على الرغم من اللغة المتفائلة التي يتحدث بها الكثيرون ممن زاروا العراق حديثاَ، إلا أننا نستطيع أن نسجل كآبة ترتسم على محيا الكثيرين من العراقيين وهم يتابعون بقلق بالغ الأنباء التي تتحدث عن إنفلات أمني وفوضى إقتصادية وحالة إحتلال أجنبي للبلد إضافة إلى فراغ سياسي كبير أنتج فقاعات سياسية ذات إمتداد هامشي في بنيان المجتمع العراقي وفي كافة الإتجاهات.

هذه الحالة وإن إعتبرناها طبيعية نتاج سنوات عجاف وطويلة من حكم قمعي وتسلطي شدت أواصره الكثير من دول العالم سواء من قبل دول الجوار العربي المسلم أو دول البعد ذات التاريخ الإستعماري العنصري. ومع تقبل أن يعطي مجتمعنا خسائر على كافة الأصعدة نتيجة التخلص من هذا الداء العضال الذي أدى إلى تسلط أكبر قوة سياسية وعسكرية على البلد ومقدراته.

ولكن هذا الإنفلات الأمني والفوضى المصاحبة له كان من الممكن أن يتم تحجيمها أو على الأقل التقليل من خسائرها لو تظافرت بعض الجهود في سبيل مصلحة البلد ومع وجود حس إسلامي ووطني سليم يمتلك حرصاَ على الوطن والمواطن. أتوقع أن الوضع الذي عاش فيه العراق أدى بشكل أو بآخر إلى إلغاء الحس الوطني بالعراق وذلك بسبب ربط هذا الحس بعقلية حزب البعث الإجرامية التي قادت البلد إلى الهاوية.

يمكننا أن نكون الإستنتاجات التالية عن أسباب ودوافع تكون الإنفلات الأمني وتصاعد وتيرته وخاصة في الآونة الأخيرة.

1- اجندة الإحتلال الأميركي وتخبطها. إذ أن أول من سمح بوجود هذا الإنحلال الأمني هو القوات الأميركية ، حيث أننا كنا نلاحظ أن الأمن كان مستتباَ نوعاَ ما لحد إنهيار النظام، وقد كنا نتوقع أن تتكون لجان أمنية أو قوى شعبية تتولى حماية المناطق والأحياء. ولكن السرقات والنهب الذي إجتاح العراق إبتداء من الثروات التاريخية والآثار والمكتبات ومروراَ بالمنشآت الإقتصادية والوزارات والدوائر العامة أمام مرأى ومسمع الجيش الأميركي وتصريحات المسؤولين الأميركان التي كانت تعبر عن أن العراقيين يمارسون الحرية لأول مرة في حياتهم. حالة اللامبالاة من قبل المحتل شجعت كل القوى المهتمة بممارسة الجريمة والقتل والترويع أن تبدأ أنشطتها الإجرامية وبكل قسوة. هذا إضافة إلى الإجراءات القانونية التي إتخذتها سلطات الإحتلال من قبل إلغاء عقوبة الإعدام في العراق-على الرغم من أنها تطبق في أغلب الولايات الأميركية- وحل الشرطة والجيش، وخلق جيش من ألوف العاطلين عن العمل ممن يملأون الشوارع ويبحثون عن طريقة للإرتزاق. هذه الأجواء خلقت فرصة ذهبية للكثيرين ممن يعيشون أو يعتاشون على إنعدام الأمن والجريمة. لقد تخول العراق إلى دولة تسمح بحرية ممارسة الجريمة.


2- الخطأ القاتل الذي إرتكبته بعض المرجعيات الشيعية وخاصة دعوتها إلى عدم الإقتصاص من البعثين. وبغض النظر عن حيثيات إصدار هذه الفتوى إلا أنها أدت إلى شعور إضافي بالأمان إلى عصابات الإجرانم البعثية، والتي كانت تمارس جرائم الإغتيال والتعذيب والرشوة والإغتصاب والسرقة. وبالتالي أمن المجرمون من جانب سلطة الإحتلال من الملاحقة القانونية والجزائية والعسكرية، وأمنوا جانب الملاحقة من قبل المتدينين الشيعة بسبب فتوى سطرتها أنامل مرجع أسمه آية الله سيستاني. هذه الحالة أعطت هؤلاء ضوء أخضر لتكوين عصابات تقتل وتغتال وتغتصب وتسرق. ولا نستغرب إذا قرأنا تصريحاَ لأحد وكلاء سيستاني وهو يتحدث إلى جريدة نيويورك تايمز مفتخراَ أنه إستولى على ملفات أحدى مديريات الأمن وأنه قرر بالتشاور مع المرجع سيستاني ألا يكشف أسماء المجرمين الذين كانوا يكتبون التقارير أو الذين يمارسون أعمال التحقيق وغيرها، بدواعي الخوف من حلول روح الإنتقام. وكأننا تحولنا إلى الديانة المسيحية مطبقين لمبدأ "من ضربك على خدك الأيمن، إعطه خدك الأيسر" بدلاَ من أن تنشئ هذه المرجعية محاكم شرعية تحت إشرافها تحكم بالإقتصاص من هؤلاء المجرمين. وأتوقع أن شعور هؤلاء بالأمان دفعهم إلى أن يعيثوا في الأرض فساداَ.

3- التشرذم والتبعثر الذي أصاب الحركات المعارضة العراقية سواء المتواجدة على التراب العراقي أو تلك التي عادت إلى العراق بعد زوال النظام البعثي. حيث لم تمتلك هذه الحركات والأحزاب أية إستراتيجية أمنية محكمة للتعامل مع الواقع الأمني. وعلى الرغم من إنضمام الكيرين من الضباط والإختصاصيين العراقيين إلى هذه التنظيمات والأحزاب إلا أنها لم تستطع أن تحرك ساكناَ في ضبط الوضع الأمني في هذه المنطقة أو تلك.

4- حالة الطفولة المبكرة التي عاشتها ومازالت تعيشها الحركة المقتدائية. -والتي أتمنى أنها بدأت تتجاوزها لتصل إلى مرحلة البلوغ ومن ثم الرشد-، حيث إننا شاهدنا كيف قبض ناشطو هذه الحركة على أعداد كثيرة من السوريين والبعثيين ممن كانوا يواجهون الأهالي في مناطق الثورة والشعلة وغيرها، ولكننا عرفنا بعدها أنه تم العفو عنهم بواسطة بعض المشائخ منأمثال الكبيسي وتم إطلاقهم مرة أخرى.وعلى الرغم من أننا نسجل لهذه الحركة بعض النجاحات في الحفاظ على الأمن في المناطق التي تسيطر عليه، وهي تجربة أتمنى أن يستفيد منها الآخرون.

5-إلغاء المجتمع المدني ومؤسساته وتسلط نظام امني شديد القسوة على المجتمع العراقي إضافة إلى الحصار والإفقار وإلتزام المجتمع بأصوات مرجعيات لا مبالية جعل الشعب لا يتفاعل كثيراَ في تشكيل ميليشات محلية تقتص من المجرمين وتفرض النظام في ظروف الفوضى.

6- إطلاق العنان للإعلام الأجنبي يصول ويجول في الشارع العراقي، ومع إنعدام أية وسائل عراقية نظيفة للتواصل الإخباري والمتابعة الإعلامية، سمح الأميركان لهذه المحطات بنشر الإشاعات ونقل الرسائل المشفرة من القيادات البعثية والإجرامية إضافة إلى خلق حالة بلبلة وفوضى إعلامية بين أفراد المجتمع. وإذا لاحظنا في الحسبان اسلوب تعامل محطة البي بي سي البريطانية بقسمها العربي مع الحالة العراقية نستطيع أن نستنتج أن السياسة الإعلامية الغربية هي نفسها التي توجه قنوات الجزيرة والعربية والعالم والمنار بل وحتى السعودية والشارقة ومصر. هنالك خطة متكاملة تطبق وفي عدة إتجاهات. ومن بينها التحرك الإعلامي الذي يطبق حالياَ وبمباركة انجلواميركية. وإذا رجعنا إلى التاريخ وقيمنا التجربة الإنجلوأميركية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية أو اليابان فإننا نستطيع أن نستشف أن رقابة صارمة جداَ كانت مفروضة على كافة وسائل الإعلام المرئي والمقروء والمسموع في تلك البلدان ولمدة لم تقل عن السبع سنوات.

7- التخبط السياسي على مستوى صلاحيات المؤسسات العراقية الواقعة تحت الإحتلال وكيفية تصرفها في ظروف معقدة شديدة التعقيد في هذه الظروف.

8- التهديد الذي تحسه الدول المجاورة في العراق وخاصة سوريا البعثية وإيران الجمهورية ةالسعودية الوهابية. وهي أنظمة أطلق الأميركان الكثير من التهديدات تجاهها ملمحين تارة ومصرحين تارة أخرى بتغيير أنظمتها والضغط عليها لتغيير مساراتها. هذا الشعور بالتهديد أدى إلى تحرك هذه الأنظمة وعقدها تحالفات سرية وعلنية مع النظام البائد كانت تعطيه من خلالها الدعم والإسناد. حتى أننا لاحظنا أن دولة مثل سوريا إستقبلت أغلب أركان النظام البائد وبدلاَ من أن تضعهم تحت الرقابة أرجتهم إلى العراق أو أطلقتهم إلى مناطق أكثر أمناَ، إضافة إلى الإستيلاء على مليارات الدولارات المسروقة من قوت الشعب العراقي.

9- الوضع الشعبي العربي المحيط بالعراق، وهو محيط يتحرك بالعاطفة ويسكر على مشروب إسمه "المؤامرة" ويدمن الشعارات والتاريخ الغبي مثل صلاح الدين وعفلق وعبدالناصر وإبن لادن وصدام. وهو وضع يعاني الجهل وقلة الثقافة والفقر والمرض بأغلبه. وبالتالي فإن الإرث التاريخي لهذه الجموع المليونية السنية تستهلك بسهولة أكاذيب مثل إبن سبأ وإبن العلقمي وصلاح الدين وغيرها وبالتالي فإننا نرى هذه الشعوب أصبحت وقوداَ وستستمر أن تكون وقوداَ لدعوات متطرفة لا تحترم ديناَ ولا تستحيي من قيم ولا تؤمن بشهامة العرب.

هذه الأوضاع تمثل قطعاَ صغيرة نستطيع إن جمعناها قطعة قطعة أن نكون مشهداَ مرعباَ للواقع العراقي في مجالاته كافة، تخلف على مستوى الواقع على كافة مستوياته وإستعلاء على مستوى الإحتلال ، وإجرام بشع على مستوى ممن يحسبون على نظام ولى وأنتهى إلى مزبلة التاريخ. العراق هو مفتاح قضية الشرق الأوسط والقضية الكردية في تركيا والنظام في إيران. وهو مفتاح أزمة الطاقة ذات المصدر البيولوجي في هذا القرن بالنسبة للعالم الغربي -أميركا وبريطانيا-. وبالتالي فالعراق هو ملعب كافة القوى المتصارعة على كل شيئ للإستحواذ على كل شيئ. وبما أن العالم قل به الورع والورعون، فإننا لن نخرج من هذا النفق إلا بالإتفاق على أن العراق يجب أن يبقى للعراقيين أنفسهم، يحددون مصيرهم بأنفسهم، ويقتصون من المجرمين الذين أوصلوه إلى هذا الوضع، ويبنون بلدهم بخبرتهم وثرواتهم. ويحافظون على مبادئهم الإسلامية وتراثهم العربي ويمارسون حريتهم في التعبير والتمثيل دون أن تتسلط فئة على فئة والعدالة التي تحترم الإنسان وتعطي كل ذي حق حقه.

السؤال هل نستطيع أن نبني هكذا ثقافة؟؟