واقعة البقيع..تمثّلات السلطة
الدكتور فؤاد إبراهيم - « شبكة الملتقى » - 23 / 2 / 2009م - 5:55 م
اقرأ للكاتب أيضاً
المواطنة والهوية الوطنية في مجتمع تعددي
الشيعة والأفق السياسي
شيعة السعودية وخطورة فلسفة الخنوع
الشيعة بين (موت الجماعة) وتفجّر النزوعات الذاتية
د. إبراهيم لـ قناة (الحوار) أوضاع حقوق الإنسان في عهد بوش هي الأسوأ

حين تغمر الطائفية فضاء الوعي، يصبح مستوى البحر أعلى ما يصل إليه تفكير كتيبة السلطان، من أقلام وأزلام.. مقالات محقونة بمفردات لاهبة، صدرت اليوم في صحيفة (الحياة) التي خلعت رداءها الصحافي بطابعه المتنوّع، وارتدت لباساً سعودياً بأحاديته المقيتة، لا فرق فيها بين رجل دين متشدّد، أو صحافي متلبرل، فالكل في الاستبداد سعودي..وهكذا تختفي الحدود الفاصلة بين الأيديولوجيات ويعتصم المستفيدون بالسلطة، حيث المصلحة المشتركة..

فوجئناً بأن ردود الفعل على تصرفات مشينة قام بها رجال الهيئة في المدينة المنورة مع زوّار محليين من شيعة المنطقة الشرقية، كانت هذه المرة ذات طبيعة اعتذارية لناحية الهيئة، بينما هي تحاملية بدرجة لافتة إزاء الضحية..فقد توارت سريعاً مواثيق حقوق الإنسان، والحريات الفردية والعامة، وبات البعض يتحاكم الى مفاهيم ذات دلالات خاصة، كما هو شأن الدولة التي ينتمي إليها التي تواضع رجالها على مفاهيم لا يلوذ بها سوى من لا عهد له بعلم السياسة وفروعه.

ومن أجل أن يستدرج كتّاب السلطة عروضاً في الدفاع عن التدابير القمعية للهيئة والسلطة معاً، يتحوّل هؤلاء إلى سيّافين محتملين، أو جلاّدين مجانيين، فقد طالب أحدهم بإنزال أقسى عقوبة في الزائرين، الى حد تصل فيه الى المسخ، بأن تمحى فكرة وتحل أخرى بالقوة والإكراه..بل إن عملية المحو نفسها تأخذ شكلاً بالغ القسوة والتشفّي، ما يعكس درجة الإنفعال لدى الكاتب، ولا يقف الأمر عند مجرد محو الفكرة، بل وأن تستبدل بنقيضها أو بما يريد أن يكون عليه الآخر من تفكير، وبحسب علي القاسمي في مقالته في (الحياة) اليوم (23 فبراير) بعنوان ("البقيع" ...ندخل...أو "نزعجكم"!) (حتى يمحو مجرد الفكرة من أدق تفاصيل جسده ويستبدل بها ولاءً وانضباطاً وترتيباً وحضوراً دائماً متوازناً لا يجرؤ على سحب علامة استفهام واحدة من دهاليز النسيان وأروقة الإرباك والارتباك)..هكذا، إذاً، تصبح العلاقة بين الحرية والعقوبة، فما يغفل عنه القاسمي أن حرية الفكر، وحق الإعتقاد الحر، وحرية التعبير لا تبدو بدلالاتها الدينية والإنسانية والحضارية قابلة للإستيعاب سياسياً، بل وسعودياً..

وعجبنا من مقال آخر نشرته (الحياة) اليوم للكاتب يوسف الديني، الذي لا تخلو عباراته من إيحاءات حادة ومقتصرة على جغرافية محدودة، فليس في مقاله ما يكسبه طابعاً عولمياً، أو إنسانياً، وإنما يقترب من خط الإفصاح عن المضمور السلطوي، وفي سياق حديثه عن (البقيع والإصطياد في الوحل الطائفي)، يقول ما نصه (كان من الأجدر أن نقوم بالإلتفاف على مفهوم «المواطنة»، على مبدأ التعايش الذي تم تعزيزه بالحوار الوطني الذي لا يزال في بداياته، وفي حاجة أكثر إلى تعميقه اجتماعياً، ليشمل جميع الأطياف الفكرية والدينية).

ولا ندري كيف يلتف الناس على مفهوم المواطنة، وعلى مبدأ التعايش، والأكثر من ذلك أن يكون الحوار الوطني عزّز التعايش، مع اقراره بأن الحوار في بداياته، فكيف يعززّه، فضلاً عن أن التعايش نفسه بحاجة إلى دليل لإثبات وجوده..ومع ذلك، فإن مجرد التحصّن بمفاهيم وطنية، لا تنطبق بحال على هذا البلد، فضلاً عن أن تكون صالحة للإستعمال في توصيف (واقعة البقيع).. ولم نفهم ما يعنيه بـ (ضعف الإندماج في مفهوم المواطنة)، فكيف يندمج الإنسان في شيء معدوم، أم بات الاستخدام العبثي بالمفاهيم النبيلة عملية استباقية كيما لا يخضع الضحية جلاده للمحاكمة وفق معايير وطنية، فقرر ممثلو الجلاد قلب الطاولة.

حين نطالع ما تحت المفاهيم الوطنية من شروحات، نعثر على ما يشبه التعديل الوراثي، بحيث لا ينتمي الشرح الى المفهوم، بل في أحيان أخرى يتناقض معه، كالحديث عن المواطنة بما تنطوي عليه من مساواة كاملة بين الأفراد، ولكن حين يراد شرحها، أي تنفيذها على الأرض تصبح شيئاً آخر لا صلة له بالمواطنة، كالتأسيس لفكرة تجريمية تقوم على إمكانية تحوّل الحق الشخصي في الاعتقاد الحر إلى جريمة أمنية، وسبب ذلك أن هذ الحق الشخصي جرى التعبير عنه بصورة جماعية، بالرغم من أنه لم يكن ينطوي لا على بعد أمني ولا بعد سياسي، أو حزبي أو كل إفرازات الخيال الكيدي. فقد كان تعبيراً جماعياً عن حق ديني.

مايثير السخرية أن يوصف رد فعل الزائرين بأنه (تطرف)، فيما لو كان الحال في مكان آخر، لأصبح (حقاً طبيعياً ومشروعاً) في مقابل السلوك غير الحضاري واللإنساني لرجال الهيئة..ومع ذلك يصبح الحديث وطنياً بامتياز. ويزيد الديني على التوصيف بأن يعتبر (التطرف) ذاك، قفزاً (على المكتسبات الوطنية)، مثل ماذا؟ فهل دلّنا على المكتسبات الوطنية.

يطالب الديني جمهور قرائه، بل والسكّان المحليين جميعاً، بلغة الواعظ العلماني، الليبرالي، الوطني، بنسخته السعودية الرسمية، بـ (الالتفاف على المنجز الوطني الذي بدأ بالحوار الوطني)، فالوطني هنا لا معنى له، إذ لا يمكن العثور عليه في أي من قواميس السياسة والفلسفة السياسية، فالوطني هو ما يصبح بضاعة قابلة للبيع حتى في الأسواق الشعبية والسوداء، ولا تحضر إلا في حال أريد للدولة أن تواجه خصومها في الداخل..

يطالب الديني أيضاً القيادات الدينية، ولا شك أنه يضع الشيعة في مقدّمهم، من أجل تعزيز اللحمة الوطنية، أي بعبارة عارية الدفاع عن السلطة وممارساتها، ويرى بأن تلك جهود وحدها التي (ستقطع الطريق على المرتزقة الذين يحاولون الإصطياد في الماء العكر). وليته لم يستعر هذه العبارة التي بات الغبار يكسوها من كل أطرافها، فلغة متحجّرة كهذه أصبحت رميماً..

ما يستحق الإعتبار من واقعة المدينة المنورة، أن الإصلاحات المزعومة لا تمثل الأساس الذي يمكن أن تنبني عليه علاقات سويّة بين الشيعة والحكومة، وأن مفاهيم الحوار، والتسامح، والتعايش على قاعدة وطنية، لا تشكل ضمانات ولا قيم يمكن الاعتصام بها لدرء تعدّيات الحكومة وقطعانها، وأن ثمة عملاً آخر يبقى مطلوباً، لأن كتائب السلطان يظهرون علينا بأزياء متنوعة، دينية وعلمانية وليبرالية ووطنية، ولكن نقطة الإرتكاز واحدة.