المقدمة
منذ السنوات القليلة الماضية برزت اهمية القوميات الاخرى التي يحتويها المجتمع العراقي،
اذ أخذت هذه القوميات تشكل جزءا مهما وركنا اساسيا من اركان المجتمع العراقي،
الا ان الدور الاجتماعي لم يسلط الضوء منذ البداية على تلك المجتمعات التي تشكل نسبة ضئيلة من المجتمع العراقي، مع العلم ان المجتمع العراقي يتكون من قوميات متعددة منها: العرب ، الكرد ، التركمان ، الصابئة، اليزيدية،الخ
وابرزها هي القومية العربية والتي تشكل النسبة الاكبر بين قوميات المجتمع العراقي، والتي مارست الدور الاجتماعي الاكبر اذا ما قورنت ببقية القوميات الاخرى التي تسكن في العراق،
تعرضت هذه القوميات ( الفئة القليلة من المجتمع العراقي ) ، حسب رأي العديد من الباحثين الاجتماعيين والانثروبولوجيين الى الاضمحلال والضياع شبه التام لتأريخها
وفقدانها لمكانتها الاجتماعية، نتيجة الاهمال – الاجتماعي – الذي تعرضت له سابقا،الا ان اصرارها
في ممارسة الدور الاجتماعي وممارسة طقوسها وحياتها الاجتماعية بصورة مستقلة ساعدها في استعادة بعض من تاريخها وقيمها وعاداتها، فضلا عن اننا لا نستطيع ان نقول انها فقدت تأريخها بشكل تام،
لان جذور هذه القوميات تمتد الى مئات السنوات وبالتالي من الصعوبة ان تفقد تأريخها بفترة وجيزة من الاهمال أو اللامبالاة،
ونظرا لقلة الكتب والمصادر التي تتحدث عن تأريخ هذه القوميات واصولها، لذا التجأت الى مصادر عديدة ومختلفة،لغرض عرض دراسة شاملة وواسعة حول أصل التركمان في العراق – وامتدادهم التأريخي- الاجتماعي،ودراسة الجوانب
التأريخية والمكانية لغرض الحصول على شرح وافي عن التركمان في العراق، ومعرفة مدى تداخلهم واختلاطهم مع القوميات الاخرى،



التركمان ،اصلهم ، تأريخهم :
التركمان قبيلة من القبائل التي كانت تسكن في تركيا والتي وفدت من وسط أسيا، وتحديدا من منغوليا موطنهم الأصلي، يقال ان الفرق بين التركمان والأتراك هو كالفرق بين العدنان والقحطان أصل العرب، أما ألاختلاف اللغوي بينهما هو كاختلاف اللهجة العربية العراقية و اللهجة العربية السورية، و مازالت اللهجة التركمانية تحتفظ بنسبة 40% من المفردات العربية بخلاف اللهجة التركية التي أدخلت إليها، بعد تأسيس الجمهورية التركية،

تشير الوثائق التاريخية إلى أن الحضور التركماني الحقيقي في العراق، الذي دونه التاريخ، يعود إلى أوائل الفتح العربي الإسلامي، كما أن معظم أفراد الجيش الإسلامي بقيادة (عبيد الله بن زياد) عام (54هـ) الذي فتح تركستان، كانوا من المحاربين العراقيين، الذين استقروا هناك وتزاوجوا مع التركستانيين، ولم يكتف العراقيون بالاستقرار والتزاوج مع الترك أو التركمان بل انهم بعثوا بالمقاتلين التركمان ليستقروا بدورهم في العراق، يقول الطبري في كتابه الشهير (تاريخ الأمم والملوك : ((إن عبيد الله بن زياد قام في شهر ربيع الأول سنة 54 هـ (673 م) بهجماته عبرجيحون على (بخاري) ثم على (بيكند) فقاومه الجيش التركي تحت إمرة الملكة (قبج خاتون) مقاومة شديدة جدا، جلبت انتباهه وإعجابه لما لمسه فيهم من شجاعة فائقة وحسن استعمال الأسلحة، فاختار منهم ألفي مقاتل يحسنون الرماية بالنشاب فبعثهم إلى العراق وأسكنهم البصرة ،وأشار الى ذلك ايضا الكاتب العراقي سليم مطر*في كتابه جدل الهويات ،اذ لاحظ أن هناك خلطا غير متعمد في كتب التاريخ، بين التركمان وبين الأتراك، فعند وجوب الإشارة إلى التركمان يذكر المؤرخون الأتراك وبالعكس، لذلك نلفت النظر الى ان الذين أستقدمهم عبيد الله بن زياد كانوا من التركمان، الذين انصهروا مع العراقيين واستعربوا مثل الآلاف المؤلفة من المهاجرين من مختلف البلدان التي طالها الفتح العربي الإسلامي، ومن ذلك نستنتج ان التركمان في العراق هم ليس اتراكا ،وانما هم تركمانيون كانوا يعيشون في تركيا(بلاد الاناضول)، بصورة منعزلة،ويمارسون دورهم الاجتماعي وطقوسهم الخاصة بهم بصورة مستقلة تختلف تماما عن الاتراك،
وخلال اقل من قرن، تنامى الوجود التركماني في العراق بحيث أصبحوا جزءا من الجيش الأموي المقيم، وقد بلغ الحضور التركماني والتركي ذروته في العصر العباسي عندما بدأ الضعف ينتشر بين القبائل العربية المهيمنة وفقدانها لروحها البدوية المحاربة بعد استقرارها في العراق، وتمتعها بحياة الخصب والرفاهية، وقد وجد القادة العباسيون في الترك والتركمان البديل المطلوب لاحتفاظهم بروحهم الرعوية المحاربة ولشجاعتهم وبسالتهم في سوح القتال، وخصوصا في مواجهة خطر الجماعات الرعوية الأوربية القادمة باسم الحروب الصليبية،
التوزيع الجغرافي- القديم- للتركمان في العراق:
أستقدم الخليفة العباسي المعتصم بالله، (50) ألف محارب من ( أخواله) التركمان واستخدمهم في الجيش وبنى لهم مدينة سر من رأى، ( سامراء الحالية) في شمال عاصمة الخلافة بغداد، وتوسع وأمتد نفوذ التركمان والأتراك في الدولة العباسية، حيث شملت جميع مرافق السلطة إلى أن وصل بهم الأمر، في القرن الأخير من حكم الدولة العباسية، إلى خلع وتنصيب الخلفاء أنفسهم، واستمر الحضور التركماني مع بروز دور مؤسس الدولة العثمانية آل طغرل بن سليمان شاه التركماني، قائد أحد قبائل التركمانية النازحين من سهول آسيا الغربية إلى بلاد آسيا الصغرى،
رافق المحاربون التركمان جحافل التتار( من الأصول التركية)، الذين اجتاحوا بغداد و دمروها واحتلوها عام 1258 الميلادية، واستوطنوا العراق منذ ذلك الحين، أعتنق التركمان الوافدين مع التتار الدين الإسلامي الحنيف (القبائل التركمانية التي رافقت حملة التتار كانوا وثنيين) ومن ابرز شواخصهم الباقية حتى الآن، جامع وخان المرجان في وسط بغداد،
أسس التركمان دويلات عديدة في العراق منها دولة أق قوينلو و شقرة قوينلو والدولة الاتابكية في أربيل، ثم تعاقبت القبائل التركمانية من القــجار والسلجوقيين ( الأتراك)، على حكم العراق لغاية سقوط بغداد عام 1454 ميلادية، على يد العثمانيين التركمان، وأستمر حكمهم لغاية الاحتلال الإنكليزي للعراق العام 1917 الميلادي، وفي عام 1926 أبرمت اتفاقية بين الحكومتين التركية والبريطانية حول تبعية ولاية الموصل (وتشمل أربيل وكركوك والسليمانية)، وتشير أحدى فقرات هذه الاتفاقية إلى حرية اختيار العراقيين من الأصول التركمانية، بين البقاء في العراق أو الهجرة إلى تركيا، وقد فضل التركمان البقاء في العراق ألا عدد قليل فضلوا الهجرة إلى تركيا والاستقرار فيها،

مناطق التركمان حاليا:
كثر الحديث عن هوية المناطق التركمانية في العراق بالرغم من أن القاصي والداني يعرفان طبيعة الحقيقة الأثنية لهذه المناطق، فقد سبق لأبناء القوميات العراقية المختلفة أن سكنوا هذه المناطق وتعرفوا على أبناء القومية التركمانية، وهي أحدى القوميات الرئيسية في العراق وتعلموا لغتهم وتغنوا بأغانيهم واطلعوا على أدبهم وشعرهم،
إلا أن الحوافز السياسية والاقتصادية قد حدت بالبعض لمحاولة تغيير الواقع القومي في هذه المناطق، سواء بإفراغ بعض المناطق من سكانها الأصليين، أو بإغراقها بالوافدين من القرى والمناطق الأخرى والذين وجدوا في هذه المناطق أمنا وأمانا،

موطن التركمان في العراق يمتد من قضاء تلعفر شمال محافظة الموصل، وينحدر إلى جنوب شرقها باتجاه محافظة أربيل ( نصف سكان أربيل من التركمان من بقايا الدولة الاتابكية التركمانية)، ويمتد جنوبا إلى ناحية التون كوبري باتجاه محافظة كركوك، ثم جنوبا باتجاه ناحية تازة خورماتو وقضاء طوز خورماتو، ثم ناحية بيات وقضاء كفري، وينحدر إلى جنوب شرق العراق إلى محافظة ديالى وخاصة قضاء الخانقين، وناحية زرباطية والسعدية وجلولاء، ويقطن في محافظة بغداد الآن بحدود (50) ألفا من التركمان، من الناحية المذهبية ينقسم التركمان إلى حوالي 55% من السنة، و45% من الشيعة، يقطن السنة في مدن: أربيل والتون كوبري وكركوك وبيات وكفري وخانقين وجلولاء وزرباطية والسعدية؛ أما الشيعة فيقطنون في : تلعفر وتوابعها في محافظة الموصل وفي مركز مدينة كركوك ( حوالي 35% من التركمان في مركز مدينة كركوك من الشيعة)؛ وناحية تازة خورماتو وطوز خورماتو وعدد من القرى التابعة لهما،


تعدادهم :
بلغ عدد نفوس التركمان حسب إحصائية التعداد السكاني لعام 1957 ،(950 ) الف نسمة، بينما قدرت المصادر الحكومية عدد نفوسهم في عام 1997 بـ ( 900) الف نسمة فقط ، أي بنقصان (50) الف نسمة عما كانت عليه عام 1957، وهذا الرقم بحد ذاته يبين مدى الإجحاف والاهمال الذي لحق بالقوميات والاديان التي تشكل نسبة قليلة في العراق، على أية حال فان المصادر المعتدلة تقدر عدد نفوسهم بـ (2.5) مليون نسمة، وأما المصادر المتطرفة فتقدره بـ (5.3) مليون نسمة، وبما أن نسبة الزيادة السكانية السنوية الثابتة في الــعراق هي (8/3%)، يمكن تقدير عدد نفوس التركمان على هذا الأساس الآن بـ (2.6) مليون نسمة، وبهذا العدد يشكل التركمان نسبة 10% من سكان العراق تقريبا؛ كثالث أكبر قومية فيه، يسكن حوالي 40% من هذا العدد في مركز محافظة كركوك، واستنادا لإحصائية العام1957 أحتل التركمان مركز القومية الأولى في هذه المحافظة، ثم جاءت القوميتان الكردية ثم العربية و من ثم المسيحـيون،
لغتهم:
اللغة التركية بكل لهجاتها هي لغة أقوام
تمتد مواطنهم من الصين شرقاً إلى أوربا الشرقية غرباً،
ومن بلاد القرم شمالاً وحتى سواحل البحر الأبيض المتوسط الشمالية جنوباً،
ولقد توزعت هذه الأقوام بين دول مختلفة منها العراق وسوريا،
أما لغتهم بالتحديد فهي لغة رسمية فقط لجمهورية تركيا ،التي قامت على أنقاض الدولة العثمانية، وشملت هضبة الأناضول، وأجزاء من تركيا الغربية .
وتنتسب اللغة التركية إلى عائلة لغات الأورال،
واللغات الاورال: هي مجموعة من اللغات توجد بينها وحدة أو تقارب في البناء اللغوي أكثر من التقارب في الجذور اللغوية، وهي من اللغات الإلحاقية أو الإلصاقية، بمعنى أن يضاف إلى جذر الكلمة – والتي غالباً ما تكون ذات مقطع واحد – عدة لواحق ومقاطع لاشتقاق معان جديدة،
ويدخل ضمن هذه العائلة، إضافة إلى اللغة التركية اللغات الفلندية والمغولية والمجرية وغيرها، واللغات الإلحاقية تختلف عن اللغات المنصرفة التي تشمل اللغات السامية والهندو أوربية،
وهناك العديد من النظريات لتقسيم اللغة التركية ولهجاتها،
وقد بنيت هذه النظريات على أساس جغرافي، وبعضها على أساس قبلي، والبعض الآخر على أساس بناء اللغة نفسها،
وخلاصة ذلك كله أن اللغة التركية الأم،
والتي تسمى أيضاً لغة أويغور، أو كَوك ترك، انقسمت إلى لغتين أو لهجتين على اعتبار جغرافي:
-1اللغة التركية الشرقية: وقد انقسمت هذه اللهجة إلى لهجتين في القرن التاسع الهجري، لهجة القبجاق، واللهجة الجغتائية، ولهجة "القبجاق " هي اللهجة التي كانت تستخدم من قبل المماليك في مصر. وأما " الجغتائية " التي تنتسب إلى جغتاي بن جنكيز خان، فقد حلت محلها اليوم اللهجة الأوزبكية في تركستان الشرقية،

-2اللغة التركية الغربية: أو لغة الأوغوز، وقد تفرعت إلى ثلاثة فروع:

أ‌- اللهجة الآذرية: وتستخدم في جهات شمال إيران و تركمان العراق وقسم من سكان جمهورية تركمانستان شرق بحر قزوين،
ب- اللهجة التركمانية: يتكلم بها سكان جمهورية تركمانستان شرق بحر قزوين،
ج- اللهجة الأناضولوهية: التي يتكلم بها سكان الجمهورية التركية في العصر الحاضر وتركمان سورية وبالاخص تركمان حلب ، ومن قبلهم لغة العثمانيين ،
ومن هنا نرى أن ما يسمى باللغة التركية الآن ما هو إلا فرع من الفروع العديدة التي انقسمت إليها اللغة التركية الأم،



ابراهيم الساعدي
باحث أجتماعي