صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 22
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    أقرأ الآن كتاب -|محمد باقر الصدر..حياة حافلة..فكر خلاق..|- محمد طاهرالياسري الحسيني-|

    [align=center][/align]





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    [align=justify]
    [align=center][mark=000033]محمد باقر الصدر[/mark]
    ..حياة حافلة..فكر خلاق..[/align][align=center][overline]السيد طاهر الياسري الحسيني[/overline][/align]



    فهارس الكتاب

    المقدمة

    الإمام الصدر … سطور ساخنة

    حياته السياسية

    دراسات في فكر السيد الشهيد/ البحث الفقهي

    الفقه السياسي والدستوري

    البحث الأصولي

    البحث الاقتصادي

    اقتصادنا من وجهة نظر مختلفة

    البحث الفلسفي

    الشهيد الصدر مفسراً

    الشهيد الصدر مؤرخاً

    المصادر و المراجع

    الملاحق

    [/align]





  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    [align=justify]

    المقدمة

    [align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]

    سبق لي أن ألّفت كتابي (الإمام الشهيد محمد باقر الصدر ـ دراسة في سيرته ومنهجه) وكنت في الرابعة والعشرين من العمر، كان زادي في اقتحام هذا العالم جرأتي(*) التي تنتمي إلى مغامرات الشباب، مع حبٍ شديد وإعجاب كبيرين بشخصية السيد محمد باقر الصدر.

    بذلت جهدي في وقتٍ عصيب وفائق الحساسية، فكان كتابي ـ يومذاك ـ أحد أبرز الكتب دونما مبالغة. ولكن في الوقت نفسه لم يكن منتهى طموحي ورغبتي في الكتابة عن السيد الصدر، فبعد عدة سنوات من صدور الكتاب إلى الأسواق، وبالتحديد في العام 1994م شرعت بجمع مادةٍ جديدة عن الشهيد الصدر، ودأبت على الاتصال بالمعنيين بحياته لجمع شهاداتهم، سواء عن طريق المقابلات والأحاديث أو عن طريق المراسلات.. مع ما في ذلك من صعوبات بالغة، مادية واجتماعية ونفسية وسياسية في تلك الفترة التي كان فيها النظام العراقي قائماً. وبذلك يعرف القارئ العراقي ـ وربما غيره ـ مدى مغامرتي في طبع كتابي الأول، ولي في العراق أهل وعائلة وأشقاء..

    -1-

    ومهما يكن من أمرٍ، فإن ما دفعني في الكتاب الأول، وفي المتابعة لإنجاز الكتاب الثاني ـ هذا ـ هو عدم بلوغ البحث عن الشهيد الصدر غايته، وعلى المستويات كلها، إذ نقرأ لباحثين مرموقين عن الشهيد الصدر ما يوحي بفهم متواضعٍ على أقل تقدير، حيث يفوت على باحثٍ من أمثال (فهمي جدعان) تصنيفه جغرافياً وقومياً، فيصنفه في الكتّاب الإيرانيين كما ورد في كتابه (نظرية التراث)، بينما يرتكب باحث كبير (وهو الدكتور عبد الله النفيسي) خطأً فادحاً وهو يتحدث عن حزب الدعوة الإسلامية، فيستنِد في قراءته الخاصة بأفكاره من خلال الشهيد الصدر الذي اعتبره المرشد الروحي للحزب، في وقتٍ يؤكد جازماً أن حزب الدعوة قد تم تأسيسه قبل الثورة الإيرانية بسنتين (1977)، كما ورد في كتابه (الفكر الحركي للتيارات الإسلامية ـ ص67).

    هذه الانطباعات التي سجّلها باحثون معروفون مشهورون وهي تفتقر إلى الدقة تجد عُذرها معها، إذ قلّما يتاح لهم التوفر على ما يُعينهم في التعرف على الشهيد الصدر، وإن أتاحت الظروف لهم ذلك، فربما تعرفوا عليه من خلال قراءات غالباً ما تبتعد عن الجدية والدقة والموضوعية، فقد يقرأ الباحث منشورات وإصدارات إيرانية ـ وهي قريبة من مصادر التعرف على الشهيد الصدر ـ ما يورِّط الباحثين، فقد تقرأ ـ مثلاً ـ في إصدار إيراني: ""وعندما اشتد نظام البعث الصهيوني في سياسته ضد الشعب العراقي، واستعمل المجرم صدام أساليب القتل والإرهاب بحق المؤمنين من أبناء الشعب العراقي المسلم قامت الحركة الثورية الإسلامية بقيادة آية الله محمد باقر الصدر الذي استلهم حركته من الثورة الإسلامية الإيرانية، والقيادة الحكيمة للإمام الخميني.."" (عباس عميد زنجاني ـ الثورة الإسلامية في إيران قمة الحركات الإسلامية ـ ص 41 الناشر: وزارة الإرشاد الإسلامي الإيرانية / 1405 ـ طهران).

    ولكن مع ذلك صدرت عدة كتب وبحوث عن الشهيد الصدر وفي وقتٍ مبكر. منها:

    [mark=CCCCCC]ـ الشهيد الصدر مفجر الثورة الإسلامية في العراق.. غالب حسن الشابندر.

    ـ الشهيد الصدر.. فضائله وشمائله.. السيد فاضل النوري.

    ـ الجهاد السياسي للسيد الشهيد الصدر.. السيد صدر الدين القبانجي.

    ـ الشهيد الصدر.. الفيلسوف الفقيه.. عبد الحسين البقال.
    [/mark]

    ثم تلا ذلك:

    ـ حياة الشهيد الصدر بقلم السيد كاظم الحائري، وهي عبارة عن مجموعة ذكريات قضاها السيد الحائري مع أستاذه الشهيد الصدر.

    مع إضاءة لعددٍ من الإنجازات الفكرية والسياسية للشهيد الصدر. ولكنه مع ذلك أغفل العديد من المعطيات التاريخية المهمة في حياة الشهيد الصدر. ولكن بحثه يبقى ذا قيمة لكونه أحد المصادر القريبة من الشهيد الصدر.

    ـ الإمام الشهيد محمد باقر الصدر ـ دراسة في سيرته ومنهجه.. محمد الحسيني (كاتب السطور)، وهو من أوسع الكتب وأكثرها شمولية.

    ـ الشهيد الصدر.. سنوات المحنة وأيام الحصار.. الشيخ محمد رضا النعماني وهو عبارة عن سرد ذكريات المؤلف مع الشهيد الصدر خاصة أيام احتجاز الشهيد الصدر، إذ قُدِّر للشيخ النعماني أن يبقى معه في الحجز، إذ لم تتوقع السلطات يومذاك أنه في المنزل، ولأنها لم تفتشه.

    وقد تضمن الكتاب معلوماتٍ ومعطيات تاريخية قيمة ومهمة ومثيرة للجدل، وقد أغضبت جماعة الشهيد محمد باقر الحكيم، وصدر عن مكتبه تعريض به، وأتهم الشيخ النعماني بالكذب والافتراء(*). وسنشير إلى التعديلات التي أجريت على كتابه بعد طبعه من قبل اللجنة المشرفة على مؤتمر الشهيد الصدر بطهران.

    ولو اقتصر الشيخ النعماني على ذكرياته كان أفضل، لأنه ـ فيما يبدو لي ـ أغفل الإصدارات التي سبقت كتابه، في وقتٍ يجد فيه المتابع تشابهاً في بعض فصول كتابه مع هذه الإصدارات وبالتحديد الفصل الخاص بأسرة الشهيد الصدر مع الفصل الخاص بأسرة الشهيد الصدر من كتابي (الإمام الشهيد الصدر ـ دراسة في سيرته ومنهجه).

    ـ السيد محمد باقر الصدر ـ دراسة في المنهج.. نزيه الحسن.. باحث من سورية كرّس فيه المؤلف البحث عن المنهج عند الشهيد الصدر من خلال أبحاثه المتنوعة.

    ـ منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي.. عبد الجبار الرفاعي.

    ـ الشهيد الصدر بين أزمة التأريخ وذمة المؤرخين.. مختار الأسدي.

    ـ محمد باقر الصدر.. تكامل المشروع الفكري والسياسي.. صائب عبد الحميد.

    ـ تلامذة الإمام الشهيد الصدر.. السيد محمد الغروي.

    وهو بحث فريد من نوعه حاول التأريخ لتلاميذ الشهيد الصدر ومحاولة إحصائهم وتسجيل الانطباعات حولهم.

    ـ محمد باقر الصدر.. دراسات في حياته وفكره.. نخبة من الباحثين.

    وقد صدر (عن دار الإسلام) التي يرأسها السيد حسين الشامي، وهو عبارة عن بحوث متنوعة لمجموعة من الباحثين، وهو من أهم الإنجازات، ويُذكر أن (دار الإسلام) عنت كثيراً بالشهيد الصدر وفكره، وخصصت مجلة (الفكر الجديد) التي تصدر عن (دار الإسلام) ملفات عديدة عنه.

    ـ محمد باقر الصدر بين دكتاتوريتين.. عادل رؤوف.

    وقد أثار المؤلف جدلاً كبيراً في أوساط العراقيين، من المثقفين وغيرهم، حول صدقية معلوماته ومعطياته التي يشير إليها. وربما من أهم ما يمكن ملاحظته على المؤلف أنه غلّب الطابع الانفعالي بسبب معركة شخصية مع الشهيد السيد محمد باقر الحكيم. كما تميَّزت مصادر بحثه بأحاديةٍ مفرطة، إذ اعتمد وبشكل مفرط على مصادر محددة، وذات علاقة معقدة مع السيد الحكيم.

    ـ الإمام محمد باقر الصدر.. معايشة من قرب.. السيد محمد الحيدري.

    وكتابه عبارة عن مجموعة من الذكريات.

    ـ خفايا وأسرار من سيرة الشهيد السيد محمد باقر الصدر.. الشيخ عفيف النابلسي، وكتابه عبارة عن مجموعة من الذكريات أيضاً.

    ـ البعد الأخلاقي في شخصية الإمام الصدر.. عادل القاضي.

    وهو بحث فريد من نوعه كرّس المؤلف فيه الحديث عن النظرية الأخلاقية والتربوية عند الشهيد الصدر.

    ـ فلسفة الصدر.. الدكتور محمد عبد اللاّوي ـ باحث من الجزائر.

    وهو بحث موسوعي لاحق فيه المؤلف البعد الفلسفي من نتاج الشهيد الصدر وإنجازه الفكري.

    ـ تجديد الفقه الإسلامي.. محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم.. شبلي الملاّط ـ باحث لبناني.

    وقد يكون غريباً تصدّي باحث للكتابة عن (الإمام محمد باقر الصدر) من خارج الدائرة الإسلامية، كما هو شأن الدكتور (شبلي الملاّط) في كتابه (تجديد الفقه الإسلامي ـ محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم)، وهو المنتمي إلى غير الدين الإسلامي ـ وتحديداً إلى المسيحية ـ وإنما نقول ذلك مع عالمية الفكر وكونية المعرفة وعدم تحديدهما بحدود جغرافية، بسبب ما لاقاه الإمام الشهيد من ظلم وحيف، ليس في حياته وحسب، وبل وبعد مماته أيضاً، خاصة في ظل ظروف دولية أسهمت في تعميق الجور عليه، ونحن نعرف كيف أُعدم دون أن ينبس العالم ببنت شفة، والكلام ها هنا يطول..

    ومهما يكن من أمر، فها هو (محمد باقر الصدر) يعود إلى الصدارة، ويستقطب أنظار الباحثين من خصومه ومن خارج دائرة الفكر الذي ينتمي إليه. يقول المؤرخ المعروف (ألبرت حوراني)، كما ينقل عنه الملاط: ""لقد أثبت هذا البحث بشكل وافٍ صدارة محمد باقر الصدر كعالم مهم ليس فقط في العراق ولكن أيضاً في العالم الشيعي، بل في العالم الإسلامي بأسره""، وإن كانت هذه الشهادة من (حوراني) لصالح بحث الملاط نفسه، فإنها شهادة للإمام الشهيد الصدر في الوقت نفسه.

    في هذا الاتجاه نفسه يكتب شبلي الملاّط: ""باستثناء بعض الأوساط المغلقة على عوالم بقيت غريبة عنها، لم يعد اسم محمد باقر الصدر مجهولاً من أي باحث في الفكر الإسلامي المعاصر، بل من أي شخصٍ يولي اهتماماً لتأريخ المنطقة الحديثة"" (ص11 من مقدمة الطبعة العربية). ثم يستشهد بفقرة لأحد أشهر الصحافيين البريطانيين (إدوارد مورتمر) عن الشهيد الصدر قوله: ""الرجل الذي كان من الممكن أن يكون مانديلا العراق"".

    لم يكن كتاب الباحث (شبلي الملاّط) الوحيد عن الإمام الشهيد الصدر كما هو معلوم للقرّاء، فقد سُبق بعشرات من الكتب والأبحاث، وليس الفريد من بينها أيضاً، ففيها ما هو أفضل وأدقَ وأشمل من كتاب شبلي الملاّط، وهذا ما لا يقلّل من أهمية كتابه أيضاً، وهو ما ينبغي أن يُقال ويُسجّل.

    ولكن ما دعاني للاهتمام به علاوة على ما تميّز به من منهج أكاديمي، ربما تفرّده بأمور ثلاثة: كونه يبحث عن الشهيد الصدر وهو ما اهتم به منذ إسهامي الأول في كتاب (الإمام الشهيد الصدر ـ دراسة في سيرته ونهجه) وكونه يبحث في حقل خاص وهو الحقل القانوني، وكنت من طلاب الحقوق، وكونه يبحث في الحقل الفقهي الذي أرجو أن أكون شديد الصلة به.

    هذه الحقول الثلاثة تكوّن المادة الأساسية لكتاب شبلي الملاّط، إن من حيث اللغة أو من حيث المضمون، فقد كتب شبلي الملاّط بوحي من هذه الحقول الثلاثة، عن الشهيد الصدر سيرة، وعنه فقيهاً، في الاقتصاد خاصة، وعنه فقيهاً في الدستور أيضاً.

    ولابد أن يكون تقييم الكتاب وفقاً لهذه الحقول الثلاثة، وهو ما نرجو أن نطلّ عليه إطلالة سريعة، وإن كنا نرى أنّ أضعفها ـ على الإطلاق ـ فصل السيرة، هذا الفصل الذي خصّصه الملاّط للحديث عن حياة السيد الصدر في جانبها السياسي، الذي كتبه ـ كما يقول ـ بعد إلحاح ألبرت حوراني الذي نصحه بالتحدث عن سيرة الصدر السياسية بتفصيل أكبر (ص 20 من المقدمة للطبعة العربية)، وهو ما لم يذعن إليه شبلي الملاّط، وقد برّر ذلك لجهة رغبته في تحاشي البعد السياسي والتركيز على الجانب الفكري وحسب، لمعرفته بضيق البعد السياسي في عالمنا العربي ومزالقه الكثيرة.

    ولكن اعتذار الملاّط لا يعفيه من المسؤولية بعد أن اختار الكتابة عن الجانب السياسي في حياة الشهيد الصدر، وكان عليه أن يشمل بعنايته أهم المحطات والمعالم التي تكوّن الجانب السياسي من حياة الشهيد الصدر، وخاصة دوره في أهمّ تجمع علمائي تأسّس في العراق ـ أعني جماعة العلماء ـ وتجربته الرائدة في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية ودوره في قيادته ورعايته والتعاطي معه.

    الباحث شبلي الملاّط ـ بشكل عام ـ معجب بالشهيد الصدر إن على المستوى العلمي ـ الفكري، أو على مستوى اللغة والأسلوب، وثمة عدد من مظاهر الإعجاب سجّلها في ثنايا كتابه، يجدها القارئ منتشرة هنا وهناك، أشير إلى واحدة منها، وهو يتحدث عن لغة الشهيد الصدر وأسلوبه الذي يصفه بــا""السلاسة الجاحظية والمنطق الصارم، وهو السهل الممتنع الذي خلب به محمد باقر الصدر عقول قرائه ـ كما يقول الملاّط ـ من (فدك في التأريخ) إلى محاضراته القرآنية في آخر حياته.."" (ص16 المقدمة العربية).

    إن هذا الإعجاب جاء من قراءة مسهبة لتراث الشهيد الصدر وإن لم تكن ـ كما يبدو ـ قراءة ودقيقة وواعية للمنهج واللغة السائدة في تراث الشهيد الصدر نفسه، لأن الرجل غريب عن هذه اللغة وبعيد عنها أيضاً، كما أنه يعترف بحداثة معرفته بالشهيد الصدر وتراثه، الذي يرجعه إلى شتاء سنة 1981ـ 1982 بعد استشهاده، وهو يرى صوره على جدران الأحياء الشعبية ذات الأغلبية الشيعية في بيروت، (ص7 المقدمة العربية)، وهو هنا لا يخفي استغرابه من انتشار صوره في بيروت بهذه الكثافة، يقول: ""فكانت الزواريب البيروتية مدخلي الأول إلى محمد باقر الصدر، وأذكر دهشتي لرؤية صور عالم عراقي على جدران الأزقة، فإذا كانت صور الإمام موسى الصدر والإمام الخميني قد ملأت المدينة لمكانة الأول اللبنانية ولريادة الثاني الإيرانية علق في ذهني السؤال عن محمد باقر الصدر العراقي وسبب صدارته في بيروت""، (ص18 المقدمة العربية).

    ولم تكن هذه الإطلالة كافية لشبلي الملاّط، وهي بالفعل إطلالة عفوية وشكلية على عالم الشهيد الصدر، لذلك كانت الإطلالة الثانية له أعمق يوم طلب منه الوزير اللبناني (وليد جنبلاط) ترتيب مكتبة أبيه الزعيم اللبناني المعروف (كمال جنبلاط)، يقول شبلي الملاّط: ""ومن بين كتب كمال جنبلاط، وجدت مؤلفاً لمحمد باقر الصدر، الذي كانت تبادرني صوره كل يوم أتردد فيه بين شطري بيروت، والكتاب كان بعنوان (اقتصادنا) يقع في أكثر من سبعمائة صفحة من القطع الكبير، لم يتسنَّ لي أن أقرأه آنذاك إلاّ أنني تصفحته مليّاً، وأُعجبت بهندسته الفكرية وجديّة مصادره الغربية والعربية توثيقاً للمراجع. وكم كنت بعيداً من تصوري حينذاك أنه سيأتي يوم أكرِّس فيه دراسة جامعية مطنبة للصدر، وأصبح قريباً لآله وأصحابه في العراق وإيران ولبنان"" (ص18 المقدمة العربية).

    وأخذت مظاهر الاهتمام بعالم الشهيد الصدر تتزايد وتتجذر في حياة الباحث شبلي الملاّط، ولعل واحدة منها تعرفه على المؤرخ الفلسطيني (حنا بطاطو) الذي أرّخ للعراق، والذي اكتشف من خلاله أهمية الشهيد محمد باقر الصدر وموقعه السياسي في تأريخ العراق وموقعه الفكري والاجتماعي أيضاً. (ص 19 المقدمة العربية).

    اهتمامه بالإمام الصدر المتأخر وغرابة البحث الإسلامي عنده وأدوات هذا البحث ولغته يمكن أن تغفر ـ كلها ـ للباحث الملاّط ما خفي عليه، إن على مستوى الإطلاع والتعرف أو على مستوى التفسير والشرح. ولا أجدني مضطراً لتقديم عدد كبير من النماذج في هذا المجال. فثمة عدد من (المقولات) مرّت على الباحث الملاّط ولم يستوعب معانيها، وربما فسّرها بنحو مغلوط، وربما كرّسها لتقديم صورة وتحليل ـ على أساسها ـ للقارئ ليست دقيقة.

    ومن تلك النماذج تقييمه للبحث الفقهي عند الشهيد الصدر، وقد شاده على ما أسماه بالعمل الفقهي الشمولي الذي دأب الفقهاء (المراجع) على تقديمه كما هو (منهاج الصالحين) للسيد الحكيم، وللسيد الخوئي، و(تحرير الوسيلة) للسيد الخميني، ووجد أن ما يثير الاهتمام عند الصدر أنه لم يعن بما فعله هؤلاء في أعمالهم الفقهية الشمولية هذه بما يعبّر عن سعة إطلاعهم على الفقه الشيعي ومعرفتهم، وردّ ذلك إلى حداثة سنّ الشهيد الصدر، وإن كان ألمح إلى تعليقته على (منهاج الصالحين) للسيد الحكيم. (ص 18 القانون في النهضة الإسلامية).

    وهنا يبدو الباحث الملاّط ـ وربما يكون معذوراً ـ غير مطلع على أنماط الكتابة الفقهية، حيث لم يميّز بين هذا النمط المسمى بـا(الرسالة العملية) باعتباره فتاوى مجردة عن الدليل، وهو عمل لا يكشف عن قدرات الفقيه ولا مدى سعة إطلاعه الفقهي، على عكس ما قدّمه الملاّط من تصور للقارئ، لأن الأعمال الفقهية التي تكشف عن هذه القدرات هي ما يكتبه الفقيه أو يقرره تلامذته (كما هو المألوف في كتابة دروسه العالية ومحاضراته)، وهو ما أنجزه الشهيد الصدر في (شرح العروة الوثقى) وغيره، كما أن تعليقته على (منهاج الصالحين) للسيد الحكيم جاءت مبكرة،ولم تكن متأخرة، خاصة في ظل الأعراف السائدة يومذاك في حاضرة النجف العلمية.

    وكنموذج آخر، يخوض الباحث الملاّط تحت عنوان (تقليص نطاق الشريعة) في الحوار الفقهي العلني الذي جرى بين الإمام الخميني والسيد الخامنئي، وقد استوحى منه عدة نصائح ليست مرادة قطعاً ابتداءً من العنوان نفسه، (ص 123 وما بعد).

    وتقوم هذه النتائج أساساً على عدم إطلاعه على لغة الفقه السائدة في الحواضر العلمية كالنجف وقم، وذلك على أساس التفريق بين العنوان الأولي والعنوان الثانوي للأحكام، ولكن تعاطي الملاّط تجاه هذه (المقولات) كان مشوباً بالإطلاق ودونما دقة علمية.

    وربما انساق الباحث الملاّط وراء تفسيرات خاطئة لمقولات أخرى لم يكن فهمها بالعسير، كما في تفسره لما يعرف بـا(سهم الإمام) الذي فسّره بأنه ضريبة تجبى للعالم باعتباره ممثلاً للإمام المحتجب، في حين فسّر (الخمس) باعتباره حقاً لمعظم المجتهدين بوصفهم سادة ممن يتحدر من العترة النبوية نسباً (ص 62 مثل عليا في الفقه الشيعي)، مع أن (سهم الإمام) هو أحد قسمي (الخمس) نفسه، ويعطي للفقيه سواء كان متحدراً من العترة النبوية أم لم يكن متحدراً كما هو المعلوم.

    وعلاوة على ما تقدم، فإن باحثنا الملاّط انساق وراء الإعلام أحياناً كثيرة، وتجد ذلك في مواطن كثيرة، ويبدو ذلك في وضع (النجف) في الجنوب العراقي (ص 10 القانون في النهضة الإسلامية)، وحشره (الشيعة) في الجنوب، فيما أسماه بالجنوب الشيعي (ص25 القانون في النهضة الإسلامية) في مقابل الشمال الكردي، وهذه التسميات لابد أنها تتماشى مع الواقع الإعلامي السائد، وهي تحشر (الشيعة) في زاوية وكأنها أقلية تطالب بحقوقها. وكنموذج لهذا التأثير الإعلامي ما نسبه إلى الإمام الخميني من ترديده أنه حسيني وليس حسنياً (ص 278 الهوامش).

    ومهما يكن من أمر فقد يتجاوز الناقد مثل هذه الملاحظات، خاصة إذا عرفنا أنه ينتمي إلى ثقافة ومحيط غريب عن هذا المحيط الذي نشأنا فيه ووعيناه وعرفناه، وهذا ما اعترف به الباحث نفسه وهو يشير إلى غربته في هذا المحيط الثقافي الذي قدر له أن يتعاطى معه ويكتب فيه (ص17 المقدمة العربية).

    وإذا تجاوزنا هذه الملاحظات وملاحظات أخرى سترد، فإن بحث الملاّط بشكل عام ممتع، وعلى المستوى المنهجي رائع، وقد اشتمل كتابه على دراسات قيّمة ومهمّة عن الفقه الإسلامي، وتحديداً في حقل الاقتصاد، بلغة العصر والمنهج الجامعي ـ الأكاديمي ـ بعيداً عن اللغة الملغَّزة والمطلسمة.

    ويعتبر بحثه في الاقتصاد الإسلامي من وجهة نظر الشهيد الصدر، البحث الرئيس الذي اشتمل عليه الكتاب وخصص له، وقد استوعب الصفحات من رقم (147ـ 248)، والبحث هنا في الأعم الأغلب جاء وصفياً، ويكشف عن قدرات الباحث المتواضعة، لأنه ليس من أهل الاقتصاد ولا من أهل الفقه الإسلامي، وتحت تأثير هذه الحقيقة لم يدرك الباحث تمييز الشهيد الصدر للاقتصاد الإسلامي من زاوية مذهبية تارة، وعلمية تارة أخرى. ولم يخف الملاّط معرفته المتواضعة في مجال علم الاقتصاد في تقييمه لإنجاز الشهيد الصدر بشكل عام (ص 248).

    وهنا لابد من التنبيه على القناعة الراسخة لدى شبلي الملاّط وهو يؤكد ـ بضرس قاطع ـ تفرد السيد الصدر في ميدان الاقتصاد الإسلامي ""إذ كان الباحث الإسلامي الوحيد، القادر على إعداد نص شامل بإِمكانه الاعتماد على الكتابات الاقتصادية في الرسائل البحثية الفقهية الكلاسيكية، وكذلك على مصادر التعاليم الماركسية والرأسمالية المتوفرة بالعربية، والقادر على تسلّق ذلك الهرم من القيود والكوابح بشيء من النجاح"" (ص248)، وأنه ""الأثر الأهم شأناً والأكثر شمولاً بين كل ما كُتب عن الاقتصاد الإسلامي.. "" (ص189)، ومما يجعل كتابات الشهيد الصدر ـ دون سواها ـ تتسم بأهمية بارزة، بما لم يسبق إليه حتى عام 1960، (ص147).

    وقد لاحظ الملاّط ـ بحق ـ الفرق في مقارنته بين إنجازات (سيد قطب) و(علاّل الفاسي) في المجال الاقتصادي وإنجازات الشهيد الصدر، وقد لاحظ أن أفضل إنجازاتهما في هذا المجال قاصرة عن بلوغ مستوى أعمال الصدر من حيث النوعية والمنزلة (ص193)، كما لاحظ على كتابات أخرى في المجال الاقتصادي صدرت في المكتبة الشيعية كما في كتاب (الاقتصاد الإسلامي) للشهيد حسن الشيرازي، أنه ليس جديراً بالاهتمام (ص192)، كما أشار إلى كتاب السيد الطالقاني في كتاب (الإسلام والملكية) الصادر بعد كتاب (اقتصادنا)، والذي لا يقارن ـ من وجهة نظر الملاّط ـ على أية حالة بكتاب الصدر ، إن من ناحية العمق أو من ناحية الشمول (ص192)، كما ألمح إلى التطابقات بين إنجاز أبو الحسن بني صدر الرئيس الإيراني الأول وكتاب (اقتصادنا) (ص 194)، وكان قد أصدر أبو الحسن بني صدر كتابه (اقتصاد توحيدي) في العام 1978، أي بعد صدور (اقتصادنا) بما يقرب من عشرين عاماً.

    وقد دافع الباحث الملاّط عن الوجه الإسلامي لإنجاز الشهيد الصدر في كتابه (اقتصادنا) في مقابل (نقد) كتبه كاتبان من المدرسة السنيّة تحاملا على (اقتصادنا) في محاولة منهما لإبراز المنحى الشيعي في الكتاب.

    وقد لاحظ الملاّط أن كتاب (اقتصادنا) فريد بغياب أية نعرة طائفية ظاهرة في تحليله ومصادره، (ص193)، وفي الوقت الذي يقرر فيه الملاّط من وجهة نظر علمية خلو الكتاب من أية نعرة طائفية، يدرك ـ هذه المرة ـ أن مثل هذا النقد ليس إلاّ محاولة للاتهام، ولدت في ظل الجوّ الطائفي الذي وسم النصف الثاني من الثمانينات، والذي يعرّض للشبهات حتى الأخلص نيّة والأنبل هدفاً بين الكتابات في هذا المجال (ص 194).

    وإذا كان الملاّط قد أنصف (اقتصادنا) في هذا المجال، فإنّ الباحث ليتمنى لو راجع الملاّط الموقف العام للمدرسة السنيّة من أهل السنّة، وفي مقدمتهم الدكتور محمد المبارك.

    وعلاوة على الاقتصاد، ثمة بحث ممتع عن الإسهام القانوني للشهيد الصدر، وتحديداً في الحقل الدستوري، استوعب الصفحات من الصفحة ذات الرقم (81) حتى الصفحة (143).

    وهنا تبدو مهارة الباحث الملاّط، فالباحث قانوني، وصاحب خبرة في اللغة القانونية والمنهج القانوني والمدارس القانونية، ولذلك جاء بحثه في هذا الفصل أكثر علمية وأكثر موضوعية ودقة.

    وأهم ما كتبه في هذا الفصل محاولته رد أصول الدستور الإيراني إلى أفكار الشهيد الصدر وإسهاماته في الحقل الدستوري، وذكر أن التشابهات بين الدستور الإيراني والمؤسسات المتبنّاة في النص ـ وهي أحياناً حرفية بارزة بوضوح ـ مما يستبعد إمكانية الصدف أو توارد الأفكار (ص 275، وانظر ص 95 و ص15 من المقدمة العربية).

    ولم ينس الملاّط البحث في الفلسفة السياسية للدولة عند الشهيد الصدر، ما استوعب الصفحات من (86) وما بعد.

    الكتاب غني بالمعلومات، خاصة وأنه تصدى للبحث في الاقتصاد والدستور والسيرة الذاتية للشهيد الصدر، ولذلك لا يتاح للناقد متابعة الباحث في هذه المجالات كلها ـ وبشكل تفصيلي ـ ولذلك يحسن بنا أن نختم بملاحظات سريعة من هنا وهناك، لعلها تعطي انطباعاً كافياً عن الكتاب.

    [mark=CCCCCC]1ـ[/mark] تتسم تقييماته في عدد من الموارد، وخاصة بما يتعلق بالشهيد الصدر نفسه وإنجازاته بالخروج على المسؤولية العلمية، وتشي بالتسرّع، وقد تكون وليدة انطباعات متأثرة ببعض الاتجاهات الفكرية المعادية للشهيد الصدر، وقد تكون وليدة المماحكة.

    وكمثال على ذلك تقييمه لكتاب (فلسفتنا) الذي جاء متناقضاً، فهو في الوقت الذي يعتبره أمراً لافتاً للأنظار بمنحاه الفذّ (ص16 القانون في النهضة الإسلامية وص 195) فإنه يصرّ على تقييمه خارج إطار صدوره وفي ظل تطور الفكر الماركسي نفسه (انظر الصفحات نفسها).

    وتبدو تقييماته أكثر تهوراً في حديثه عن كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء)، ويرى أنه الأقل نجاحاً للمنهج المنشود، لأن الصدر ـ من وجهة نظره ـ لم يكن متهيئاً على نحو جيد للخوض في مثل هذا الفرع الملغز من فروع المعرفة (ص16 القانون في النهضة الإسلامية)، وهنا يبدو شبلي الملاّط متجاوزاً أكثر من أي وقت مضى على أصول البحث، خاصة وأنه ـ كما يبدو لي من لغته ـ لا يجيد قراءة الأسس المنطقية للاستقراء، ولا خبرة له في التعرّف على هذا اللون المعرفي الملغز كما يصفه بنفسه، وعليه فكيف سمح لنفسه بإصدار حكم قيمي على إنجاز مهم ـ حسب اعتراف أهل الخبرة ـ لا يجيد قراءته؟!

    ولم ينجُ كتاب (اقتصادنا) من تقييماته المتسرّعة مع شدة إعجابه بالكتاب، فقد سجّل الملاّط ملاحظة على (اقتصادنا) في خاتمة الكتاب، يقول: ""ويبقى من الضروري التنبيه إلى أن الصدر لم يكن من علماء الاقتصاد أو الخبراء في عمليات المصارف، ولذا سوف يكتشف المنقِّبون في نظامه بأدوات النظريات الاقتصادية والمالية العصرية تقصيراً ملموساً بل نواقص جليّة"" (ص248).

    [mark=CCCCCC]2ـ[/mark] اشتمل الكتاب على تحليلات غير منطقية وربما أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، وهي في الغالب لا تقوم على أسس متينة ولا معطيات صحيحة، ومن ذلك كنماذج على المدعى:

    ـ في مقارنة بين ما كتبه الشهيد الصدر لحزب الدعوة الإسلامية فيما يعرف بـا(الأسس) قارن بين الأساس رقم (6) في (شكل الحكم في الإسلام) وبين ما كتبه الشهيد الصدر في سلسة (الإسلام يقود الحياة)، وجد الملاّط، كما تراءى له، أن ثمة فرقاً بين الشكل في (الأسس) وبينه في (الإسلام يقود الحياة)، حيث ميّز في ما كتبه لحزب الدعوة بين لونين من ألوان الحكم الإسلامي، أحدهما إلهي وهو حكم المعصوم، وآخر شوري وهو حكم الشعب، ولاحظ الملاّط غياب هذا التفسير واندماجهما في (الإسلام يقود الحياة) وكأنه يقول بأن الحكم شوري ولا مجال للحكم الإلهي الأول (ص16 وما بعد من المقدمة العربية).

    ونلاحظ عليه أنه تحليل لا يقوم على معطى صحيح، وهو يتجاوز مجال البحث الذي يعالجه الشهيد في كل من الموردين، ولذلك لا يبقى مجال لتخمينه وهو يبحث عن السبب في غياب (الأسس) طيلة هذه المدة ولم يعثر عليها، ولذلك احتمل أن تكون قد غيّبت بداعي الفرق النظري الذي طرحه الشهيد الصدر بين الموردين.
    وهنا خفي على الملاّط حقيقة مهمة وهي أن (الأسس) لم تكن متداولة، لأنها كتبت لتثقيف أعضاء الحزب ـ حزب الدعوة ـ وكوادره، ولم يكن من الممكن إظهارها ونشرها، لأن العثور عليها عند أحد سيودي به إلى حبل المشنقة، لذلك أخذت وقتاً من الزمن حتى ظهرت، ولم تظهر إلا خارج العراق.

    ـ ومن تحليلاته المتسرّعة، تفسيره لإصرار الإمام الخميني على مواصلة الحرب، وأنه كان بوحي من الوفاء للشهيد الصدر الذي أعدمه النظام في بغداد (ص 270 الهامش رقم 109)، وهو تحليل لا يدعو للتعليق، خاصة وأن الباحث نفسه يسجل امتعاضه عن انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية دونما مساءلة للنظام العراقي (ص21 من المقدمة العربية)، وهنا يحق للناقد أن يسأل الملاّط عن احتمال أن يكون الإصرار بداعي فرض وضع دولي يفرض هذه المساءلة وإن فشل الإيرانيون في فرضه لأسباب دولية؟!

    ـ ومن أجمل تحليلاته ذلك التحليل الذي ابتكره الباحث الملاّط وهو بصدد الحديث عن علاقة الشهيد الصدر بالإمام الخميني، حيث نفى أن تكون ثمة علاقة، وقد ردّ ذلك إلى الموقف المتحفّظ للخميني طوال فترة إقامته في النجف، العائد جزئياً إلى طبيعته الخجولة وبعض الصعوبة الظاهرة في العربية المحكيّة.. (ص 70 مثل عليا في الفقه الشيعي)، ومثل هذا التحليل لا يستأهل أي تعليق!

    [mark=CCCCCC]3ـ[/mark] كما وطغت على الكتاب سمات المنهج الانتقائي والقراءة الناقصة وتفسير النصوص قسرياً لصالح أفكار مسبقة، ويظهر ذلك في قراءته لبعض نصوص الإمام الخميني والمقارنة بينها، خاصة في مقارنته بين نص (الحكومة الإسلامية) ونص (تحرير الوسيلة) وقد أدعى أن ثمة تفصيلاً لافتاً للانتباه في التطور الذي حصل مع الإمام الخميني بشأن شرائط المرجع. وادعى أن الشرائط التي ذكرت في تحرير الوسيلة، لم تعد ثمة شيئاً عند الإمام الخميني في (الحكومة الإسلامية) (ص278). وهنا لا يلتفت الملاّط إلى مجال الموردين، وهو يقرأ النصوص بطريقة مشبعة بالتقاط الفوارق دونما التفات إلى مورد كل من النصين.

    [mark=CCCCCC]4ـ[/mark] والأنكى من ذلك ما اشتمل عليه الكتاب من معلومات غير موثقة، وهي عارية عن الصحّة جملة وتفصيلاً، ومن ذلك ما ذكره بشأن توجّه الشهيد الصدر إلى طهران مع الوفد المرافق له لتقديم التهنئة للإمام الخميني بانتصار الثورة، وقد حال دون ذلك اعتقاله ووضعه قيد الاحتجاز المنزلي (ص26 القانون في النهضة الإسلامية)، كما ذكر أن الشهيد الصدر كان يفكر مليّاً في طلب اللجوء إلى إيران الجديدة، والتي تمّ بعدها المراسلات بينه وبين الإمام الخميني، إلاّ أن الخميني لم يبادل الشهيد الصدر الضيافة النجفية بالمثل! (ص27). ومن الطريف أنه يقول: "".. لا يوجد أي سجل لطلب الصدر اللجوء إلى إيران.."" ص269.

    ولا أدري كيف سجَّل الباحث شبلي الملاّط هذه المعلومات دون أن يلتفت إلى فداحة الإخلال بالمنهج العلمي، وهو لا يجد عليها شاهداً، ولا يقيم عليها دليلاً.

    عندما ينفتح باحث مسيحي على مفكّر إسلامي وفقيه شيعي كبير نعرف أن القيود التي وضعت في يديّ الشهيد الصدر لتشلّه عن العطاء تتكسر لينطلق إلى عالم أرحب، وفضاء فكري عالمي أوسع، وها هي كلماته تدقّ أبواب كل بلاد العالم دونما استئذان ليبقى قاتله وخصومه ـ وإن كانوا من أبناء وطنه ـ في قمقم لا يبرحونه أبداً.

    وعمداً على بدء، فقد صدرت أبحاث مهمة عن الشهيد الصدر في عددٍ من الدوريات مما هو منشور في (مجلة المنهاج) الصادرة في بيروت، ومجلة (الفكر الجديد) الصادر عن دار الإسلام في لندن، ومجلة (قضايا إسلامية) الصادرة في قم، ومجلة (قضايا إسلامية معاصرة) الصادرة في قم أيضاً.

    كما تحسن الإشارة إلى عددٍ من أبحاثٍ وإصدارات السيد عمار أبو رغيف، في محاولاته التعريف بفكر الشهيد الصدر أو الدفاع عنه، أو تقريره بصيغٍ أخرى.

    وربما فاتني أن أشير إلى بعض الكتب والأبحاث، فقد لا أكون مطلعاً على بعضها، وقد يكون بعضها الآخر في طريقه إلى الصدور. وفي هذا السياق أُشير إلى ما ذكره مستشار رئيس النظام العراقي الإعلامي والصحفي صباح سلمان ـ مما نشره في صحيفة الحياة بتاريخ (20/9/1995) وأعيد نشره في صحيفة (بغداد) بعددها (247) بتاريخ (22/9/1995) ـ بصدد تأليفه كتاباً لم ينشر بعد بعنوان (الإمام الصدر والرئيس صدام.. واللقاء الأخير!!).

    وربما كان من المفيد نشر هذا الكتاب، لأنه يطلعنا على أحداث ووقائع كان من غير الممكن الإطلاع عليها.

    ‍‍‍‍‍
    [/align]





  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    [align=justify]



    -2-

    ويحسن أن أُلفت نظر القارئ إلى التحديات التي واجهتني في الإعداد لهذا الكتاب، شأني شأن العديد من الكتَّاب والباحثين، وبالخصوص في الموضوعات المعقَّدة والساخنة.

    ويمكن أن أشير إلى أهم هذه التحديات:

    1ـ الهاجس الأمني، إذ أن هناك عدداً من المعطيات التاريخية كانت تتصل بحياة عدد من الشخصيات ولا يمكن الإفصاح عنها، ولذلك كانت مجموعة من المعلومات تضيع أو تختفي لهذا السبب، إذ لا يمكن المجازفة بالإشارة إليها بشكل تفصيلي. وإذا كان ذلك يُعدُّ تحدياً كبيراً للباحث، إذ يقلل من أهمية بعض المعلومات التي يذكرها، فإنه تحدٍ لا يمكن إغفاله، لأنه يشكّل قيداً شرعياً وأخلاقياً، ولا يمكن تجاوزه على الإطلاق.

    وأُشير إلى أن معظم هذه المادة كان قد أُعِدَّ في زمنٍ كان فيه النظام قائماً ولا يزال يفرض نفسه على حياة العراقيين، ولذلك ورد بعض المعلومات ملبيّاً لهذا القيد، وإن حاولت تداركه وإعادة النظر فيه. لكن أُشير إلى أن هناك عدداً من المعلومات لابد وأَن يضيع لجهة تقادم الزمن، وبسبب النسيان الذي يفرض نفسه على الشهادات فتتآكل بسبب هذا العامل.

    2ـ الهاجس الوحدوي، إذ يتردد الباحث بين أمرين اثنين

    [mark=CCCCCC]أحدهما:[/mark] الكتابة بصراحةٍ تامة لتقديم الصورة كاملة غير منقوصة، وبذلك يقدِّم التاريخ كما هو ووفقاً للمعطيات التي سجّلها أهل ذلك الزمان وحفظتها الشهادات على هذا المقطع الزمني.

    [mark=CCCCCC]وثانيهما:[/mark] الإحساس بالهيبة والرهبة تجاه بعض المواقف التي قد تكون الإشارة إليها وذكرها تجريحاً ـ أو يشم منها ذلك ـ أو تعريضاً ببعض الشخصيات أو بعض الاتجاهات. وربما تزيد هذه الحيرة رغبة البعض في تغليب الصور المشرقة من حياة العظماء على الصور الأخرى، بل وإغفالها لصالح الأولى.

    وقد شعرت بالحيرة ـ شأني شأن الباحثين الآخرين ـ تجاه هذه الملاحظات، وإن كنت ميّالاً بقوة إلى الكتابة بصراحةٍ شديدة، لإيماني العميق بضرورة ذلك، احتراماً للتاريخ نفسه.

    وقد زادني قوة على قوة ما يردده الشهيد الصدر نفسه في هذا الصدد، وهو يتحدث عن كتابة التاريخ بمناسبة بحثه (فدك في التاريخ) فيقول: "".. وأما إذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الأمر خيراً كان أو شراً، ولا لنحبس دراستنا في حدود مناهج البحث العلمي الخالص، ولا لنجمع الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث ما يسقط ويبقى ما يليق بالتقدير والملاحظة، بل لنستلهم عواطفنا وموروثاتنا ونستمد من وحيها الآخّاذ تاريخ أجيالنا السابقة، فليس ذلك تاريخاً لأولئك الأشخاص الذين عاشوا على وجه الأرض يوماً، وما كانوا بشراً تتنازعهم ضروب شتى من الشعور والإحساس، وتختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازّع الخير ونزعات الشر، بل هو ترجمة لأشخاص عاشوا في ذهننا وطارت بهم نفوسنا إلى الآفاق العالية من الخيال..""(1).

    بل يصعِّد الشهيد الصدر الحديث في هذا الصدد فيكتب: ""فإذا كنت تريد أن تكون حراً في تفكيرك، ومؤرخاً لدنيا الناس لا روائياً يستوحي من ذهنه ما يكتب، فضع عواطفك جانباً، أو إذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملكك لا ينازعك فيها أحد، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث فانه لم يعد ملكك بعد أن اضطلعت بمسؤولية التاريخ، وأخذت على نفسك أن تكون أميناً ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً على أسس صحيحة من التفكير والاستنتاج""(2).

    3ـ طبيعة المعطيات، إذ يتوجب على الباحث فحص المعطيات المتوفرة والتي تشكِّل المادة الرئيسة للبحث، وقراءتها قراءة دقيقة ومتأنية، خاصة في ظل عدة عوامل، منها: النسيان الذي يفعل فعله في الشهادات، حيث من الطبيعي أن تتعرض هذه الشهادات للتآكل، بسبب فقدان جزء منها في ذاكرة أصحابها، فيعرِّض الباحثين إلى التحريف بطريقة غير مقصودة وغير متعمدة، خاصة إذا عرفنا أن عدداً من أصحاب هذه الشهادات لا يستعين بالكتابة والتدوين، لسبب ذاتي أو لسبب موضوعي، كما في ظروف المحنة والمطاردة، مما هو موضوع بحثنا ودراستنا.

    ومنها: اختفاء بعض المعطيات أو إخفاؤها، إذ يعمد بعض أصحاب الشهادات والقريبين من الأحداث والشخصيات ـ موضوع الدراسة والبحث ـ إلى إخفاء المعلومات والرسائل.. وحجبها عن الباحثين، وهو عامل يضر بالبحث أيما إضرار، ويشوِّه الدراسة بشكل كبير جداً، فقد غابت رسائل عديدة للشهيد الصدر وتم حجبها عن التداول لسبب وآخر ـ بغض النظر عن المسوِّغ ـ ومُنع الباحثون من الاطلاع عليها بشكل مباشر لقراءتها عن قرب واستنتاج ما يمكن استنتاجه منها. واذكر في هذا السياق الرسائل التي كتبها الشهيد الصدر إلى الشهيد محمد باقر الحكيم، وهي رسائل ثمينة وذات مضمون مهم على المستوى السياسي والفكري معاً. واذكر ـ أيضاً ـ رسائل الشهيد الصدر إلى الشيخ علي الكوراني، والتي نشر بعضها بعد شطب قسمٍ منها منعاً من الوقوف عليها(3). ويمكن مراجعة القسم الوثائقي من كتاب (شهيد الأمة وشاهدها) للشيخ محمد رضا النعماني، ليعرف مدى ما أتلف من هذه الرسائل عبر إخفاء بعض الأسماء أو شطب بعض الأقسام.

    ومما ضاع وأُخفي رسالة الشهيد الصدر الأخيرة والتي كتبّها ـ وهي أشبه بالوصية ـ للسيد محمود الهاشمي (الشاهرودي) تلميذه وممثله في الخارج، والتي نقلها الشيخ محمد رضا النعماني، عقيب استشهاد السيد الصدر وهروب النعماني إلى إيران، وسلّمها إلى السيد الهاشمي(4).

    بل ضاع أثر مهم من آثار الشهيد الصدر، وهو عبارة عن أجوبة الشهيد الصدر على تساؤلات وتعليقات الدكتور علي شريعتي على بحثه (بحث حول الولاية)، وقد أرسلها الشهيد الصدر إلى بعض طلابه على أمل ترجمتها وطبعها، إلاّ أنها أخفيت بحجة أنها تسهم في الترويج للدكتور علي شريعتي، مما أوجب استغراب الشهيد الصدر نفسه، كما يفيده السيد محمد الحيدري. ويقول السيد الحيدري أنه سعى للعثور عليها فلم يستطع(5).

    ومنها: تناقض المصالح والآراء بين أصحاب الشهادات والمقربين من الشهيد الصدر بعد اتساع الخلافات بينهم وتزايد الهوة، ولذلك يقف الباحث على محاولات عديدة من هذا الطرف أو ذاك تحاول إخفاء بعض الحقائق أو تجاهلها والتركيز على أمور أخرى.

    ومن ذلك ما يُلاحظه الباحث في المقدمة التي كتبها السيد علي أكبر الحائري للطبعة الجديدة لكتاب (دروس في علم الأصول) للشهيد الصدر، إذ أغفل السيد علي أكبر الحائري ـ على خلفية الصراع بين شقيقه السيد كاظم الحائري وحزب الدعوة ـ الإشارة والحديث إلى نشاط الشهيد الصدر السياسي ولم يذكر منه سوى إعتقالاته(6).

    ويمكن أن أشير إلى المفارقة الكبيرة التي حصلت في إصدار لجنة التحقيق التابعة لمؤتمر السيد الصدر ـ الذي انعقد في طهران للعام 2001م ـ كتاب الشيخ محمد رضا النعماني في طبعته الثانية وبعنوان (شهيد الأمة وشاهدها)، حيث حذفت منه عدة موارد، كان بعضها مورد اعتراض الشيخ النعماني وعدم معرفته:
    ـ ورد في كتابه (الأصل) في هامش ص 282 ـ 283 بخصوص الثناء على دور الشهيد عبد العزيز الحكيم التالي: ""كان لسماحته دور بطولي وفدائي في خدمة السيد الشهيد، فمن اليوم الأخير من شهر شعبان وحتى نهاية الحجز كان أهم حلقة توصل السيد بخارج البيت، والمنفّذ الحكيم لكل ما كان يطلبه السيد الشهيد، رغم احتمال أن يؤدي به الأمر إلى أن يضحّي بنفسه وعائلته في أي لحظة. وقد أشاد به السيد الشهيد كثيراً، وفي آخر رسالة كتبها وهي أقرب ما تكون إلى الوصية، وبعثها إلى سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي، أوصاه به وبي بعبارات قلّما يعبّر السيد الشهيد بمثلها لأحد، فجزاه الله (تعالى) خير الجزاء. ولا أنسى دور سماحة الأخ حجة الإسلام والمسلمين الشيخ عبد الحليم الزهيري (حفظه الله) فقد قام بدور كبير في تلك الفترة، وكان أكبر همّه خدمة السيد الشهيد والدفاع عنه وتنفيذ أوامره فجزاه الله خيراً"".وقد وردت هذه الفقرة في الجزء الثاني من إصدار المؤتمر ناقصة بعد أن حذفت الفقرة الخاصة بالثناء على دور الشيخ عبد الحليم الزهيري بالتمام والكمال. (راجع ج2/ص162).

    ـ وقد ورد في كتاب الشيخ النعماني (الأصل) وبعنوان (عقبات التصدي للمرجعية) وتحديداً الصفحة (175) ما يلي: ""وحتى تأسيس حزب الدعوة الإسلامية الذي جعله البعض حربه لطعنه، أو تشويه سمعته بين أبناء الأمة، ما كان إلاّ من أجل حماية كيان الإسلام والأمة الإسلامية، ومن الغريب أن البعض كان يسمح لأبنائه بالانتماء إلى حزب البعث الصليبي، ويحارب السيد الشهيد لتأسيسه حزب الدعوة الإسلامية"".

    وأضيف إلى هذه الفقرة ـ في هذه الطبعة ـ عدة كلمات لم تكن موضع قبول أو إطلاع الشيخ النعماني، بل كانت موضع الرفض كما يشير هو نفسه في رسالة(7). حيث وردت الفقرة كالتالي: ""وحتى تأسيس حزب الدعوة الإسلامية الذي جعله البعض حربة لطعنه، أو تشويه سمعته بين أبناء الأمة، ما كان إلاّ من أجل حماية كيان الإسلام والأمة الإسلامية ـ بقطع النظر عما انتهى إليه بعد ذلك ـ ومن الغريب أن البعض.. "" راجع (مع شهيد الأمة وشاهدها ج1/273).

    وقد أُضيفت هذه العبارة بداعي الانتقاص من حزب الدعوة في ظل الاحتراب الذي حصل لاحقاً بين طلاب وتلاميذ الشهيد الصدر.

    ـ حذفت من الكتاب (الأصل) فقرة كاملة تخص تسليم وتحويل الأموال التي كانت بحوزة الشهيد الصدر إلى السيد محمود الهاشمي، وهي عبارة عن أموال من الحقوق الشرعية وأموال خاصة للشهيد الصدر، ومبلغ أمر بإرساله السيد الخميني إلى السيد الصدر خشية أن يكون في ضائقة، فأمر الشهيد الصدر بتحويله إلى السيد الهاشمي، وهو عبارة عن مائة ألف ديناراً عراقياً أي بما يعادل (300.000) أو يزيد دولاراً أمريكياً في ذلك الوقت. (راجع الأصل ص 117 وما بعد) وراجع (ص 215 وما بعد) من الجزء الأول من شهيد الأمة وشاهدها).

    ـ وتم تعديل الفقرات الخاصة بالقيادة النائبة من الكتاب (الأصل) حيث كان تحدث الشيخ النعماني عن تأثر الشهيد الصدر لرفض أحد الأشخاص الذين رشحهم الشهيد الصدر لهذه القيادة وكان في العراق ـ ويقصد به الشهيد محمد باقر الحكيم ـ وخيبة أمل الشهيد الصدر لذلك وما آلت إليه أوضاعه (راجع الأصل ص 310)، وقد حذفت هذه المطالب واقتصر على الإشارة إلى عدم توفر العدد الكامل لهذه القيادة في الخارج والإعلان عن أسمائها وبعضهم في العراق يؤدي إلى اعتقالهم، وأضيف إلى ذلك التبريرات التي ذكرها الشهيد محمد باقر الحكيم لرفضه فكرة القيادة النائبة، والمنشورة في إحدى الصحف التابعة لمؤسسات المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (راجع: شهيد الأمة وشاهدها: ج2/192ـ 193).

    ويندرج في هذا السياق ما كان يردده تلاميذ الشهيد الصدر من نفي تلمذته على السيد محمد الروحاني على نحوٍ مطلق، في وقتٍ تؤكد فيه المعطيات أنه تلمذ عليه لفترةٍ ما. وكان يصدر ذلك النفي على خلفية التناقض الحاد بين جماعة السيد الشهيد الصدر وجماعة السيد الروحاني، بل والسيد الروحاني نفسه.

    والموقف ذاته بالنسبة لتلمذة الشهيد الصدر على الشيخ محمد تقي الجواهري، إذ نفى ـ لي ـ الشيخ محمد رضا النعماني ذلك، في وقتٍ توفرتُ فيه على معطيات تؤكد تلمذته عليه لفترةٍ ولمرحلةٍ ما. ولكن عاد الشيخ النعماني وذكر في كتابه ـ وكان لم يصدر وقت إدلائه لي بمعلوماته في حديث خاص ستأتي الإشارة إليه ـ أنه تتلمذ على الشيخ الجواهري.

    وربما يجد الباحث والمتابع هذا المنهج حاضراً ـ وبقوةٍ ـ في الكتابات والأحاديث التي تنتسب إلى مرحلة الاحتراب بين الأحزاب الإسلامية وبين طلاب الشهيد الصدر أنفسهم. فيقرأ الباحث أحاديث (تلوي) ذراع التاريخ وتناقش في مسلماته. وربما يمثل ذلك بعض أحاديث السيد صدر الدين القبانجي(8)، وهو يتحدث عن دور الشهيد الصدر في تأسيس حزب الدعوة، فيعتبر أن دوره لم يكن في التأسيس إطلاقاً، وإنما كان أمام حزب ناجزٍ أريد له أن يولد بطريقة شرعية، ولذلك أنقذ الشهيد الصدر الحزب من ولادة خارج إطار مذهب أهل البيت (ع)، لأنه كان يخشى أن يولد سنياً!! مع أن هذه القراءات لم تكن قائمة أصلاً، ولم يكن هناك هاجس مذهبي على هذا المستوى، ولكن السيد صدر الدين يتحدث في العام (1421ه‍‍‍ /2000م) وهي مرحلة شهدت ولا تزال تشهد احتراباً بين صفوف أبناء المذهب على مستوى التصنيف إلى الموالين وغير الموالين مما لم يكن حاضراً في العراق، وخصوصاً في تلك الفترة، فترة تأسيس الحزب.

    ويأتي في السياق حديثه بصدد نفي علاقة السيد عماد التبريزي ـ بحزب الدعوة، وكذلك السيد عز الدين القبانجي ـ شقيقه ـ مع أن المعطيات التاريخية تؤكد انتماء السيدين إلى الحزب، بل أفاد الشيخ عبد الحليم الزهيري ـ أحد طلاب الشهيد الصدر وأحد أبرز قياديي الحزب ـ أن السيد التبريزي هو مسؤوله الحزبي، ولكنه أفاد ـ أيضاً ـ أنه انسحب من الحزب بناءً على فتوى الشهيد الصدر بفك ارتباط الحوزة وطلبة العلوم الدينية بالحزب، ولذلك دعاه السيد عماد التبريزي إلى فك ارتباطه، ولم يكن انسحاب الشهيد عماد التبريزي، إلاّ قبل فترة من إعدامه، تزيد على السنة. أما السيد الشهيد عز الدين القبانجي فقد أعدم، لأنه تبين في التحقيقات أن مسؤوله الحزبي هو السيد عماد التبريزي.

    ولا يكتفي السيد صدر الدين القبانجي بذلك، بل ينفي أن تكون هناك كتابات للشهيد الصدر أسهم بها في التنظير للحزب والتخطيط لفكره وحركته. ولا أعرف أية كتابات يقصد؟‍‍! فهل يقصد (الأسس)؟ ولكن ستأتي الإشارة إلى أنها للشهيد الصدر ـ على نحوٍ جازم ـ كما يفيده الشهيد محمد باقر الحكيم وغيره من المقربين إلى الشهيد الصدر من علماء وأقطاب الحزب.

    إن هذه الإسقاطات وتفسير التاريخ وفق رؤى لاحقة عملية مضّرة وخاطئة ـ على أقل تقدير ـ لأنها تشوِّه التاريخ وتمحقه وإن كان ذلك عن غير قصد، وتزيد المجتمع إرباكاً وتزيده إلى مشاكله مشاكل جديدة، فتحول دون تلمس الطريق الصحيحة بغية تجاوز العقبات والأزمات. ولذلك ظهرت علينا كتابات وإصدارات متشنجة تفسر التاريخ أو تسجّله من زاوية معينة، وكان بعض أصحابها من إتجاهٍ معين، فتحول إلى اتجاهٍ آخر على النقيض منه، وبطريقة متطرفة.

    إنّ من المهم ـ جداً ـ التركيز على المصداقية في كتابة التاريخ، والصبر على تقصي الحقائق والمعطيات، للوقوف على صورة متكاملة، فضلاً عن روح الإنصاف التي يتحلى بها الباحث.

    وأظن أن الالتزام بمبادئ البحث العلمي كفيل بإيجاد مجتمع هادئ ومتوازن، يقرأ تاريخه ـ كله ـ بانتكاساته وانتصاراته، ليتجاوز كل ما من شأنه إعاقة تطوره نحو الغد المشرق، وعندئذٍ سيحترم شخصياته ويحفظ لها أدوارها الريادية وإسهاماتها الكبيرة، دون أن تتحول هذه الشخصيات إلى أصنام.

    -3-

    لقد استغرق الإعداد للكتاب وتأليفه مدة طويلة ربما تزيد على عشر سنوات، وذلك بغية الوقوف على أكبر قدر من المعطيات التاريخية، على اختلاف مصادرها وتنوع اتجاهاتها. وقد بذلت قصارى جهدي في الوقوف على استنتاجات سليمة ومنصفة، وذلك عن طريق جمع المعلومات وقراءتها بعيداً عن التحيّز.

    وإن كان هناك من امتنع عن تقديم المعلومات والمعطيات وأحجم عن إبداء رأيه في وقتٍ كان فيه تقديمها ضرورياً للكشف عن الحقيقة. وأذكر على سبيل المثال: السيد كاظم الحائري الذي امتنع عن إبداء رأيه في ما يخصه من معطياتٍ، كان هو أحد أركانها الرئيسية، كما في موقفه من فتوى أستاذه الشهيد الصدر بفك الارتباط بين الحوزة الحزب. ولذلك اقتصرت على الرأي الآخر الذي كشف عن مخالفات السيد الحائري لأستاذه الشهيد في هذهِ المسألة. كما أُذكِّر بموقف الشيخ محمد مهدي الآصفي الذي امتنع عن التعليق على ما نقله السيد عبد الكريم القزويني بخصوص تكليف الشهيد الصدر له بإبداء حيثيات وأسباب فتوى الشهيد بفك الارتباط بين الحزب والحوزة، وكان الآصفي ـ يومها ـ في الكويت. وقد عبّر الآصفي بقوله: ""إنه يسيئ الظن بذاكرته""، مع إني استبعد ذلك لجهة الأهمية البالغة لمثل هذا الحدث، الذي قلّما ينساه الإنسان، إلاّ إذا حصل طارئ صحي، فيكون شاملاً وعاماً.

    كما أُذكِّر بموقف السيد محمود الهاشمي (الشاهرودي) الذي امتنع عن أية إجابة بخصوص التساؤلات التي يثيرها البحث، وكنت عرضتها عليه وسعيت إلى توسيط صهره السيد محمود الخطيب لإقناعه دونما فائدة.

    ومهما يكن من أمر، فإني أُذكرِّ القارئ العزيز بالآتي:

    يُمثِّل الكتاب ـ خاصة في قسمه الأول ـ تاريخاً للشهيد الصدر ولمرحلةٍ مهمة عاشها الشهيد بتفاصيلها الحلوة والمرة، وبانتصاراتها وانتكاساتها، بصورها المشرقة وصورها الباهتة، بأفراحها وأحزانها.. ولذلك فقد تلبَّستُ لبوس المؤرخ، فما ورد من أحداث ووقائع فقد ورد في ضوء ما وصلني من معطيات نَسبتُها إلى مصادرها من الشهادات التي أدلى بها المعنيون، وقد بذلت قصارى جهدي في التحقق منها والموازنة بينها لاستخلاص النتائج المناسبة، ولم أكن ـ أبداً ـ في وارد المحاكمة أو الحكم على الناس والشخصيات، فربما كان لهم الأعذار والعلل التي يتعللون بها لتبرير مواقفهم التي بدت من وجهة نظر ما سلبية.

    ولذلك فإني أُنبِّه إلى ما اشتمل عليه القسم الأول من الكتاب من صنفين من المعلومات،

    [mark=CCCCCC] الصنف الأول:[/mark] المعطيات والشهادات التي أدلى بها المعنيّون، ويتحمل مسؤوليتها المعنيون والمدلون هؤلاء.

    [mark=CCCCCC]والصنف الثاني: [/mark]التحليلات والاستنتاجات التي سجّلتها في الكتاب، وهي وجهات نظر أتمنى على القارئ قراءتها ـ كوجهة نظر ـ والتأمل فيها، وله الحق بعد ذلك في قبولها أو ردِّها، وفقاً لأصول الجدل والمناقشة.

    إنّ ذكر بعض المواقف التي توصف بالسلبية والتي صدرت من البعض لم يكن بداعي التعريض والانتقاص والتحريض، وإنما ذكرت لغرضٍ تاريخي، ألزمنا المنهج العلمي عدم إغفاله أو تزويره وتصحيفه، ولذلك ذكرناه من باب تسجيل الأحداث والوقائع لا من باب محاكمة الناس والحكم عليهم.

    خلا الكتاب من الألقاب الخاصة بعددٍ كبير من الشخصيات التي وردت الإشارة إليهم. وذلك التزاماً بالمنهج العلمي الذي يفرض المساواة في الألقاب واقتصرت على وصف (الشيخ) أو (السيد) و(الشهيد)…

    وضعت للكتاب ملاحق عديدة، وهي عبارة عن رسائل للشهيد الصدر أحيل إليها في البحث، ورسائل أخرى وردت الإشارة إليها في البحث أيضاً، كما أني وضعت فيها رسائل وردتني من عدد من السادة العلماء للتعبير عن تقديرهم إبّان صدور كتابي الأول عن الشهيد الصدر.

    وقد وردت من: الشيخ محمد باقر الناصري، والشيخ عبد الهادي الفضلي، والسيد حسين هادي الصدر. وقصيدة من الشيخ جعفر الهلالي..

    أتمنى على القارئ العزيز قراءة الكتاب كاملاً، خاصة بقسمه الأول، وعدم الاكتفاء بقطعٍ أو فقراتٍ منه، لتكمّل الصورة عنده، ولئلا يفهم من بعض القطع أو الفقرات ما يُعدّ إساءة ظنٍ أو اتهاماً لأحد، أو انتقاصاً له.

    وختاماً، أتوجه بالشكر الجزيل إلى جميع من أفادني من العلماء وأصحاب الشهادات والمعنيين، ممن تحدثت إليهم وقابلتهم أو راسلتهم وأجابوا على ذلك، وقد يجد القارئ قائمة خاصة بالمقابلات والأحاديث.

    كما أتوجه بالشكر إلى جميع الأصدقاء الذين دأبوا على تشجيعي لإكمال الكتاب، وأُفرد شكراً للأخ العزيز الشيخ علاء عبد علي الذي أعانني في تصحيح الكتاب وملاحقة شؤون التنفيذ. وأحمده تعالى على التوفيق وأسأله التسديد.

    [align=center]محمد السيد طاهر الياسري الحسيني
    دمشق 25/3/2005م
    14/صفر/ 1426ه
    [/align]
    [/align]





  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    [align=justify]

    الإمام الصدر … سطور ساخنة

    "" اقترح الدكتور زكي نجيب محمود على طالب عراقي أن يكون الفكر الفلسفي للإمام محمد باقر الصدر موضوعاً لرسالة الماجستير التي يعدّها فاعتذر الطالب. فكتب الدكتور زكي محمود في صحيفة (الأهرام) بعنوان (أزمة المثقف العربي ) يقول: "" لقد زارني في القاهرة طالب عربي يُعِدُّ نفسه للدراسة العليا. زارني لعله واجد عندي ما يعينه على حسن اختيار الموضوع الذي يدير عليه البحث لنيل إجازة الماجستير، فقلت له في معرض الحديث: إن فلاناً في بلدكم قد قام بجهود فكرية جبارة، كان من حسن حظي أن ألممت ببعضها، وتمنيت لها أن تجد الباحث الناقد المدقق، الذي يعرضها عرضاً نزيهاً يقومّها بالقسطاس العلمي المستقيم، فلماذا لا تجعل نتاج هذا الرجل موضوع بحثك، فتخدم الفكر العربي، لأن الرجل يكاد يكون مجهولاً لنا برغم غزارة الفكر الذي قدمه، فما كان أشد ذهولي حين أجابني الطالب بقوله:إنه لا يستطيع ذلك، وإلا عرّض نفسه للأذى في وطنه إذا عاد ! وليس من شأني الآن أن أسأل لماذا ؟ ولا أن أتعرض لاحتمال ألا يكون الطالب قد صدق القول فيما قال، لا، ليس هذا من شأني، لأنه يكفي أن يكون المناخ الفكري الذي نعيش في أجوائه هو ما يتيح للقائل أن يقول كلاماً كهذا، إن هذا الموقف الواحد مشحون بالدلالات على أن المثقف الأصيل في بلادنا مُحْبَط إلى الدرجة التي يمكن أن تقوض لنا كل أمل في النجاة"".زكي نجيب محمود - هموم المثقفين

    أول الطريق

    في مدينة (الكاظمية) من ضواحي العاصمة العراقية (بغداد) ولد الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وبالتحديد في يوم الأحد في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة من عام (1353ه‍)، الموافق للثامن والعشرين من شهر شباط / فبراير من عام (1935م)(1).

    كان مولد مبعث فرحة عارمة اهتزت لها جوانب البيت الذي ضمَّ السيد حيدر الصدر وكريمة آل ياسين، وقد مضى على أول مولود لهما ما يربو على عشرة أعوام. وها هو الوليد الثاني يُطل عليهما بالفرح والسرور والألفة والمودة. لكن القدر فاجأ البيت ودخله دون استئذان فهزّ أركانه بقوة معلناً وفاة الأب (السيد حيدر الصدر). كان ذلك في عام (1356هـا)، ولم يمض على ولادة الشهيد الصدر ما يزيد على ثلاثة أعوام.

    لم يع الشهيد الصدر أو يدرك فصلاً من حياة أبيه، ولم تحمل ذاكرته شيئاً ينتمي إلى تلك المرحلة. لكنه ـ لابد ـ شكَّل في ذهنه صورة عن أبيه، صنعها من أحاديث كبار الأسرة، الأم والأخوال والأخ الأكبر. الأم التي سهرت على أولادها (إسماعيل، محمد باقر، آمنة) وظلت عليهم عاكفة تنميهم من ذلك النبع الصافي الذي استقى منه الأب (الراحل)، والأجداد، أجداد الأب والأم معاً.

    وهل يغيب السيد حيدر (الأب الراحل) عن الذاكرة، وهل للأيام وتقادمها أن تذهب بأيامه، وتعطل الذاكرة عن تخيل صورته. كيف وهو العالم الذي ترك بصماته في عالم الفكر يُردِّد (اسمه) أساطين العلماء.

    ونقدِّر أنَّ ذاكرة الشهيد الصدر احتفظت بصورة (الأب) كلما كبر دون أن تطفئ (السنون) وهج هذه الصورة وتلألأها.

    لا نعرف ـ بالضبط ـ أحاسيس ذلك (الصبي) الذي فتح عينيه على الدنيا ولم يعثر على (أبيه) أمامه. أي عالم هو ذلك العالم الذي يغيب فيه الأب. فتتكسر العبرات في صدر الأم والأطفال، وتتزاحم الذكريات في (فضاء) الذهن على أنغام موسيقية جميلة توشحها عبارات (بابا). وقد ينصرف ذلك الطفل ـ أي طفل ـ إلى التعويض عن أساه بقوة وعنف، لعله يدرك ما فاته ويعوض خسارته الجسيمة، وهو ما ينتهي به إلى نتائج جد غريبة. وهي نتائج ـ بحق ـ مذهلة ، يحار العقل في تفسيرها وتحليل مضامينها وتفكيك ألغازها. إذ لاحظ علماء النفس من خلال عمليات استقراء وبحوث ميدانية أن ذلك التعويض غالباً ما يسير في اتجاهين، إلى الإجرام مرة، أو إلى العبقرية أخرى. وإن كان الاتجاه إلى الإجرام قد يبدو مبرراً في عالم يغيب فيه (الأب) المسؤول عن التربية والإشراف، ففي الاتجاه إلى الإبداع والعبقرية سرّ كبير، يتجاوز الصدفة ويرقى إلى القانون.

    ولأنْ عُدم الشهيد الصدر الحنان الأبوي، فقد حوته أحضان دافئة وأياد بارة وقلوب رحيمة محضته الاهتمام والعناية. خاله الكبير ـ عميد أسرة آل ياسين ـ المرجع الشيخ محمد رضا آل ياسين شمله بما لم يشمل غيره من العناية والإحاطة والود، فيما كان لخاله الفقيه الشيخ مرتضى آل ياسين مثل ذلك بل وأكثر، ولم يتخلف الشيخ راضي آل ياسين عنهما في بره وحبه. وكان لثانيهما ـ أعني الشيخ مرتضى آل ياسين ـ دور كبير في حياة الشهيد الصدر ليس في بواكير حياته وحسب، وإنما في حياته فيما بعد، وقد تبوأ الشهيد مكاناً جدُ كبير في الميدان العلمي والاجتماعي والسياسي.

    أما الأخ الأكبر السيد إسماعيل الصدر، وإن شئت قلت الأب (الاحتياطي) فهو كما وصفه الشهيد الصدر في ترجمة أخيه السيد إسماعيل كتبها بخطه الشريف(2) يقول في بعض فقراتها:

    (… رافقته أكثر من ثلاثين سنة كما يرافق الابن أباه، والتلميذ أستاذه، والصديق صديقه والأخ أخاه في النسب، وأخاه في الآمال والآلام، وفي العلم والسلوك...). وكان الشهيد الصدر قد كتب ـ على ما نقله البعض ـ على نسخة من كتابه (اقتصادنا) أهداها أخاه السيد إسماعيل الصدر: (أخي بل أبي أفديه نفسي..)(3).

    رعاية أخواله له لا تعني أنه عاش في عالم (ارستقراطي) كما قد يتخيل، فالأخوال - خاصة عميد الأسرة - لم يعرفوا في أوساط الناس بتمولهم وملاءتهم، فعاش الصدر حياة الفقر والعوز بما لا مزيد عليه، يكابده بجلد وصبر، ويقارعه بجد واجتهاد، ويلويه بكبرياء وأنفة وعناد. كانت الأهداف الكبيرة تشده إليها بقوة، أشبه ما تكون بقوى الجاذبية الهائلة، يترنم بانشودتها التي ملأت طريقه وأضاءت أمامه السبيل.

    كان الطريق واضحاً يخطو خطواته، بخطى ثابتة، وعزيمة منقطعة النظير، تبدو له عشرات الصور، صور الآباء والأجداد، وبطولاتهم وتفانيهم في سبيل العلم والجهاد والدين، تلك الصور التي يمكن أن تكون من أبرز مصادر العبقرية. ولم لا؟! وقد أثبتت الدراسات الحديثة ما للمثل والقدوة من تأثير في تفجير الطاقات واستنهاض الهمم.

    التاريخ الأسري

    ينتمي الإمام الشهيد الصدر إلى أسرة تتصل بوشيجة النسب إلى رسول الله (ص)، وبالتحديد إلى الإمام موسى الكاظم (ع) عن طريق ابنه إبراهيم المرتضى (210ه‍).

    ونسب الشهيد الصدر كما حققناه في كتاب سابق، وفي عدد من المصادر كالآتي(4):

    "" محمد باقر بن حيدر بن إسماعيل بن صدر الدين بن صالح بن محمد بن إبراهيم (شرف الدين) ابن زين العابدين بن علي (نور الدين) بن (نور الدين) علي بن (عز الدين) الحسين بن محمد بن الحسين بن علي بن محمد بن تاج الدين المعروف بأبي الحسن ابن محمد ولقبه (شمس الدين) بن عبد الله ويلقب (جلال الدين) ابن أحمد بن حمزة بن سعد الله بن حمزة بن (أبي السعادات) محمد بن (أبي محمد) نقيب نقباء الطالبيين في بغداد بن (أبي الحارث) محمد بن (أبي الحسن) علي المعروف (بابن الديلمية) ابن (أبي طاهر) عبد الله بن (أبي الحسن) محمد المحدّث بن أبي الطيب طاهر بن الحسين القطعي بن موسى (سبحة) بن إبراهيم (المرتضى) ابن الإمام الكاظم بن الإمام الصادق بن الإمام الباقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب (عليهم السلام) "".

    وتعرف أسرته بآل الصدر، نسبة إلى صدر الدين (1263ه‍). يلقب بالكاظمي أحياناً نسبة إلى الكاظمية موطن الأسرة مؤخراً. ولذا عدّ الدكتور حسين محفوظ أسرة (آل الصدر) في (بيوتات الكاظمية)(5). وقد وجد بعض الأفاضل(6) في بعض ما كتبه الفقيه الشيخ محمد تقي الجواهري أنه ـ أعني الشهيد الصدر ـ يعرف بالحيدري. ولعلّها نسبة إلى والده السيد حيدر.

    وقد عرفت أسرته في بعض الأزمان القديمة بعدة تسميات منها:

    - آل (أبي سبحة) نسبة إلى موسى (أبو سبحة) بن المرتضى إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم. وبـا(موسى) هذا، تلتقي أسرة آل الصدر مع آل الشريفين المرتضى والرضي، وتفترق عنهم في (الحسين) جد (آل الصدر)، فيما يفترق آل الشريفين بـا(محمد الأعرج) والد (موسى الأبرش) الذي أعقب ثلاثة أحدهم أبا أحمد الحسين النقيب والد الشريفين.

    - آل القطعي نسبة إلى الحسين القطعي بن موسى (أبو سبحة)...

    - آل أبي الحسن (واسمه عباس كما عن الميرزا النوري في خاتمة مستدرك الوسائل)(7).

    - آل شرف الدين، نسبة إلى إبراهيم المعروف بـا(شرف الدين) المتوفى عام (1080ه‍)، وهو الجد الخامس للشهيد الصدر، ولازالت النسبة قائمة إلى اليوم، وإليه تنسب الأسرة العلوية المعروفة في العراق وجبل عامل عدا (آل الصدر) حيث انتسبوا إلى جدهم السيد محمد المعروف بــا(صدر الدين) بن صالح بن محمد بن إبراهيم (شرف الدين) المشار إليه آنفاً.

    والمعروف اليوم أن أسرة (آل الصدر) لبنانية الأصل، وبالتحديد من (جبل عامل)، إلاّ أنّ الأصح أنها عراقية قبل ذلك، فقد كان العراق موطن الأجداد منذ أصبح موطن الأئمة (ع).

    قال علي الخاقاني في كتابه (شعراء بغداد) في ترجمة السيد أبو الحسن الصدر: (وآل الصدر من الأسر العلوية والعلميّة الشهيرة في العراق، وقد كان موطنها الأول في بغداد وكربلاء، وتعرف يومذاك بآل الحسين القطعي، ومن هذه الأسرة العلمان الشهيران السيد المرتضى والسيد الرضي يجمعهم جدّ واحد هو السيد موسى المعروف بأبي سبحة. وأسرة آل الصدر موسوية، أي تنتسب إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) عن طريق ولده السيد إبراهيم المرتضى وهو مدفون في مشهد الإمام الحسين (ع) قريباً من الضريح. وهو غير السيد إبراهيم المجاب الذي له ضريح في الرواق. وبقي أفراد هذه الأسرة في كربلاء يتناسلون. وقد هاجر بعضهم إلى لبنان ـ جبل عامل ـ وقد عرفوا بآل شرف الدين ونسبته إلى العلاّمة السيد إبراهيم الملقب بشرف الدين، ولا يزال قسم من أولاده يقيمون هناك، وقد رجع إلى العراق حفيده صالح بن محمد على أثر اشتداد طغيان الجزار حاكم (عكا) حيث عاث فساداً وطغى وبغى، فلم ير السيد صالح بُداً من الهجرة فتوطن النجف وبقي فيها يتمتع بالمرجعية وبالحلقات التي يعقدها لطلابه، وهو جدّ أسرة آل الصدر المقيمة اليوم في الكاظمية)(8).

    أما هجرتهم إلى جبل عامل فلا نعرف بالتحديد تاريخها ولا أول من هاجر منهم إليها. وفي حدود اطلاعي لا أعرف ـ منهم ـ أحداً أسبق من جدهم الشهيد عز الدين الحسين بن أبي الحسن المعروف بالموسوي العاملي الجبعي (نسبة إلى جبع) وهو الجد التاسع للشهيد الصدر.

    وكان عز الدين الحسين ـ المذكور ـ من المعاصرين للشهيد الثاني (966) استشهد عام (963ه‍) أي قبيل استشهاد الشهيد الثاني بسنة أو سنتين على اختلاف الروايات في شهادة الأخير.

    وتذكر مصادر التراجم(9) أنه ولد في جبع (من قرى جبل عامل) عام (906 ه‍) ونشأ فيها ودرس عند والد الشهيد الثاني وعدد آخر من أبرز علماء الجبل من أمثال الشيخ علي الميسي (938 ه‍‌) والسيد حسن بن السيد جعفر الكركي الموسوي (933ه‍).

    أما قبل هذا التاريخ فلا نعرف أحداً أسبق منه، ولا نعرف سبب هجرة والده أو جده على أقل تقدير، إذ أن الشهيد عز الدين الحسين ولد في جبل عامل، وهو ما يؤكد أن الهجرة أسبق من هذا التاريخ. ولا نعرف ـ كذلك ـ سبب الهجرة ودوافعها، وإن كنا نرجح أن تكون لسبب علمي، فالأسرة كما هو معروف علمية عاشت منذ وقت طويل قلق المعرفة، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار ما كانت عليه (حوزة) النجف وغيرها من المراكز العلمية الشيعية، إذ عرف (جبل عامل) في تلك الفترة بالازدهار العلمي وتطور مدارسه العلمية فيه وتقدمها على أيدي عدد من أعلامها من أمثال الشهيد الأول والشهيد الثاني.

    يبقى أن نشير إلى أن ما يتردد على بعض الألسنة عن الأصل الفارسي لأسرة آل الصدر هو عبارة عن محض توهم إن لم يكن افتراء متعمداً تسوقه دوائر سياسية أحياناً أو مذهبية أحياناً أخرى. وإن كان بعض رجال الأسرة قد توطن (إيران) فهو تاريخياً لا يتجاوز المائة وخمسين عاماً، وقد يقترن مع توطن السيد محمد علي نجل السيد صدر الدين المعروف (بآقا مجتهد) المتوفى عام (1280 ه‍)‍ حيث أقام بأصفهان. أما السيد صدر الدين جدّ الأسرة فهو من مواليد (جبل عامل) عام (1193ه‍) ونشأ في العراق بين بغداد وكربلاء والنجف، وأقام في إيران مدة بناء على طلب علماء أصفهان عقيب عودته من زيارة الإمام الرضا(ع)، وكانت أصفهان يومذاك مركزاً علمياً مرموقاً، وقد تخرج من مجلس بحثه عدد من أكابر العلماء في مقدمتهم الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (1281ه‍)، ولم تطل مدة إقامته هناك فقد عاد إلى النجف وتوفي فيها عام (1263ه‍).

    ومهما يكن من أمر، فقد عُرف رجال الأسرة بشغفهم وحبهم للعلم والمعرفة وبذل مهجهم في طلبه وهو ما يفسر انتشارهم في عدد من المراكز العلمية على توزعها وبُعد المسافات بينها، فكان لهم الدور الكبير في إثراء الفكر والثقافة الإسلاميين في النجف وكربلاء والكاظمية وخراسان وأصفهان ومكة وسامراء ومصر واليمن والهند، ويمكن القول بثقة عالية إنه لم يخل مركز علمي منهم على الإطلاق(10). وهو أمر يكاد لا يخفى على المراقب فضلاً عن الباحث، وهو ما يظهر بشكل واضح في ما كتبته الجاسوسة البريطانية المس بيل التي تحدثت في إحدى رسائلها عن الصعوبات التي واجهت الاحتلال البريطاني ومحاولة البريطانيين الاتصال بالعلماء الشيعة وفي المراكز الشيعية بالتحديد فتقول في بعض الفقرات: (… وهناك مجموعة من هؤلاء الذوات في الكاظمية، المدينة المقدسة الواقعة على بُعد ثمانية أميال من بغداد، المتطرفة في إيمانها بالوحدة الإسلامية والمتشددة في مناواة الإنجليز وفي مقدمة هؤلاء أسرة الصدر التي قد تكون أبرز أسرة عرفت بالتعليم الديني في العالم الشيعي كله..)(11). وقد اشتهر من عموم الأسرة (المعروفة الآن بآل شرف الدين وآل الصدر) عدد كبير من رجال الفكر والثقافة لعل في مقدمتهم على اختلاف العصور: الشهيد عز الدين الحسين بن أبي الحسن (963ه‍)، ونجله السيد علي (كان حياً سنة 999ه‍ ) أحد أبرز تلامذة الشهيد الثاني، والسيد محمد نجل السيد علي (1009ه‍) والمعروف بصاحب المدارك، ونجله الشريف السيد حسين (1069ه‍)‍، والسيد نور الدين علي بن السيد علي (1068ه‍‍‍)‍ وهو أخو السيد محمد صاحب المدارك لأبيه وكان أحد أبرز رموز مدرسة (مكة المكرمة) يومذاك، والسيد صالح شرف الدين (1217ه‍‍) وبهجرته من جبل عامل إثر حادثة الجزار استقر معظم رجال الأسرة في العراق وعودتهم إليه بعد هجرتهم الأولى منه، والسيد صدر الدين الصدر (1263ه‍) والذي تنسب إليه أسرة (آل الصدر) على وجه التحديد، ونجله السيد محمد علي (1280ه‍)والمعروف بآقا مجتهد، والسيد الهادي أبو الحسن (1241ه‍)، ونجله السيد حسن المعروف بالصدر (1354ه‍)، ونجله السيد محمد الصدر الذي تولى منصب مجلس الأعيان ورئاسة الوزراء بدايات تأسيس الدولة العراقية، والسيد عبد الحسين شرف الدين (1377ه‍) وغيرهم عشرات..

    وممن أشتهر من (آل الصدر) بوجه خاص وفي القرن الحالي على وجه التحديد:

    [mark=99CC00]- السيد إسماعيل الصدر:[/mark]


    هذه الصورة منتشرة على أنها صورة المجدد الشيرازي"قد"
    ولكن السيد صدر الدين الصدر"قد" يشهد أنها لوالده السيد إسماعيل الصدر
    (موقع موسوعة ال الصدر- جماعة احياء تراث الصدر)



    وهو جد الشهيد الصدر المباشر، من مواليد (1258ه‍) بأصفهان يوم كان والده السيد صدر الدين مقيماً بها. عاد منها إلى النجف الأشرف ليدرك بحث الشيخ الأعظم الأنصاري فلما وصل كربلاء بلغه نعيه فواصل مسيره إليها واختص بعددٍ من أكابر النجف الأشرف في مقدمتهم السيد المجدد الشيرازي (1312ه‍) الذي قرَّبه إليه وأشاد بمكانته، ويفسِّر ذلك رغبة السيد المجدّد في أن يشاركه السيد الصدر التوقيع على رسالته إلى شاه إيران مطالباً بإلغاء المعاهدة الإيرانية ـ البريطانية(12).

    وعقيب وفاة السيد المجدد الشيرازي برز السيد إسماعيل الصدر ثالث ثلاثة كان الميرزا محمد تقي الشيرازي احدهما في سامراء، وشيخ الشريعة ثانيهما في النجف الأشرف، فيما اختار السيد الصدر كربلاء.

    وقد أسهم السيد إسماعيل الصدر إسهاماً فكرياً كبيراً ورفد الحركة العلمية بعدد من النظريات الفقهية والأصولية. وفضلاً عن ذلك عرف بإطلاعه الواسع على عدد من العلوم العقلية التي لا يعرف من أين أخذها وعلىمن تتلمذ فيها. وتخرج من مجلس بحثه عدد كبير من مراجع الدين لعل أبرزهم الشيخ محمد حسين النائيني (1355ه‍) والشيخ محمد رضا آل ياسين (1370ه‍) والسيد عبد الحسين شرف الدين (1377ه‍).

    توفي إسماعيل الصدر سنة (1338ه‍) وأعقب أربعة ذكور وهم: السيد محمد مهدي (1358ه‍) والسيد محمد جواد (1361ه‍) والسيد صدر الدين (1373ه‍) والسيد حيدر (1356ه‍)(13).

    [mark=99CC00]- السيد محمد مهدي الصدر: [/mark]



    وهو عم الشهيد الصدر من مواليد الكاظمية عام (1296ه‍) ونشأ في سامراء على عهد المجدد الشيرازي أيام إقامة والده فيها. واختص فيما بعد بعدد من أبرز علماء النجف الأشرف في مقدمتهم الشيخ كاظم المعروف بالآخوند الخراساني (1329ه‍) صاحب الكفاية، والشيخ أغا رضا الهمداني (1322ه‍) والشيخ محمد طه نجف (1323ه‍).

    رجع إلى الكاظمية وأسهم في الحياة العقلية والسياسية بشكل استثنائي، وكان له دور كبير في ثورة العشرين. وبرزت زعامته بقوة عقيب وفاة خاله السيد حسن الصدر.

    توفي السيد مهدي الصدر عام (1358ه‍)(14).

    [mark=99CC00]- السيد صدر الدين الصدر: [/mark]



    وهو عم الشهيد الصدر، غلب عليه اسم (صدر الدين) بدلاً من (محمد علي) اسمه الحقيقي، ولد في مدينة الكاظمية عام (1298ه‍) ونشأ في سامراء أيام إقامة والده فيها. درس العلوم الإسلامية في سامراء وأتمها في النجف الأشرف وأختص بالآخوند الخراساني.

    سافر عقيب والده إلى إيران، وبالتحديد عام (1339ه‍) وأقام في (مشهد) ما يقرب من خمس سنوات إلاّ أنه عاد إلى النجف مرة أخرى عام (1344ه‍) ما لبث بعدها أن عاد إلى إيران وتوطن (قم) على عهد زعيمها الشيخ عبد الكريم الحائري (1326ه‍) وخلفه على زعامة المركز العلمي والمرجعية الدينية مع عدد من المراجع. توفي عام (1355ه‍)(15).
    [mark=99CC00]
    - السيد موسى الصدر:[/mark]



    وهو نجل السيد صدر الدين ـ المتقدم ذكره ـ الذي أعقب ثلاثة من الذكور أحدهما السيد رضا الصدر وهو من مشاهير فقهاء إيران (1415ه‍)، وثانيهما السيد موسى الصدر، وهو من مواليد (قم) في العام (1349ه‍) أيام إقامة والده فيها. نشأ في إيران وحاز إجازة في الحقوق، وحضر أبحاث علماء (قم) ثم انتقل إلى النجف الأشرف وحضر أبحاث كل من الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد الحكيم (1390ه‍) والسيد الخوئي (1413ه‍)‍.

    عاد إلى لبنان بناء على طلب أهالي صور عقيب وفاة السيد عبد الحسين شرف الدين، وأثناء وجوده في لبنان أنشأ في (1969) المجلس الشيعي الأعلى، وفي العام (1975) أسس أفواج المقاومة اللبنانية (أمل).
    وعقيب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام (1978) قام بجولات على عدد من الدول العربية، اختفى أثناءها في ليبيا(16).

    [mark=99CC00]- السيد حيدر الصدر:[/mark]



    وهو والد الشهيد الصدر، ولد في (سامراء) في العام (1309ه‍)‍ أيام إقامة والده السيد إسماعيل الصدر فيها، ونشأ في كربلاء، وأخذ علومه على أعلامها في مقدمتهم والده السيد إسماعيل والشيخ عبد الكريم الحائري أثناء إقامته في كربلاء.

    عرف السيد حيدر بالذكاء والعبقرية، وصفه السيد حسن الصدر: (السيد الوحيد السيد حيدر، أحد فضلاء عصره وحسنات الزمان العالي الاستعداد، قوي النظر في الفقه والأصول، عداده في الفضلاء والمحققين)(17). فيما وصفه السيد عبد الحسين شرف الدين في (بغية الراغبين): (عرفته طفلاً فكان من ذوي العقول الوافرة، والأحلام الراجحة، والأذهان الصافية، كان وهو مراهق في أوائل بلوغه لا يسبر غوره، ولا تفتح العين على مثله في سنه، تدور على لسانه مطالب الشيخ مرتضى الأنصاري ومن تأخر عنه من أئمة الفقهاء والأصوليين وله دلوٌ بين دلائهم قد ملأه إلى عقد الكرب. يقبل على العلم بقلبه ولبه وحواسه، فينمو في اليوم ما ينمو غيره في شهر. ما رأيت عيني ولا سمعت أذني بمثله في هذه الخصيصة. وقد رأيته قبل وفاته بفترة يسيرة، وقد استقر من جولته في غاية الفضل لا تبلغها همم العلماء، ولا تدركها عزائم المجتهدين. والحق أن السيد حيدر قد بلغ من الفقه والأصول على حداثة سنّه مبلغاً يستوجب أن يكون في الطليعة من شيوخ الإسلام، ومراجعه العامة، ولعلّي لا أعرف ـ غير مبالغ ـ من يرجح عليه بشيء ما في ميزان من موازين الفقه الراجحة.. كان بناء شامخاً ملحوظ الشموخ في الأوساط العلمية، ولرأيه وزن عند المحققين، وقوله عندهم فصل الخطاب. وقد يورد المشكلة النظرية في فقه أو أصول فتدوي في الأوساط، وتتناولها أفكار الأساطين وألسنتهم بحثاً وجدلاً وأخذاً ورداً أياماً وأسابيع، ثم تظل في مكانها من الدقة والغموض، وتظل العقدة ـ الحيدرية ـ كما ساقها متقنة محتبكة، حتى يبسط عليها من بيانه ما يحل مِرَّتها ويكشف غموضها..)(18).

    توفي السيد حيدر في العام (1356) ه‍ ودفن في الكاظمية. وأعقب من الأولاد ثلاثة: إسماعيل، محمد باقر، آمنة.

    [mark=99CC00]- السيد إسماعيل الصدر:[/mark]



    نجل السيد حيدر الصدر من مواليد الكاظمية عام (1340ه‍)، نشأ فيها وأكمل دراساته (ما قبل الدراسات العليا) بها، وانتقل في العام (1365ه‍)‍ إلى النجف الأشرف، وحضر أبحاث كل من خاله الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد محسن الحكيم والسيد الخوئي.

    كتب ترجمته في مستدركات (بغية الراغبين) للسيد شرف الدين، شقيقه الإمام الشهيد الصدر يقول: (كان رحمه الله آية في الذكاء والفطنة، وحضور الذهن، وسرعة الانتقال، ومن الأفذاذ في خلقه وتواضعه وطيب نفسه، وطهارة روحه، ونقاء ضميره، وامتلأ قبله بالحب والخير لجميع الناس، رافقته أكثر من ثلاثين سنة كما يرافق الابن أباه، والتلميذ أستاذه، والأخ أخاه في النسب، وأخاه في الآمال والآلام، وفي العلم والسلوك، فلم أزدد إلاّ إيماناً بنفسه الكبيرة، وقلبه العظيم، الذي وسع الناس بحبه، ولم يستطع أن يسع الهموم الكبيرة التي كان يعيشها من أجل دينه وعقيدته ورسالته فأسكت هذا القلب الكبير في وقت مبكر. كنت أراه وهو في قمة شبابه منكباً على التحصيل والعلم، لا يعرف طعم النوم في الليل إلا سويعات ولا شيئاً من الراحة في النهار، مكدوراً باستمرار، متنامياً باتصال يزداد علماً يوماً بعد يوم. وهو إلى جانب ذلك مكدود في العبادة والالتزامات الدينية التي تنميه روحياً ونفسياً والتي وصل بسببها في السنوات الأخيرة من إقامته في النجف الأشرف إلى درجة عالية من الصفاء والروحانية.

    ولد رحمه الله في الكاظمية، في (10 رمضان سنة 1340ه‍) وترعرع في كنف والده، وقرأ بعض المقدمات عليه وقرأ السطوح على جماعة، كعمه الإمام السيد محمد جواد الصدر والحجة الميرزا علي الزنجاني. وبعد أن أكمل السطوح تأهب للهجرة إلى النجف، وقد بلغ درجة عالية من الفضل أكبر نسبياً بكثير من مستوى دراسته السطوح، لما يتمتع به من ذكاء ونبوغ وجد. ولا أنسى أنه ألَّف قبل هجرته إلى النجف (رسالة في طهارة أهل الكتاب)، و(رسالة في حكم القبلة للمتحير) وهما تدلان على نضجه العلمي، ودقة واستيعاب لا يصل إليهما عادة إلاّ من طوى مرحلة من بحث الخارج بجد وكفاءة. وقد اطلع وقتئذٍ على الأولى منهما فقيه آل ياسين آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين، فأعجب بما اطلع عليه وذكر أن هذا من بوادر الاجتهاد. وحينما هاجر إلى النجف الأشرف حضر بحثه وأبحاث آيات الله: الشيخ كاظم الشيرازي، والسيد محسن الحكيم، والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد أبو القاسم الخوئي، والشيخ مرتضى آل ياسين، وقد أجيز بإجازة الاجتهاد من السيد عبد الهادي الشيرازي والشيخ مرتضى آل ياسين.

    وكتب آية الله الحكيم بشأنه في جواب جماعة يسألونه عن حاكم شرعي يرجعون إليه في مرافعاتهم يشهد بأنه حاكم شرعي نافذ الحكم. وقد برهن عن نتاج فقهي جليل في تلك الفترة، وهو كتابة شرح استدلالي موسع لكتاب (بلغة الراغبين) في فقه آل ياسين، وهو الرسالة العملية لآية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين. وقد شرح هذا المتن الفقهي في عدة مجلدات تربو على آلاف الصفحات، وهو شرح يدل على مرتبة عالية من الاجتهاد والفقاهة وسعة الاطلاع. وقد شرع (قدس سره) في تدريس الخارج، وحضر عليه جماعة من الطلبة نصف دورة كاملة من الأصول (الخارج). وقد انقطع تدريسه هذا برجوعه إلى الكاظمية حوالي سنة (1380ه‍) حيث أصبح محور العلم والدين ومركزاً لزعامتها الدينية. وقد بدأ في الكاظمية ببحث في التفسير كان يحضره أكثر من مئة من الجامعيين والمثقفين، إضافة إلى تدريساته الأخرى في الفقه والأصول لعدد من علماء المنطقة في الكاظمية وبغداد. وقد ازدهرت الحياة العلمية وأساليب العمل الديني، والتبليغ على يده ازدهاراً كبيراً.. )(19) وكان للسيد إسماعيل الصدر دور بارز في جماعة العلماء في النجف وجماعة علماء بغداد.

    توفي سنة (1388ه‍) وترك عدداً من الأبحاث الهامة يربو عددها على العشرين بحثاً.

    [mark=99CC00]- الشهيدة العلوية آمنة الصدر (بنت الهدى)(20):[/mark]



    وهي شقيقة الشهيد الصدر، ولدت في الكاظمية سنة (1356ه‍ ـ 1936م) ونشأت في ظل أخوالها من آل ياسين وأخيها الأكبر السيد إسماعيل الصدر، ولازمت أخاها الشهيد محمد باقر الصدر مدة حياتها دون أن تتزوج.

    عرفت بالذكاء والنبوغ منذ وقت مبكر، ودأبت على القراءة والمطالعة، وتوفرت على مركز علمي مرموق. ومن الأسف أن لا يحفظ لنا التاريخ شيئاً من يومياتها العلمية وكيف بدأت حياتا الفكرية، إلاّ أن المعروف أنها تتلمذت على أخيها الشهيد الصدر، وعنه أخذت أكثر علومها.

    أشرفت الشهيدة (بنت الهدى) على المدارس الدينية في النجف الأشرف والكاظمية، وكانت تنتقل بين الكاظمية والنجف لهذا الغرض، وأحيت عدداً كبيراً من المجالس والندوات النسائية لغرض رفع المستوى الثقافي للمرأة المسلمة، علاوة على عدد من المحاضرات والدروس التي كانت تلقيها على بعض النسوة.
    كتبت في عدد من الدوريات الإسلامية خاصة في مجلة (الأضواء) التي أصدرتها جماعة العلماء، وأصدرت عدداً من (الروايات): الخالة الضائعة، الفضيلة تنتصر، ليتني كنت أعلم، امرأتان ورجل، لقاء في المستشفى، الباحثة عن الحقيقة، ذكريات على تلال مكة، صراع من واقع الحياة. وعدداً آخر من الكتب في مقدمتها: المرأة مع النبي، بطولة المرأة المسلمة، كلمة ودعوة..

    وتعد روايات الشهيدة بنت الهدى أول مساهمة (نجفية) في كتابة القصة والرواية، وهو (فن) في حدود اطلاعي لا تعبأ به (حوزة) النجف، ولا تقدر تأثيراته الفكرية.

    وفضلاً عن ذلك نشرت عدداً من القصائد في مجلة (الأضواء) وغيرها، وهي قصائد رسالية ذات مضامين فكرية إسلامية معاصرة. ولا نعرف لها قصائد نشرت لها عقيب توقف صدور مجلة الأضواء والمنع الرسمي الذي صادر حرية الصحافة الإسلامية في العراق عموماً والنجف خاصة، وهي ـ أعني الشهيدة ـ لم تعمد إلى جمع قصائدها في ديوان مستقل.

    كان لها دور كبير في انتفاضة رجب (1399ه‍) أثر اعتقال أخيها الشهيد، وتعرضت للاعتقال عقيب الاعتقال الأخير الذي تعرض له الشهيد الصدر وأعدمت معه بتاريخ (8/4/1980) م، (20/ 5/1400) ه‍.

    ____________________
    ملحوظة:الصور مضافة من ناقل الكتاب للشبكة من خلال موقع "موسوعة ال الصدر"

    [/align]





  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    [align=justify]
    في مملكة الفقه

    نشأ الشهيد الصدر في الكاظمية ما يقرب من ثلاث عشرة سنة دخل أثناءها مدرسة (منتدى النشر الابتدائية) التي أسسها السيد مرتضى العسكري وأحمد أمين سنة (1362ه‍)(21).

    وقد يكون عمره الشريف يوم انتسابه إليها تسعة أعوام أو قريباً من ذلك.

    وفي تلك الفترة لفت وجوده انتباه الهيئة التدريسية ومشرفي المدرسة لما يتمتع به من نبوغ وذكاء استثنائيين(22)، إلاّ أنه مع ذلك كان كثير التغيب عن المدرسة مع مواظبته على حضور الامتحانات التي يؤديها بنجاح باهر(23). وقد لاحظ عليه أساتذته أن اهتماماته الفكرية تتجاوز عمره من قبيل اطلاعه في تلك السنّ المبكرة على الفلسفة الماركسية(24) فضلاً عن مطالعاته المتنوعة واطلاعه على الأعمال الفكرية لعددٍ من مشاهير الغرب(25).

    ولم يشأ الشهيد الصدر مواصلة الدراسة في (منتدى النشر) إذ تركها في وقت مبكر، وقد تكون مدة وجوده فيها ثلاثة أعوام أو أكثر قليلاً.

    في العام (1365ه‍)(26) انتقل السيد الشهيد إلى النجف الأشرف بمعية أخيه الأكبر السيد إسماعيل الصدر الذي أكمل تحصيله العلمي في الكاظمية وليواصله على مستوى أعلى في النجف الأشرف.

    هذه الرحلة ستفتح للشهيد الصدر آفاقاً جديدة للعلم والفكر لم يعهدها في الكاظمية التي كانت في يوم من الأيام مركزاً علمياً مرموقاً، إلاّ أنها سرعان ما تخلت عن دورها وذوت أمام تطاول النجف الأشرف وتمركز العلم فيها.

    وربما يكون مفيداً أن نتعرف الأوضاع العلمية السائدة في النجف الأشرف يومذاك من حيث سير الدراسة والمناهج المتداولة، ومن حيث حركة العلم وتطورها، لأن من شأنها أن تساعد القارئ على تشكيل صورة كاملة للنجف الأشرف، تلك الحاضرة العلمية التي درس فيها الشهيد الصدر، ونبغ وتأهل للمراتب العليا.
    فمن حيث المراحل الدراسية تنقسم الدراسة إلى مستويات ثلاثة(27):

    المرحلة الأولى: الدراسات التمهيدية، وتعرف في الحوزات العلمية عموماً بما فيها النجف (بالمقدمات)، ويعني الكتب العلمية التي يدرسها الطالب مقدمة لمسيرته العلمية في الفقه. وتشتمل هذه المقدمات على: الفقه والصرف والنحو والبلاغة والمنطق.

    المرحلة الثانية: الدراسات الوسطى، وتعرف في الحوزات العلمية بـا(السطوح) ولعلّ تسميتها بالسطوح ينبع من مقارنتها بالمرحلة الأعلى، حيث تكون هذه المرحلة سطحية بالنسبة إليها لعدم اعتمادها منهجياً على التوسع في ذكر الدليل ومناقشته أو التعمق فيه. ويُعتمد في هذه المرحلة على كتب تعتبر (متوناً) يتناولها الأستاذ بالشرح والتحليل. وتشتمل هذه المرحلة على كتب في الفقه والأصول وعلم الكلام والحديث والرجال.. ويقسم البعض هذه المرحلة إلى قسمين: السطوح والسطوح العالية ويقصد بالثانية المرحلة الأخيرة منها التي يتوفر فيها الطالب على معارف تؤهله للانتقال إلى المرحلة الأعلى.

    المرحلة الثالثة: الدراسات العليا. وتعرف في الحوزات بمرحلة (البحث الخارج) وتقوم على دراسة شاملة لأدلة المسائل والقضايا الفقهية والأصولية. وسميت بالخارج لأن الدراسة فيها تتم خارج الكتب المقررة حيث تعتمد طريقة المحاضرة. ويختص في هذه المرحلة بالأستاذية كبار العلماء المجتهدين (الفقهاء). ويفترض أن تؤهل هذه المرحلة الطالب إلى الاجتهاد والتوفر على استنباط الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية.

    وهذه المراحل لا زالت اليوم معروفة وسائدة. ولم يطرأ عليها تعديل ملحوظ، ولم يشأ رجال النجف الأشرف وغيرها أن يبتكروا مراحل جديدة، وليس في نيتهم ذلك كما يبدو.

    ولا أعرف ـ وفقاً لما بين يدي من مصادر ـ متى نشأت هذه التسميات وكيف تعمقت وتجذرت. أما الكتب المقررة للتدريس فقد طرأ عليها بعض التغيير إلاّ أنه تغيير يسير، اختفت معه بعض الكتب لتحل محلها كتب أخرى ورثت البقاء. ويحاول رجال النجف (الأشاوس) أن يقاتلوا دون بعض الكتب ويختلقوا لها الكرامات حتى(28)، تأكيداً على قدسيتها وضرورة بقائها وعدم السماح بالكف عن تدريسها، مع أنهم يعترفون بعدم أهلية عدد منها للدراسة(29)، وإن كانت تمثل ولازالت قيمه علمية كبيرة كمصادر رئيسة للبحث والمطالعة.

    ومن حيث المناهج الفكرية السائدة فلا زالت هي هي لم تتغير، بل حتى التقسيمات الشكلية لموضوعات العلوم لم يطرأ عليها تعديل جوهري. ولعل أول تعديل للمناهج الفكرية دخل على يد السيد الشهيد الصدر ابن النجف الأشرف (موضوع بحثنا) عندما أدخل (لغة الاستقراء وحساب الاحتمالات) في علوم النجف الأشرف فصاغ منها منهجاً في الفقه والحديث والأصول والتاريخ و… كما أنه قد يكون أول من حاول إجراء تعديل على التقسيمات الشكلية في الفقه والأصول.

    وقد يكشف هذا الثبات اللامعقول أحياناً عن قدر كبير من الاعتداد بالنفس والثقة، فمدرسة النجف قوية شامخة لا تهتز لما حولها، ولا تتأثر بالتيارات الوافدة. وهو أمر محمود، إلاّ أن القاتل في هذا الاعتداد هو الاستغراق والمبالغة فيه. وتنبع هذه الثقة من قوة الفكر وعمق الثقافة السائدة، والتي يسهر على سيرها عدد من (الأُمناء) من رجال النجف لا تصدهم عن العلم والمعرفة اهتزازات الأيام واضطراب الأمور واختلال نظم الحياة، دأبهم عليه مستمر وانقطاعهم إليه تام وكامل.

    وقد توفرت النجف الأشرف منذ تأسيسها على يد الشيخ الطوسي (446ه‍) على عدد كبير من الأعلام، كان أبرزهم في العصور المتأخرة، وعلى عهد انتقال الشهيد الصدر إلى النجف بالتحديد كل من :

    [mark=CCCCCC]ـ الشيخ محمد رضا آل ياسين (1370).
    ـ الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (1372).
    ـ السيد حسين الحمّامي (1379).
    ـ السيد عبد الهادي الشيرازي (1382).
    ـ السيد محسن الحكيم (1390).
    ـ السيد محمود الشاهرودي (1393).
    ـ السيد أبو القاسم الخوئي (1413).
    ـ الميرزا حسن البجنوردي (1377).
    ـ الشيخ حسين الحلي (1378).
    ـ الشيخ عبد الكريم الجزائري (1382).
    [/mark]

    وعلى الرغم من توفر النجف الأشرف على عدد كبير من الأعلام إلاّ أنها فيما يبدو ـ كانت ـ تشكو من ظاهرة تناقص عدد الطلاب في المراحل ما قبل الدراسات العليا، وهي ما أسماها السيد عبد الحسين شرف الدين بـا(انقطاع الآخر)(30) ، وهي ظاهرة تشكلت على خلفية عدد من العوامل لسنا بصددها.

    وفي مثل هذه الأجواء شاءت الأقدار أن يدخل الشهيد الصدر مدرسة (حوزة) النجف، ذلك الفتى القادم من الكاظمية موطن آبائه، دونما غرابة، فالنجف بنظامها وعاداتها مألوفة له بحكم الوشيجة التي ارتبط بها معها عن طريق الآباء والأجداد الذين ورثوا العلم والمعرفة (كابراً عن كابر) وفقاً لهذا النظام التقليدي.
    ولم يكن للنجف برجالها وحلقاتها الدراسية ومدارسها الدينية العامرة على قلتها يومذاك أن تستغرب دخول هذا الفتى الذي لم يبلغ الثالثة عشرة سنة، فهو ابن أسرة علمية معروفة تخرج منها عشرات الأعلام. وأبوه السيد حيدر الصدر ـ على رغم وفاته مبكراً ـ كان واحداً من أشهر الفقهاء، وإشكالياته العلمية في علم الأصول خاصة تجري على ألسنة أعلام النجف الأشرف. نعم، لم تكن النجف لتستغرب حضور السيد الصدر واختلافه على حلقات الدروس وموائد العلم والمعرفة المنتشرة في الصحن الحيدري والمساجد الكبيرة في النجف ومدارسها الدينية المخصصة لسكن الطلاب ودراستهم، وخاصة وإنه كان يعيش في ظل أخواله أعلام آل ياسين وفي مقدمتهم فقيه النجف الشيخ محمد رضا آل ياسين.

    تاريخياً لا نعرف ـ على وجه الدقة ـ متى بدأ الشهيد الصدر حياته الدراسية وانقطاعه إلى العلوم الإسلامية، كما أننا لا نعرف الكتب التي درسها والظرف الزمني الذي استغرق في ضبطها والتوفر على مضامينها الفكرية، إلاّ أن السيد الحائري(31) نقل عن السيد عبد الغني الأردبيلي أنه ـ أعني السيد الشهيد الصدر ـ قرأ (المنطق) وهو في الحادية عشرة من عمره، كما أنه قرأ كتاب (معالم الأصول) في أوائل السنة الثانية عشرة من عمره. وهو ما ذكره الشهيد الصدر ذاته وبخط يده في الجواب على بعض الأسئلة التي وجهت إليه في هذا الخصوص.

    كان ذلك في الكاظمية كما يبدو، أما في النجف الأشرف فالأمر لا يخلو من غموض إذ لم نتوفر على معلومات كافية ودقيقة، ويفترض أنه انصرف إلى دراسة المرحلة الثانية وهي ما تعرف بـا(السطوح)، وقد ذكر السيد الحائري أن الشهيد الصدر قرأ أكثر أبحاث هذه المرحلة بلا أستاذ معتمداً على قدراته الذاتية وهو ما ذكره الشهيد الصدر نفسه وبخط يده أيضاً(32)، وهو مما لا يمكن استبعاده بالنسبة للشهيد الذي تميز بذكاء وعبقرية استثنائيين.

    وكنت أعتقد إلى وقت قريب أنه لم يحضر في مرحلة (السطوح) عند أحد من أعلام النجف الأشرف، وأنه اكتفى بالحضور عند أخيه السيد إسماعيل الصدر، سواء كان ذلك في الكاظمية أم في النجف الأشرف بعد انتقاله إليها. وقد سجلت ذلك الاعتقاد فيما كتبته عن الشهيد الصدر. ولم يكن اعتقادي هذا نابعاً عن عاطفة غامرة تهدف إلى إشاعة هالة من القداسة وجو من الإعجاز وخوارق العادات، وإنما كان ذلك لعدم التوفر على معلومات كافية في هذا المجال، ولا أدعي أني توفرت عليها، فلا زالت عدة حلقات من حياة الشهيد الصدر الثقافية مفقودة للأسف على خلفية عدد من العوامل لسنا بصددها، إلاّ أني أطلعت على عدة معطيات يمكن على ضوئها رسم صورة أكثر دقة من سابقتها عن حياة السيد الشهيد الصدر الفكرية في بداياتها وانطلاقتها.

    وعوداً على بدء يمكن القول إن حياة الشهيد الصدر العلمية بدأت بشكل طبيعي ولم تخرج على نظام الحوزة، فقد دخل الحوزة من الباب المألوف بدءً بمرحلة المقدمات ومروراً بمرحلة السطوح وانتهاءً بمرحلة الدراسة العليا المعروفة بـا(البحث الخارج)، إلاّ أنه لم يرض لنفسه أن يكون أسير تلك النظم التي وضعت لطالب متوسط القدرات فتعاطى معها بالطريقة التي تتناسب وطاقاته وقدراته الخلاقة.

    وأعتقد أنه أنهى دراساته التمهيدية (المقدمات) معتمداً على قدراته الذاتية وبمعونة أخيه السيد إسماعيل الصدر، وأنه أتمها جميعها في الكاظمية قبيل هجرته إلى النجف الأشرف، وأظنه لم يكفّ عن طريقته هذه في دراساته اللاحقة (السطوح)، إلاّ إنه فيما يبدو حضر عند عددٍ من الأساتذة، وأظن أنه كان حضور إستكشاف ومحاولة لاختبار إمكانيات الأساتذة وفيما إذا كانوا يشبعون رغبته العلمية(33)، ولا يحفظ لنا التاريخ شيئاً عن سيره الثقافي في هذه المرحلة سوى أنه حضر لوقت قصير لدراسة كتاب (اللمعة الدمشقية) عند الشيخ محمد تقي الجواهري (المولود 1341ه‍، وقد استشهد في سجون النظام العراقي) في مدرسة الخليلي الكبرى(34). وأكده لي نجله الشيخ حسن مشافهة عن والده.

    وقد واظب الشهيد الصدر على طريقته الخاصة في دراسة المناهج (الكتب) المقررة التي اعتمد فيها بشكل مباشر على إمكاناته وقدراته الذاتية في مرحلة (السطوح العالية) تلك المرحلة التي تؤهل الطالب للدراسات العليا (بحث الخارج). واعتاد الطلاب في هذه المرحلة دراسة كتابين مهمين ومعروفين هما (المكاسب) في الفقه للشيخ الأنصاري و(الكفاية) للشيخ الآخوند الخراساني في الأصول، وهي كتب يفتقر في دراستها إلى أُستاذ متخصص وعالي القدرات، ويبدو أنه وإن لم يفارق طريقته الخاصة المشار إليها آنفاً، حضر عند عدد من الأساتذة وهم:

    الشيخ محمد تقي الجواهري، حضر عنده الشهيد الصدر لدراسة كتاب (الكفاية)، وقد ذكر لي نجله الشيخ حسن الجواهري في رسالة(35) خاصة أنه رأى بخط والده على الجزء الأول من كفاية الأصول ما نصه ""شرعت في تدريسها إلى … والسيد باقر الحيدري""، وذكر الشيخ حسن في الرسالة ذاتها أنه سأل والده عن السيد باقر الحيدري حيث لم يكن معروفاً لديه، فأجابه والده بأنه السيد محمد باقر الصدر.

    السيد باقر الشخص (1381 ه‍) وقد حضر عنده السيد الشهيد قسماً من كتاب (الكفاية) أيضاً(36). والسيد باقر الشخص من تلامذة الشيخ محمد رضا آل ياسين، ولا نعرف تاريخ حضوره لديه وكم من الوقت استغرق لدراسة هذا القسم، حيث إننا نعلم أن الشهيد الصدر ومنذ وقت مبكر شارك السيد باقر الشخص الحضور عند الشيخ محمد رضا آل ياسين في مرحلة (البحث الخارج)، وذلك قبل تاريخ (1370ه‍)‍ عام وفاة الشيخ آل ياسين، إلاّ أننا نعرف أن السيد الشخص كان كثير الإشادة بالشهيد الصدر والتنويه بذكائه وعبقريته.

    السيد محمد الروحاني (1418ه‍)، ويبدو أن الشهيد الصدر حضر عنده (الكفاية) و(المكاسب) وقد أكد لي هو شخصياً أن الشهيد الصدر حضر عنده درس (الكفاية) لمدة شهرين ثم حضر عنده درس (المكاسب)(37). غير أن السيد محمد باقر الحكيم(38) ينفي أن يكون الشهيد درس عند السيد الروحاني، وإنما بحكم علاقته بالسيد فإنه اتفق معه بأن يقرأ في (الكفاية) ثم يحضر عند السيد الروحاني ويلقيه عليه ليعرف ما إذا كان ثمة غموض أو توهم في ضبط المضامين المعمقة إلى حد الطلاسم والألغاز، وقد ألمح السيد الحكيم إلى أن الشهيد كان يعاني من شرح أُستاذه لكتاب (الكفاية) فاضطر إلى أن يتفق مع السيد الروحاني بالدراسة على هذا النحو المتقدم، وهذا يعني ضمنياً أن الشهيد كان يحضر (الكفاية) لدى أستاذ آخر(39). وأظنه الشيخ محمد تقي الجواهري الذي كان شرحه يتناسب مع طالب متوسط القدرات ولا يحقق رغبات الشهيد الصدر العلمية.

    وقد نُقل عن الشيخ محمد رضا الجعفري أنه يقول: ""طيلة تلك السنوات الثماني عشرة كنا نرى السيد الصدر إما خارجاً من بحث السيد الروحاني أو في الطريق راجعاً أو مازال جالساً لم يكمل الدرس منتظراً حتى ينهي سيدنا الأستاذ بحثه معه ويشرع معنا في البحث. وكان يحضر بحثه الشريف في كل يوم قبل الغروب بساعتين طيلة فترة دراسته""(40).

    ويُستفاد مما نقل عن الشيخ محمد رضا الجعفري:

    إن مدة حضور السيد الصدر عند السيد الروحاني بلغت ثماني عشرة سنة، في وقت ذكر لي السيد الروحاني ذاته أنه حضر عنده خمس عشرة سنة. إلاّ أن ما ذكره الروحاني والجعفري لا يتفق مع ما ذكره الشهيد الصدر ذاته من أن مدة دراسته لدى أساتذة الخارج انتهت بالعام (1375ه‍) في الأصول والعام (1478ه‍) في الفقه. ومع الأخذ بالاعتبار سنة هجرة الشهيد الصدر إلى النجف عام (1365ه‍) يتبين أن مدة دراسته جميعها في النجف لا تصل الرقم الذي يذكره السيد الروحاني والشيخ الجعفري.

    ثم إن الشهيد الصدر لم يعدّ السيد الروحاني في أساتذته في الخارج، فإذا كان قد درس عنده فلا بد أنه درس في مستوى ما يعرف بالسطوح العالية، وهي المستويات التي كان يدرّسها السيد الروحاني.

    إن دراسته عند السيد الروحاني خاصة، إذ لم يكن يحضر البحث الخارج المألوف مع الطلاب الآخرين، وهذا يدعم وجهة النظر التي ترى إن دراسته دراسة المباحثة.

    ويؤيد ذلك ما نقله لي السيد محمد حسين فضل الله من أن الشهيد الصدر هو الذي حببَّ له في العام (1371ه‍) أن يحضر عند السيد الروحاني أصولاً.

    وربما كان عمر الشهيد الصدر – يومذاك - تسعة عشر عاماً، وقد حضر فعلاً، ولم يكن يحضر معه في الدرس الشهيد الصدر لا فقهاً ولا أصولاً(41).

    ومع ذلك، يمكن أن يقال إنه درس عند السيد الروحاني، في حدود المستويات الدراسية المتوسطة، كما أنه باحث واستفاد منه. ولذلك كان يُعبِّر عنه بالأستاذ كما نقل لي الشيخ محمد إبراهيم الأنصاري حيث قرأ ـ كما نقل ـ إهداء الشهيد الصدر السيد الروحاني كتابه (فلسفتنا) وقد أهداه إليه بعبارة (سيدي وأستاذي)(42). كما نقل لي الشيخ الأنصاري أنه سمع من السيد علي السيستاني (المرجع) أن الأخير زار السيد محمد النوري في غرفته بمدرسة الخليلي بصحبة الشيخ علي أصغر الشاهرودي ووجد عند النوري كتاب الشهيد الصدر (غاية الفكر) وقد أهداه الشهيد للسيد الروحاني بعبارة (سيدي وأستاذي ومن إليه استنادي)(43).

    وأُقدر أن الشهيد الصدر أكمل دراسته للمرحلة الثانية (السطوح) في ظرف زمني قصير لا يتجاوز في أكثر التقديرات أربعة أعوام، ابتداء من عام (1365ه‍) إلى ما قبل (1370ه‍) عام وفاة خاله الفقيه الشيخ محمد رضا آل ياسين الذي حضر بحثه الذي يصنَّف علمياً في مرحلة الدراسات العليا. كما أنه ألفّ في العام (1371ه‍)(44) كتابه (غاية الفكر) وهو ما يؤكد أنه كان في ذلك التاريخ قد تجاوز بكثير مرحلة (السطوح) نظراً لتعقيد موضوعه.

    ولا أستبعد ـ وفقاً لما بين يديَّ من معطيات ـ أن يكون الشهيد الصدر بذل جهداً استثنائياً ـ مع ذكائه المنقطع النظير ـ أهَّله لحضور دروس ما يسمى بالسطح العالي ودروس بحث الخارج. وفي هذا الصدد ينقل عدد من العلماء(45) (منهم من سمع من الشهيد الصدر نفسه) أن الشيخ محمد رضا آل ياسين كان يعتقد أن حضور الشهيد مجلس بحثه في تلك السن المبكرة لا يتجاوز حب الاطلاع، وقد اكتشف خلاف ذلك إثر محاولة اختبار علمية خاضها الشيخ آل ياسين مع طلبته في نهاية درسه، توفر الشهيد الصدر في اليوم التالي من البحث على النتائج المطلوبة ليعرضها على خاله الشيخ آل ياسين، ليسجل الشهيد الصدر أول مفاجأة على هذا المستوى العالي.

    ولا نعرف بالضبط تاريخ بداية حضوره بحث خاله الشيخ آل ياسين، ونفترض أنه لم يستمر طويلاً، فبعد عام (1370ه‍) عام وفاة الشيخ آل ياسين حضر السيد الشهيد بحث الشيخ عباس الرميثي (1379ه‍) وهو من تلامذة الشيخ آل ياسين لفترة انتقالية لم نتوفر على مدتها(46). ويذكر البعض أنه حضر بحث خاله الشيخ مرتضى آل ياسين في تلك الفترة(47).

    ويمكن القول إن حضوره بحث الشيخ الرميثي والشيخ مرتضى آل ياسين لم يستمر وأنه انصرف إلى بحث السيد الخوئي الذي وجد فيه كما يبدو متعة خاصة شغلته عن حضور بحث فقيه آخر.

    ولم نتوفر على تاريخ التحاقه ببحث السيد الخوئي، وإن كان السيد الحائري ذكر أنه حضره ابتداء من عام (1365ه‍) وانتهاء بالعام (1378ه‍)‌ أصولاً والعام (1379ه‍) فقهاً(48) لأن هذا التاريخ هو تاريخ هجرته إلى النجف الأشرف ولم يكن يومذاك قد حضر دروس المرحلة الثانية، كما أن حضوره فيما بعد عند خاله الشيخ آل ياسين كان مستغرباً وهو بعد هذا التاريخ، فلو كان حضر من ذلك التاريخ بحث السيد الخوئي لما كان محل استغراب.

    وأقدر أن أنسب تاريخ حضر فيه السيد الشهيد بحث أستاذه السيد الخوئي هو العام (1368ه‍) أو (1369ه‍) إن لم يكن بعد وفاة خاله الشيخ آل ياسين. وما يذكره السيد الحائري بخصوص انتهائه حضور درس السيد الخوئي فإن الشهيد نفسه أكدّ أنه انتهى من حضور الفقه عنده في (1378ه‍) وأصولاً في العام (1375ه‍)(49).

    ومهما يكن من أمر فقد كانت علاقته العلمية بالسيد الخوئي مميزة، وقد اكتشف السيد الخوئي قدرات (التلميذ) مُبكراً وتحدث إلى خاله الشيخ مرتضى آل ياسين منوهاً بقدراته الخلاَّقة(50)، وقد حدث الشهيد الصدر بعض تلامذته(51) أنه كان يحضر درس أُستاذه الخوئي مع بقية الدارسين ثم يعود إلى التأمل فيما ألقي عليه وكثيراً ما كان يطرق باب أُستاذه ليلاً ليودعه مناقشة مكتوبة لآرائه ليعود صباحاً ويتلقى تعليقات أُستاذه على المناقشة مكتوبة على نفس الورقة، وقد يتابعان المناقشة قبل خروج الأستاذ إلى درس الفقه الصباحي. وقد تحتدم المناقشة بينهما لفترة طويلة دونما انقطاع إلى أن يحين وقت الدرس(52).
    وبذلك يُفسَّر اختصاص السيد الصدر باستاذه السيد الخوئي.

    و يذكر بعض الباحثين أن الشهيد الصدر كان يحضر مجلس بحث السيد الروحاني أصولاً(53)، وهو ما أكَّده لي السيد الروحاني نفسه في مقابلة خاصة(54) أن السيد الشهيد حضر عنده، فضلاً عن (المكاسب) و(الكفاية)، بحث الخارج فقهاً وأصولاً. (أُشير إلى أن الروحاني امتنع عن الإجابة كتابة).

    إلاّ أن هناك شبه الإجماع من تلامذة الشهيد الصدر ومريديه على نفي ذلك، إذ نفى السيد محمد باقر الحكيم(55) أن يكون الشهيد حضر بحث السيد الروحاني ليوم واحد، وكان الشهيد الصدر يومذاك يعدُّ في الأوساط العلمية قريناً للسيد الروحاني، وأكَّد المعنى نفسه أحد المقربين(56) من الشهيد الصدر أنه سأله فيما إذا كان يحضر عند السيد الروحاني فأجابه أن حضوره كان أشبه ما يكون بالمباحثة في كتاب (المكاسب) لا ثالث لهما عقيب انتهاء السيد الروحاني من إلقاء البحث. ولم يقتصر هذا النفي على المقربين من الشهيد الصدر بل عليه رأي جماعة خارج هذه الدائرة(57).

    قلق المعرفة

    في النجف الأشرف (مملكة الفقه) تسود الثقافة الفقهية وتطغى على غيرها من ألوان المعرفة، وذلك ينبع من الهدف الذي رسمته المدرسة النجفية باعتبارها مركزاً علمياً إسلامياً يطمح بالدرجة الأساسية إلى تخريج وتربية (كوادر) فقهية، ولذلك يتحدد الاهتمام المعرفي في إطار الثقافة الفقهية وما يتصل بها من علوم. إلاّ أن ذلك لا يعني خلو النجف الأشرف من معارف غير (الفقه) فقد توفرت النجف على ألوان شتى من المعرفة وبرعت فيها أيما براعة، وفي مقدمة هذه الميادين ميدان (الأدب) الذي قلَّما تعثر على نظير له في غير النجف الأشرف من المراكز العلمية الإسلامية.

    ولكن من جهة أخرى يبقى اهتمام طالب النجف بشكل أساسي بالفقه وما يتصل به اتصالاً مباشراً، وهو ما تؤمنه حلقات النجف الدراسية. أما غير ذلك من المعارف فهو مما يتوفر عليه الطالب بنفسه من خلال متابعاته الخاصة وعبر اللقاءات العلمية خارج إطار الدراسة.

    ومن أسفٍ أن تكف النجف عن مواكبة العصر والإفادة من المعطيات الجديدة للعلوم، فما يدرسه الطالب في عصر النائيني ـ تقريباً ـ هو عين ما يدرسه الطالب في عصر المحقق الحلي خلا بعض التعديلات، وهو ما يفرض تشكل عقلية خاصة لطالب الحوزة النجفية.

    في محيط كهذا درس الشهيد الصدر، وكان عليه ليعبِّر عن طاقاته الكبيرة وأن يتجاوز هذه الأطر القديمة، وهو ما فعله أثناء دراساته الحوزوية، فطوى المراحل الدراسية (طي السجل) بفضل عبقريته وذكائه الاستثنائيين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان يبحث عن ألوان من المعرفة لا توفرها حلقات النجف، بل أحياناً لا توفرها مدرسة النجف بحلقاتها وأنديتها ومكتباتها أيضاً.

    ولم تنجح أسوار النجف في أسر الشهيد أو أن تحجر عليه، فقد مدَّ عينيه إلى ما خلف هذه الأسوار باحثاً عن معرفة جديدة.

    لم نعثر ـ بشكل دقيق ـ على ما يسهم في تشكيل صورة متكاملة لمظاهر حركته الثقافية في هذا المجال، وكيف سعى إلى تأمين طموحاته الفكرية. فكل ذلك غاب على خلفية اللامبالاة السائدة في أوساطنا الثقافية التي لا تعنى بتسجيل يوميات علمائها وأعلامها، وتتملكني الدهشة إزاء ضياع قسم كبير من حياة شهيدنا الصدر الذي مضى على تاريخ استشهاده ما يزيد على العقدين فقط.

    ومهما يكن من أمر فقد كانت الرغبة عامرة في نفس الشهيد الصدر وهو يبحث عن المعرفة بألوانها المختلفة وميادينها المتباينة دون أن يقع صريع الاتجاهات الثقافية السائدة يومذاك.

    وأُقدر أنه قرأ الكثير من كتب الأدب العربي شعراً ونثراً ورواية حتى، ذلك الفن الذي لا تعبأ به النجف أو تصنِّفه في الكتب اللَغوية واللهوية(58). وهي كتب وصل إلى النجف منها الشيء الكثير إلاّ أنها لم يتيسر لها أن تشيع على خلفية النظرة الاستنكارية لها. ويجد المراقب مظاهر هذه القراءة في نتاجه الفكري الذي يتفجر ـ بزخم هائل ـ أدباً رفيعاً في موضوعات علمية محضة. وقد يتساءل الباحث عن ذلك (الذوق) الأدبي الذي توفر عليه الشهيد الصدر دون أن يستعير شيئاً من لغة الجدل واصطلاحات الفقه والأصول وألغازهما، فكيف ينفصل الشهيد الصدر عن عالمه كأحذ أبرز رجال هذا الفن المعرفي ـ أعني الفقه والأصول ـ المطلسم ليكتب بلغة عصرية رائعة وكأنه لا يحسن غيرها.

    أما الفلسفة فللنجف ـ بشكل عام ـ عنها شغل شاغل، أو لا يرقى اهتمامها بالفلسفة إلى درجة يجعلها (مركزاً) للفلاسفة وروّاد المعقول. وقد نبغ في النجف عدد من أعلام النجف سحقتهم عجلات (القطار الفقهي)، إلى درجة نجد معها أن عدداً من الفقهاء من مرشحي المرجعية لم تبرز أسماؤهم إلى ذلك العالم ـ أعني عالم المرجعية ـ على خلفية اهتمامهم بالفلسفة أو غلبة اللغة الفلسفية في خطاباتهم الفقهية والأصولية، مثل: الشيخ الأصفهاني، والعراقي(59).

    وإن اهتمت النجف الأشرف بشيء من علوم الفلسفة فهي تبقى وفية لعالم الأقدمين دون أن تصغي إلى (نداءات) الفلسفة الحديثة أو تستمع إلى نظرياتها وإسهاماتها الفكرية، وهو مالا يقنع به الشهيد الصدر ولا يشفي غليل تطلعه العلمي.

    ومن يصدق أن مرجعاً ـ فقهياً كبيراً ـ بمستوى الشهيد الصدر أعطى من وقته الكثير في دراسة الفلسفة قديمها وحديثها، وتوفر على مدارسها ومناهجها وتياراتها المختلفة إلى درجة يعدُّ معها واحداً من أبرز الفلاسفة الإسلاميين.

    كانت الفلسفة ـ فيما يبدو ـ تعني للشهيد الصدر شيئاً خاصاً ذا قيمة جد كبيرة، تتصدر اهتماماته الفكرية حتى.
    وتاريخياً لا نعرف بالضبط ماذا قرأ من كتب الفلسفة بالتحديد، وكم استغرق من الوقت لقراءة الكتب الأساسية، غير أننا نعرف أنه أتفق مع الشيخ ملا صدرا البادكوبي (1392ه‍) أحد أبرز أساتذة الفلسفة في النجف أن لا يتابعه في الدرس الرتيب لدراسة كتاب (الأسفار) وإنما يقرأ عليه كل يوم عدداً من الصفحات ويسأله عما أُشكل عليه، وأنهى دراسة الكتاب في ستة أشهر فقط(60)، وهي مدة زمنية جد قصيرة لدراسة كتاب فلسفي غاية في العمق والدقة.

    كما نعرف أنه وأخاه السيد إسماعيل الصدر باعا كتاب (الحدائق) في الفقه أحد أهم الموسوعات الفقهية ليشتريا بثمنه كتاب (الحكمة المتعالية) المعروف بالأسفار، بشكل أثار حفيظة بعض رجال النجف الأشرف(61). وهل يبيع أحد من طلاب الفقه يطمح أن يكون فقيهاً كتاب (الحدائق) ليشتري به كتاب فلسفة‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍!
    وظل يفكر في الفلسفة وموضوعاتها ومناهجها كما لو كانت اختصاصه الأساسي، فبين صدور كتابه الأول (فلسفتنا) وكتابه الثاني (الأسس المنطقية للاستقراء) ما يربو على عشرة أعوام انتهى فيها إلى نتائج عميقة وجديدة ومبتكرة، وكان في نيته تأليف كتاب فلسفي معمق ومقارن بين آراء القدماء والمحدثين، وبدأ ببحث تحليل الذهن البشري(62). وفضلاً عن ذلك كان يستنكر ما تعارفت عليه مدرسة النجف من الاقتصار على علوم الفقه والأصول وأشار على طلابه بالمباحثة في موضوعات الفلسفة(63).

    قلق المعرفة والأُفق الواسع كان وراء الانفتاح الفكري الذي تميزت به عقلية الشهيد الصدر دون أن نعرف كيف تسنى للشهيد الصدر الإطلاع على علوم دقيقة ومعمقة لا تكترث لها النجف ولا تعبأ بها قيد أنملة. ويبدو أنه كثيراً ما يقرأ الكتب عن طريق الاستعارة، وكان كثيراً ما يستعيرها ـ في حدود إطلاعنا ـ من مكتبة أحد أصدقائه الشيخ محمد رضا الجعفري التي توفرت على عدد كبير من الكتب المعاصرة(64)، كما أنه يستعين بأهل الاختصاص لتوفير الكتب اللازمة أو ترجمتها كما حصل في الإعداد لكتابة (الأسس المنطقية للاستقراء)(65).

    مصادر العبقرية

    مهما قيل في العبقرية فهي في نهاية المطاف عبارة عن القوى والطاقات والانجازات العقلية الفائقة وغير العادية. وبكلمة أخرى هي محصلة لتفاعل خاص بين القدرات التي تنتمي إلى المستويات العليا من القدرات الخاصة بالذكاء، وأيضاً المستويات العليا من القدرات الخاصة بالإبداع والخيال. إنها تتضمن دلالات ومعان خاصة بالندرة الاستثنائية وكذلك الإنجاز العقلي المبكر.

    هذا الاستثناء وتلك الندرة كانا موضوع تفكير علماء النفس في محاولة فهم لوضع أُسسٍ علمية يمكن على ضوئها تفسير هذه الظاهرة، وقد انصب اهتمام هؤلاء العلماء على نماذج عديدة من عباقرة العالم بغية الوصول إلى نتائج محددة.

    أشارت بعض النماذج إلى الدور الكبير الذي تلعبه الوراثة، مما شجع عدداً من العلماء إلى وضع أسس وراثية لظاهرة العبقرية، وتعمق هذا الاتجاه إلى القول بأن السلوك الإنساني موجّه في الغالب من خلال ما تفرضه بعض المعطيات البيولوجية أو ما يسمونه بـا(الطبيعة الإنسانية) وهو بمثابة الأساس الغريزي للتفكير والنشاط.

    هذه النتائج كفت هؤلاء العلماء مؤونة تفسير الفروق الفردية الموجودة بين الكائنات البشرية طالما أمكن رجوعها إلى الوراثة وإلى عملية بيولوجية صارمة تقوم بشكل غير متعمد بإنتاج التباين في الجينات.
    وإن كان هذا الاتجاه مغالياً في الوثوق بنتائجه فإن اتجاهاً آخر لا يقل عنه في المغالاة، نفى أنصاره أي دور للوراثة في تشكيل الشخصية الإنسانية، وليس ثمة ما يشكلها سوى الأحداث التي تقوم بتشكيل الحياة منذ لحظة الولادة، تلك الأحداث التي تتكفل بتعزيز ارتقاء الفرد الإنساني، فالبيئة هي مصدر العبقرية والذكاء دون أن يكون للوراثة في ذلك أدنى نصيب.

    كل واحد من هذين الاتجاهين لم يحسم المعركة لصالحه، فلا يزال التساؤل قائماً حول ما إذا كان العبقري يولد عبقرياً أو يصنع، ولذلك لا نجد من علماء النفس اليوم من يدافع عن أي واحد من الاتجاهين، إذ ينظر إلى السلوك الإنساني الآن على أنه دالة لكل من الطبع والتطبع معاً، وما يعني علماء النفس اليوم هو كيف يتفاعل كل من الطبع والتطبع وما هي أهميتها النسبية في تشكيل الشخصية الإنسانية.

    الشهيد الصدر يصلح أن يكون عيِّنة تدعم معطيات كلا الاتجاهين المشار إليهما آنفاً، ويكرس نتائجها بقوة وبشكل متطابق وكلي أحياناً كثيرة، فهو من أسرة علمية لا يخلو عصر من العصور من بروز شخصية كبيرة ومعطاءة من بين رجالاتها إلى درجة يخيل للباحث معها أنهم يرتضعون الذكاء والعبقرية ويتوارثونها بوسائط بيولوجية لا تسمح بالتخلف. نذكرِّ أن علماء النفس لاحظوا عبر عدة دراسات دقيقة أنه ليس من الصدفة أن تنتظم مجموعات من المبدعين في عائلة واحدة، وأسرة (آل الصدر) عينة تؤكد هذه النتائج بشكل ملفت للنظر، وتتكفل كتب التراجم بتدعيم تلك النتائج، إذ ينتظم العشرات من أبناء الأسرة في سلسلة طويلة من المبدعين والعباقرة من الفئة الأولى.

    لكن هذه المعطيات لن تتم بمعزل عن التأثير البيئي، فقد أثبتت دراسات علماء النفس أن ميراث الابن من ذكاء أبيه يكون ضعف مقدار ما يرثه من جده، وهو فرق له معناه الوراثي، وأن الجد لا يسهم في نسبة الذكاء الابن إذا تم التحكم في إسهام الابن. كما أن تجمع المبدعين على هيئة تشكيلات (في أسرة واحدة) تساعد على تحفيز القدرات، إذ أن كل جيل تحفزه الأجيال السابقة أو تستجيب لها مما يدخل قدراً كبيراً من الاستمرارية في حالة العائلات الشهيرة. هذا من جهة.

    ومن جهة أخرى يبدو تأثير البيئة قوياً وفعالا في تضخيم هذا النبوغ، فالعيش في أجواء تتناغم مع قدرات الشخص من شأنها بالتأكيد تصعيد هذه القدرات بشكل مذهل وملفت للنظر، وقد قُدِّر للشهيد الصدر بحكم المحيط العائلي العلمي من جهة، وبحكم سكناه في أشهر مركز من مراكز العلم ـ أعني النجف ـ أن يتوفر على ما يعمق هذا النبوغ ويفجر الطاقات الكامنة لديه.

    كما إن الاختلاط بالكبار والمشاهير يخلق هو الآخر أجواء تشجيعية خاصة وهو ما تؤكده دراسات علماء النفس وبما يسمونه تطور العبقرية بالقدوة والمثل أو المحاكاة التنافسية. ويلاحظ في حياة الشهيد الصدر أنه عاش منذ وقت مبكر في أجواء تزدحم بأسماء كبيرة من أعيان الأسرة والمحيط الاجتماعي، ونشأته في ظل التأثير المباشر أو غير المباشر لأسماء كبيرة يعدُّ أمراً جوهرياً بالنسبة لتطور العبقرية العلمية. كما أن النشأة في ظل أزمنة الحيوية العقلية قد تفضي بذاتها إلى التطور.

    ولا يكاد يخفى على أحد ذلك التأثير المباشر الذي تركته أسماء لامعة كان الشهيد بمثابة الظل لها كخاله الشيخ محمد رضا آل ياسين. أما التأثير غير المباشر فهو سلسلة لا يمكن أن تنحصر في طائفة معينة.
    ونشأة الشهيد الصدر في زمن الازدهار الفكري للنجف الأشرف وتضخم إشعاعها خلق بالتأكيد في نفسه دفعاً شديداً للإبداع واللحاق بأسماء ملأت دنيا النجف الأشرف والمراكز التابعة لها على أقل تقدير، من أمثال المحقق محمد حسين الأصفهاني (1361ه‍) والمحقق النائيني (1355هـا) والمحقق ضياء الدين العراقي (1361ه‍) الذي كان الشهيد الصدر معجباً فيه وبدقته العلمية الفائقة(66).

    وقد عرّف المحيط الشيعي نوعاً خاصاً من المشاعية الثقافية أسهمت إسهاماً كبيراً في تكوين الشخصية الشيعية عبر الأندية الأدبية والثقافية التي تعقد هنا وهناك في البيوت العريقة وخاصة بيوت العلماء، هذا فضلاً عن (المناسبات) التاريخية التي دأب الشيعة على إحيائها وتخليدها وفي مقدمتها ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) وهي مناسبة تفتح للشيعي آفاقاً بعيدة ونوافذ على العالم كله ماضيه وحاضره ومستقبله وهي مناسبات ظلت حاضرة في ذهن الشهيد الصدر وهو يحضر مجالسها في الكاظمية والتي يعتلي أعوادها الخطيب المعروف الشيخ كاظم نوح (1379ه‍)(67) الذي تأثر به الشهيد الصدر على نحو من الأنحاء كما نقل عنه(68). وكان يومها ـ أعني الشهيد ـ يسهم في هذه المناسبات من خلال الكلمات التي يلقيها طلاب (مدرسة منتدى النشر) قبيل إعتلاء الخطيب المنبر، وكان الشهيد الصدر أحد المتكلمين المتفوقين من بين هؤلاء الطلاب(69).

    هذه العبقرية ـ كما يلاحظ علماء النفس ـ تتمظهر في الإنجاز المبكر الذي تتجلى فيه العبقرية بأوضح مظاهرها، وهو ما يبدو بشكل ملفت للنظر في الشهيد الصدر الذي أنجز عدداً من دراساته وأبحاثه الفكرية في وقت مبكر إلى درجة يلاحظ معها أنه يكتب الجزء الأول من كتابه (غاية الفكر) وهو السابعة عشرة من عمره. وكتابه التاريخي (فدك في التاريخ) الذي كتبه في سن أقل.

    هذا الإنجاز المبكر ليس وحده الذي تجلت فيه عبقرية الشهيد الصدر فقد تنبه عدد من أعلام النجف إلى ملامح تلك العبقرية، وقد قدر له أن يحضر مجلساً فقهياً كبيراً لمناقشة تعليقات فقهية وضعها الشيخ عباس الرميثي على كتاب (بلغة الراغبين للشيخ محمد رضا آل ياسين) ظهرت فيه قدراته الفكرية بشكل صارخ إلى درجة معها يحرَّم عليه الشيخ الرميثي التقليد في إشارة واضحة منه إلى بلوغه الاجتهاد. كان ذلك في عام (1370ه‍) عقيب وفاة الشيخ آل ياسين(70).

    وتبدو عبقرية الشهيد في ثلاثة اتجاهات أولها: قدرته الخلاّقة على توليد الأفكار الجديدة، وثانيها: توفره على معارف غريبة عن النجف الأشرف، وثالثها: الإنجاز الفكري المبكر. ويمكن القول إن معظم إنجازاته الفكرية كانت في مطلع شبابه، إلاّ أنه لم يكف عن العطاء إلى ما قبيل استشهاده وهو ما يظهر من قائمة إنجازاته الفكرية وتواريخ إصداراتها.

    [mark=CCCCCC]- فدك في التاريخ (ط1955/ 1375 كتبه قبل هذا التاريخ).
    - غاية الفكر في الأصول (ط 1955/ أو 1953 كتبه قبل هذا التاريخ بثلاثة أعوام).
    - فلسفتنا (ط 1959/ 1378).
    - اقتصادنا (ط 1961ـ 1381).
    - الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية (ط 1964ـ 1384).
    - ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي (ط 1964ـ 1384).
    - المعالم الجديدة في الأصول (1965ـ 1385).
    - البنك اللاربوي في الإسلام (1969ـ 1389).
    - بحوث في شرح العروة الوثقى (1971ـ 1391).
    - منهاج الصالحين (ط 1975ـ 1395) بين يدي هذا التاريخ ولعله قبله.
    - الفتاوى الواضحة (ط 1976ـ 1396) بين يدي هذا التاريخ ولعله قبله.
    - الأسس المنطقية للاستقراء (ط 1971ـ 1391).
    - بحث حول الولاية / مقدمة لكتاب (تاريخ الإمامية وأسلافهم الشيعة للدكتور عبد الله فياض).
    - بحث حول المهدي / مقدمة لموسوعة الإمام المهدي للسيد محمد الصدر.
    - نظرة عامة في العبادات / طبع مع الفتاوى الواضحة.
    - المُرسِل، الرسول، الرسالة / مقدمة الفتاوى الواضحة.
    - موجز أحكام الحج.
    - تعليقة على (بلغة الراغبين) يعود تاريخها إلى ما بعد (1370ـ 1950)
    - تعليقة على صلاة الجمعة من كتاب الشرائع.
    - تعليقات على كتاب الأسفار لملا صدرا في الفلسفة.
    - دروس في علم الأصول 4 أجزاء (1397ـ 1977).[/mark]

    وله عدد من المحاضرات في التاريخ طبعت باسم (أهل البيت وحدة هدف وتعدد أدوار)، ومحاضرات في التفسير بعنوان التفسير الموضوعي والسنن التاريخية في القرآن.

    وإذا كان الإنجاز العقلي المبكر واحداً من أبرز مصادر العبقرية، فالموت المبكر كما لاحظ علماء النفس كذلك، وهي نتائج قد ترقى إلى قانون. وكأن الشهيد الصدر لم يشأ أن يترك معطيات النتائج التي توصل إليها علماء النفس في أبحاثهم عن مصادر العبقرية ناقصة، ليضيف إلى نماذج أبحاثهم الميدانية عينة جديدة تعرف بـا(باقر الصدر) الذي لم يتجاوز عمره الخامسة والأربعين كثيراً.
    [/align]





  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    أرض الله الواسعة
    المشاركات
    6,631

    Lightbulb

    [align=center]رحمة الله على شهيد الإسلام الخالد القائد العظيم السيد الشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه .[/align]

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    31

    افتراضي

    حم اللة والديك على هذا التعريف للشخصية العراقية المحرومة

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي



    حياته السياسية

    العمل الحزبي في حزب الدعوة الإسلامية:

    بغض النظر عن الحضور الديني في الممارسة السياسية عموماً لدى العلماء والقيادات الشعبية والذي تجلى في مقاومة الاستعمار والظلم ومظاهر البطش فقد كان المشروع السياسي الإسلامي ـ في العراق ـ غائماً وضبابياً، ويشكو من ثغرات كبيرة، خاصة على مستوى العمل الحزبي والتنظيمي. وعلى الرغم من بروز عدد من المحاولات(*) والتي ترجع إلى وقت مبكر فإنها لم تفلح في صياغة مشروع فكري وسياسي فاعل، وبقيت رهن الظروف الزمانية والمكانية.

    وربما يكون في جملة الأسباب التي أدت إلى إخفاقها عدم بلوغ النضج السياسي أو عدم بلوغ المرحلة التاريخية ـ يومذاك ـ هذا المستوى، أو الإخفاق في إقناع الوسط الديني في تبنيِّها ومؤازرتها وتحديداً على المستوى القيادي.

    هذه الجهود الدؤوبة والمتواصلة لعدد من العاملين الإسلاميين أثمرت في صيغة تنظيمية حملت اسم (حزب الدعوة الإسلامية) ذلك التنظيم الذي كان ـ بحق ـ التشكيل الحزبي الوحيد الذي كتب له النجاح على المستوى الإسلامي الشيعي. ولعلّ في جملة الأسباب التي أسهمت في هذا النجاح: توفر المظلة الدينية لهذا التشكيل، والذي تمظهر في مرجعية السيد محسن الحكيم، والإسهام الفاعل والكبير للسيد محمد باقر الصدر في تأسيسه وتبنَّيه، فضلاً عن توفر عدد من الكوادر العاملة على مستوى كبير من الثقافة والإخلاص والجديّة والواقعية أيضاً.

    البدايات:

    الشهادات المتوفرة بين أيدينا بخصوص تحديد تاريخ نشأة حزب الدعوة الإسلامية لا تخلو من غموض.

    وربما يرجع ذلك إلى غياب الحسّ التاريخي والاهتمام بتسجيل مثل هذه الحوادث وخاصة البواكير والبدايات لدى المؤسسين أنفسهم، في وقت يتركز فيه العمل على الانطلاق بالمشروع السياسي، وافتراض التسجيل التاريخي من الفضول كما أفاد به أحد مؤسسي الحزب نفسه(1).

    فيعمل تقادم السنين (مِعْوَله) في تهديم ذاكرة العاملين، وخاصة في ظل المعاناة والخوف والمطاردة. هذا مع وجود العنصر الذاتي الذي لا يمكن استبعاده في هذا المجال، والذي يلقي بظلاله على تسجيل التاريخ وإفادة الشهادات.


    في شهادته حول فكرة الحزب وتأسيسه يقول الشهيد السيد مهدي الحكيم: ""وحول فكرة الحزب تكلّمت في وقتها مع السيد طالب الرفاعي وعبد الصاحب دخيل و.. على أساس أن نعمل حزباً، وعقدنا عدة اجتماعات وجلسات حول الموضوع، وكان السيد طالب الرفاعي أفضلنا من الناحية السياسية باعتبار اتصاله بحزب التحرير والأخوان المسلمين، ومن خلاله تعرفنا على الشيخ عارف البصري. وقد اقترح عليَّ السيد طالب طرح الموضوع على السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رض). ولما كنّا نخشى طرح مثل هذا الموضوع على مثل السيد الشهيد باعتباره مجتهداً لأننا كنا نخشى أن نُسبَّ أو نلعن أو نكفّر، فقد أبديت خشيتي، ولكن السيد طالب أخبرني بأن السيد الصدر ليس من ذلك النمط. التقيت بالسيد الصدر في بيته، وعرضت عليه الموضوع فوافق من دون ممانعة أو تردد""(2)

    ويقول الشهيد الحكيم في شهادته: ""بعد ذلك اقترح عليَّ السيد الشهيد أن أطرح الموضوع على السيد مرتضى العسكري، ولما لم أكن قد تعرفت عليه سابقاً فقد كتب السيد الصدر رسالة أخذتها معي وسافرت إلى الكاظمية، ولما التقيت به أعطيته الرسالة، فقرأها ثم سألني: ما الموضوع؟ فأخبرته. قال: أنا موافق. فبدت عليَّ علائم الدهشة والاستغراب، فقال: لا تعجب فقد كنت أفكر في الموضوع منذ زمن، ولكن لم أجد الإنسان الذي أتحدث معه حول ذلك""(3).


    وعن تطلعه لإنشاء حزب إسلامي في الوسط الشيعي كما هو الحال في الوسط السني يقول السيد مرتضى العسكري في شهادته عن هذه المرحلة: ""وفيما أنا أعيش هذه الأفكار جاءني المرحوم السيد مهدي الحكيم حاملاً رسالة من السيد محمد باقر الصدر.فتحت الرسالة، وكانت تقول: يحمل كلامي إليك السيد مهدي الحكيم. سألت السيد مهدي ـ رحمه الله ـ فقال لي: بأنني والسيد الصدر نفكر بتأسيس حزب، وأن السيد قال: إذا وافق السيد العسكري فإننا نستطيع السير في ذلك. قلت للسيد مهدي: اذهب وأنا سآتيكم. لا أذكر التاريخ بالضبط إن كان قبل أو بعد 14 تموز 1958، وإذا كان قبلها فان الأمر لا يتجاوز شهوراً قليلة. ذهبت إلى النجف واجتمعنا أربعة أشخاص: أنا والسيد مهدي الحكيم والشهيد الصدر والرابع لا أستطيع ذكر اسمه(*) لأنه لا يزال حياً، وقررنا تشكيل الحزب. وبعد ذلك دعا كل منا من يعرفه، فدعوت محمد هادي السبيتي ومحمد صادق القاموسي وصالح الأديب ـ والذي نشر حزب الدعوة في كربلاء، ودعا السيد مهدي الحكيم الشهيد عبد الصاحب دخيل ""(4).

    وفي شهادة صالح الأديب يجد الباحث عدة تفصيلات، وهي لا تبتعد عن الشهادات التي تقدم ذكرها، فيقول: ""في العام 1956 تعرفت على السيد الشهيد ـ يعني به السيد محمد باقر الصدر ـ وكانت معرفتي به بواسطة السيد مهدي الحكيم. وكنت أتحدثُ عن ضرورة العمل الإسلامي المنظم في مدينتي ـ كربلاء ـ وفي الكلية، فيما كانت لي علاقة بأحد النشطاء السابقين في (جماعة الشباب المسلم) والتي يتزعمها الشيخ عز الدين الجزائري، إلاّ أنه كان يائساً من نجاح العمل فدلّني على السيد مهدي الحكيم الذي ذكر لي بخصوصه أنه أبرز من يفيدني في هذا المجال. وقد تعرفت على السيد مهدي الحكيم والتقيته في دار والده السيد محسن الحكيم، وقد استجاب للموضوع مباشرة. وأثناء الحديث ذكر لي السيد محمد باقر الصدر وذكر أنه يؤمن بالعمل المنظم واقترح أن أذهب بصحبته إلى دار السيد الصدر، حيث التقيناه. وفيما كان السيد مهدي الحكيم يتحدث عن سبب الزيارة، بادر السيد الصدر إلى الحديث عن ضرورة العمل الإسلامي المنظم في وجود حركة ذات فكر مستقى من القرآن الكريم والسنّة ومن سيرة الأئمة، غير أن تبني هذه الحركة لفكر أهل البيت (ع) لا يعني إشهاره بالطريقة الصارخة، بل تتبنى فكرهم (ع) بطريقة ضمنية ومن خلال عرضه والتعريف به. ثم توالت الاجتماعات بالشهيد الصدر وبصحبة السيد مهدي الحكيم، وكنّا نتناول ما يتصل بالعمل الإسلامي ووضع الأحزاب الأخرى في الجامعات، سواء كانت الأحزاب الإسلامية أم غير الإسلامية، وطلب الشهيد الصدر أن نجمع الأنظمة الداخلية لهذه الأحزاب، مثل الحزب الشيوعي وحزب البعث، والقوميون العرب، والكتب العشرة لتقي النبهاني، التي كانت بمثابة الفكر الأساسي لحزب التحرير، فيما لم نجد للأخوان المسلمين نظاماً داخلياً، لأنهم ـ حسب ما أعلمني بعض كوادرهم ـ أنهم يتدارسون كتاب (الدعوة والداعية) للبنا، وكتب عبد القادر عودة. وبالفعل أحضرت هذه الأنظمة، وعدداً من مجلة (الأخوان المسلمون) وأعداد أخرى من مجلة (المسلمون) التي يصدرها سعيد رمضان، وقد قرأها السيد الشهيد وأبدى إعجابه بمجلة الأخوان، وكانت مجلة كبيرة، وذات أركان متعددة: للمرأة، للعمال، ومواضيع أخرى. وعندما تخرجت من الكلية في سنة 1957م أبلغني السيد مهدي الحكيم، وكان كثير المجيء إلى كربلاء، أن نعقد اجتماعاً تأسيسياً للحزب، إذ كانت له دار هناك يسكنها في أيام زيارته لكربلاء. وقد حضر هذا الاجتماع عدد من الأخوة وكان بإدارة الشهيد الصدر، حيث بيَّن السيد الشهيد ضرورة العمل المنظم كبديهة عند الحاضرين ومحل اتفاقهم، وكان للسيد الشهيد مع كل واحد من هؤلاء الحاضرين لقاءات عديدة، أو مع السيد مهدي الحكيم، وكأنَّ اجتماعهم هذا كان لإعلان التأسيس الرسمي""(5).

    وللسيد طالب الرفاعي شهادة تبتعد عن الشهادات الأخرى ـ على الأقل في بعض التفاصيل ـ وفقاً لها: ""كان مؤسسو حزب الدعوة ثلاثة أشخاص هم: السيد طالب الرفاعي نفسه، والسيد مهدي الحكيم، وشخص ثالث لم يرغب بذكر اسمه. وقد عرَّف السيد الرفاعي السيد الصدر على قيادة الحزب ودعاه إلى الانتماء إليه. ولم تمض فترة طويلة إلاّ وتصدَّر السيد الصدر رئاسة الحزب نفسه""(6).

    وقد ذكر السيد الرفاعي أنه: ""لم يكن الشهيد الصدر المؤسس لحزب الدعوة، وإنما دعي إلى أن يكون على رأس الهرم التنظيمي ـ وكان هناك تمهيد لذلك ـ فأجاب""(7). وذكر ـ أيضاً ـ : ""إن السيد العسكري دعي إلى الانضمام للحزب بعد قيام الدعوة وبعد أشهر، إذ ذهب إليه السيد مهدي الحكيم ودعاه إلى الانضمام""(8).


    أما الشيخ عبد الهادي الفضلي فقد كتب لي أنه: ""كانت هناك مجموعة من شباب الشيعة في بغداد والبصرة والنجف ينتمون إلى حزب التحرير الإسلامي، من أبرزهم السيد طالب الرفاعي في النجف والمهندسان محمد هادي السبيتي وأخوه مهدي في بغداد، والشيخ عارف البصري في البصرة. وإثر ما أثير حول الحزب من سلفيته المتشددة وتكفيره للشيعة استفتي السيد الحكيم حول الانتماء إليه فأفتى بالحرمة. وعلى أساس من هذه الفتوى تحرك الأخوان المهندسان وطلبا من السيد طالب الرفاعي أن يفاتح السيد الصدر بتأسيس حركة إسلامية شيعية، واستجاب السيد الصدر متحمساً للفكرة بعد أن استأنس برأي خاله الشيخ مرتضى والمرجع الديني السيد الحكيم، وبدأ عمله بوضع الأسس، وفوتح الأعضاء الأوائل للدعوة بالانتماء، فتجمعت حوله الطليعة المعروفة، وبهذا يعتبر هو المؤسس للدعوة""(9).

    ويبدو أن هناك مجموعة من الشباب العاملين الواعين كانت تفكر في العمل الإسلامي وفقاً لما كانت عليه الأُطر التنظيمية السائدة يومذاك، وقد كان بعضها ـ غير الإسلامي تحديداً ـ قد غزا المجتمع وتغلغل فيه، في ظل غياب الإسلاميين وتقوقعهم في أُطر قديمة لم تعد تصلح للعمل. ويدعم ذلك أن هذا التفكير كان قائماً في سنوات المد الشيوعي ـ في العراق ـ خاصة. وتناغمت هذه الأفكار وهذه الآمال، لتتوحد عبر اجتماعات ثنائية وثلاثية لينبثق عنها ما يعرف بـا ""حزب الدعوة الإسلامية""، والذي تشكَّل رسمياً ـ من خلال الشهادات ـ في العام 1957 أو في العام 1958، في وقت تشير معظم الشهادات إلى أنَّ هناك إرهاصات وإعداداً أسبق من هذين التاريخين.

    وفي خصوص التاريخ الرسمي للحزب فإن ثمة من يؤكد أن التأسيس كان في العام 1957م وهو ما أشار إليه الحاج صالح الأديب(10)، فيما يتردد التاريخ عند السيد مهدي الحكيم بين قبل أو بعد (14تموز) من العام 1958، وإن كان يظهر منه أن التاريخ الثاني هو تاريخ التسمية(11)، والذي ربما يريد منه الإعلان الرسمي. ويبدو الأمر مردداً ـ إلى حدّ ما ـ عند السيد العسكري الذي تقدمت شهادته. فيما أكَّد لي السيد طالب الرفاعي أنَّ تأسيس الدعوة كان في العام 1959، وفي الصيف من العام المذكور، ولعله على الأرجح في الشهر السابع، وإن كان لا ينفي وجود تمهيدٍ أسبق من هذا التاريخ(12). إلاّ أنه في إفادة أخرى ذكر ""إن تأسيس الحزب الفعلي، تم بعد أشهر قليلة من انقلاب عام 1958""(13). وهو التاريخ الذي يميل إليه السيد محمد باقر الحكيم، حيث يرى أنَّ بداية تأسيس الحزب كانت مقترنة مع تأسيس جماعة العلماء(14)، والتي تأسست ـ من وجهة نظره ـ في العام 1958 وبعد شهرين من انقلاب تموز(15).

    وسيأتي أن تحديد تأسيس (جماعة العلماء) بالعام 1958م يؤكد القول بأنَّ تأسيس الحزب في العام 1957م، لأن تأسيس الحزب أسبق تاريخياً من تأسيس الجماعة كما تشير إليه المصادر العديدة.

    وإذا كان هناك اختلاف في تاريخ التأسيس الفعلي والرسمي فيما أشرنا إليه فإن ثمة اختلافاً حول المكان ـ أيضاً ـ بعد أن نكون قد استثنينا البدايات التي ترجع إلى البحث في تشكيل الحزب، والتي ربما دار معظمها في النجف الأشرف إذ تشير بعض الشهادات إلى أن البداية كان في اجتماع كربلاء، وربما هو الاجتماع الذي أقسم فيه المجتمعون على العمل، والذي يحدده الأديب في العام 1957م، وفي منزل السيد محسن الحكيم في كربلاء الذي لم يكن معدّاً للسكن الدائم، بل أُعدّ لزياراته إلى كربلاء(16). وهو ما يؤيده السيد محمد باقر الحكيم(17)، وإن كان يؤكد في شهادة أخرى أن مكان الاجتماع التأسيسي كان قد عقد في دار السيد مهدي الحكيم وليس في دار والده السيد الحكيم(18).

    ويبدو أن الاجتماع التأسيسي هو الذي ضمّ الروّاد ـ أو بعضهم ـ ليتفقوا على ولادة الحزب، وليس ثمة اجتماعان تأسيسيان، وإنْ كانت هناك اجتماعات ثنائية وثلاثية.. بين هؤلاء الروّاد والتي سبقت الاجتماع التأسيسي.

    وقد حضر الاجتماع التأسيسي في كربلاء كل من: ""السيد محمد باقر الصدر، السيد محمد باقر الحكيم، السيد مرتضى العسكري، السيد محمد مهدي الحكيم، السيد طالب الرفاعي، الحاج محمد صادق القاموسي، الحاج عبد الصاحب دخيلّ، الحاج محمد صالح الأديب""(19). وقد ذكر لي الشيخ عبد الهادي الفضلي أن الشهيد الصدر لم يحضر الاجتماعات الحزبية خارج النجف إلاّ اجتماع كربلاء ولمرة واحدة(20). وربما يشير الفضلي إلى هذا الاجتماع.

    وينفي السيد الرفاعي وقوع اجتماع كربلاء وأن يكون حضره، ويرجعه إلى الحاج صالح الأديب(21). إلاّ أننا نجده حدثاً واقعاً عند غير الأديب، كما هو الحال عند السيد محمد باقر الحكيم.

    وقد لا يكون السيد الرفاعي حاضراً في الاجتماع التأسيسي المشار إليه ـ فإنَّ هناك من الروّاد من لم يحضر هذا الاجتماع(23)، ويغيب عن الاجتماع المذكور أحد أبرز المؤسسين، وهو المهندس محمد هادي السبيتي، وإن كان يظهر ـ وفق رواية السيد العسكري ـ أحد الحاضرين، إذ يبدو من السيد العسكري أنَّ ثمة اجتماعين تأسيسيين لحزب الدعوة أحدهما في النجف ـ وثانيهما في مكان لم يأت على ذكره، وربما هو كربلاء، إذ يقول وهو بصدد الحديث عن الرسالة التي حملها السيد مهدي الحكيم من السيد الصدر: ""قلت للسيد مهدي اذهب وأنا سآتيكم. لا أذكر التاريخ بالضبط إن كان قبل أو بعد 14 تموز 1958، وإذا كان قبلها فإن الأمر لا يتجاوز شهوراً قليلة. ذهبت إلى النجف(*) واجتمعنا أربعة أشخاص: أنا والسيد مهدي الحكيم والشهيد الصدر والرابع لا أستطيع ذكر اسمه لأنه لا يزال حياً، وقررنا تشكيل الحزب، وبعد ذلك دعا كل منا من يعرفه فدعوت محمد هادي السبيتي ومحمد صادق القاموسي وصالح ـ لا أتذكر من دعا(**)ـ ودعا السيد مهدي الحكيم الشهيد عبد الصاحب دخيل. عقدت هذه المجموعة اجتماعها الأول، وحين قررنا أداء اليمين كان النقاش من يؤدي اليمين أولاً، الشهيد الصدر أم أنا؟ إلاّ أنَّ الشهيد الصدر أصرَّ على أن أكون أول من يقسم، فكتب أول قائم بهذا العمل المبارك..""(24). ووفقاً لهذه الرواية يكون المجتمعون:

    - السيد محمد باقر الصدر (أعدم 1980).
    - السيد مرتضى العسكري (لا يزال حياً).
    - السيد محمد مهدي الحكيم (اغتيل في السودان 1988).
    - السيد محمد باقر الحكيم (اغتيل في النجف 2003).
    - المهندس محمد هادي السبيتي (سلّمته السلطات الأردنية إلى النظام العراقي ولم يعرف مصيره).
    - المهندس محمد صالح الأديب (ت 1996).
    - الحاج محمد صادق القاموسي (ت 1988).
    - الحاج عبد الصاحب دخيل (أُعدم 1972).

    إنَّ هذا الغموض التاريخي يرجع إلى تقادم السنين من جهة، وإلى اهتمام الرواد بأصل العمل من دون الالتفات إلى هذه التفاصيل التي كانوا يظنونها من الأمور الترفية(25). وهناك أسماء أخرى للرّواد مثل الشيخ عارف البصري، والشيخ عبد الهادي الفضلي، والشيخ مهدي السماوي.. ولا نعرف تاريخ إلتحاقهم بالحزب تحديداً.

    دور الشهيد الصدر في الحزب:

    لقد كان الشهيد الصدر ـ على نحو الجزم ـ أحد المؤسسين لحزب الدعوة الإسلامية، بل كان الأساس في تشكيله. فقد ذكر السيد طالب الرفاعي أن السيد مهدي الحكيم مع إيمانه بالتنظيم إلاّ أنه كان متوقفاً عن تنفيذ الفكرة، وكان يعتقد ضرورة وجود فقيه على رأس التنظيم ـ وهو ما كنت أشاطره الرأي - والكلام للسيد الرفاعي - خشية ردود الأفعال السلبية التي يمكن أن تلحق بهم(26).

    ولقد شكل وجود السيد الشهيد ـ كفقيه ـ غطاءً شرعياً للتشكيل الحزبي، فضلاً عن دوره الفكري في تأصيل النظرية السياسية للحزب.

    ويمكن أن نُصنِّف دور الشهيد الصدر في حزب الدعوة إلى اتجاهين:

    الأول: الدور الفكري ، إذ تفرّد السيد الشهيد بالتنظير للحزب، وذلك لجهة القدرات العلمية والفكرية التي يتوفر عليها الشهيد الصدر، مما جعل الروّاد ينتظرون ما يقرره. وقد كتب معظم ـ بل جميع ـ الأدبيات الفكرية للحزب في تلك الفترة، وكان أول ما كتبه (كيف تكون الدعوة إلى الإسلام) والتي يختصرها البعض بـ ""يجب أن تكون دعوتنا انقلابية"" وهي أول نشرة من نشرات حزب الدعوة الإسلامية(27). ثم كتب (أسس الدولة الإسلامية) والتي تعرف اختصاراً بـا(الأسس)، وكانت بمثابة دستور الحزب، بل دستور الدولة الإسلامية المتوقعة والمرتقبة، والتي كانت موضع التدارس في الحلقات الحزبية، بل كانت موضع الدرس في الحلقة المؤسِسة حيث قام الشهيد الصدر نفسه بتدريسها للمجموعة المؤسِسة التي كانت تحضر عنده، فيما كتب لها شرحاً لم يعرف مصيره(28)، هذا فضلاً عن كتابته بحثاً عن الاستدلال على مشروعية الحكومة الإسلامية(*)، والذي عرضه السيد محمد باقر الحكيم على بعض المجتهدين يومذاك كما يفيد(29)، وكتب ـ أيضاً ـ في تحديد (الشكل ومشروعية التنظيم والاسم)(*)، ويبدو أن هذا المقال يرجع إلى فترة ما بعد التأسيس، وتحديداً إلى العام (1960) وهو العام الذي حُدِّد فيه اسم التنظيم والتشكيل الحزبي، والذي أُسمي (حزب الدعوة الإسلامية)(30).


    ويمكن القول ـ كما عن السيد محمود الهاشمي أحد أبرز تلامذة الشهيد الصدر ""كان الشهيد الصدر بمثابة الفقيه والأب الفكري والروحي لهذا الحزب.. ويمكن القول بأن 95% من الجوانب والمواضيع الفكرية لحزب الدعوة كانت تستلهم من كتابات وأفكار الشهيد الصدر""(31).

    وبغض النظر عن الطابع الفكري العام الذي تركه الشهيد الصدر على حزب الدعوة الإسلامية، فإنَّ هناك معالم محددة يمكن أن نشير إليها، تلك المعالم التي شكلَّت ..

    أهم المرتكزات الفكرية في الحزب:

    القيادة الجماعية: إذ أسس الشهيد الصدر هذه المقولة على أساس ومبدأ الشورى، والذي يؤول بالمحصلة إلى العمل برأي الأكثرية، دونما ترجيح لرأي الفقيه أو غير الفقيه، بل كان يعتبر رأي الأكثرية في قيادة الحزب هو المحكّم(32)، وقد انعكس هذا الرأي على سلوكه في قيادة الحزب، إذ لم ير لنفسه أو لرأيه ـ كما تفيد بعض المصادر المؤسسِة للحزب ـ خصوصية تلزم الآخرين بالأذعان نظراً لكونه فقيه الحزب أو مفكره، مع أنه كان فقيه الحزب والمنظِّر له(33).

    الطابع السلمي للحزب: فقد كان الشهيد الصدر يؤمن بإمكانية العمل السياسي عن طريق ما كان يُعرف بالبرلمان أو المجلس النيابي ـ وإن كان صورياً ـ وذلك عن طريق الزج ببعض العناوين والأسماء اللامعة من أبناء الحركة الإسلامية، وعدم ترك الساحة السياسية للحركات والأحزاب غير الإسلامية.

    وتشير المصادر المؤسسة إلى شيوع هذا التفكير إلى زمن الحكم العارفي، حيث نشأ بعد ذلك التفكير بالانقلاب أو التحرك العسكري، ثم العمل المسلح والذي تبنّاه السيد الصدر نفسه(34).

    وقد انعكس هذا الطابع في ما يعرف بـا(الأُسس) حيث حدَّد الوسائل التي عن طريقها تتم مواجهة الحكومات الجائرة، والتي تتراوح بين مصلحة الإسلام والمسلمين وطبيعة المخاطر التي يواجهونها، وبين حفظ النظام العام خشية وقوع الحرب الداخلية والاقتتال الأهلي.

    الطابع السرّي: وقد اتخذ (حزب الدعوة الإسلامية) الطابع السري لحركته التنظيمية. والحزب مدين إلى الشهيد الصدر في هذا الطابع التنظيمي الذي تبنّاه الشهيد الصدر نفسه. إذ كتب في إحدى نشرات الحزب: ""الطريقة العامة في عمل الدعوة في هذه المرحلة هي السرية، لأن الدعوة يجب أن لا تبرز إلاّ في الوقت الذي تصبح فيه من الناحية الكمية والكيفية بدرجة من الاتساع والصلابة تجعل من العسير على أعدائها خنق أنفاسها والقضاء عليها. والسرية التي نعنيها في هذه المرحلة هي سرية تنظيم الدعوة وسرية الأعضاء والخطط والاجتماعات والتحركات التنظيمية، فلا يجوز للداعية أن يكشف للناس وجود الدعوة أو أسماء من يعرف من الدعاة حتى لو تعرّض للأذى والضرر، لأنه لا يجوز في الإسلام إيقاع الضرر بالغير حتى لدفعه عن النفس، مضافاً إلى أن كشف الدعاة يوقع الضرر بمصلحة الدعوة. وأما الأفكار والأهداف التي تتبناها الدعوة فليست سرية ولا داعي للتكتم بها.. ""(35).

    وكما هو واضح من النص الذي كتبه الشهيد الصدر فإنّ السبب في تبني هذه السرّية هو حماية التنظيم وأعضائه والحؤول دون تصفية رموزه وكوادره وخنق الحركة التنظيمية ـ التي تتمثل في حزب الدعوة ـ وهي في مهدها، ولا يرجع تبني هذا الطابع إلى ميلٍ عقائدي بقدر ما هو حاجة أمنية محضة.

    وتأثير الشهيد الصدر على حزب الدعوة الإسلامية في تبني الخيار السرّي على المستوى التنظيمي ليس مورداً للشك، وقد أشارت إليه عدة مصادر على اختلاف مصادرها، ومن تلك المصادر السيد محمد باقر الحكيم الذي أشار ضمناً إلى هذا التأثير، وهو في مقام الحديث عن التباين بين منهجي السيد الحكيم (المرجع) وبين السيد الصدر، إلاّ أنه أشار إلى انحياز السيد الصدر إلى منهج السيد الحكيم مؤخراً، في إشارة إلى تخليه عن الطابع السري عن التنظيم، فضلاً عن إعادة النظر في العلاقة مع التنظيم نفسه(36).

    وقد نسب السيد محمد باقر الحكيم إلى والده جواب استفتاء في هذا الشأن ورد فيها: ""إذا كانت القيادة سرية فلا يمكن الانقياد إليها، لأنها إذا كانت ذكية يخاف منها، وإذا لم تكن ذكية فيخاف عليها""(37)، وفضلاً عن التشكيك الذي سجّلته بعض المصادر المطّلعة حول نسبة هذه الفتوى للسيد الحكيم (المرجع)، واحتمال تزويرها على السيد الحكيم(38)، فإن الفتاوى المنشورة والتي تصح نسبتها إلى السيد الحكيم تمنع من الانتماء إلى الأحزاب ذات القيادة المجهولة إذا كان الانتماء مطلقاً ـ على حد تعبيره ـ في مقابل الانتماء المحدود مع معرفة الغايات والأهداف(39)، هذا علاوة على إبلاغ السيد الحكيم تمنياته في لقاء مع قيادات حزبية اتخاذ الطابع السري(40).

    على أن البحث عن ضرورة السرية أو عدمها وجواز تبنّيها خياراً تنظيمياً أو عدمه أمر في غاية الغرابة في ظل أجواء القمع والمطاردة والملاحقة المألوفة والمعروفة، فكيف يُعقل أن يتصدى نفر لعمل تنظيمي ـ وخاصة الإسلامي ـ وهم يعلنون على الملأ أسماء قياداتهم وكوادرهم وأعضاء تنظيمهم!!.

    وأما ما ذكره السيد الحكيم من تغيّر وجهة نظر السيد الشهيد في التنظيم وتحديداً في الخيار السري فهو مما لا يساعد عليه الجو العام الذي كان شائعاً في العراق، وخصوصاً ما رافق منه الحقبة السياسية التي تسلّم فيها حزب البعث العراقي الحكم، مضافاً إلى ما تؤكده بعض المصادر المطّلعة والتي لا علاقة لها بحزب الدعوة الإسلامية إذ أشارت إلى أن الشهيد الصدر نفسه أكدّ في أواخر حياته على الخيار التنظيمي والذي يقوم على بناء الخلايا المتفرقة التي يصعب على أجهزة السلطة تصفيتها وكشفها بسهولة(41).



    يتبع/





  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    على أن البحث عن ضرورة السرية أو عدمها وجواز تبنّيها خياراً تنظيمياً أو عدمه أمر في غاية الغرابة في ظل أجواء القمع والمطاردة والملاحقة المألوفة والمعروفة، فكيف يُعقل أن يتصدى نفر لعمل تنظيمي ـ وخاصة الإسلامي ـ وهم يعلنون على الملأ أسماء قياداتهم وكوادرهم وأعضاء تنظيمهم!!.

    وأما ما ذكره السيد الحكيم من تغيّر وجهة نظر السيد الشهيد في التنظيم وتحديداً في الخيار السري فهو مما لا يساعد عليه الجو العام الذي كان شائعاً في العراق، وخصوصاً ما رافق منه الحقبة السياسية التي تسلّم فيها حزب البعث العراقي الحكم، مضافاً إلى ما تؤكده بعض المصادر المطّلعة والتي لا علاقة لها بحزب الدعوة الإسلامية إذ أشارت إلى أن الشهيد الصدر نفسه أكدّ في أواخر حياته على الخيار التنظيمي والذي يقوم على بناء الخلايا المتفرقة التي يصعب على أجهزة السلطة تصفيتها وكشفها بسهولة(41).


    ومضافاً إلى ما تقدم فانّ ما بصدده السيد الحكيم (المرجع) من التحذير من القيادات الحزبية المجهولة لا ينطبق على قيادات حزب الدعوة الإسلامية، وبالخصوص في عهد السيد الحكيم نفسه، إذ كانت قيادات الحزب معروفة لدى السيد الحكيم، وهي شخصيات لها مكان مكين في الوسط الديني. بل كان لبعضها موقع مهم وكبير في مرجعية السيد الحكيم كما ستأتي الإشارة إليه(42).

    وأما بالنسبة للشهيد الصدر فإنّ ما إعتقده سبباً كافياً لتبني الخيار السري إبّان تأسيس الحزب ظل قائماً ولم يتغيَّر، بل تجذّر وتكرس مع تصاعد القمع والاضطهاد. ويرجع سبب نقمة الشهيد الصدر على بعض الحزبيين ـ في فترة الاعتقالات المتلاحقة وخاصة العام 1972ـ إلى الانفلات في تقديم المعلومات التي تتعلق بحزب الدعوة وعدم الصمود(43)، وهو ما أشار إليه الشهيد الصدر في النص الذي نقلناه عنه، والذي نوّه فيه إلى عدم جواز الكشف عنها تحت أي ظرف.

    المرحلية: ومن المقولات الفكرية التي تجذّرت في الكيان الفكري لحزب الدعوة، فكرة المرحلية، وترجع إلى الشهيد الصدر كما تصرح بذلك الشهادات العديدة(44)، وتحديداً في ما كتبه للدعوة تحت عنوان (المرحلة الأولى من عمل الدعوة)(45)، وقد حدَّد المراحل التي يمر بها الحزب:

    أولاً: مرحلة تكوين الحزب وبنائه والتغيير الفكري للأمة.

    ثانياً: مرحلة العمل السياسي والتي تتمظهر في الإندكاك بالأمة وتوعيتها بطروحات الحزب ومواقفه السياسية، وإقناعها بتبني هذه الطروحات والدفاع عنها.

    ثالثاً: مرحلة استلام الحكم.

    رابعاً: مرحلة رعاية مصالح الإسلام والأمة الإسلامية بعد استلام الحكم.

    وقد ذكر السيد الحائري أن ما تحدَّث به الشهيد الصدر في مجلسه الخاص بطلابه بخصوص (المرحلية) اقتصر على المراحل الثلاث الأولى، ولم يتعرض إلى المرحلة الرابعة، التي ذكرت في نشرات الحزب الخاصة(46).


    وقد ذكر السيد محمد باقر الحكيم أنَّ ثمة تغييراً حصل في تصوَّرات الشهيد الصدر تجاه ما عرف بـا(المرحلية)، وكتب السيد محمد باقر الحكيم ما نصه: ""إن منهج العمل السياسي القائم على فكرة المرحلية، وبمعنى أن يقوم التحرك السياسي على أساس الفصل الكامل بين طبيعة مرحلة ومرحلة أخرى.. غير سليم، وان التدرّج في الدعوة والعمل الميداني لا يعني بالضرورة هذا التصوُّر للمرحلية، وأن الصحيح في منهج العمل الميداني الفعلي هو الدمج بين العمل الثقافي والعمل السياسي والتصدي للمواجهة، ولكن مع مراعاة التدرج في الطرح، والظروف الموضوعية القائمة فعلاً، سواء على صعيد الأمة أو الحكم أو أجهزة المرجعية وإمكاناتها. وبذلك أعطى الشهيد الصدر المرحلية معناها القرآني الأصيل""(47).


    وقد شكّك السيد حسن شبر في ما يدّعيه السيد الحكيم بخصوص تغيّر رأي الشهيد الصدر في تصوّر المرحلية التي يتبنّاها الحزب، كما أنه لاحظ على السيد الحكيم عدم الوضوح في تصوّر المرحلية في ذهن السيد الحكيم نفسه(48).


    ويؤيد ما ذكره السيد حسن شبر ما كتبه السيد الحائري بصدد نقل مناقشات أستاذه الشهيد الصدر والتي عرضها في مجلسه الأسبوعي الخاص بطلابه إذ يقول: ""… فقد تناول الأستاذ ـ رحمه الله ـ هذا العمل المرحلي بالبحث. ولم يكن غرضه من ذلك شجب أصل كبرى المرحلية في العمل. فإنها من أوليات العمل الاجتماعي، وقد طبَّقها ـ رضوان الله عليه ـ فيما كتبه عن عمل المرجعية الصالحة، وإنما الذي بيَّنه في بحثه عن ذلك هو النقاش في مصداق معيّن بلحاظ الانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، وخلاصة ما قاله بهذا الصدد هي: إننا حينما نعيش بلداً ديمقراطياً يؤمن باحترام الشعب وآرائه ولا تجابههم السلطة بالتقتيل والتشريد بلا أيّ حساب وكتاب، يكون بالإمكان افتراض حزبٍ ما يبدأ عمله بتكوين بنيةٍ ذاتية بشكل سري، ثم يبدأ في مرحلة سياسية علنية، ومحاولة كسب الأمة إلى جانبها، وجرّها إلى تبنَّي تلك المواقف السياسية، ولكن الواقع في مثل العراق ليس هكذا، ففي أي لحظة تُحس السلطة الظالمة بوجود حزب إسلامي منظم يعمل وفق هذه المراحل لتحكيم الإسلام، تقتّل وتُشرِّد وتسجن وتعذِّب العاملين وتخنق العمل في تلك البلاد قبل تمامية تعاطف الأمة معه، وتحركها إلى جانبه، فما لم يصادف هناك تحول آخر دولي في العالم يقلب الحسابات ليس بإمكان الحزب أن ينتقل من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية""(49). وقد أرّخ السيد الحائري هذه المناقشة بحدود العام 1392ه‍/ 1972م.

    جدير ذكره أن هناك من قيادات حزب الدعوة مَنْ تحفَّظ على صيغة المرحلية، إذ كان يرى الشيخ عبد الهادي الفضلي أنها تفوِّت العمل السياسي(50).

    الثاني: الدور التنظيمي، إذ لم يقتصر دور الشهيد الصدر في الحزب على الدور الفكري، بل تعداه إلى الدور التنظيمي، إذ أن إيمانه العميق بضرورة العمل الحزبي الإسلامي ـ وتحديداً في العراق ـ والذي لازم مسيرته الجهادية وهو خارج التنظيم، كما نقل عنه بعض مقربيه(51)، كان هو المحرِّك الرئيس لهذه الفاعلية، وهذا الحرص الكبير، الذي يدفعه إلى تعاهد مسيرة التنظيم. وإن اختلفت مستويات هذا التواصل عبر مسيرته الجهادية.

    نُذكِّر أن قناعة الشهيد الصدر بالعمل الحزبي الإسلامي لم تكن لتقتصر على العمل الحزبي في الوسط الشيعي والذي تمثل في حزب الدعوة، بل شمل بالتأييد العمل الحزبي في الوسط السني، وتذكر بعض المصادر أنه ـ أي الشهيد الصدر ـ والسيد الحكيم (المرجع) كانا قد باركا عمل (الحزب الإسلامي) الذي عمل في الوسط السني يومذاك(52).


    وتشير بعض المصادر أنَّ هناك تواصلاً بين الشهيد الصدر وعددٍ من الأحزاب الإسلامية، وهي سنية، وربما يُصنَّف على هذا التواصل تقديم بعض كوادر (حزب التحرير) نسختين من كتاب الشيخ تقي الدين النبهاني قبل طبعه، إحداهما للسيد الخوئي وثانيهما للسيد الصدر بغية الحصول على ملاحظاتهما.


    وقد دفع السيد الخوئي بنسخته إلى الشهيد الصدر لإبداء الملاحظات، وقد لاحظ عليها، وأرسلها باسم السيد الخوئي(53).

    وإذا كانت هذه الصيغة من التواصل شديدة التبسيط ولا تمثل شيئاً كبيراً ، إلاّ أنَّ التواصل هذا تم تفعيله ـ عقيب تأسيس حزب الدعوة ـ عبر صيغ تنظيمية، وقد شكَّلت لهذا الغرض لجنة خاصة بالاتصال بالحركات الأخرى، وكانت مؤلفة من الشيخ عارف البصري والشيخ عبد الهادي الفضلي(54).

    وبالعودة إلى دوره التنظيمي، فإنه ـ بغض النظر ـ عن إسهامه في تأسيس الحزب، فقد سُجِّل له حضور جلسات القيادة، بل والإشراف على هذه الجلسات، وإن لم يتخذ قرار بإشرافٍ من هذا القبيل، إلاّ أن طبيعة التداول القائمة يومذاك في هذه الجلسات فرض إشرافاً واضحاً للسيد الصدر على هذه الجلسات(55).


    ويفيد الشيخ الفضلي أنه ـ الشهيد الصدر ـ كان يحضر اجتماعات النجف، وأما الاجتماعات التي كانت تعقد في كربلاء أو بغداد فانه لم يحضر فيها إلاّ مرة واحدة، وفي اجتماع كربلاء(56). وربما يعني الشيخ الفضلي بهذه الاجتماعات الخاصة بالقيادة، وإلاّ فقد كان الشهيد الصدر على تواصل مع بغداد على الأقل. وتفيد المصادر الأخرى أنَّ دار الشهيد الصدر كان يضجّ بالكادر الحزبي، وبقيت اجتماعات القيادة تعقد في داره حتى طلب إعفاءه(57).

    هذا، علاوة على دوره في توسيع إطار عمل حزب الدعوة ونشره في صفوف المجتمع، ويفيد السيد محمد باقر الحكيم أن الشهيد الصدر نفسه سعى بالدفع إلى التحرك في المجتمع والحث على انتماء العناصر المختارة والمتميزِّة إلى الحزب سواء من طبقات المثقفين، أم من طلاب الحوزة نفسها. بل خاطب الشهيد الصدر نفسه بعض الأشخاص للانتماء إلى التنظيم، فضلاً عن دوره في إدارة الحلقات الحزبية الخاصة في وقت من الأوقات(58).

    وقد نقل بعض العلماء أنهم دعو من قبل الشهيد الصدر شخصياً للانتماء إلى حزب الدعوة والانضمام إلى صفوف تنظيمه.


    وأفاد الشيخ محمد باقر الناصري أن الشهيد الصدر والشهيد محمد مهدي الحكيم زاراه في داره عام 1959 ـ في النجف ـ وبطلب مسبق، بهذا الخصوص، إذ تحدث الشهيد الصدر عن أهمية العمل الحركي في الساحة الإسلامية والعربية وعمّا يواجهه الإسلاميون، وكشف عن منشور كتب بخط اليد ـ وربما كان مشروع النشرة الأولى ـ يبيِّن مسار العمل، وقد دعاني للتعاون في هذا المضمار، وهو ما أبديت استعدادي له بعيداً عن الإطار التنظيمي(59).

    ويفيد الشيخ محمد إبراهيم الأنصاري ـ أحد تلامذة الشهيد الصدر ـ أن الشهيد الصدر زاره في بيته ودعاه إلى الانخراط في حزب الدعوة، وتحدث يومذاك عن ضرورة العمل التنظيمي(60).

    وذكر الأديب أن التحرك على وكلاء السيد الحكيم (المرجع) ومفاتحتهم ومحاولة إقناعهم للانضمام إلى حزب الدعوة، كان بإيعاز من الشهيد الصدر، وهو ما حصل بالفعل، وتم إقناع العدد الأكبر منهم، في ظل ظروف كانت تساعد على ذلك(61).

    وقد حرص الشهيد الصدر على إطلاع عدد من المراجع الدينية ـ يومذاك ـ على نشوء عمل حزبي في العراق ودوره في هذا العمل، فأخبر السيد الخوئي بنشوء هذا الإطار التنظيمي(62).

    ويفيد الأديب أن الشهيد الصدر أخبرهم في أحد اجتماعات القيادة بالموقف الإيجابي للسيد الخوئي، ونقل لهم طبيعة لقائه السيد الخوئي وتفهمه لحيثيات عملٍ من هذا القبيل(63). وكان للشيخ مرتضى آل ياسين علم تفصيلي بعمل حزب الدعوة وتأسيسه(64). ويشير الشيخ الفضلي إلى أن الشهيد الصدر استأنس برأي السيد الحكيم (المرجع) لهذا الغرض(65).


    وتم إطلاع السيد إسماعيل الصدر(66) شقيق الصدر نفسه، وهو وإنْ لم يكن مرجعاً، إلاّ أنه أحد العلماء والفقهاء المعروفين. وربما أُطلع عدد آخر من العلماء والفقهاء المرموقين، وثمة شهادات تؤكد أن الشهيد الصدر أطلع فقهاء إيرانيين على ولادة حزب الدعوة أو شيء من هذا القبيل، ومن هؤلاء السيد سلطاني أحد تلاميذ السيد حسين البروجري (المرجع في إيران)(67).


    يتبع/





  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    وإذا أخذنا بالاعتبار ظروف السرية والواقع الذي تعيشه المؤسسة الدينية يومذاك نعرف طبيعة الغموض الذي يكتنف المعطيات التي تتصل بهذا الموضوع، وهذا ما أشار إليه السيد العسكري ـ في حديث له ـ عن مستوى تأييد المراجع والعلماء للتنظيم بشكل عام وحزب الدعوة بشكل خاص، إذ أنه وإن تحدث عن تأييدهم بشكل عام إلاّ أنه من المتعذر ـ على حد قوله ـ معرفة مدى تأييدهم ودعمهم لعمل من هذا القبيل(68).


    ولا نعرف ـ أيضاً ـ شيئاً عن الاتصالات التي يفترض أنها تمت بين الكوادر الأساسية لحزب الدعوة وبين عددٍ من الفقهاء والعلماء، ومن بين ما توفر لدينا من شهادات ما تحدث به الأديب عن مفاتحة الشيخ محمد هادي معرفة ـ أحد العلماء المشهورين اليوم في إيران ـ وعرض عليه (الأسس) التي كتبها الشهيد الصدر، وقد ذكر الأديب أنه اعترض على ما ورد بخصوص قبول توبة المرتد مطلقاً سواء أكان فطرياً أم مليّاً، والتعامل معه كواحدٍ من المسلمين، وذلك لجهة مخالفة هذا الرأي للمعروف والمشهور في الفقه الإمامي، ويقول الأديب إني أجبته بما أجاب به الشهيد نفسه على اعتراض السيد الخوئي عليه وقت إعلامه بولادة الحزب وإطلاعه على (الأسس) ويرجع جواب الشهيد الصدر ـ كما ينقله الأديب ـ إلى الواقع الفكري السائد وغلبة التيارات الفكرية اللادينية وشيوع الشبهات التي تمنع من تطبيق الأحكام المختصة بالارتداد(69).

    وجود الشهيد الصدر في الحزب وإشرافه على الحزب، ودعمه الذي استمر وإن من خارج التنظيم، كان أحد أهم الأسباب التي سهَّلت ويسَّرت إنضمام عدد كبير من العلماء وطلاب العلوم الدينية إلى الحزب، ومن لم ينتم إلى الحزب فانه كان في أجوائه.

    فقد كان للشهيد الصدر الدور الأبرز في نشوء الحزب، وفي الاشراف على مسيرته السياسية والفكرية، ويؤكد هذا المعنى عدد من الكوادر المؤسِسة، كما في شهادة الأديب(70)، وشهادة المهندس محمد هادي السبتي(71)، ويتلوه في الدور الفاعل الشهيد مهدي الحكيم كما يفيد الأديب(72).

    نشير إلى أن حزب الدعوة ـ على عهد الشهيد الصدر ـ لم يعرف نظاماً داخلياً خاصاً به(73)، وربما اكتفي وقتذاك بما كتبه الشهيد الصدر كأُسس فكرية يسترشد بها الحزب، إلاّ أنها لم تكن كافية على الصعيد التنظيمي، ولا نعرف بالضبط متى اعتمد الحزب النظام الداخلي، بل لم يعتمد الحزب اسم (الدعوة) إلاّ في العام 1960م كما يشير الأديب، وكانت التسمية من الشهيد الصدر نفسه(74). ولم يعرف الحزب يومذاك ـ وفقاً لبعض الشهادات ـ الاجتماعات المنتظمة، بل كانت اجتماعات قيادية رهينة الحاجة والضرورة، وكانت تخرج بقرارات شفوية(75).

    غياب نظام داخلي للحزب، وعدم انتظام اجتماعات القيادة في عهد الشهيد الصدر، لا يسلب الصفة التنظيمية عن حزب الدعوة، ولا يصنّفه في إطار التجمعات السياسية، إذ توفر الحزب في السنوات الأولى لتشكيله ونشوئه على عدة تشكيلات وهي(76):

    1ـ القيادة الفكرية:


    وكانت تتمثل في السيد الصدر بالدرجة الأولى، ومن يكلفه السيد الصدر بالكتابة من أمثال السيد فضل الله والشيخ شمس الدين والسيد العسكري والشيخ الآصفي والشيخ الفضلي.

    2ـ القيادة التنظيمية:
    وكانت تتمثل في أفراد من بغداد منهم المهندس محمد هادي السبيتي والأستاذ عبد الصاحب الدخيل، وأفراد من النجف منهم السيد مهدي الحكيم والشيخ عارف البصري.

    3ـ هيئة تحرير النشرة السرية:

    وبحكم الظروف لم تقتصر على أفراد معينّين.

    4ـ لجنة العلاقات العامة للاتصال بالمرجعية والعلماء والشخصيات المهمة:

    وكانت مؤلفة من السيد مرتضى العسكري والسيد مهدي الحكيم والأستاذ عبد الصاحب الدخيل.

    5ـ لجنة الاتصال بالحركات الأخرى:

    وكانت مؤلفة من الشيخ عارف البصري والشيخ عبد الهادي الفضلي.

    6ـ هيئة إعداد الأفكار والمرئيات:

    وكانت مؤلفة من السيد فضل الله والشيخ شمس الدين والمهندس السبيتي والشيخ الفضلي وآخرين.

    وكان الاتصال بين الأعضاء الأوائل يتم بشكل مباشر، وبين غيرهم عن طريق رئاسات الخلايا.

    حزب الدعوة ـ المحيط العام:

    كان التحرك الإسلامي ـ الذي تمثّل في حزب الدعوة الإسلامية ـ موجباً لقلق عدد كبير من القطاعات الاجتماعية، سواء أكانت التيارات العلمانية، وخاصة الإلحادية منها والمتمثلة في الحزب الشيوعي تحديداً، فضلاً عن حزب البعث، أم كانت التيارات الدينية التقليدية.

    كتب الشيخ عبد الهادي الفضلي عن الاتجاهات السائدة يومذاك وردود أفعالها تجاه حزب الدعوة: ""عرف عن وجود الدعوة بشكل بيِّن أيام عبد الكريم قاسم، ولأنه كان يريد أن يكسب ودّ الشيعة ورضا مرجعية الشيعة المتمثلة بالسيد الحكيم لم تكن هناك مضايقات واضحة من النظام إلاّ بعض التحرشات الجزئية من بعض الموظفين الصغار من الشيوعيين كالمطالبة بتغيير لوحة مكتب الأضواء، ومحاولة منع توزيعها عن طريق مؤسسات توزيع الصحف. وأقسى ما كنا نلاقيه من عنت في المواقف من الحوزويين التقليديين وهم ـ هنا ـ على أنماط:

    نمط يرى أن التحرك السياسي ينهي بالآخرة إلى القضاء على الدين أو المذهب.

    ونمط آخر متأثر بمن حوله ممن لهم التأثير عليه من الشيوعيين والبعثيين وأضرابهم بأساليبهم اللئيمة.

    ونمط ثالث هم أتباع بعض المرجعيات الصغيرة آنذاك، الذين يرون الدعوة محسوبة على السيد الحكيم، ويخشون أن يبرز السيد الصدر بعده ، وقبل أن تصل نوبة المرجعية العامة إلى مرجعهم، أو على الأقل ربما نافس الصدر ظهورهم.

    ونمط رابع لا يرى وجود دليل على جواز الحزبية في الإسلام.

    وخامس لا يرى توفر الإسلام على نظام سياسي فلابد من فصله عن الدولة.

    وإلى أمثال هذه مما كان ينبع عن عاطفة غير ودّية أو ارتجال في التفكير وسذاجة في النظرة إلى الحياة""(77).

    وفي شهادة للسيد طالب الرفاعي يقول فيها: ""العمل الحزبي بشكل عام مستنكر في الوسط الحوزوي باستثناء الواعين، وكان السيد الحكيم مع الدعوة، وكان هناك من يقف ضد العمل الحزبي من آل الحكيم مثل السيد محمد علي الحكيم ونجله السيد محمد سعيد الحكيم ـ المرجع حالياً ـ وكانوا أعداء لهكذا عمل. ويؤمنون أن العمل الحزبي يخرِّب الحوزة من الداخل، ويؤدي إلى التصادم مع السلطة. وكان للسيد محمد رضا الحكيم ـ نجل السيد الحكيم المرجع ـ الموقف نفسه.""(78).

    لقد كان التفكير بالمسألة السياسية في مثل هذا الجو من قبيل المروق عن الدين إن لم يكن المروق بذاته. وهذا ما يفسِّر الطابع السرّي لعمل حزب الدعوة بل والعمل الحزبي عموماً، الذي كان يخشى التيار التقليدي بدرجات تفوق الخشية من السلطات والأنظمة الحاكمة.

    وأما التيّارات العلمانية فأمر قلقها مبرّر، لأنها بصدد الاستحواذ على السلطة واحتكار الشأن السياسي، ولذلك فهي ترى في قيام تشكيلات إسلامية تعنى بالمسألة السياسية تهديداً لوجودها في مجتمع مسلم.

    غير أن الحركة الإسلامية المتمثلة في حزب الدعوة وجدت من الغطاء الشرعي في السيد محسن الحكيم ما سوَّغ وبرّر وجودها وأمَّن لها أن تكون في إطار المؤسسة الدينية.

    ويعتبر السيد محسن الحكيم المرجع الديني الوحيد الذي تبنّى حزب الدعوة الإسلامية واحتضن العمل الإسلامي المنظّم. يقول السيد العسكري: ""وكان أكثر من أيدَّ الحزب آية الله الحكيم الذي كان يؤيد أي تحرك إسلامي منظّم. أما الدعوة فكانت لها مكانتها الخاصة لديه، حيث يمكنني القول بأنه كان يتبنى الدعوة..""(79)، ولذلك ""فقد استفاد حزب الدعوة من مظلة السيد الحكيم""(80).

    لقد كان السيد الحكيم متعاطفاً مع الشباب وحاجات المتّدينين عموماً، ولذلك تفهَّم وجود حزب الدعوة الإسلامية، خاصة مع تأثير بعض أبنائه الواعين عليه، وفي مقدمتهم السيد مهدي الحكيم، حيث كان له وللسيد محمد باقر الحكيم وجود حقيقي في حزب الدعوة. فيما تشير بعض المصادر إلى وجود حقيقي في الحزب لشقيق ثالث لهما وهو الشهيد السيد علاء الحكيم (ت 1983م)(81).

    يقول السيد مهدي الحكيم في مذكراته: ""عندما تأسس حزب الدعوة وصار عند السيد الحكيم علم بذلك، وليس شرطاً أن يكون قد علم منذ البداية، ولكنه عرف ذلك بالتدريج، وعلم أن السيد محمد باقر الصدر له وجود حقيقي، وإن الكلمات التي كانت تكتب كان السيد الشهيد هو الذي يكتبها. ولم نكن نشعر أنه ضد هذا الاتجاه، ولم يكن يخطر بذهننا أن نخبره، وكأنَّ القضية طبيعية، وليس هناك شيء ملفت، إلى أن عرف بعد فترة بأننا منظّمين أنا والسيد محمد باقر الحكيم، فسألني عن سبب انتمائي إلى الحزب.. ولكن السيد الحكيم كان يفترض أننا ننتمي إليه وهو مرجع، والمرجع يجب أن يحافظ على الصفة العامة، وليس مثل الناس الآخرين، فإذا كان جماعة من الحزبيين في حاشيته أو أولاده أو جماعته المقربين فسوف يفقد الناس ثقتهم به أو تقل به هذه الثقة كمرجع، ومن أجل الحفاظ على الصفة العامة للمرجعية. وكان هذا عنواناً ثانوياً بالنسبة لي وللسيد محمد باقر لكي نخرج من الحزب، ولم يقل السيد أن الحزب غير جيد، ولذا بقينا نتعاون مع الحزب، كما كان يعلم بأن السيد مرتضى العسكري في الحزب وكان من خيرة وكلاء السيد (قده) وكان يمده ويعتمد عليه. ونقله من مكان إلى مكان آخر حسّاس وهي الكرّادة التي كانت تعتبر قلب الشيعة في بغداد، وكان يمده بكل ما يحتاج من إمكانات، وهذا يعني تأييداً وتوثيقاً من السيد للسيد مرتضى العسكري، مع علم السيد بانتمائه لهذا الاتجاه. كذلك كان يعلم أن الشيخ عارف البصري يعمل بنفس الاتجاه، إضافة إلى المكتبات وتأسيسها، فأول مكتبة أُسست كانت في مدينة (القاسم) بطلب من السيد سعيد الخطيب من أجل جمع الشباب وتثقيفهم فاستجاب لهم السيد وفتح المكتبة، ثم بدأت فكرة المكتبات. وكان السيد يعلم أن الشباب الذين يديرون هذه المكتبات عنده هذا الاتجاه، فهم إما منضوون تحت الحزب أو في هذا الاتجاه، ولم يكن يعتبر ذلك خطأ""(82).

    هذه الرعاية التي شمل السيد الحكيم بها حزب الدعوة الإسلامية ظهرت إلى العلن في رعايته الاحتفالات التي كان يحييها الحزب، إذ كانت تقام برعاية السيد الحكيم نفسه، وتفتتح بكلمة له وأخرى للسيد الشهيد الصدر(83).

    وتشير بعض المصادر إلى أن السيد الحكيم (المرجع) لم يكن في وارد العمل لإقامة دولة إسلامية أو حتى التفكير بمشروع من هذا القبيل، لأنَّ ما بصدده هو العمل الذي يقتصر على نشر التدين والانتظار لليوم الموعود(84). بل تشير مصادر أخرى أنه ـ السيد الحكيم ـ كان يرى الزمان الذي كان يتزعم فيه المؤسسة المرجعية وتحديداً إبّان المدّ الشيوعي زمان تقية، وأنها تقية عمار بن ياسر(85).

    وربما يعود ذلك إلى عدم ثقته بالناس وقدرتهم على الصمود أو الدفاع عن قيم من هذه القبيل، ولذلك نقل عنه نجله السيد محمد باقر الحكيم أنه لو كان يثق بتحرك الناس لأفتى بالجهاد(86)، خاصة في ظل تكرّس التخاذل الجماهيري إبّان حركة الجهاد وقتال الانجليز والذي شهده السيد الحكيم (المرجع) بنفسه مع أستاذه السيد محمد سعيد الحبوبي مما علق في ذهنه وعمَّق الأسى الذي كان يعيشه لهذا التخاذل، فضلاً عن طبيعة حاجات الناس وحرصهم على التوفر عليها وعدم الدخول في معارك مع الأنظمة توجب ضياعها(87).

    يتبع/





  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي


    وثمة وجهة نظر أخرى تفيد ـ كما عن الشهيد مهدي الحكيم ـ أن المرجع الحكيم ""كان يرى وجوب قيام الحكومة الإسلامية مع التمكن وأن صلاحيات الحاكم في حدود حفظ المصالح العامة وحفظ حقوق الناس. ولم يكن يراها بالسعة التي يراها السيد الإمام ـ يقصد الخميني ـ ولا بالضيق الذي يراه السيد الخوئي""(88).


    ويؤكد السيد محمد باقر الحكيم ـ أيضاً ـ على أن السيد الحكيم المرجع كان ""يرى الولاية للفقيه بمستوى معيَّن مستنداً إلى دليل (الحسبة) وبعض النصوص الأخرى في بعض الموارد وضرورة إقامة الحكم الإسلامي حفاظاً على كرامة الدين وعزّته وعقيدة المسلمين، وأن الفقيه يمثل القدر المتيقن الذي يتولىّ ذلك، وكان يمارس هذا الدور عملياً في حدود المجالات التي تنالها يده وقدرته""(89).

    وربما لا نجد تفاوتاً بين الرؤيتين، فما تؤكده وجهة النظر الأخيرة لا تنفيها الرؤية الأولى، إذ ثمة فرق بين أن يكون مؤمناً بالحكومة الإسلامية وبين أن يكون العمل في سبيلها جزءً من مشروعه، إذ لم تكن الحكومة الإسلامية جزءً من مشروع السيد الحكيم، ولعل في تقييد العمل للحكومة الإسلامية بقيد التمكن كما ورد في شهادات الشهيد مهدي الحكيم ما يؤكد ذلك. على أن ما يشير إليه السيدان مهدي وباقر الحكيم من إيمان السيد الحكيم (المرجع) بولاية الفقيه وقيمومته ليس واضحاً على مستوى قيادة المشروع الإسلامي، وبالتحديد قيادة الدولة الإسلامية، حيث نقل السيد مرتضى العسكري عنه جواباً على سؤاله عن نوع الحكم وتشكيل الحكومة الإسلامية، إذ أجاب السيد الحكيم: ""نسأل أهل الخبرة عن أفضل نوع حكم يقام ونقرر ذلك""(90).

    ولعل في سقف المشروع الذي كان السيد الحكيم ينشده ما يشير إلى ذلك، وأنه لم يكن في وارد مشروع كبير من قبيل العمل لإقامة الدولة الإسلامية، وربما نجد في بعض مطاليب السيد الحكيم ما يؤكد ذلك.



    فقد نقل هاني الفكيكي أحد قادة انقلاب 1963 أنه ""أرسل الحكيم الشيخ علي الصغير والسيد مهدي الحكيم إلى والدي(*) للّقاء بحميد خلخالي ومحسن الشيخ راضي وأنا مع الشيخ علي الصغير والحكيم في دار والدي في الأعظمية وأبلغانا رغبة الحكيم في لقائنا، غير أننا وعدناهما برفع ذلك إلى القيادة (الحزب).. إلاّ أن اللاّفت في لقائنا مع مندوبي السيد الحكيم مجتهد الأكثرية العربية الشيعية في العراق، تلك الطلبات القليلة والمتواضعة الشبيهة بطلبات الأقليات الصغيرة غير العربية، كمناهج الدراسة والموظفين الإداريين والسماح بتدريس الفقه الجعفري ومساعدة المؤسسات الثقافية ورعاية الأوقاف والعتبات المقدسة، لا شيء مما ذكر يمتُّ إلى سياسة الدولة، وتوجهاتها، اللهم ما عدا الإشارة بالنيابة عن السيد إلى ضرورة إيقاف القتل والعنف ضد الشيوعيين وإلغاء قانون الأحوال الشخصية""(91).


    وإن لم يرق المشروع السياسي للسيد الحكيم إلى مستوى المشروع السياسي للسيد الخميني أو للشهيد الصدر، فإنه كان على مستوى يمكن أن يكون مميزاً، فقد يكفيه أن احتضن العمل الحزبي، وتحديداً في حزب الدعوة الإسلامية، وهي أرقى صيغة للعمل السياسي، فضلاً عن تبنّيه تيار الفكر الواعي، إن على مستوى دعم (مجلة الأضواء)، أو (مكتبات الحكيم) التي كانت موئلاً للشباب المثقف، أو مواكب الطلبة..(92)

    وفي هذا السياق تبنّى حزب الدعوة مرجعية السيد الحكيم تبنّياً واقعياً(93).

    وقد كلَّف هذا الدعم الواقعي لمرجعية السيد الحكيم الدعوة تحفظ البعض ـ على أقل تقدير ـ كما هو موقف الشيخ محمد الخالصي (المرجع في الكاظمية)(94)، الذي رأى في حزب الدعوة الإسلامية فرعاً من فروع مرجعية السيد الحكيم(95)، تلك المرجعية التي خاض معها حرباً ذات اتجاهات متعددة، والتي ينظر إليها ـ كما عن أحد أنجاله ـ في جهازها بنظرة مريبة، ويتهمها بالاختراق، ذلك الاختراق الذي يخشاه على حزب الدعوة، وهو اختراق شكلّ هاجس الشيخ الخالصي على خلفية انطباعاته تجاه الإنجليز وعملهم في هذا الصدد(96).


    ولكن للإنصاف، فما كلَّف حزب الدعوة الإسلامية من ردود الأفعال، فإنه كلَّف السيد الحكيم ـ أيضاً ـ باحتضانه الحزب ورعايته، في وقت كانت هناك ضغوطات لا يستهان بها على السيد الحكيم لفصم عرى هذه العلاقة المتينة بينه وحزب الدعوة، وإن كانت تمارس في الخفاء، فهناك بعض أنجاله الذين لا يروق لهم هذا الاتجاه الذي يرعاه السيد الحكيم، وهو ما يظهر في موقف السيد محمد رضا الحكيم (نجل السيد الحكيم)(97)، بل وموقف السيد يوسف الحكيم (نجله الآخر)، بل يمكن أن يقال إن الموقف لأبناء السيد الحكيم هو هذا الموقف السلبي كما يعترف به السيد محمد باقر الحكيم نفسه(98)، والذي ترك بصماته واضحة، ليس على موقفهم تجاه حزب الدعوة وحسب، بل على الشهيد الصدر أيضاً.


    وقد ظهرت هذه المواقف السلبية لأقطاب أسرة السيد الحكيم تجاه حزب الدعوة وتجاه الشهيد الصدر بصورة واضحة عقيب وفاة السيد الحكيم.

    ويمكن أن نشير إلى موقف الأسرة عموماً وموقف السيد يوسف الحكيم تجاه الشهيد عبد الصاحب دخيّل عقيب اعتقاله، بل واحتمال استشهاده في السجن، إذ كان قد رهن داره بإزاء دين لأحدى نساء آل الحكيم، وقد استحق وهو في السجن فلم يمهله أحد من الأسرة، التي كان الشهيد عبد الصاحب دخيل ثقة عميدهم السيد الحكيم، وكان الموقف سلبياً على العموم، بما في ذلك موقف السيد محمد باقر الحكيم، إنما المهم أن نشير إلى ما ذكره السيد محمد باقر الحكيم للسيد حسن شبر، الذي توسط لإمهال أسرة الشهيد دخيّل وحفظ كرامتها، وكان السيد حسن شبر قد تمنّى على السيد محمد باقر الحكيم أن يصار إلى تسديد الدين المذكور عن الشهيد دخيّل بواسطة السيد يوسف الحكيم الذي تردْه الحقوق الشرعية مما يمكن صرفه ـ شرعاً ـ على أسرة الشهيد دخيّل، فكان الجواب إن السيد يوسف الحكيم لا يتعاطف مع عمل الشهيد أبي عصام(99).

    وفي السياق نفسه يذكر السيد جواد العذاري ـ أحد تلامذة الشهيد الصدر ـ أنه سعى لتوفير بدل الالتحاق بالجيش العراقي لأحد طلبة العلوم الدينية المحسوبين على الشهيد الصدر، فكان أن دفع نصف المبلغ المطلوب السيد الخوئي (المرجع) وسعى بتأمين الباقي من السيد يوسف الحكيم، إلاّ أنه اعتذر عن ذلك بعد وعدٍ له، على خلفية معرفته بنحو علاقةٍ للمطلوب له بالشهيد الصدر، وكان الاعتذار أنه ربما كان للمطلوب له علاقة حزبية(100)، وبالطبع يراد بها العلاقة بالشهيد الصدر أو حزب الدعوة أو كليهما معاً.


    وكان الموقف تجاه الشهيد الصدر هو الموقف ذاته تجاه الحركة الإسلامية وتشير بعض المصادر إلى أن الدوائر المقرّبة من السيد يوسف الحكيم، وتحديداً السيد كاظم الحكيم وهو أحد أنجال السيد الحكيم المرجع، كان يتساءل عما إذا كان أحد من طلبة العلوم الدينية ممن يتقدم إليه بطلب مساعدة للزواج ما إذا كان قد حصل على مساعدةٍ ما من السيد الشهيد الصدر أو لا، لمعرفة طبيعة العلاقة مع الشهيد الصدر وترتيب الأثر اللازم على اكتشاف علاقة من هذا القبيل(101).


    بل يمكن أن يصعّد توتر العلاقة بين هذا الاتجاه من أسرة السيد الحكيم وبين الشهيد الصدر الصلاة على ميت، كما حصل بالفعل في صلاة الشهيد الصدر على جنازة أحد وجهاء الديوانية، بعد طلب تقدم به وجهاء الأسرة وبعض مشايخهم، ومنهم الشيخ خالد العطية - تلميذ الشهيد الصدر - كما ينقل هو نفسه، إلاّ أنّ إلتباسا حصل في الأمر كان معه أن طلب بعض أبناء الميت من السيد يوسف الحكيم الصلاة أيضاً، فكان أن حضر السيد يوسف الحكيم محاطاً بأسرته وأخوته ومنهم السيد محمد باقر الحكيم والسيد عبد العزيز الحكيم في وقت يتهيأ فيه الشهيد الصدر للصلاة، فانسحب السيد يوسف الحكيم وأخوته لتتوتر العلاقة(102)، ويثار حول الشهيد الصدر ما يوجب توهين مقامه إلى درجة أنه لم يقبل منه توضيح الأمر أو الاعتذار عنه، كما ينقل السيد حسين الصدر الذي رافق الشهيد الصدر نفسه إلى دار السيد يوسف الحكيم فبادرهما السيد صادق الحكيم (نجل السيد يوسف الحكيم) ليخبرهما باعتذار السيد يوسف الحكيم عن استقبالهما(103)، وهو موقف لا يمكن تفسيره إلاّ بالتشنج والسلبية المطلقة.

    وقيل: عن السيد يوسف الحكيم أنه قال: الإساءة عامة والاعتذار خاص.


    وكأنَّ هذه المواقف ـ وإن كانت متأخرة عن زمن السيد الحكيم المرجع ـ ردّ على الرعاية التي شمل السيد الحكيم (المرجع) بها حزب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية عموماً، وردّ ـ أيضاً ـ على التحالف الذي كان قائماً بين الجناح الواعي في مرجعية السيد الحكيم والذي يمثله السيد الشهيد الصدر والشهيد مهدي الحكيم والسيد العسكري والسيد محمد باقر الحكيم وبين حزب الدعوة، ذلك التحالف الذي وصفه السيد العسكري بأنه جماعة عمل مشتركة من حزب الدعوة وجهاز السيد الحكيم(104).



    وبذلك يعرف دور السيد الحكيم (المرجع) وصموده أمام هذه الضغوط التي يواجهها من أقطاب أسرته التي لا يروق لهم مثل هذه الرعاية، ومن آخرين كانت لهم ارتباطات وعلاقات متينة بالشاه في إيران. ولعل من المفيد الإشارة إلى ما ينقله السيد العسكري في هذا الشأن، وتعالي الأصوات المعترضة على أدنى موقفٍ سياسي تجاه الشاه، وإن كان في مسألة اعترافه بدولة الكيان الصهيوني، تلك الإعتراضت الضاغطة،التي لا يمكن تجاهل قوتها ومركزها في الحوزة العلمية في النجف(105).


    يتبع /





  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    وإذا كان يمكن إرجاع الموقف الإيجابي للسيد الحكيم تجاه الحوادث السياسية عموماً إلى الجناج الواعي في مرجعيته أو الأطر التي تبنّت مرجعيته، إلا أنه يرجع ـ أيضاً ـ إلى استعداد ذاتي في شخصية السيد الحكيم، وبذلك يمكن تفسير إفلاته ـ وبقوةٍ ـ من التأثيرات الضاغطة عليه، والتي يكفي منها الموقف العام لأبناء أسرته عموماً، بحيث يشكّل موقف الشهيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم استثناءً من هذا الموقف العام.
    ويمكن أن أُشير إلى ما نقله مصدر شديد الصلة بالشهيد الصدر وأبناء أسرة السيد الحكيم في آن واحد، إذ جرى عتاب أخوي بين هذا المصدر وبين الشهيد السيد محمد حسين الحكيم (نجل السيد محسن الحكيم، أعدم 1982) حول موقفه من الشهيد الصدر والقطيعة التي بينهما، في وقتٍ تجري الأمور بشكل متين بين الشهيد الصدر وبين السيد محمد باقر الحكيم والسيد عبد العزيز الحكيم، فكان جوابه: إنهما من أتباعه (106).

    ويكشف الجواب لا عن عمق التشنج، بل يكشف ـ أيضاً ـ عن العلاقة الاستثنائية للسيد محمد باقر الحكيم والسيد عبد العزيز مع الشهيد الصدر، والتي كانت مثار جدل ـ أيضاً ـ بينهما، وبين أبناء أسرة السيد الحكيم عموماً.

    وعوداً على بدء، يمكن القول ـ كما أفادت الشهادات المطّلعة ـ إن التأييد الكبير والوحيد لحزب الدعوة الإسلامية، كان من نصيب السيد الحكيم وحده، ولم يُعرف لغيره من المراجع دور في تأييد حزب الدعوة، إلاّ ما كان من السيد الشهيد الصدر الذي غرّد خارج السرب في هذا الإطار.



    أما غيره من المراجع في النجف فلم يُعرف لهم موقف واضح، وهو وإن كان ـ ربما ـ لطبيعة نشوء حزب الدعوة وسرّيته، فهو فوق ذلك ينبع عن موقف عام تجاه الشأن السياسي، وهو موقف اللامبالاة أو السلبية. وإذا كان قد أعرب السيد الخوئي للشهيد الصدر عن ارتياحه لانبثاق حزب الدعوة(107)، أو كان قد ردّ ـ بقوة ـ بعض المتهمين للشهيد الصدر والتعريض به على خلفية علاقته بحزب الدعوة(108)، فإن ذلك لا يرقى إلى تأييد العمل الحزبي وإحتضانه، فضلاً عن تبنيّه، وإنما هو من باب حسن الظن بتلميذه الصدر. وهو ـ علاوة على ذلك ـ لم يعدّ في المراجع وإن كان له مقلدون (109).

    وأما خارج إطار النجف كما في كربلاء، فإنّ السيد محمد الشيرازي نجل المرجع السيد مهدي الشيرازي (ت 2001م) كان قد تمت مفاتحته عن طريق الحاج صالح الأديب، وكان متجاوباً، وكان يفترض ـ لإيمانه بالعمل ـ أن يشترك في المداولات التي كانت الأساس في انطلاق عمل الدعوة، إلاّ أنه لم يقدم على ذلك خصوصاً بعد وفاة والده، وخشيته أن يكون جزءً من أتباع السيد الحكيم(110)، ويشير الشيخ علي الكوراني إلى أن جماعة السيد الشيرازي لم يكونوا ضد الحزبية، وكانوا يعتقدون بالتنظيم، ولكنهم ـ وفقاً لرؤية السيد حسن الشيرازي (أغتيل في بيروت 1980م) ـ يريدون حزباً للمرجعية التي يقف على رأسها السيد محمد الشيرازي(111)، ويرجع الحاج الأديب توتر العلاقة والهجوم على الدعوة في كربلاء إلى السيد حسن الشيرازي(112).




    وفي الجهة الأخرى للنجف، وبالتحديد الكاظمية التي يتزعم الحركة فيها الشيخ محمد الخالصي (ت 1963م) فان موقفه من العمل الحزبي ـ عموماً ـ كما أشرنا إليه موقف المتحفظ، خاصة وأن حزب الدعوة حزب يستظل بمرجعية السيد الحكيم، الذي كان على الضفة الأخرى، في قطيعة معروفة مشهورة. وكان الشيخ الخالصي يمنع مريديه والمحيطين به من الإنخراط في العمل الحزبي، وينقل الشيخ جواد الخالصي (نجل الشيخ الخالصي) أنه سمع والده يمنع السيد داود العطار من ذلك، إذ كان أحد مدرّسي مدرستهم في الكاظمية، ولذلك تراجعت علاقة الأخير بالمدرسة المذكورة(113).

    إلاّ أن مصادر عليمة في حزب الدعوة تشير إلى أن أحد أبناء الشيخ الخالصي (المرجع) كان عضواً نشيطاً في حزب الدعوة لفترة من الزمن(114). وربما يريد بذلك الشيخ مهدي الخالصي. وهذا ما يؤكده السيد الرفاعي حيث أشار إلى أن الشيخ مهدي الخالصي كان عضواً نشيطاً في الحزب، إلاّ أنه انسحب منه قبيل وفاة والده ـ بفترة قصيرة ـ بعد جلسة مغلقة مع والده، ولم نعرف التفاصيل بهذا الشأن(115)، بل نقل لي مصدر مطّلع في الحزب أن المسؤول الحزبي المباشر للشيخ مهدي الخالصي هو الشهيد عبد الهادي السبيتي. وقد نقل المصدر المطّلع ذلك عن الشهيد السبيتي نفسه(116).

    وثمة إشارة وردت في رسالةٍ للشهيد الصدر أرسلها للشيخ علي الكوراني أتى فيها على فترة الانسجام مع الشيخ مهدي الخالصي، قد تصلح لتأكيد هذه المعلومات(117).


    وقد ذكر لي الشيخ جواد الخالصي عن أخيه الشيخ مهدي: أنه كان أحد خمسة أسهموا في التفكير لتأسيس حزب إسلامي، وهم السيد العسكري، والحاج عبد الصاحب دخيلّ، وعبد الهادي السبيتي، وآخر لم يذكر اسمه، وكان من أهم ما اتفق عليه أن يكون مركز العمل الإسلامي في الكاظمية، وأن يسكت عن الموقف من المرجعية، للحساسية تجاه مرجعية السيد الحكيم، وأن يكون العمل غير طائفي، وبعد أن انتقلت المداولات إلى النجف وعرضت على الشهيد الصدر وآخرين، وتبني الطابع المذهبي، وتحديد النجف مركزاً، والاتصال مع المرجعية المتمثلة في السيد الحكيم انسحب الشيخ مهدي الخالصي(118).


    ومن باب الاستطراد أّذكِّر أن الشيخ علي الكوراني ـ في حديثه الخاص لي ـ أشار إلى الخلاف بين المؤسسين وكوادر الحزب حول ضرورة تحديد المذهب الخاص بالحزب أو عدم ضرورته، إلاّ أنه لم يشر إلى الفترة الزمنية التي جرى فيها مثل هذا الخلاف، وهل هو في الفترة الأولى للتأسيس أو أنه في الفترة اللاحقة، إلاّ أنه أشار إلى موقف الشهيد عبد الصاحب دخيلّ والشيخ عارف البصري، وأنهما كانا يميلان إلى عدم تحديد الطابع المذهبي، وأنه مسألة شخصية(119).





  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    من التأسيس إلى الانفصال العضوي:
    ربما تكون هذه الخلافات وتنوّع الاتجاهات في الوسط الديني يومذاك سبباً لانكشاف الحزب والتعرّف عليه من قِبَل التيارات اللاّ إسلامية. وربما يكون لانسحاب البعض المبكر من الحزب (كما في حالة محمد صادق القاموسي وغيره) سبباً ـ أيضاً ـ لهذا الانكشاف، فضلاً عن الخلاف في الحزب نفسه الذي قيل عن خلفيته أنه مذهبي من وجه وشخصي من وجه آخر(120).

    هذا الانكشاف أدخل الحزب في معركة ليست مع النظام القائم يومذاك بل مع الحلفاء المفترضين، إذ كان ثمة انسجام عفوي(121) ـ لم يخطط له الإسلاميون ـ بين الإسلاميين والقوى الدينية التقليدية وبين التيار القوي ومنه حزب البعث، وذلك لمواجهة المدّ الشيوعي، فكان ذلك يفرض على التيار القومي وتحديداً حزب البعث الالتجاء إلى الدين والاحتماء بعباءته، ولذلك يلاحظ الحضور الكثيف للتيار القومي في احتفالات الإسلاميين وتصدي أنصاره لتوزيع منشورات جماعة العلماء(122)، أو توزيع فتوى السيد الحكيم (المرجع) لمواجهة المدّ الشيوعي وتعميمها على أوسع نطاق(123)، ومن ثم لا يفاجأ الباحث إذا ما وجد مقتطفات من كتابات الشهيد الصدر تنشر في عمود خاص في جريدة (الحرية) التي يشرف عليها قوميون وبعثيون(124).

    والسبب وراء امتعاض هؤلاء الحلفاء المشار إليهم أنهم لا يروق لهم بروز تيار إسلامي واعٍ، يقف وراءه نخبة من العلماء الواعين والمثقفين أيضاً، لأنه يفوِّت عليهم فرصة استغلال الدين والتيار الديني. وهو ما يفسِّر التحرك السريع والشامل لشخصيات معروفة بانتمائها للتيار القومي وتحديداً حزب البعث على المراجع وأبناء المراجع، وفي مقدمتهم المرجع السيد الحكيم، إذ زاره حسين الصافي ليكشف له ـ حسب زعمه ـ عن تيار إسلامي سياسي يعمل في السياسة باسمه، ويتزعمه السيد محمد باقر الصدر، والسيد مهدي الحكيم(125)، بل أفاد الصافي ـ وفق شهادة أخرى ـ للسيد الحكيم أن حزباً سنياً للوهابية يعمل في النجف أسسه السيد محمد باقر الصدر، وأولاده السيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم(126).




    وقد أتت هذه المناورة التي قام بها حسين الصافي ضمن حملة واسعة وذات أطراف متعددة استهدفت الشهيد الصدر تحديداً وتيار الوعي الإسلامي المتمثل في حزب الدعوة الإسلامية. ولعلّها انطلقت بداية في استهداف وجود الشهيد الصدر في مجلة (الأضواء) التي تصدرها جماعة العلماء ـ والتي سيأتي الحديث عنها لاحقاً ـ إذ وفقاً لشهادة السيد محمد باقر الحكيم: ""أن البعثيين في العراق تنبهوا إلى خطورة التيار الإسلامي على وجودهم .. ولذا فقد شنوا حملة واسعة على مجلة الأضواء سنة 1960م في النجف الأشرف.. وكان مركز هذه الحملة هو السيد الشهيد الصدر، ومجموعة من العلماء(127)، ثم.تضخمت ردود الفعل ضده من جماعة برّاني(*) السيد الخوئي بتأثير من السيد الروحاني ومن جماعة منتدى النشر لأسباب غير واضحة، ربما كانت لدور الدعوة في إقالة السيد هادي الفياض من الجمعية لنشره مقالاً لصلاح خالص من أعلام الشيوعيين في مجلة (النجف)، ومن البعثيين بقيادة السيد حسين الصافي، ومن الطبيعي أن يكون للشيوعيين الدور الفاعل ولكن من وراء الواجهات""(128).

    ولم يكن التحرك مقصوراً على السيد الحكيم (المرجع) بل تعدَّاه إلى عدد من المراجع والفقهاء ومنهم السيد الخوئي ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ وبذلك شكَّل ضغطاً لا يمكن تجاهله، في واقع ـ يشكو في الأصل ـ من الخلافات وغياب الوعي. وإذا كان السيد الحكيم قد ردّ مثل هذه المحاولات كما هو موقفه من حسين الصافي وتأكيده على ثقته بالشهيد الصدر كما تشير المصادر(129)، إلاّ أنه أخذ بالاعتبار مدى تأثير هذه المحاولات، فأمر السيد الحكيم نجليه السيد مهدي والسيد محمد باقر بالانسحاب من الحزب مع بقاء تعاونهما مع الحزب(130).

    ووفقاً لشهادة الأديب فقد نقل السيد مهدي الحكيم رسالة من الشهيد الصدر وصفها الأديب أنها من الأوراق المتداولة يومذاك ذات اللون الأزرق وتحمل على جانبها فراشة، وتتألف من صفحتين، كتب الشهيد على صفحة وثلثي الصفحة منهما.

    وقد أكّد فيها الشهيد الصدر على إيمانه العميق بضرورة العمل المنظّم وما آلت إليه الآمة الإسلامية نتيجة العمل المنظّم لأعداء الإسلام، فيما نوّه بطلب السيد الحكيم (المرجع) وأنه فكّر به كثيراً إلى حدّ الإعياء، وأنه يفكر في طلبه من باب الاستجابة للمرجعية، ثم طلب ـ في رسالته ـ من أخوته في العمل الاستمرار.

    كما أفاد الأديب ـ وفقاً للشهادة ذاتها ـ أنه أُخبر من قبل السيد مهدي الحكيم بأجواء زيارة حسين الصافي للمرجع الحكيم للتحريض على السيد الصدر وإبلاغه بالعمل الحزبي الذي يقوده السيد الصدر ونجلاه السيدان مهدي الحكيم ومحمد باقر الحكيم. وذكر له السيد مهدي أنه والسيد محمد باقر كانا يستمعان لحديث الصافي مع السيد الحكيم (المرجع) خلف حاجبٍ بينهما(131).

    هذه التفاصيل التي وردت في شهادة الأديب لم ترد الإشارة إليها في مذكرات الشهيد مهدي الحكيم، ولا أعرف السرّ في إغفال مثل هذه التفاصيل، وعمّا إذا كانت لم ترد في المذكرات أصلاً، أم أنها حُذفت من المذكرات حين النشر، إذ من المعروف أن المذكرات هذه قد تمَّ التصرف بها(132).

    ]


    وفي شهادة السيد العسكري يقول: ""وما كدنا نخطو خطوتنا الأولى حتى بدأ تحرك البعثيين ضدنا، حتى استلامهم الحكم، فزار مبعوثهم حسين الصافي السيد محسن الحكيم (رضوان الله تعالى عليه)، ولا أعرف ما دار بينهما، إلاّ أنه أمر السيد مهدي الحكيم بالخروج من الحزب ففعل، ثم حصلت ضغوط شديدة على الشهيد الصدر اضطر إثرها للخروج من الدعوة ثم كنت آخر من جمّد عمله بعد الشهيد الصدر""(133).

    ويظهر من شهادة السيد العسكري هذه أن خروج الشهيد الصدر من الحزب لم يكن بفعل طلب السيد الحكيم (المرجع) إثر زيارة الصافي، بل كانت بفعل ضغوط شديدة لم يشر إليها في حديثه. ويعضد ذلك ما كتبه السيد العسكري تعليقاً على كتابي الأول عن الشهيد الصدر، وتحديداً حول ما ذكرته في الكتاب المشار إليه من أن الشهيد الصدر انسحب من الحزب بناءً على طلب السيد الحكيم، إذ كتب السيد العسكري في هامش الصفحة ما نصه: "" لم يبلغني أن المرجع الحكيم طلب منه الخروج من حزب الدعوة""(134). ولكن السيد العسكري نفسه ذكر في حديث له نقله عنه السيد حسن شبر قال فيه: "" إن الشهيد الصدر خرج من الدعوة ظاهرياً بناءً على طلب السيد الحكيم، ولكنه بقي مع الدعوة إلى آخر لحظة من عمره""(135)، وهو ما لا يتفق مع ما تقدم ذكره، إلاّ أن يكون مقصوده من طلب السيد الحكيم هو الطلب العام والذي بموجبه انسحب السيد مهدي والسيد محمد باقر من الحزب، والذي علّله السيد الحكيم (المرجع) بضرورة المحافظة على الصفة العامة للمرجع.



    ويقترب مع ما أفاده السيد العسكري في إفادته السابقة ما أفاده الشيخ الكوراني من ابتعاد الشهيد الصدر بعد خروج السيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم. وبعد مدة لم تطل قدَّم بعدها استقالته إلاّ أنه لم يعلنها(136).

    الانفصال العضوي والذي جاء تلبية لتمني السيد الحكيم (المرجع) أو لجهة الضغوط الشديدة وفقاً لشهادة السيد العسكري، فسَّره السيد محمد باقر الحكيم بتفسير آخر، وأرجعه إلى ما أسماه بالشك الذي طرأ على منطلقات الشهيد الصدر الفكرية في تبرير وتسويغ العمل الحزبي.

    فكتب السيد محمد باقر الحكيم: "" وفي تطور آخر أصاب الشهيد الصدر (رض) الشك في دلالة آية الشورى على الحكم الإسلامي من خلال شبهة كنت قد أثرتها حول آية الشورى في بداية تكوّن النظرية، ولكنه أجاب عنها في حينه، ثم بدت له صحتها بعد ذلك، وقد دوَّن هذه الملاحظات ضمن مجموعة من المراسلات. وهذا الشك في دلالة آية الشورى انتهى به إلى الشك في صحة العمل الحزبي بمعناه الواسع الذي لا معنى له ـ في نظر الشهيد الصدر آنذاك ـ إلاّ إذا كان يتضمن تصوراً كاملاً عن نظرية الحكم الإسلامي وطريقة ممارسته، فإذا لم تكن النظرية حول الحكم الإسلامي وإطاره ومؤسساته واضحة، فكيف يمكن إيجاد تنظيم يسعى إلى هذا الهدف، من دون أن يكون الهدف نفسه واضح المعالم؟ وعلى هذا الأساس انسحب الشهيد من تنظيم حزب الدعوة بعد أن كان يمارس فيه دور القيادة الفكرية والإشراف العام. ولكنه كان، في الوقت نفسه، يشعر بضرورة العمل السياسي الإسلامي المنظَّم وأهميته، ولذا بقي يؤيد التحرك السياسي (الخاص) بمستوى من المستويات. وسمح للحزب ـ من أجل أن يحل الإشكال الشرعي له ـ أن يستند في شرعيته إلى فتوى بعض الفقهاء، أمثال خاله الشيخ مرتضى آل ياسين أو غيره""(137).

    وفي إشارة إلى دور حسين الصافي ومحاولته تحريض السيد الحكيم (المرجع) وتأثير ذلك على انسحاب السيد الصدر من حزب الدعوة. كتب السيد محمد باقر الحكيم: "" اقترن هذا الشك في دلالة آية الشورى مع طلب الإمام الحكيم (قده) منه الانسحاب من الحزب في الحادثة المعروفة التي أشرت إليها في بعض الكتابات، وكان السبب الشرعي الواقعي للإنسحاب هو الشك في صحة العمل الحزبي كما أشرنا بالإضافة إلى المصلحة التي كان قد شخَّصها الإمام الحكيم، وكان يرى الشهيد الصدر نفسه ملزماً روحياً وأدبياً بمراعاتها.."" (138).



    وفي حديث للسيد محمد باقر الحكيم نقله عنه الباحث صلاح الخرسان قال فيه:

    "" كان السبب في خروج الشهيد الصدر وخروجي هو الإشكال الشرعي كما هو مدون في رسالتين بخط الشهيد الصدر كتبهما لي إلى لبنان حيث كنت هناك في هذه الفترة، يشرح بهما كل الملابسات الشرعية والسياسية والاجتماعية، ويذكر بها الأحداث التي اقترنت بذلك من تحرك بعض الأوساط السياسية والاجتماعية في النجف الأشرف للضغط على الإمام الحكيم"" (139).

    وفي مورد آخر يشير السيد محمد باقر الحكيم إلى ذلك: "" وتبدأ المرحلة الثانية من المسار العملي للنظرية عندما يبرز الشك عند الشهيد الصدر (رض) في دلالة آية الشورى على طبيعة الحكم الإسلامي، وذلك في صيف 1960م/ 1380 ه‍ ، حيث انتهى إلى قرار الخروج من الحزب الإسلامي ـ الذي كان يتولى قيادته الفكرية والإشراف الديني عليه ـ لوجود الشبهة الشرعية في هذا المجال. واقترن ذلك بأزمةٍ سياسية أُثيرت حول الحزب وعلاقته به، وكذلك حول كتابة الشهيد الصدر لافتتاحية مجلة (الأضواء) باسم (جماعة العلماء) من دون اطلاع أعضاء الجماعة، بعد أن كان نشاط (الجماعة) قد تجمّد واقعياً، وانتهت الأزمة باستقالته من الحزب، واستقالة العلاّمة السيد مهدي الحكيم منه بطلب من الإمام الحكيم، والسيدان الشهيدان، وإن كانا قد خرجا من الحزب في آن واحد، إلاّ أن المسوِّغ للشهيد الصدر كان هو الشك في دلالة آية الشورى على نظرية الحكم، بالإضافة إلى العامل الروحي والنفسي بطلب الإمام الحكيم (رض) بأن جهاز المرجعية يجب أن ينفصل عن الحزب، لئلا تفسَّر مواقف المرجعية بأنها مواقف تتأثر بموقف حزبي. وكان طلب السيد الإمام الحكيم موجّهاً إلى كل من السيد مهدي والسيد الشهيد الصدر، علماً بأنَّ الإمام الحكيم كان مطلعاً على وجود الحزب وعلى وجود علاقات المودَّة والتنسيق بينه وبين بعض أولاده، وإن لم يكن له إطلاع على كثير من التفاصيل، وفي هذه المرحلة، لم تكن تفاصيل إطار العمل السياسي وشكلة واضحة لدى الشهيد الصدر بعد أن اهتزت الصورة الشرعية للعمل السياسي (الخاص) الذي كان يستحسنه، ولكن في الوقت نفسه بدأت تتبلور صورة جديدة من خلال الممارسة العملية لمرجعية الإمام الحكيم وقدرتها على التطور والتعبئة الجماهيرية والاستفادة من إمكانات الأمة وتوعيتها على مختلف المستويات الثقافية والسياسية.. "" (140).

    هذه الرؤية التي ذكرها السيد محمد باقر الحكيم كان قد تفردّ بها، وقد وردت في بحث له قدَّمه في ندوة خاصة بدراسة فكر الشهيد الصدر، دعا لها (مركز دراسات تاريخ العراق الحديث) وذلك في عام 1994م/ 1414ه‍ في إيران (قم)، إلاّ أن السيد الحكيم ينوّه في مقدمة بحثه أنه كتبه في (جمادى الثانية ورجب من العام 1408ه‍). ونشر لأول مرة ـ فيما أعلم ـ في مجلة (قضايا إسلامية) الصادرة عن مؤسسة الرسول الأعظم / في قم، وفي العدد الثالث للعام 1417ه‍/ 1996م.




    إلاّ أن هذه الرؤية سبق وأن أشير إليها في مقال لأحد الكتّاب المحسوبين على السيد الحكيم، وتحديداً في صحيفة (لواء الصدر) الصادرة عن حركة المجاهدين في العراق، والتي يتزعمها السيد عبد العزيز الحكيم شقيق السيد محمد باقر، إذ أشار الكاتب إلى أن السبب في انسحاب الشهيد الصدر من الحزب يرجع إلى طرو شك فقهي لديه في أصل دلالة آية الشورى على مشروعية قيام الحكومة الإسلامية.

    ولم يكن يتبنى فقهياً حينذاك القول بالولاية المطلقة للفقيه. وبما أنه أسس التنظيم من أجل هذه الغاية وارتبط به للسبب ذاته، شك في أصل جواز بقائه داخل التنظيم مما جعله يترك التنظيم في سنة 1960م، لا على أساس أن التنظيم حرام، بل على أساس أن مبرر وجوده كفقيه في التنظيم قد إنتفى(141).

    وربما اختلفت هذه الرؤية في شقها الأخير مع ما يفيده السيد الحكيم، إذ أن ما يفيده السيد الحكيم تشكيك في شرعية الحزب وهو مما لا يساعد عليه البناء الفكري للحزب يومذاك، لأنّ وجود الشهيد الصدر كفقيه وإن كان أكسب الحزب اعتباراً شرعياً بوجه من الوجوه، ولكن البناء الفكري لا يقوم على ذلك، وإنما يقوم على الشورى وتحكيم رأي الأكثرية.



    يتبع /
    تقييم الرؤية وتسجيل ملاحظات





  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,589

    افتراضي

    وبصدد تقييم هذه الرؤية نسجل الملاحظات التالية:
    أولاً: من خلال هذه الرؤية يؤكد السيد محمد باقر الحكيم أنه لم يكن مشمولاً بطلب السيد الحكيم (المرجع) للخروج من الحزب، والذي شمل السيد الشهيد والسيد مهدي الحكيم، بل كان انسحابه من الحزب بناءً على الإشكال الشرعي الذي تولَّد عند الشهيد الصدر وكان للسيد محمد باقر الحكيم نصيب في إثارته لديه.

    وهنا يمكن للباحث أن يتساءل عن سرّ استثناء السيد محمد باقر الحكيم من طلب والده والذي عُلل في حديث السيد الحكيم (المرجع) بالمحافظة على الصفة العامة للحزب؟! هذا فضلاً عن المعطيات التي تشير إلى أن خروج السيد محمد باقر الحكيم كان لجهة طلب والده، وهذا ما يظهر من شهادة السيد مهدي الحكيم.

    ثانياً: يبدو من خلال المراجعة التاريخية أن نشوء الإشكال الفكري الذي نشأ عن الشهيد الصدر أسبق تاريخياً من المداخلات السياسية والاجتماعية التي أثيرت حول وجود الشهيد الصدر في حزب الدعوة ومحاولة تحريض المرجع الحكيم، إذ يرجع تاريخ الرسالتين التي نوّه بهما السيد محمد باقر الحكيم والتي تحدث فيهما الشهيد الصدر إليه عن الإشكال المذكور وهو في لبنان. بالتحديد ـ كما أشار إليه الخرسان(142) ـ إلى شهر تموز من العام 1960م، ويومها لم تكن ثمة تجاذبات أو مداخلات سياسية أو اجتماعية من قبيل ما حصل بخصوص دور الشهيد الصدر في مجلة (الأضواء)، أو دوره في (حزب الدعوة الإسلامية)، إذ أن ذلك وإن حصل بعد مدة ليست بطويلة، إلاّ أن ذلك يكفي للتدليل ـ أو يشعر على الأقل ـ على أن الانسحاب من الحزب لم يكن لهذه الجهة والتي أشار إليها السيد الحكيم، لأنها كانت قائمة فلماذا يتأخر الشهيد الصدر لينتظر حصول هذه التجاذبات ليخرج إثرها من الحزب!.

    وقد أشار إلى ذلك السيد الرفاعي في شهادته، حيث ذكر أن توقف الشهيد الصدر في دلالة آية الشورى كان أسبق تاريخياً من طلب السيد الحكيم (المرجع)(143).

    ثالثاً: إن هذا الشك الفكري لا يرجع إلى أصل مشروعية الحزب والعمل السياسي وفقاً للصيغ التنظيمية التي سادت في العصور المتأخرة، وذلك لأن مشروعية الحزب والتنظيم لا تستند إلى آية الشورى، بل تستند إلى عدة مبررات منها: "" إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الإسلام والدين من أهم الواجبات الإسلامية، ولمّا لم تكن هناك طريقة محدَّدة وإطار سياسي عام مشخّص لهذه الدعوة، كان ممكناً انتهاج كل أسلوب مؤثرِّ في هذا المجال يعطي للمسلمين القوة والقدرة على تحقيق هذا الهدف أو القيام بهذا الواجب الإسلامي. وحينئذٍ يمكن طرح أسلوب التنظيم الحزبي بوصفه أفضل طريقة تجريبية توصَل إليها الإنسان في التحرك السياسي، حيث إنها الطريقة المتبَّعة والمعروفة الآن في المجتمعات الإنسانية (الحضارة الغربية والشرقية) والتي أثبتت جدواها وتأثيرها من خلال التجربة""(144). وهذا المبرر هو ما ينسبه السيد محمد باقر الحكيم نفسه إلى السيد الشهيد، وعندئذٍ لا يكون الحزب في حرج من التشكيك في دلالة الشورى على شرعيته بعد أن كان مبرر وجوده يستند إلى أهم مقولةٍ فكرية إسلامية وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد افتراض عدم تحديد وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


    وفي هذا الصدد يكتب الشيخ علي الكوراني إذ يقول: ""قد يقال: نعم، إنَّ الشكل الحزبي بهيكلته الحديثة طريقة وافدة لم تعرفها مجتمعات أمتنا، ولكنها مجرد طريقة فنية لجمع الطاقات والتنسيق بينها، ولا يضر بالطرق الفنية التي نستخدمها أن تكون غريبة المنشأ أو شرقيته.. لعل هذا أقوى كلام يقال في الدفاع عن الشكل الحزبي والتنظير له، وقد سمعت فكرتة في أوائل الستينات من أستاذنا الشهيد الصدر رضوان الله عليه فأعجبني، وأخذت أطرحها بشكل وآخر في حلقات الدعوة ثم في ثقافتها.. كان في ذلك الوقت يقول: "" إن التنظيم الحزبي يشبه مسألة توزيع كتاب، حيث يطرح فيها السؤال: ما هي أفضل طريقة لتوزيعه وإيصاله إلى أكبر عدد ممكن من المسلمين..""(145).



    بل ورد في ما كتبه الشهيد الصدر ـ وتحديداً في إحدى نشرات حزب الدعوة: ""أما مشروعيته فلأن أسلوب الدعوة إلى الإسلام إنما هو الطريق الذي يمكن بواسطتها إيصال الإسلام إلى أكبر عدد من الناس وتربيتهم بثقافة الإسلام تربية مركزّة تدفعهم للقيام بما فرض الله عليهم، وحيث إن الشريعة الإسلامية لم تأمر باتّباع إسلوب محدد في التبليغ والتغيير جاز لنا شرعاً انتهاج أية طريقة نافعة في نشر مفاهيم الإسلام، وأحكامه وتغيير المجتمع بها ما دامت طريقة لا تتضمن محرَّماً من المحرمات الشرعية، وأية حرمة شرعية في أن تتشكل الأمة الداعية إلى الخير الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر في هيئة وجهاز وتكوِّن كياناً موحَّداً وفعالية منتجة في الدعوة إلى الله عز وجل. إن الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم لو كان في عصرنا لاستعمل بمقتضى حكمته الأساليب الإعلامية والتبليغية المعاصرة والملائمة. والحق أن أسلوبه صلى الله عليه وآله في الدعوة ما كان عن التنظيم الحلقي ببعيد. إن تجميع الجهود من أجل الإسلام وتنسيقها بحكمة واختيار الطريقة الأفضل لتنظيم ذلك ليس مجرد أمر جائز في عصرنا وحسب، بل هو واجب ما دام تغيير المجتمع وتعبيده لله ومجابهة الكفر المنظم متوقفاً عليه""(146).

    ويبعد أن يشك الشهيد في مقولاتٍ من هذا القبيل، وهي مقولات مسلّمة، فهل يمكن أن يعيد الشهيد الصدر النظر في وجوب الأمر بالمعروف أم في طبيعة ووسائل الدعوة إلى الإسلام؟!.

    وقد ذكر السيد محمد باقر الحكيم: ""وعلى هذا الأساس انسحب الشهيد الصدر من تنظيم حزب الدعوة بعد أن كان يمارس فيه دور القيادة الفكرية والإشراف العام. ولكنه كان في الوقت نفسه، يشعر بضرورة العمل السياسي الإسلامي المنظّم وأهميته. ولذا بقي يؤيِّد التحرك السياسي الخاص بمستوى من المستويات، وسمح للحزب ـ من أجل أن يحلَّ الإشكال الشرعي له ـ أن يستند في شرعيته إلى فتوى بعض الفقهاء ، أمثال خاله الشيخ مرتضى آل ياسين أو غيره""(147).

    فكيف يمكن أن نجمع بين شكّه في العمل الحزبي وبين شعوره بضرورة العمل أو التحرك السياسي الخاص، وهو العمل الحزبي؟! فمن أين حصلت هذه الضرورة؟!.

    وربما شعر السيد محمد باقر الحكيم بهذا التنافي الذي أشرنا إليه، ولذلك إستدرك في بحثه المنشور على صفحات (مجلة المنهاج) فأضاف إليه ما ربما يرفع هذا التنافي إذ ورد ما نصه: "".. وهذا الشك في دلالة آية الشورى انتهى به إلى الشك في صحة العمل الحزبي بمعناه الواسع الذي لا معنى له ـ في نظر الشهيد الصدر آنذاك، إلاّ إذا كان يتضمن تصوراً كاملاً عن نظرية الحكم الإسلامي وطريقة ممارسته..""(148).

    وقد أضيف إلى هذه الفقرة التعبير با(بمعناه الواسع)، ولم يكن هذا التعبير موجوداً في الأصل المنشور في مجلة (قضايا إسلامية)(149).

    وفي هذا الاستدراك مغزى دقيق، فإن العمل الإسلامي بمعناه الواسع يعني المنطلقات النظرية التي يقوم عليها الحزب، في تصوراته لشكل الحكم ـ مثلاً ـ والتي قد تكون مرتكزة على الشورى أو حكم الفقيه.. وهذا ما يظهر من كلام الشهيد الصدر نفسه، وفي المقطع الذي يذكره عنه السيد الحكيم. إذ كتب الشهيد الصدر في رسالته ـ كما عن السيد الحكيم ـ ما نصه: "".. وقعت منذ أسبوعين، أو قريب من ذلك، في مشكلة وذلك أثناء مراجعتي أسس الأحكام الشرعية وبعدها. وحاصل المشكلة التوقف في آية الشورى وأمرهم شورى بينهم التي هي أهم تلك الأسس وبدونها لا يمكن العمل في سبيل تلك الأسس مطلقاً… ""(150).

    فإذا عرفنا أن الحزب ـ أعني حزب الدعوة ـ يرتكز أساساً على الأكثرية والشورى في قراراته وتسيير شؤونه ومنها على المستوى القيادي نعرف سرَّ الإشكال الذي حصل للشهيد الصدر، ومدى تأثيره على ذهنية الشهيد الصدر، إذ أنَّ تغيّر وجهة نظر الشهيد الصدر وتوقفه في دلالة آية الشورى، ستكون ذات أثر على حركة الحزب، وعمله وتفعيل أُطره التنظيمية، وهو ما يتناسب مع ما أضافه السيد محمد باقر الحكيم من التعبير عن الشك في العمل الحزبي بمعناه الواسع، وهذا ما لا دخل له في أصل العمل الحزبي نفسه.



    وإذا كان قد أرجع الشهيد الصدر الحزب إلى خاله الشيخ مرتضى آل ياسين أو غيره من الفقهاء، كما يذكر السيد محمد باقر الحكيم، فإنه إرجاع للحزب لا في أصل العمل الإسلامي والدعوة للإسلام، بل إرجاع إليه من إبقاء الحزب على هيكليته القائمة على حكم الشورى المشار إليه، خاصة إذا عرفنا أن الحزب ـ وفقاً لرؤاه الفكرية ـ السائدة يومذاك لم يكن يتجاوز ما يسميه بالمرحلة الفكرية التغييرية.

    رابعاً: ولذلك نستغرب من الإفادة التي نسبها السيد محمد باقر الحكيم للشهيد الصدر بصدد آية الشورى، فكتب السيد الحكيم في مقام الحديث عن تصوّر الشهيد الصدر للنظرية السياسية والتي لخصها في نقاط: ""الثانية: الاستفادة من آية الشورى وأمرهم شورى بينهم الشورى/ 38 ، للدلالة على إمكان إقامة الحكم الإسلامي على قاعدة الشورى باعتبار أن الحكم وإقامة الدولة يمثِّل أمراً مهماً من أمور المسلمين، ولا يمكن تجاهله في مجتمعهم، لأن التجاهل وإقامة الدولة يمثِّل أمراً مهماً من أمور المسلمين، ولا يمكن تجاهله في مجتمعهم، لأن التجاهل يؤدي إلى تهديد أصل الدين، بالإضافة إلى سيطرة الكفار وعقائدهم على المجتمع الإسلامي ولابد من الالتزام بحكم الأكثرية في الشورى، لأن الاجتماع في الأمور الاجتماعية أمر نادر، وهذا يعني أن إقامة الحكم على أساس الشورى يعني الرجوع إلى الأكثرية وإلا تعطلت آية الشورى، ولم يكن لها مدلول عملي""(151).

    وفي هذه الإفادة المذكورة يحتمل أمران، أحدهما: أن يكون مقصود السيد محمد باقر الحكيم ما أشرنا إليه وأشار إليه ـ أيضاً ـ في تضاعيف حديثه من استفادة الحكم الشوري من آية الشورى، وهو ما لا خلاف عليه، وثانيهما: أن يكون مقصوده استفادة مشروعية العمل لإقامة الحكم الإسلامي، على نحو لو أُعيد النظر في دلالة آية الشورى لكان ذلك موجباً للتشكيك في جواز أصل العمل لإقامة الحكم الإسلامي، وهو محل نظر وتأمل، لأن الآية ـ كما هو واضح ـ ليست بصدد بيان أن الحكم وإقامته يمثل أمراً مهماً من أمور المسلمين، كما أشار إليه واستفاده السيد الحكيم، لأنها ـ أي الآية ـ ليست في هذا الوارد أصلاً، لأنها لا تتعرض إلى أصل الحكم ومدى أهميته، لأنه مطلب أجنبي عن الآية الكريمة، وغاية ما تدل عليه الآية، هو بيان تداول الرأي والتشاور بشأن أمور المسلمين وما يخصهم، وخاصة مما هو أمر الحكم وشأنه.

    ومهما يكن من أمر، فإن الذي يظهر من (الأسس) التي كتبها الشهيد الصدر كدستورٍ ومادةً ثقافية لحزب الدعوة أن "" الشكل الإلهي للحكم في الإسلام لا شك فيه ولا نزاع بين المسلمين""(152)، وإن كان ثمة خلاف فهو في الصيغ الدستورية والتي منها الشورى، وهذا ما بحثه الشهيد الصدر في هذه (الأسس)، والتي بمجموعها تؤكد أن العمل لإقامة الحكم الإسلامي(153) لا يرجع إلى ما أسماه السيد الحكيم بدلالة آية الشورى على إقامة الحكم الإسلامي وغير ذلك.

    خامساً: هذا، مع ملاحظة أن ما نسبه السيد محمد باقر الحكيم إلى السيد الصدر يظل موضع تساؤل، في وقتٍ لم يشر فيه إلى مثل هذا الموقف أحد من رموز العمل الإسلامي وروّاده، وفي وقت يمتلك فيه السيد الحكيم هذه الرسائل الخطية التي كتبها الشهيد الصدر، ولم يبادر السيد الحكيم إلى نشرها وإطلاع الباحثين على مثل هذا الموقف وقراءته بشكل مباشر.

    خاصة وأن ما نشره من فقرات لا يكفي لتدعيم الرؤية التي يتبنّاها السيد الحكيم وينسبها إلى الشهيد الصدر. وهو في الوقت الذي يشير فيه إلى هذا الموقف يشير ـ أيضاً ـ إلى طلب السيد الحكيم (المرجع) من الشهيد الصدر بالانسحاب من الحزب عضوياً، والذي ذكر السيد محمد باقر الحكيم أنه يرد في نص إحدى رسائل الشهيد الصدر(154)، فلماذا يصرُّ السيد الحكيم على الاحتفاظ بهذه الرسائل على أهميتها، وفي وقت نشرت فيه عشرات الرسائل والتي لا تتجاوز البعد العاطفي أحياناً.

    ومهما يكن من أمرٍ، فإنَّ هناك إجماعاً ـ يظهر من خلال مراجعة شهادة رموز وروّاد العمل الإسلامي ـ على إبقاء الشهيد الصدر على إتصاله بحزب الدعوة، والعمل معه على مدى زمن طويل جداً، بل إلى حين استشهاده.



    يقول السيد العسكري في شهادةٍ له ينقلها عنه السيد حسن شبر: ""إن الشهيد الصدر خرج من الدعوة ظاهرياً بناء على طلب السيد الحكيم، ولكنه بقي مع الدعوة إلى آخر لحظة من عمره"" (155).



    وفي شهادة للشيخ الفضلي يقول: ""لم يترك السيد الصدر الدعوة""(156).

    ويقول السيد فضل الله في هذا الصدد: ""وكان ملتزماً بالحركة الإسلامية في كل مراحله، لأنها كانت إحدى نتائج عمره، بالإضافة إلى أنها الوسيلة العملية الحركية للوصول إلى الأهداف. وأتصور أن السيد الشهيد لم ينفصل عن الحركة بالرغم من كل ما يقال لا نفسياً ولا فكرياً، ولكنه انفصل حركياً من خلال طبيعة الظروف المحيطة والضغوط""(157).



    وعن السيد الرفاعي يقول: ""فإن السيد الصدر لم ينفصل عن التنظيم بل توقف""(158).



    بل عن الشيخ الكوراني أن الشهيد الصدر وإن خرج من الحزب إلاّ أنه بقي متضامناً معه، إلى درجة أن الشهيد الصدر لم يعلن عن استقالته من الحزب إلاّ في العام 1968م، مما أوجب عتبه على الشهيد الصدر ـ كما يقول ـ لكونه كان في تمام هذه المدة الزمنية يتعامل معه، أي الشهيد الصدر، بصفته القيادية في الوقت الذي لا يرتبط فيه الشهيد الصدر بالحزب(159).



    وهذا ما يؤكده السيد محمد باقر الحكيم على نحو لا يبتعد عن هذه الشهادات إذ كتب يقول: ""وكانت هناك تساؤلات وشبهات حادَّة ومهمة مطروحة على مستوى الحوزة العلمية والأمة حول الشهيد الصدر وعلاقته ـ بالتنظيم الخاص ـ خصوصاً بعد تصدِّيه للمرجعية وبروزه في صدر الأحداث، وذلك باعتبار عدة عوامل وأسباب، منها وجود العلاقة التاريخية ابتداءً بينه وبين التنظيم الخاص، ومنها وجود الرعاية للتنظيم الخاص بقاءً واستمراراً من قبله، ومنها ارتباط عناصر التنظيم الخاص به روحياً ومعنوياً""(160).

    ويمكن ردُّ انفصال الشهيد الصدر ـ عضوياً ـ عن حزب الدعوة إلى أسباب عدة، تشكلّ بمجموعها الداعي لهذا الانفصال، وربما تكون:

    الضغوط الشديدة التي مورست ضده للتخلي عن العمل الحزبي، على خلفية الرؤية السلبية لهذا العمل، وأنه عمل لا يليق بالعبقري واللوذعي الذي يُؤمل فيه أن يكون مرجعاً من مراجع الدين في المستقبل(161)، ولذلك كثر الناصحون له بترك العمل الحزبي والتخلي عنه(162).



    وقد بلغ تأثير هذه الرؤية السلبية أن أحاط بالشهيد الصدر من كل جانب إذ لم يسلم منها بعض تلاميذه المقرَّبين. فقد ذكر لي الشيخ محمد إبراهيم الأنصاري أنه مرّ عليه السيد نور الدين الاشكوري - وهو من تلاميذ الشهيد المقربين - وحدَّثه عن مخاوفه تجاه علاقة الشهيد الصدر بحزب الدعوة، وكان يفترض في الشهيد الصدر ـ أستاذه ـ أن يكون متفرغاً للفقه وللمعارف الإسلامية.

    وذكر الشيخ الأنصاري أن هذا الحديث كان قد وصل إلى الشهيد الصدر نفسه عبر السيد كاظم الحائري، ولم يكن يعرف أن صاحبه هو السيد الأشكوري، ولم يكن يعرف أنه تحدث به مع الشيخ الأنصاري أيضاً(163).

    ويفيد الشيخ الأنصاري ـ أيضاً ـ أن السيد الأشكوري حدَّث الشهيد الصدر عن الطبيعة السلبية لعلاقته بالدعوة، وهذا ما أفاده الشيخ الأنصاري عن السيد الأشكوري نفسه(164).

    ولم تنفصل هذه الضغوط عن الضغوط التي مورست من اتجاهاتٍ عدة سواء من اتجاهات علمانية، كما هو في موقف وممارسات حزب البعث أو الحزب الشيوعي، أو من اتجاهات دينية، تلك الصادرة عن حواشي المراجع وبطاناتهم، كما هي مرجعية السيد الخوئي وبتأثير من السيد الروحاني كما مرَّت الإشارة إليه. بل كان ذلك من بعض معاوني السيد الحكيم (المرجع) الذين يمثلون الاتجاه المضادّ لاتجاه السيد العسكري والسيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم في مرجعية والدهم السيد الحكيم(165).

    وربما عبّر عن هذه الرؤية السلبية للعمل الحزبي وهذه الضغوط المنطلقة السيد الحكيم (المرجع) في طلبه وتمنيه على السيد الشهيد الانفصال عن الحزب والتعاون معه من خارجه، كما هو طلبه من ولديه السيد مهدي والسيد محمد باقر.

    رغبة بعض كوادر حزب الدعوة بضرورة انفصاله العضوي عن الحزب والتفرّغ للعمل المرجعي، بما يؤهله لدور مرجعي كبير. فقد أفاد الشيخ الفضلي إنه "" لم يترك السيد الصدر الدعوة، وإنما بالنظر إلى حاجة الأمة إلى مرجعية قائدة بعد وفاة السيد الحكيم إرتأت الدعوة ترشيحه للمرجعية لما يملك من شخصية قيادة. وكان هناك اعتراض على ذلك من قبل البعض خوفاً من حاشية السيد الخوئي التي كانت علاقتها وثيقة بالسلطة. ولكن أصبح مرجعاً بتصويت الأكثرية، وفي الوقت نفسه بقي مرجع الدعوة الفكري كحركة ومنظمة""(166).

    وتقترب مما يفيده الشيخ الفضلي شهادة الأديب إذ أفاد أن القيادة يومذاك كانت تتمنى على الشهيد الصدر التفرغ للعمل المرجعي لتأهيله في ظل غياب مرتقب للسيد الحكيم أو للسيد الخوئي، ولكنه كان يتمنّع من ذلك ويعتبر الحزب محتاجاً لجهوده وعمله فيه(167)، والرغبة المشار إليها أسبق تاريخياً من الانفصال، وربما تكون قد نضجت عند الشهيد الصدر ليساعد على أخذها بالاعتبار العوامل الأخرى التي تزامنت يومذاك.

    حدوث تغيّرات فكرية دفعته إلى تغيير وجهة نظره في هيكلية الحزب من حيث القيادة الجماعية الشورية، ودور الحزب في القيادة، والذي بُني على أساس مفهوم (الشورى) والمستند إلى آية الشورى. ولذلك فإنّ ما ذكره السيد محمد باقر الحكيم من توقف أو تغيّر في وجهات نظر الشهيد الصدر في دلالة آية الشورى يرجع إلى هذا المستوى من التأثير، ولذلك لا يمكن تصور انسحاب السيد الشهيد من الحزب ـ عضوياً ـ لهذه التغييرات الفكرية وحسب. ولذلك يؤكد السيد حسن شبر أن الشهيد الصدر لم يخرج من الحزب، بل انسحب من قيادة الحزب(168).

    وعليه فإن الشك الذي أشار إليه السيد محمد باقر الحكيم لا يرجع إلى الشك في أصل العمل الحزبي ومشروعيته، بما هو تشكيل دعوي يستهدف العمل التبليغي أساساً قبل كل شيء، وهو لم يكن في وارد استلام السلطة يومذاك. وعندئذٍ فإن الشك في صيغة الحكم وشكله مشكلة مستقبلية، وليست آنية، كما أنها ليست مورد ابتلاء يومذاك، خاصة في ظل سيادة ما يعرف بالمرحلية، والتي كان الحزب يعيش ـ وفقاً لها ـ المرحلة الفكرية.

    وإذا كان قد اختلف الموقف تجاه تحديد الداعي في انسحاب الشهيد الصدر ـ عضوياً ـ من حزب الدعوة لدى روّاد العمل الإسلامي كما يظهر من شهاداتهم، فانهم اختلفوا ـأيضاً ـ في تاريخ الانسحاب، إذ حدَّده السيد محمد باقر الحكيم بالعام (1960م)(169). فيما حدَّده الحاج الأديب بالعام (1961)(170). أما السيد حسن شبر فإنه حدَّده بالعام (1962)(171).

    ولكن، يظهر من حديث للسيد محمد باقر الحكيم نقله عنه بعض الباحثين إن تاريخ انسحاب الشهيد من الحزب كان متأخراً عن التاريخ الذي نقلناه عنه، بل عن جميع التواريخ التي أشرنا إليها آنفاً. إذ وصف ـ وهو يتحدث عن الانسجام الكامل بينه وبين الشهيد الصدر في قيادة حزب الدعوة ـ آراءه ومواقفه بأنها "" كانت تتطابق دائماً وعلى طول الخط مع مواقف وآراء السيد الصدر، في حين كان لباقي أعضاء القيادة في كثير من الأحيان مواقف مستقلة""(171)، في وقت أشار فيه إلى تطابق آراء ومواقف السيدين العسكري والشهيد الحكيم، وقد أرجع التطابق بينه وبين الشهيد الصدر وبين السيد العسكري والشهيد الحكيم إلى تقاربهما مكانياً، إذ كان والشهيد الصدر في النجف، وكان السيد العسكري والحكيم في بغداد، فيقول: "" لقد كان يجري البحث في جميع المواقف والنشـاطات بشكل مفصَّل باستمرار مع الشهيد الإمام الصدر، لأني كنت أعيش بالقرب منه في ساحة العمل، حيث كان أُستاذي وصديقي في نفس الوقت، وكنت أقضي معه يومياً عدة ساعات، بالإضافة إلى الانسجام الروحي والعاطفي بدرجة عالية. كل ذلك كان يهيئ فرصة حقيقية لتطابق المواقف والأدوار والاتفاق عليها في مجمل العمل على الأقل. وهذا لا يعني عدم وجود اختلاف واستقلال في الرأي، وإنما كان هذا الاختلاف جزئياً ومحدوداً، وكنّا نجد دائماً الطريق المناسب والسريع وبدون تكلف لمعالجته. يمكن أن هذا الموضوع كان قائماً إلى حدٍّ كبير أيضاً مع سماحة السيد العسكري وسماحة الشهيد السيد مهدي الحكيم وإن كانا يفترقان عنا ـ بعد انتقال السيد مهدي إلى بغداد ـ إنهما يعيشان في بغداد ويلتقيان باستمرار وتتكون لديهما الصورة من خلال مشاهداتهما وقربهما من مواقع بعض الأحداث، وبذلك كان يتكامل عملنا مع عملهما""(173).



    وكان انتقال الشهيد مهدي الحكيم إلى بغداد في العام (1964م)(174) مما يعني أن خروج وانسحاب الشهيد الصدر لم يكن في العام (1960م) كما ذكره السيد محمد باقر الحكيم ونقلناه عنه آنفاً.



    يتبع / الشهيد الصدر يحتضن الدعوة





صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني