عراق المالكي .... دخول المرحلة الواقعية




كتابات - هادي جلو مرعي



تحديداً، ومنذ سنة 1920 وتاسيس الدولة القومية (الطائفية) في العراق والى يوم سقوطها المذل عام 2003. فان ذلك مثل مرحلة كاملة استمرت لثلاث وثمانين سنة مشؤومة تقلب فيها الوطن بين ملكية مأسورة لساطع الحصري والقوميين المصابين بعقدة الرفعة العثمانية، والحقد الطائفي، والتمييز العرقي الذي اودى بالامة العراقية الى حضيض الفشل الحضاري والنكوص الى مراحل التبعية الى الاخر الاقوى المتسلط، واستضعاف الشقيق (المخالف) قومياً او طائفياً..



الى جمهورية رعناء ضيعت بعض الاشارات التي رشحت عن سلوك متزن في نهايات الفترة الملكية، والانجرار الى افكار ضباط حمقى من عشاق (الغلمان).. انتهت بانقلاب دموي زرع الفوضى ونشر التخبط في مؤسسات دولة غير واضحة المعالم (1963) تلاه ولسنوات محدودة حكم عسكري طائفي متحالف مع النظام المصري (الناصري). وسرعان ما انهار تحت جزمات البعثيين القادمين في عربة قطار امريكي.



حكموا البلاد واذلوا العباد، ونشروا الرعب في نفوس الملايين، وسايروا ادولف هتلر في تقاسيمه على اوتار التصنيف العرقي للامم الاخرى، حيث صنفوا العراقيين الى موالين لنظام الحكم او مخالفين، فاذلوا الشيعة، وسخروا السنة (بالقوة) والزموهم مالم يرغبوا فيه من الولاء.. ودفنوا الاف الشيعة في مقابر جماعية.. وذوبوا الاقليات الاخرى من تركمان، واشوريين، واتباع ديانات من صابئة وايزيديين. واسسوا لمرحلة ما بعد 2003، حين وجد العرب السنة انفسهم بلا مستقبل، او بمستقبل غامض، ووجد الشيعة انهم امام مفاجئة من العيار الثقيل، حيث انهار النظام البعثي، وهم في مواجهة فرصة تاريخية قد لا تعود، وانهم بحاجة الى ان يسدوا اذانهم لكي لايسمعوا نداءات رجال دين او جهات فكرية، او سياسية بعدم الدخول في المعمعة عندما تركوا الامور لسواهم فترة الاحتلال البريطاني، وضيعوا الخيط والعصفور، ووجدت الاليا القومية والدينية الاخرى، انها بحاجة الى جهد مضاعف خشية ان تمر السنوات الاولى بعد 2003 دون ان يفرضوا حضوراً من نوع ما في المشهد السياسي والاجتماعي... اضف الى ذلك دخول قوى خارجية من دول ومنظمات على خط الازمة وحاولت ان تشارك لغاية ما تهم مصالحها في صياغة او بلورة مستقبل هذه البلاد الموبوءة باصناف من الناس المولعين بالتابعية، والاستقواء بالاخر.



وهنا كانت الكارثة التي هي –في الاصل- امر حتمي لوجود مقدمات اسس لها النظام السياسي الذي ساد طوال ثمانية عقود ونيف، وكان التهجير، والقتل على الهوية، والاقصاء، والمحاصصة السياسية (طائفية وقومية). عدا اصناف من المشاكل. وكان لابد من عمل يقنع المشككين، والمتربصين والقلقين من المستقبل، بان ما يجري في البلاد مصطنع، وان التاسيس جرى له قبل التغيير.



وعلى مدى عام 2008 ومطلع 2009، فان العراق يسير رويداً جهة المرحلة الواقعية والتي تبدأ من اعلى الهرم الى قاعدته، يعني اعلى سلطة في البلاد نزولاً الى عامل الشاي. وعلى صعيد المؤسسات الدينية، كذلك الطوائف والقوميات.



والصورة هكذا.. البلاد تنسحب من دائرة الصراع الطائفي، الى الايمان بضرورة التفاهم، والتعايش فليس من غالب ولا مغلوب، وقد انهزمت القوى المراهنة على الصراع. والمحاصصة -في هذا الاطار-



وان كانت ستستمر لسنوات، لكنها لن تعود المحركة للصراع، والتنافس السياسي.. والمجتمع الدولي لم يعد يتحمل عراقاً فوضوياً، والعرب والجيران اكتملت لديهم (مسبحة القناعة) بخسارة الرهان على الخراب، والذبح والتفجير. فالعرب يدركون ان امريكا ترفض دوراً لا يتلائم وسياستها في العراق وصارت الواقعية هي الحاكمة لسياستهم، وتركيا وايران تدركان جيداً ان الحكومة والشعب في هذه البلاد لا ترغبان في تدخل يثير المشاكل وانهما مستعدتان للتعاون المثمر.



والسياسيون العراقيون اللاهثون وراء سراب افشال العملية السياسية، ومحاولات اسقاط المالكي، مثلما نجحوا مع سلفه الجعفري، اقتنعوا ان تلك المحاولات غير ذات قيمة مع وجود قناعات داخلية بالمالكي، وكذلك رضا امريكي بالوجهة التي تسير فيها الامور، ومع الكم الهائل من المشاكل التي تواجه الحكومة الامريكية.



الطريف في الامر، ان المثقفين، من كتاب وصحفيين وادباء، وموظفين، واناس عاديين. وشرائح من المجتمع، تغيرت لديهم القناعات. فلم يعد المؤمنون بعودة النظام السابق يفكرون بذلك، وصاروا مسارعين الى تحصيل مكاسب قبل ان يفوتهم القطار (تحصيل وظيفة، اومنصب، او الارتباط بجهة ضامنة، سواء كانت حزباً او مؤسسة اهلية او حكومية).



وانتهى الصحفيون الى قناعة جديدة بعدم الانتقاص من زميل لهم يحصل على منصب اعلامي رفيع، مثلما كانوا يفعلون خلال السنوات الماضية فيقول قائل منهم.. هو هذا شنو. يا معود كان يبيع تايرات، او لديه محل ادوات احتياطية في السنك او مجمع المشن.



هناك رؤيا مغايرة... فالمرحلة الحالية تتطلب عدم الالتفات الى الوراء، والبكاء على الاطلال، او محاربة الشخص الذي يحقق حضوراً ما في مجال من مجالات العمل المؤسساتي.



لان الامور لم تعد كما كانت، وهي تسير الى الاستقرار، وبالتالي فان العاقل من انتبه الى حاجاته وحاول تأمين ظروف حياة، ومعيشة، وعمل ملائمة، وعدم الوقوع في اخطاء من راح ضحية لتمنيات غير محسوبة او افكار هلامية في السنوات الماضية.



فاذا رأيت عراقياً استلم منصباً، واردت القول.. انه كان يمتلك محلاً لبيع المواد الغذائية او ان فلان كان يرتدي بيجامة بازه. قلت لنفسي. طيب لماذا لا اسأل نفسي وانا الكاتب والصحفي، او المهندس او الطبيب او.. او.. ماذا كنت اعمل في فترة المراهقة والشباب، واين كنت اعيش، وماذا كنت اكل من الطعام، واي نوع من الاقمشة كنت اخيط منها ملابسي؟ اننا اذن في الطريق الى مرحلة بدت صورتها تتكشف لكل ذي لب، وما على الحصيف الا ان يبادر لتأكيد موقعه على خارطة العراق الجديد.


http://www.kitabat.com/i49543.htm





.