[align=justify]

[mark=CCCCCC][mark=990000]أطروحة الوعي السياسي العميق عند الامام الشهيد الصدر [/mark][/mark]

[align=left][/align]

[align=left][mark=999999] محمد عبدالجبار[/mark][/align]



[mark=CCCCCC]الوعي السياسي تجسيد للنطرة الكلية عن الكون والحياة والانسان والتاريخ[/mark]

تحدث الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر عن الوعي الاسلامي للحياة، ووصفه بالوعي السياسي العميق، حيث قال:

"فليس الوعي السياسي للاسلام وعيا للناحية الشكلية من الحياة فحسب بل هو وعي سياسي عميق مرده الى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والاخلاق فهذه النظرة الشاملة هي الوعي السياسي الكامل."

وينتج من هذا ان كل وعي سياسي اخر لا تنطبق عليه الاوصاف المذكورة انفا هو وعي سياسي سطحي مع التجاوز في اطلاق كلمة وعي عليه.

وبقيت هذه المساحة من فكر الامام الشهيد غير مطروقة، فلم تظهر بحوث في تفسير وتحليل اطروحة الوعي السياسي العميق.

ويشكل البحث الحالي الذي نشرع اليوم بنشر اولى حلقاته على صفحات "المنبر" محاولة اولية ومتواضعة في بلورة فكرة الوعي العميق من اجل تاسيس وعي سياسي مستند الى المعطيات الفكرية الاسلامية، اي وعي سياسي موصوف بالاسلامي بالمعنى العقائدي لكلمة اسلام التي تعني تلك النظرة الكلية للكون والحياة والانسان والتي ينبثق عنها منهج ونظام وتؤدي بمجموعها الى تعبيد الانسان لله سبحانه وتعالى باعتبار ان العبودية لله هي الطريق الذي اختطه الله لمسيرة التكامل الانساني .

وتنبثق ضرورة اسلمة الوعي السياسي من اعتقادنا بان الوعي هو في حقيقته حالة انسانية في العقل والشعور تستند الى معطيات معرفية من علم وعقيدة وفكرة وايديولوجيا ينبثق عنها موقف عملي وممارسة سياسية . وعليه فان الوعي السياسي بهذا المعنى انعكاس عن العقيدة التي يتبناها الانسان اكثر من اي شيء اخر . انه ليس انعكاسا للواقع كما يرى لينين بل هو نظرة معينة او فهم خاص للواقع .

ان الانسان السياسي، وكل انسان سياسي بهذه الدرجة او تلك، انما يكون رايه بالاحداث ويبلور موقفه منها بناء على موقف عقائدي مسبق مستند الى نظرية او عقيدة يؤمن بها بغض النظر عن طبيعة هذه النظرية ومدى شموليتها او عالميتها او مصداقيتها.

ان التحليلات السياسية المختلفة التي نلتقي بها في الصحف والمجالات والاذاعات وبيانات الاحزاب والحكومات وتصريحات الزعماء والقادة والسياسيين ... هذه التحليلات السياسية ليست حيادية وانما هي بالضرورة مذهبية اي تنطلق من مذهب سياسي يستند بدوره الى عقيدة ما. وليست المحاولات البائسة لاظهار حيادية التحليلات السياسية سوى لاخفاء مذهبية هذه التحليلات.

ان الوعي السياسي في نهاية المطاف نظرة خاصة الى الاحداث نظرة توفر فهما وادراكا وبصيرة خاصة بالاحداث الجارية وتطورات العالم بالاستناد الى ما يمتلكه الانسان السياسي من معطيات تحدد له زاوية النظر الى الواقع السياسي.

ان المعرفة المجردة بالواقع السياسي لا تساوي الوعي السياسي بهذا الواقع .

ان الوعي السياسي هو الذي يحدد طريقة فهم وادراك المعرفة المجردة بالواقع.

ومن هنا تختلف انماط الوعي السياسي . فهناك الوعي السياسي الماركسي والليبرالي والقومي والوطني والطائفي فضلا عن الوعي السياسي الاسلامي .

ولا يوجد وعي سياسي مجرد من الصفة المضافة.

وهذه الصفة المضافة هي التي تحدد الطبيعة المذهبية او الايديلوجية للوعي السياسي. وهذه هي احدى روابط السياسة بالايديولوجيا . فليست السياسة منفصلة عن الايديولوجيا وليست الايديولوجيا منفصلة عن السياسة كما نفهمها هي حركة الايديولوجيا في الواقع من اجل تغييره واعادة تشكيله وتاسيسه وفقا لرؤية الايديولوجية الخاصة.

وهكذا نفهم الوعي السياسي من الزاوية الاسلامية .

ان الوعي السياسي الاسلامي الذي نحاول المساهمة بتاسيسه وتشكيله انما هو بصيرة بالواقع السياسي بما يكتنفه من احداث وملابسات وظواهر وتطورات.

وتستند هذه البصيرة الى الاسلام كعقيدة ونظام ومنهج وينبثق عنها موقف عملي وممارسة سياسية.
ويتم ذلك من خلال الاحاطة بالمرتكزات الفكرية للوعي السياسي في الاسلام.

المرتكزات الفكرية للوعي العميق

والمرتكزات الفكرية التي يستند عليها الوعي السياسي في الاسلام كثيرة ومتعددة بتعدد مجالات الحياة الانسانية التي يرتبط بها الوعي السياسي ويتعلق بها الشان السياسي .

نحن لا نريد ان نستبق الامور بالحديث عن هذه المرتكزات بصورة مفصلة في هذه المرحلة من البحث، ولكن نحاول الان ان نعطي القارئ فكرة عامة عن هذه المرتكزات على سبيل التعداد والتمهيد .

وهذه المرتكزات هي:

المرتكز الاول: الاساس العقائدي للوعي السياسي لاننا قلنا قبل قليل ان السياسة في خدمة العقيدة وكاسلاميين نقول ان سياستنا عقائدية الاهداف والغايات والوسائل والاساليب والطبيعة وبالتالي فلابد ان يستوعب السياسي المسلم سواء كان عاملا بالساحة السياسية ام محللا لاحداثها الاساس العقائدي للعمل والوعي السياسي . ويتالف الاساس العقائدي من منظومة اصول الدين الخمسة المعروفة واعني بها التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد.

المرتكز الفكري الثاني هو: نظرية التاريخ باعتبار ان السياسة في مقطع زمني ومكاني معين هي جزء من حركة اشمل في الزمان والمكان اسمها الحركة التاريخية . ولابد من وعي الحركة السياسية في ذلك المقطع المعين ضمن سياقها التاريخي العام حيث نفهم الاحداث السياسية من خلال ارتباطها بالماضي باعتبارها نتيجة له ومن خلال ارتباطها بالمستقبل باعتبارها مقدمة له.

المرتكز الفكري الثالث نظرية المجتمع باعتبار ان السياسة هي حركة المجتمع والوعي السياسي عبارة عن فهم الحركة السياسة للمجتمع. واذن ففهم المجتمع واستيعاب قوانين حركته من زاوية اسلامية شرط في تحقيق الوعي الاسلامي لهذه الحركة.

المرتكز الفكري الرابع نظرية الدولة باعتبار ان السياسة في وجهها الاوضح والاصرح هي حركة المجتمع في كل ما يتعلق بالدولة نشوءا وسقوطا سيطرة وهيمنة وما يتفرع عن ذلك من تفاصيل كثيرة .

ان نظرية الدولة تزود الانسان المسلم بالبديل الاسلامي للمؤسسات السياسية غير الاسلامية القائمة ومعرفة البديل من متممات الوعي الاسلامي الاساسية حيث لا يكفي للانسان المسلم الموصوف بانه ذو ذعي سياسي اسلامي ان يعلن موقف الرفض من الواقع القائم لانه غير اسلامي دون ان يمتلك صورة واضحة للبديل الاسلامي الذي يتبناه بل ان البديل الاسلامي سيكون معيارا وزاوية في النظر لتقييم الواقع القائم والحكم عليه وهذا هو قصدنا حينما قلنا ان الوعي هو نظرة خاصة الى الواقع.

المرتكز الفكري الخامس نظرية العمل والثورة والتغيير في الاسلام . وهذا من المرتكزات المهمة جدا لانه يحدد الاطار النظرية والشرعي للخط العملي السياسي .

فالوعي السياسي نظرة وعمل . والعمل بحاجة الة نظرية عمل اسلامية تحقق صفة الاسلامية فيه وتصونه من الانحراف والتحول الى صيغة الاحتراف السياسي غير المحكومة بالضوابط العقائدية والشرعية . ويدخل في هذا المرتكز اسس التحليل السياسي الاسلامي باعتبار ان التحليل السياسي هو شكل من اشكال العمل السياسي.

هذه هي المرتكزات الفكرية الاساسية وربما اضاف اليها البعض النظرية الاقتصادية بابعادها السياسية بهدف تحديد العلاقة بين الفعل والوعي السياسي من جهة والواقع الاقتصادي المؤثر بدوره على حركة المجتمع وسير عملية التغيير من جهة ثانية . كما قد يضيف البعض الى هذه المرتكزات النظرة الاسلامية الى الخارطة السياسية للعالم وبذا يصبح لينا سبعة مرتكزات فكرية للوعي السياسي الاسلامي.

ويكاد يكون الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر وضع الخطوط العريضة لهذه المرتكزات بصورة متناثرة في بحوثه الرائدة الامر الذي يحتم على الباحثين العودة الى هذه البحوث ولملمتها من جديد لتجميع نطريته في اطروحة الوعي السياسي العميق.

ما هو الوعي؟

الوعي، والوعي الاسلامي، والوعي السياسي الاسلامي، من المفردات التي يشيع استخدامها في الاوساط الاسلامية.

ومن كثرة تداول هذه المفردات او المصطلحات لم يعد احد يشعر بالحاجة الى التساؤل عن المعنى او المعاني التي تختزنها بحسبان ان المعاني التي يمكن ان تشير اليها هذه المصطلحات اصبحت بمستوى البديهيات المتداولة والمتعارفة بين الناس.

ونحن لا نريد ان نذهب الى ابعد من هذا فثمة معنى اجمالي مغروز في اذهان الناس وعقولهم لكلمة "وعي" وبالتالي الوعي السياسي والوعي الاسلامي والوعي السياسي الاسلامي . وهم يتعاملون مع هذه الكلمات من خلال معانيها مرة اخرى نحن لا نريد ان نذهب الى ابعد مما تعارف عليه الناس . فنحن نقول ايضا على هذه المعاني الشائعة والمقبولة اجمالا في حديثنا عن الاسس الفكرية للوعي السياسي الاسلامي.

ولكننا نشعر في نفس الوقت انه لا ضرر من الحديث العام حول معنى الوعي والمفاهيم التي يمكن ان تختزنها هذه الكلمة خاصة اذا اتيح لنا القيام بجولة قرانية لملاحظة الاستخدام القراني لهذه الكلمة وما هو قريب منها من مفردات وكلمات اخرى.

واذن فلنطرح السؤال التمهيدي : ما هو الوعي ؟

يقول الشهيد محمد باقر الصدر في احدى محاضراته القيمة ان الوعي عبارة عن "الفهم الفعال الايجابي المحقق للاسلام في نفس الامة والذي يستاصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالا كاملا ويحول تمام مراقف الانسان من مرافق الفكر الجاهلي الى مرافق الفكر الاسلامي والذوق الاسلامي."

ويختلف الوعي عن الطاقة الحرارية . فالطاقة الحرارية عبارة عن توهج عاطفي حار بشعور قد يبلغ في مظاهره نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره بحيث قد يمتزج الامر فلا يمكن للوهلة الاولى بين الامة التي تحمل مثل هذه الطاقة الحرارية وبين امة تتمتع بذلك الوعي الا بعد التبصر والتجرية.

والفرق كبير بين الامة الواعية والامة التي تحمل الطاقة الحرارية.

فان الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقض بالتدريج كلما ابتعدت الامة عن مركز اشعاع الطاقة الحرارية.

وهذا بخلاف الوعي فان من طبيعة الوعي الثبات والاستقرار بل والتعمق بمرور الزمن لانه يمتد له بالتدريج افاقا جديدة وفقا لخطة العمل وخط الاحداث .

فالامة الواعية امة تسير في طريق التعمق في وعيها، والامة التي تحمل الطاقة الحرارية فقط امة تتناقص طاقتها باستمرار لو تركت لوحدها مع هذه الطاقة وانقطعت عن مركز اشعاعها.

هذا من جهة ومن جهة ثانية يمتاز الوعي بانه لا تهزه الانفعالات والاحداث والصدمات السياسية بل يصمد امامها ويمتعها ويستوعبها ثم يرد عليها بالموقف والعمل المناسبين.

اما الطاقة الحرارية فتهزها الانفعالات. فمن طبيعة الانفعال انه يفجر المشاعر الداخلية المستترة ويبرز ماوراء الستار الامر الذي قد ينتج عنه ردود فعل معاكسة واعمال متعارضة بل قد يؤدي الى الانحراف او الارتداد او ضعف التمسك بالمواقف الاسلامية الشرعية .

واذا كانت الطاقة الحرارية ضرورية لدفع الامة باتجاه العمل وتصعيد زخم اندفاعها فان الوعي اكثر من ضروري لابقاء الامة على خط الاسلام.

ولهذا فان العمل الاسلامي الناضج لا يكتفي بخلق الطاقة الحرارية عند الناس وانما يحرص على جعل هذه الطاقة الحرارية تنبثق من وعي عميق.

[mark=CCCCCC]الوعي في المصطلح القراني[/mark]


وبمراحعة القران الكريم سوف نلاحظ ان كلمة وعي او احد مشتقاتها وردت عدة مرات وذلك كما في قوله تعالى :

"لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية." (الحاقة 12)

"وجمع فاوعى." (المعارج 18)

"والله اعلم بما يوعون." (الانشقاق 23)

وفي الحديث الشريف نجد النصوص التالية :

عن الامام علي (ع) : "ان هذه القلوب اوعية فخيرها اوعاها".

وقال:" .. الا ان اسمع سماع ماوعى التذكر وقبله."

وبمراجعة كتب التفسير سرف نجد ان كلمة يوعون تعني: "جمعوا في في صدورهم واضمروا في قلوبهم."
اما قوله تعالى : "فاوعى" فيعني : "جمع المال فامسكه في دعائه
."

اما فيما يتعلق بالاذن الواعية فقد قال المفسرون: "الوعي جعل الشئ في الوعاء" والمراد بوعي الاذن لها: "تقريرها في النفس وحفظها لترتيب عليها فائدتها وهي التذكر والاتعاظ."

ويشرح اللغويون مادة وعي بالنحو التالي :

وعى الحديث والخبر، اي: حفظه وتدبره .

اوعى الشئ اي: حفظه ووضعه في صوان له.

والوعاء هو : الظرف يوعى فيه الشئ ويصان ويحفظ.

ومن خلال هذا الاستعراض السريع سوف نلاحظ ان كلمة وعي تنصرف الى ثلاثة اشياء هي:

اولا، مادة الوعي: اي الشئ المراد حفظه وصيانته وفهمه اي : وعيه.

وهو في موضوعنا : الافكار والمفاهيم الاسلامية المطلوب فهمها واستيعابها والمنتجة بعد ذلك للوعي السياسي المطلوب . وبدون هذه الافكار والمفاهيم المحفوظة والمستوعبة لا يتحقق فقط من خلال الاستغال بالعمل السياسي او من خلال متابعة الاخبار ومطالعة الصحف . فهذا اطلاع جيد ومطلوب وهو شئ . اما الوعي الاسلامي فهو شئ اخر . انه الافكار الاسلامية المستوعبة والمحفوظة والتي من خلالها التحرك السياسي والتعامل مع الاحداث والقضايا المتحركة في الساحة السياسية.

ثانيا، ظرف الوعي: وهو المكان الذي يحفظ فيه الشئ المراد حفظه وصيانته وفهمه.

وبديهي ان ظرف الوعي السياسي الاسلامي هو الانسان نفسه او عقل الانسان فنحن نريد ايجاد الانسان المسلم الواعي اي الانسان الذي تحفظ فيه مادة الوعي وبعبارة ادق الانسان المسلم الذي يحفظ مادة الوعي ويستوعبها ويصونها اي الانسان المسلم الذي يستوعب المفاهيم الاسلامية .

ثالثا، اثر الوعي: وهو النتائج المراد تحقيقه او ظهوره بعد فهم الشئ وحفظ.

واثر الوعي السياسي الاسلامي يظهر في الممارسة السياسية العملية وفي المواقف السياسية وفي التحليلات السياسية وفي العلاقات السياسية .. للانسان المسلم. فلا قيمة للوعي السياسي مالم يظهر اثره في السلوك السياسي للانسان المسلم . وانما يتميز السلوك السياسي للانسان المسلم عن غيره من السياسيين بانطلاقة من الوعي السياسي الاسلامي اما ذلك السلوك السياسي غير المرتبط عضويا بالوعي السياسي الاسلامي فهو سلوك منقطع الجذور لا يمكن ان نطلق الصفة الاسلامية عليه . بل ان القيمة الحقيقية للوعي السياسي الاسلامي تكمن في اسلمة السلوك السياسي للانسان المسلم .

واذا شئنا ان نضرب مثلا لما نقول لقلنا: ان قيمة دراسة الاحكام الفقهية للصلاة انما تكمن في انتاج صلاة مقبولة كاملة خالصة من العيب والنقص وكذلك الوعي السياسي الاسلامي قيمته ان ينتج سلوكا سياسيا مقبولا .

في هذا يقول الامام علي : "فانما البصير من سمع فتفكر ونظر فابصر وانتفع بالعبر ثم سلك جددا واضحا يتجنب فيه الصرعة في المهاوي."

[mark=CCCCCC]الوعي والبصيرة والبينة[/mark]

يستخدم القران الكريم مفردات ومصطلحات اخرى ذات علاقة بالوعي ومن هذه المفردات البصيرة والبينة.
فأما ما يتعلق بالبصيرة، فقد قال تعالى:

"هذه سبيلي ادعوالى الله على بصيرة." (يوسف 108)

"افلم يسيروا في الارض نبكون لهم قلوب يعقلون بها او اذان يسمعونها فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور." (الحج 46)

"لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اذان يسمعون بها ولهم اعين لا يبصرون بها اولئك كالانعام بل هم اضل سبيلا." (الاعراف 101)

وقال الامام علي (ع) :

"فاقد البصيرة سئ النظر."

"فانما البصير من سمع فتفكر ونظر فابصر وانتفع بالعبر ثم سلك جددا واضحا يتجنب فيه الصرعة في المهاوي."

وقال الامام الحسن: "عليكم بالفكر فانه حياة قلب البصير ومفاتيح ابواب الحكمة."

وقال الامام الكاظم : "تفقهوا في الدين فان مفتاح البصيرة ."

ويطلق البصر على العلم القوي المضاهي لادراك الرؤية فتقول بصر بالشئ اي علمه عن بيان فهو بصير به كما في قوله تعالى: "بصرت بما لم يبصروا." (طه 96)

وابصر : رأى، كما قوله تعالى : "فمن ابصر فلنفسه ومن عمي فعليها." (الانعام 104)
وهذا مجاز عن ادراك الحق والغفلة عنه
.

اما البصيرة فهي : نور القلب الذي به يستبصر كما ان البصر نور العين الذي به تبصر وذلك كما في قوله تعالى: "قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة." (يوسف 108)

ويقال بصره بالشئ تبصرا وتبصرة اي علمه اياه وعرفه واوضحه له حتى يبصره.
والتبصرة تعني الوضوح.

قال تعالى : "فاذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون." (الاعراف 201) اي :
مبصرون مواقع الخطا ومناهج الرشد فيحذرون عما يخالف امر الله .

اما المستبصر فهو العاقل الذي يمكنه التمييز بين الحق والباطل، كما في قوله تعالى: "فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين." (العنكبوت 38.)

وهكذا تلتقي كلمتا الوعي والبصيرة في عدة مواقع. فهما تعبران عن حالة فهم دقيق للاشياء وتمييز بينها على اساس علم واضح بها.

اما المفردة الثانية فهي البينة. قال تعالى : "ياايها الذين امنوا اذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا." (النساء 94 والحجرات 6).

والبينة تعني الوضوح .

يقال بان الشئ اي اتضح.

وتستعمل البينة فيما يبين الشيْء ويوضحه حسيا سواء كان الشئ ام عقليا كما في قوله تعالى : "لولا ياتون بسلطان بين." (الكهف 15)

ويقال بين الشئ اي وضح وظهر وبين الشئ اي اوضحته واظهرته.

ويقال تبين الشئ اي اتضح وظهر وتبينته انا اي تاملته فوضح وظهر لي. كما في قوله تعالى: "ياايها الذين امنوا اذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا." (النساء 94) اي تاملوا الامر وتدبروه غير متعجلين ليظهر لكم بينا واضحا.

اما البيان فهو الايضاح والكشف. ويسمى الكلام بيانا لكشفه عن المعنى المقصود واظهاره.

ونلاحظ ان كلمة "البينة" تلتقي مع كلمة "الوعي" في كونهما تعبران عن حالة الوضوح في فهم الاشياء استنادا الى العلم بها.

وقد نلتقي بكلمات اخرى عير البصيرة والبينة مثل الادراك والفقه.

فالادراك على مستوى البصر يعني الرؤية وهو يستبطن معنى النفاذ الى عمق الاشياء وبلوغ نهايتها.

وهذا هو جوهر الوعي. فالوعي ينطوي على رؤية حقائق الاشياء وادراك كنهها واسرارها.

والفقه ماخوذ من الشق والفتح وهو يعني الفهم الخاص بالتوصل الى علم غائب عن علم شاهد فيكون اخص من العلم.

وهو مرتبط بالبصيرة التي هي من اشكال الوعي وذلك كما في الحديث المروي عن الامام الكاظم حيث يقول: "تفقهوا في دين الله فان الفقه مفتاح البصيرة."

ومن الاستعراض السابق كنا نريد التوصل الى القاء الضوء على مسالة في غاية الاهمية وهي الترابط العضوي والموضوعي بين الوعي والثقافة او العلم والعمل.

فهذه المفردات الثلاث تشكل مثلثا متصل الاضلاع لا يمكن الفصل بينها.

فالعمل السياسي هو العمل المرتبط بصالح الناس او بمصلحة فئة منهم والذي يهدف الى تغيير اوضاعهم الحياتية الشاملة او تغيير بعضها او اصلاحها او اصلاح بعضها او تثبيتها والمحافظة عليها .

وغني عن القول ان رؤية مصالح الناس تابعة من نظرية سياسية معينة يؤمن بها السياسي تحدد له من زاويته معنى المصلحة التي يراها ويؤمن بها . ولهذا يختلف السياسيون في تحديد المصلحة طبقا لزاوية النظر التي ينطلقون منها.

ولهذا يكون العمل السياسي مرتبطا بثقافة سياسية معينة بل ومنطلقا منها. والثقافة السياسية هي المعرفة السياسية المؤثرة في السلوك السياسي والتي تكون منطلقة ومتاثرة بوجهة نظر سياسية معينة .

اما الوعي السياسي فهو ادراك حقائق الاشياء والنظر اليها نظرة خاصة . وخصوصية النظرة تنبثق من الثقافة السياسية التي يؤمن بها الانسان.

وهكذا نجد ان الثقافة السياسية تؤثر في الوعي والعمل . كما ان الوعي يؤثر بالعمل السياسي.

ان العمل السياسي والثقافة السياسية امران متلازمان في العمل السياسي الذي يستهدف خدمة المجتمع لتغييره او اصلاحه كليا او جزئيا.

والثقافة السياسية غير المرتبطة بعمل سياسي هي ترف فكري . والعمل السياسي بدون ثقافة سياسية تخبط وارتجال؛ ضرره اكثر من نفعه.

والسياسي المثقف خط عمله واضح واهدافه القريبة واضحة واهدافه البعيدة محددة.

والثقافة السياسية تنمو وتتسع وتتعمق بتجارب العاملين ومن خلال المعاناة والسير في خط العمل السياسي اي العيش السياسي بمعناه الواسع.

والوعي السياسي السليم هو ذلك العمل المنبثق من وعي سياسي سليم.

ويلخص الامام الصادق هذه العلاقة الثلاثية بين الوعي والعلم والعمل بقوله:

"العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير الا بعدا."
[/align]





______________________
* كتابات عن الصدر / محمد عبد الجبار