وفقاً لحدود السؤال مبيناً للحكم في الحالة المسؤول عنها، فإذا اقتصرنا في استنباط الحكم من النص على الفهم اللغوي فحسب، كان معنى ذلك أن نجعل تلك الأحكام في أكثر الأحيان وقفاً على الحالات الخاصة التي مُني بها السائل في حياته العملية وأبرزها في سؤاله ـ مع أننا قد نكون واثقين بأن بيان الأحكام على تلك الحالات الخاصة لم يكن في جميع الموارد نتيجة لاختصاصها بها، وإنما ينشأ عن اختصاص السؤال بتلك الحالات، وأما إذا فهمنا النص فهماً اجتماعياً فسوف نكون أقرب إلى واقع الحدود المحتملة لتلك الأحكام""( ).

    وربما تكون هذه الفكرة التي أشار إليها السيد الشهيد هي أول مساهمة علمية من فقيه كبير لتذليل بعض الصعوبات الكبيرة التي تعترض عملية الاستنباط والبحث الفقهي، وقد جاءت ـ تاريخياً ـ كتعليق على ما كتبه الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (فقه الإمام الصادق) والذي دعى إلى فهم اجتماعي للنص الفقهي، مستثنياً فقه العبادات.

    ويمكن أن تخفف هذه الفكرة من غلواء الطابع التعبدي وتعميمه ـ فقهياً ـ لجميع الأحكام الشرعية العبادات منها والمعاملات على السواء.

    وفي هذا الإطار يمكن أن نشير إلى الجمود الحرفي على النصوص الشرعية خارج حقل العبادات، وكمثال على ذلك نذكر مسألة (بيع العبد الآبق) الذي ورد فيه نص خاص أجيز بمقتضاه بيعه مع الضميمة استثناء من قاعدة شرطية القدرة على التسليم، وقد جرت مباحثات فقهية بين الفقهاء حول مدى مشروعية التعدي إلى غيره في البيع. بل في الإجارة أيضاً. والرأي المعروف ـ فقهياً ـ هو عدم جواز التعدي( ).

    لكن يلاحظ على الشهيد الصدر قوله بالتعدي من المورد الخاص إلى غيره، وقد علَّق على (منهاج الصالحين) وبالتحديد على مسألة عدم جواز بيع غير المقدور على تسليمه ولو بالضميمة بقوله:

    "" المنع عن بيعه مع الضميمة مشكل، بل لا يبعد الجواز بمعنى أن كل ما كان يجوز جعل الثمن بإزائه ابتداءً، يجوز جعله بأزاء المجموع منه ومن غير المقدور على تسليمه""( ).

    وربما يكون السيد الشهيد أول من نبه إلى دور المفاهيم الإسلامية في الإشعاع على بعض الأحكام الشرعية وتيسير مهمة فهم النصوص الشرعية، وهذا ما أشار إليه السيد الشهيد في كتابه (اقتصادنا) بشكل واضح( ).

    لكن تحسن الإشارة إلى أن دور المفاهيم الإسلامية في هذا الإشعاع إنما يمكن خارج إطار فقه العبادات وخارج إطار النظرة الفردية للأحكام الشرعية( ).
    [/align]





صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني