الخراب المادي يمكن ترميمه .. من يرمم خراب الأنسان العراقي ؟

زهير كاظم عبود



العراق بلد النهرين والخيرات ، وبلاد القباب الذهبية والجوامع الجميلة ، وبلاد الشمس والطيور والأسماك ، بلد النخيل والبساتين والأهوار ، بلد السومريين والبابليين والأكديين والعباسيين وبلد الثورات ، المتميز بثرواته المتعددة منذ بدء الخليقة ، والعراق الغني بما حباه الله به من انهار وأهوار وأراض خصبة وثروات معدنية وتنوع جغرافي وطبيعة ساحرة وجبال وعقول انارت للبشرية طريقها وحضارت سادت ثم بادت .
العراق الذي كان يطعم الجياع ويتصدق على البلدان الفقيرة ويتبرع للأخوة والأشقاء ويتسابق في منح الدول الفقيرة والمنكوبة هباته السخية ، من ماله وتموره وطعامه ونفوطه وعقوله البشرية .
وتدور عجلة الزمن من دولة أور وسومر وبابل والمناذرة والحيرة والفتح الأسلامي والدولة الأسلامية الأموية والعباسية وهولاكو ودولة الخروف الأبيض والأسود والبويهيين والأخشيديين والعثمانيين ومملكة العراق والجمهوريات المتعاقبة وانتهاء بأنقلاب البكر – صدام السيء الذكر ليبدأ زمان العهر والقهر والطغيان و الذي كان نهاية عهود الخير والرخاء والرفاهية .
وبالرغم من تكدس المليارات من الدولارات في خزائن الدولة من اموال النفط وفي جيوب المتسلطين علي السلطة ، وبالرغم من الأغداق الفاحش للمال العام وبعثرته على النماذج المنافقة التي لاتستحق سوى الأهمال وعدم الألتفات اليها ، وبالرغم من الأنفاق المجنون والأستحواذ على الخزينة حيث الغيت الميزانية العامة وأضحت من أموال الطاغية ، فقد كان المال العراقي يكفي لأن يعيش الناس برفاهية ويتنعموا بحياتهم مهما كان الزمن رديئاً .
كانت الأرقام بالمليارات حين كانت ميزانية الدول النفطية بالمليارات ، وأصبحت الدولة العراقية متخمة بالمال .
لكن الرئيس البائد أستطاع ان يبدد ثروات العراق بشكل لايصدق ، بحيث وضع نصب عينية أن يتم أفقار العراقي وأذلاله تحقيقاً لأمراض نفسية مسيطره على عقله الصغير ، وأن يجعل العراق محتاجاً وفقيراً دائماً ، وأنفق المليارات التي كان لها أن تعيد ليس فقط بناء العراق وأنما أيجاد أسس وركائز لمستقبل جميل للأجيال العراقية القادمة ، لكن أن تتم عملية أسقاط الدكتاتور والعراق غارق فوق أذنيه بالديون التي مابلغتها دولة من الدول حتى الفقيرة منها ، ولم يتعرف الناس لحد اللحظة قدرة السلطة البائدة على أخفاء وسرقة المليارات والأنفاق الغبي والمجنون على عجلة الحرب االهاجس الأساس المسيطر على عقله و التي سحقت العراق أكثر مما سحقت غيره من الجيران والأشقاء ، ومع بقاء عائلة الطاغية وزبانيته وخدمه متنعمين بجزء من هذه الثروات حيث ان العراق بقي دون ميزانية منذ اكثر من عشرين عام بعد ان تحولت الخزينة الى جيوب عائلة الدكتاتورتنفق منها دون حساب ، الا ان بلوغ مديونية العراق هذه الأرقام المرعبة وغير المعقولة خيانة وطنية ماوصلتها الا خيانة صدام للأنسان العراقي في مقابره الجماعية وسجونه والقضاء عليه .
وليس فقط مديونية العراق وأيصال العراق الى تحت خط الفقر ، انما التخريب الذي عم المجتمع ومفاصل الحياة في العراق ، أذ ليس من المعقول أن يصل الرقم الى 816 مليار دولار ما يحتاجه العراق لأعادة أعماره ، فأي تخريب هذا ؟ وأي خيانة هذه يقترفها الرئيس البائد وسلطتة المجرمة .
وأذا كان المطلوب من مؤتمر مدريد والدول المانحة أن تتقدم لجمع مبلغ 56 مليار دولار وهو الحد الأقصى الذي يمكن الحصول عليه ، فكيف يتم أكمال ماتبقى من النقص في الحياة العراقية لتلحق بركب العالم والذي خربها الطاغية ؟
ترى كم هدم من فرص من مستقبل الحياة العراقية الرصينة والعريقة ؟ وكم أنفق ليجعل الحياة خراباً وجحيماً ؟ وكم أنفق على من لايستحق الأنفاق ؟ وكم انفق من اجل مباذله ومباذل أولاده ، وكم هي الجهات التي سرقت من اموالنا وحلالنا وأعمارنا وانتزعت بسمة أطفالنا وضحكات امهاتنا ؟
ترى كيف نستعيد زماننا العراقي البهيج الذي سلبه صدام البائد من اعمارنا وأحالها كئيبة وكالحة ومغبرة ومظلمة ؟ ترى كيف نستعيد اعمارنا التي سرقها الطاغية منا ومن أيام أطفالنا ؟ ترى كيف نرمم ماهدمه الطاغية على مدى سنوات القحط والبلاء التي سيطر بها على العراق في غفلة الزمن وسهو الرجال ؟
واليس من حقنا أن نتسائل ماذا سيكون العراق لو لم يكن الطاغية ؟ ولو لم ينحدر الزمن الى الحضيض ليصبح صدام أحد رؤساء العراق .
ومن يستقرأ التاريخ لن يجد مثيلاً للطاغية البائد مطلقاً ، فلم يحدث أن أصر أنسان على خراب بلده ودمار اهله وقتل شعبه .
ترى هل قرأ التاريخ عن رئيس يتبرع ببناء قرية في تركيا وبلده يعاني من الفقر والحرمان ؟ وهل كتب التاريخ عن رئيس يتبرع لبناء ملاعب لمدن أجنبية ويعاني بلده من عدم وجود ملاعب للاطفال والكبار ؟ وهل سجل التاريخ أن يتبرع رئيس بمال بلاده لأقامة مهرجانات للغناء والرقص وشعبه يعاني من الجوع والبطالة ؟ وهل سجل التاريخ لرئيس ينفق الملايين من الدولارات للأحتفال بهزيمته في كل معركة من هزائمه العديدة ويجبر الناس أن ترقص له في هزائمه ؟
أن انفاق الرئيس البائد على التماثيل والجداريات والصور المطبوعة خارج العراق والصور المطبوعة على الساعات والمسدسات والأسماء المنقوشة على الجدران والمؤتمرات المنافقة التي تمجد الطاغية الدكتاتور وتمثيليات البيعة والأنتخابات يجسد المرض النفسي العميق الذي ينخر شخصية هذا التموذج البشري المتردي ، أن المبالغ التي أنفقها الطاغية على هذه الصور والتماثيل والجداريات تكفي لأن يتمتع بها شعب العراق عشرات السنين .
والأكثر أيلاماً حين تجد المناضلين وهم يبعثرون أعمارهم وينفقون مستقبلهم ويضيعون عوائلهم من أجل منازلة الطغيان والدكتاتور ، وحين ينفق المناضل السنوات الطويلة من شبابه حاملاً روحه على كفه متنقلاً في المهاجر ودول اللجوء بعد أن ترك كل شيء خلفة وتمت مصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة ، وأمامي نموذجين يجسدان التضحية العراقية والتفاني من اجل خلاص العراق وخدمة قضية الشعب العراقي ، أمامي تتجسد كلمات الأستاذ المجاهد العراقي عبد الحميد عبود الشريف وهو من أهالي البصرة ومن القيادات القومية الناصرية في العراق والمحكوم بالأعدام من سلطة الطاغية والذي فر من العراق منذ عام 1968 وقد قامت السلطة بمصادرة امواله المنقولة وغير المنقولة ، وتبعثرت عائلته وقد صار له أولاد في المهجر لم يشاهدوا العراق ولم يتنفسوا هواءه ولاتذوقوا ماءه ، وأنفق الرجل من عمره 35 عاماً من الغربة والأبتعاد عن الأهل والوطن وقد هده الزمن فأحاله الى شيخ جليل ورجل متعب ، مستمراً في عمله رغم ملاحقة المخابرات العراقية له ومحاولتها أغتياله في عدة دول كان يزورها ومحاولة تسميمه في مكان لجوءة من قبل عنصر مخابرات عراقي ، حتى تحقق حلمه في سقوط الطاغية لكنه بقي مركوناً حاله حال المتعففين الوطنيين ممن لم يتراكضوا للحصول على المناصب والوظائف ، آن الآوان له أن يستريح من عناء النضال السياسي ، وحق لعائلته علينا ان يستقبلها العراق .
النموذج الثاني السيد الجليل والمجاهد العراقي داود الحسيني من أهالي الجبايش مدينة الناصرية ومن الأسلاميين والمحارب دون كلل أو ملل ضد طغمة الشر والطغيان التي حكمت عليه بالأعدام وعذبته العذابات التي لايطيقها البشر في أقبية الأمن وصادرت بيته وبعثرت عياله ، ونهض ضد سلطة صدام ضمن انتفاضة الشعب في آذار 91 وألتجأ الى رفحاء ومن ثم الى فنلندا حيث أستقر بها لاجئاً سياسياً لتلاحقه زمرة الشر والبغي فتنذره بالكف عن الكتابة ضد الطاغية فلايلتزم بتهديدها فتدبر له حادث سيارة يؤدي الى تكسيرة وأعاقته وتدميره جسدياً ، وبعد أن حقق حلمه بسقوط الطاغية وكثرت همومه أستحال عليه أن يعود الى وطنه بهذا الشكل وبعد هذا الزمن المر المليء بالعلقم ويعد أن استحال الرجل الى كومة من العظام وعيال أبتعدوا عن الوطن كثيراً ، بل لم يعد بأمكانه أن يعود بهذا الوضع المأساوي .
كيف نعيد لهذه النماذج ماتبقى لها من أعمارها ونستعيد لها ماسلبه الطاغية من فرحها ومسراتها وحقوقها ؟
كيف نعيد لرجالنا ونسائنا الذين باعوا أعمارهم من أجل أسقاط سلطة الدكتاتور وهم مستمرين في محنتهم وعذابهم ؟
اما آن الآوان أن نشكل لجاناً لدراسة حالهم وأحوالهم ؟
أما آن الآوان أن ننصفهم ؟