حكايات حزينة من الشوارع الخلفية في بغداد
أطفال ونساء يمارسون المحرمات في الأزقة المظلمة

2003- 11 - 18
بغداد - عصام العامري


كانت عيناه تحلقان في المدى تحاولان ان تمسكا شيئا مفقودا منذ زمن بعيد ارتطمت خطواته باسفلت الشارع فلم يستطع النهوض بل دس يده في جيبه الصغير واخرج زجاجة صغيرة مع قطعة قماش وقربها من انفه وراح يستنشقها ليغيب مرة أخرى في المدى البعيد. الحكاية قد تبدو غريبة صورة مقربة لاطفال وصبية ومراهقات اصبحوا ضحية مادة "الثنر" والمواد الكحولية لتتلقفهم اياد غريبة احيانا مجسدين قصصا حزينة تحتاج إلى مد يد العون واخراجهم من هوة الادمان السحيقة التي انحدروا اليها.



الهروب ولكن إلى أين؟

في "حديقة الامة" وسط بغداد إذ يشمخ نصب الحرية للراحل جواد سليم هناك صور ليست للذكرى طبعا، بل صور لحياة الاطفال الذين اتخذ بعضهم ذلك المكان مرتعا لهم لممارسة "هواية" الشم وبأساليب مختلفة. احدهم كان يجلس وبيده زجاجة تحتوي على طلاء اظافر نسائي. استغربنا من الحالة فما هو سبب وجود هذه المادة في يد طفل صغير؟ لكنه اجابنا على الفور بتصرف واضح فقد اخرج زجاجته الصغيرة ووضع محتواها على قطعة قماش وأخذ باستنشاقها، وعندما سالناه عن ذلك اجاب على الفور "انني اهرب من الواقع" وبعدها فقد وعيه!
رحلـتنا الثانية كانت استكشاف عالم محلة "البتاوين" في منطقة الباب الشرقي، لاستجــلاء بـعـض اسرار هذه المنطقة وروادها. مجموعة من الشباب والمراهقين من الجنسين تتألف مـن "20 إلى 25" فردا تتراوح اعمارهم بين 6 و18 سنة وغالبيتهم من المحافظات يتخذون من الشارع مأوى لهم يمارسون فيه كل انواع الممنوعات والمحرمات اما الفتيات اللواتي يرتدن هذا العالم فتتراوح اعمارهن بين 9 و16 سنة.
"أبوأحمد" صاحب محل في منطقة البتاوين حدثنا عن اسرار وحكايات مدمني الثنر قائلا: "من خلال وجودي المستمر منذ عشرين عاما في هذه المنطقة، اكتشفت ان هؤلاء الاطفال هم من "اللقطاء" يتعهدهم شخص ينتمي الى هذه المنطقة ويعلمهم استنشاق الثنر لتهيئتهم الى عمليات سرقة بالنسبة إلى الذكور ويقوم ببيع الاناث الى "بنات الهوى"، وكان في السابق هناك من يتعاون معهم من مركز شرطة السعدون بعد ان يقوم الشخص المسئول عنهم بدفع مبالغ معينة للافراج عنهم ومن ثم العودة الى ممارسة السرقة وشم الثنر وكل الممنوعات والمحرمات الاخرى وقد قام اهالي المنطقة بالشكوى ولمرات عدة الى مديرية الأمن السابقة وليس هناك من مجيب!".
ويضيف ان أحد وكلاء الأمن في البتاوين جعل من شقة يملكها في الباب الشرقي ملاذا آمنا لهؤلاء المدمنين لاسيما الفتيات منهم، من أجل الايقاع بضحاياه!


في شراك المدمنين

أما السيد "ح. ن" الذي رفض ذكر اسمه خشية ادواتهم الجارحة التي لا يترددون في تجريبها حتى ضد المارة فحدثنا قائلا: "ظاهرة الادمان على استنشاق المواد الكحولية "الثنر" انتعشت كثيرا تحت مظلة "الحرية" التي خدعت الكثيرين بمفهومها الملغوم بتأويلات بعيدة كل البعد عن قاموس مراهقي "البتاوين"، لذلك فهم يمارسون عملية الاستنشاق بصورة علنية امام الناس وفي الهواء الطلق فضلا عن المشروبات الكحولية وحبوب المخدرات، اما سيناريو "التسليب" في البتاوين فيبدأ بعد الساعة السادسة مساء وحتى منتصف الليل وعادة تكون "فريستهم" الاشخاص الذين يرتدون الزي العربي، لانهم من المحافظات ويجهلون دهاليز المنطقة.
في المقاهي المنزوية داخل الازقة المظلمة في منطفة البتاوين لابد من لقاء "سارة" هكذا هو اسمها الذي يعرفها به الجميع، وهي فتاة معروفة في تلك المنطقة يشهد لها الجميع بالخبرة الواسعة في استنشاق مادة "الثنر" التي اصبحت بمثابة "المغذي" الذي يديم الحياة في جسدها، وبعد ان وعدنا "سارة" بأن سرها في "بير" بدأت بالحديث قائلة: "لقد فتحت عيني في ازقة مظلمة ومقاه منزوية واصوات غليظة تدفعني للتسول وجلب المال بأية طريقة كانت، وهذا ما دفعني الى المتاجرة باعضائي الجسدية للحصول على المال، إذ بعت الكلية لشراء ما احتاجه من المواد الكحولية وعلب السجائر وبإمكان أي شخص ان يتعرف علي من خلال آثار "الامواس" و"الكترات" الموجودة في وجهي، كما انني فقدت انوثتي وبدأت اتصرف بسلوكيات رجولية" وما زالت "سارة" تتاجر بكل شيء بعد ان تزوجت سرا من صاحب المقهى المنزوي!


الثنر على دراجة هوائية

أما "حنين" فالفتاة التي تبلغ من العمر 14 عاما وتتجول في "البتاوين" بصحبة اخيها الصغير الذي يبلغ من العمر 8 سنوات وهما يقضيان يومهما باستنشاق مادة "الثنر". وقد حاول الكثير من الاشخاص ان يتبنوها لكنها رفضت وقالت "انهم يريدون ان يعبثوا بجسدي". حنين عادة ما تتجول في البتاوين على دراجة هوائية تسرقها من احد الاشخاص في المنطقة ثم تقوم باعادتها الى صاحبها من خلال احد الاطفال!.
في هذا العالم المحفوف بالمخاطر والمغامرة توجد لغة خاصة، كلمات لايستخدمها سوى مدمني الثنر مثل "الوحش وأبوحيوانة" وغيرها من الكلمات الغريبة، وقبل ان نستعين بمختار الصحاح لفك طلاسم المدمنين اسعفنا أحد العارفين ببواطن الامور من رواد المنطقة بقوله: "هذه ألقاب أصبحت ماركة مسجلة بأسماء كبار أفراد العصابات الذين تمردوا على مهنة ترويج واستنشاق الثنر بعد سقوط نظام صدام وتحولوا الى سرقة السيارات والتسليب في رابعة النهار".
اختصاصي الامراض النفسية والعصبية محمد رشيد العبودي يقول "ان الادمان على استنشاق مادتي الثنر والسيكوتين ظاهرة خطيرة انتشرت في صفوف المراهقين من العاطلين والحرفيين الذين يعملون في معامل الأحذية". ويرى ان سبب الانتشار يعود الى سهولة اخفائها وتداولها في المنزل حتى من قبل طلبة المدارس. ويضيف ان المدمن يصل سريعا الى درجة النشوة، ما يؤدي الى حدوث اضطراب في الشخصية ويتحول الى شخص مسيء يؤذي المجتمع، أما بالنسبة إلى ايذاء النفس الذي يقع تحت تأثيره المدمن فهو ايذاء سطحي هدفه ابهار المقابل واخافته بطريقة الاعتداء على النفس.
غير ان العبودي يعزو الاذى الذي يسببه هؤلاء الى الاوهام الاضطهادية التي تسيطر على عقولهم، وهذه الحالة تدفع المدمن الى ارتكاب الجرائم فضلا عن ان مرحلة النشوة تفقده تأنيب الضمير مع الاحتفاظ بقابلياته الجسدية كما هي، ما قد يؤدي بالمدمن الى قتل والده أو والدته من دون الاحساس بالذنب.