خطابات المرحلة المرحة
في زمن الطاغية صدام كان ماكنة الإعلام تخرج الهراء الكثير الذي تقذفه شفتاه مؤطراً بعناوين من قبيل ( الخطاب التأريخي ) ، ( الفكر الوقاد ) ، ( العبقرية الفذة ) ... الخ ، وهي نعوت يقصد منها الإشارة الى أن هذه الكلمات تمثل قراءة دقيقة للمرحلة التاريخية المعينة ، والمفارقة التي يدركها الجميع تقريباً إن هذه النعوت كانت أكثر ما تفتقده كلمات الطاغية .
وما كدنا نكنس عن ذاكرتنا تلك اللطخات السوداء ، بعد سقوط الأكذوبة التأريخية الكبيرة ، حتى بدأ خيط الدخان الأسود يتسرب إليها من جديد ، ولكنه هذه المرة بزي مغاير . فإذا كانت العبقريات التاريخية تطل علينا في السابق بذقن حليقة ورأس حاسر ، فإنها اليوم أطلقت لحاها وغطت شعرها بعمامة سوداء أو بيضاء .
لا أدري حقاً هل قدرنا أن نصرف أعمارنا القصيرة أسارى فنتازيا الخطابات التأريخية الحليقة أو الملتحية ؟ لا أحسبه قدراً ميموناً إذن . فالحق إن ثقافة الخطابات التأريخية إمتداد وثني و إرث ثقيل يكبل وعينا ، فهو يكرس في الذاكرة صورة الصنم الإنساني ، أو الأب الطاغوت الذي ينبغي الخضوع له وإطاعته دون مساءلة . فهذا الخطاب المزعوم لا يستمد قوة حضوره من كونه خطاباً عقلانياً ، وإنما لأنه خطاب الطاغوت المتسلط على الوعي أو البدن . ومن هنا فهو لا يقيم وزناً يذكر للقوى المدركة في الإنسان المُخاطب ، لأنه ببساطة يعمد الى تعطيلها بصورة مسبقة من خلال التذكير بالجهة التي يصدر عنها .. ( يا جماهير أمتنا العربية السيد الرئيس القائد الفذ يوجه خطاباً ...الخ ) ، ( خطبة لآية الله العظمى ) ، ( سماحة الفقيه العالم يتفضل بمخاطبتكم ) وغيرها من الكلمات التي تمثل عتبات طاغوتية تسمح بتمرير كل الهراء الممكن على أنه حكمة عبقرية !
هذه العتبات الطاغوتية تنشأ في الحقيقة خطاباً موازياً عبر تنشيط الذات المقموعة أو الخيال السلبي وتحريكه في مسارات تقترحها إيحاءات نفس هذه العتبات ، فيشرع الخيال ببناء صرح دلالي وظيفته الحقيقية ترميم تصدعات الخطاب الطاغوتي التأريخي ، وتهريب المساحة الفنتازية الهرائية التي ينطوي عليها من مراقبة الوعي .
ثمة بُعد إذن يمكن اقتراحه كمسرب يتيح لنا التحرر من سطوة الخطابات التأريخية ، يتمثل بكشف المساحة الفنتازية الهرائية التي يتستر عليها الخطاب التأريخي ، ووضعها مباشرة بإزاء وعينا الناقد على أنها خطابات المرحلة المرحة ، أو الخطابات التأريخية الهرائية .
ستكون قراءتنا إذن أصابع تطبق على أعناق الخطابات التأريخية ، وبما أنني لست من المعجبين باليعقوبي ستمتد أصابع خطابي نحوه تحديداً .
وفي هذا الصدد اقتراح دلالة فنتازية تنتظم خطابات هذا الصنف من المراجع عنوانها الأبرز الخلطة المرجعية العجيبة ، وهي خلطة سترون أنها تحاول التوفيق بين المتناقضات بطريقة فنتازية بامتياز .
فاليعقوبي في محاولته التلفيقية بين الإسلام والديمقراطية يقترح تحديد مهام الحكومة الديمقراطية المنتخبة بما يأتي : (( مثلاً المطلوب من باب حفظ النظام الاجتماعي العام تأمين الطرق للناس بين النجف وبغداد ولكن هل يمر الطريق عبر الحلة أو كربلاء وكم عدد ممرات الشارع وغيرها من التفاصيل فهذه مما يقررها من تختارهم الأمة وتفوضهم النظر في شؤونها وتوكلهم في تدبير أمورها وبهذا المعنى من الديمقراطية أي احترام إدارة الشعب والرجوع إليه في تقرير مصيره فان الإسلام أول من وضع أصوله ومبادئه … )) . اليعقوبي يحاول في خطابه التأريخي تقريب المسافة بين الإسلام الديمقراطية ، فيخرج بهذه الفضيحة التأريخية التي تختصر الدولة بدائرة شرطة المرور ، ولا ادري حقاً لماذا يقول اليعقوبي ( والرجوع إليه في تقرير مصيره ) ، وهل الأمر خطأ مطبعي من عمل النُساخ ، فالأجدر أن يقول : ( والرجوع إليه في تبليط شوارعه ) . ولكي يوازن كفتي القباني يعمد اليعقوبي الى سرقة كل بيض الإسلام ليقول : (( وحتى في ممارسة قيادة الأمة فبالرغم من أن النبي (ص) هو سيد الخلق والمبعوث رحمة للعالمين وأولى بالناس من أنفسهم فانه لم يؤسس دولته المباركة في المدينة ويمارس صلاحياته كقائد حتى طالبه أهل المدينة بالهجرة إليهم 000)) .
لا ادري لماذا لم يطالب اليعقوبي رسول الله (ص) بإجراء انتخابات رئاسية أو حتى نبوية ! فالهجرة في الحقيقة لا يمكن تعليلها بقبول أهل المدينة له (ص) ، فهو (ص) لم يهاجر للمدينة بوصفه داعية ديمقراطياً من طراز اليعقوبي ، وإنما بوصفه نبياً وقائداً على الجميع إطاعته ، وليس لأهل المدينة حرية الاختيار ، فإن أطاعوه استحقوا الثواب وإلا فالعقاب ، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} الأحزاب/36 .
ولا يأنف اليعقوبي بعد كل هذا التزييف لحقيقة الإسلام من القول : (( وفي ضوء هذين العاملين نستطيع تشخيص سبب حصول درجة من درجات الفشل في أداء المرجعيات لوظائفها المتمثلة بتفعيل مشروع الإسلام في هداية الناس وإصلاحهم وإسعادهم في الدنيا و الآخرة )) .
هل يقصد اليعقوبي تفعيل الإسلام على طريقته هو ، أي إفراغه من مضمونه كدين إلهي يلزم الناس بإتّباع الرسول ، وإطاعته ، وتنظيم كل ما يتعلق بحياتهم ( وليس تبليط الشوارع ) على وفق ما يقرره لهم ربهم ؟
نعم فشلت المرجعيات المزيفة لأنها – كما هو حال اليعقوبي – لا تفهم حقيقة الإسلام ، أو إنها تفهم ولكن قادتها الأهواء والمنافع الشخصية الى التنصل من كل مبادئه .