ما قاله لي المالكي وما قلته له في بغداد
عـبد الأمير الركـابي

تاريخ النشر 09/03/2009 12:00 PM

حين سينشر هذا المقال سأكون على الاغلب قد عقدت مؤتمرا صحافيا في بغداد، لست ادري مدى الاستجابة التي سيلقاها الخطاب الذي اريد اطلاقه، سواء هنا في ارضي الاولى، او في خارج العراق، غير انني تعودت على مواجهة الالتباسات الكبيرة: مع انني لم اشعر يوما بالثقة من جدوى، ومن عملية ما انا متهيىء لاطلاقه اليوم. لقد فوضني اخواني وحملوني مسؤولية، اعتقد انها من النوع التاريخي، بالضبط كما حدث يوم ذهبت عام 1990 الى الجزائر، والتقيت بالصديق احمد بن بيلا، كي اطلب اليه ان يفتح الباب للحوار مع النظام السابق، من منطلق تهيئة اسباب المواجهة الوطنية الشاملة للهجوم الامريكي على العراق، اليوم اشعر ان تلك الخطوة مكنتني من ان اضع قدمي وقتها فوق ارض لها صلة بنبض الحقيقة، وان ذلك حدث وسط زمن لم يكن يسمح سوى بحجب مسارات الوضوح في قلب الحقائق، وحين يتقلب التاريخ، فان الحقائق كما نلمس خلال اللحظات الحالية، لاتعود قابلة للفهم البديهي، بالضبط كما تتداخل الان، متناقضات اللقاء برئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، مع تلك التي ظلت تجري خلال اثنتي عشر عاما من الحوار، مع نظام متكلس، وعاجز عن الاستجابة لمقتضيات مواجهة كبرى، بمواكبة من صديقي الكبير الشهيد القائد الاستثنائي ياسر عرفات، والرئيس احمد بن بيلا.

هل من مناسبة او وجه للشبه بين اللحظتين؟ لقد دار الزمن، وها هي الحقائق الوطنية تعود بعد ست سنوات من الجحيم لتتحول الى برنامج، والى خطاب سمعت منه ما ادهشني، فالرجل الذي امامي، بلا ماض في قيادة الدولة، معارض من بين معارضين، لم تعرف عنه البراعة، او الابداعية، ولم يقل عنه بانه رجل فذ. لقد تعلم من الوقائع، وانا لم اجامله على الاطلاق، سواء خلال الاشهر الماضية، عندما كنت التقي مبعوثيه الى باريس (آخرهم وزير مقرب منه جدا )، او خلال هذه اللحظة، قلت ان الشارع هو الذي صنع دلالات الانتخابات الاخيرة، وانه، عاقب واثاب، لقد هزم من يمثلون مضمون العملية السياسية للاحتلال، الطائفيون الذين يريدون تركيب مفاهيم غريبة عن تكوين العراق، اصحاب الدعاوى الفيدرالية، اعداء المركزية، الذين يريدون تطبيق مفهوم تضطهد باسمه قومية صغرى، شقيقتها القومية الكبرى الغارقة في المحنة والكارثة، اوالذين يعتاشون على المحاصصة والفساد. لا اريد ان ادخل في التفاصيل، فخلال ساعتين من الحديث المركز، في مكتب رئيس الوزراء العراقي، انتهيت الى ان ما سمعته لا ينقصه اي معطى من معطيات المفهوم الوطني العراقي، بخطوطه العريضة. والاختبار الذي اعتقدته قبل اللقاء وخلاله وبعده، هو المطالب التي جئت انا والوفد المرافق لي، كي اطرحها على الرجل، واعترف انني قد فوجئت تماما، لابل ولقد اصبت بما يشبه الخيبة، لان كل ما اردته قد تحقق. قال لي الرجل: افعل ما تريد وحسب رأيي فانكم قد تأخرتم، ولحظتها اكتشفت بانني مدمن على المعارضة، وان قول احد من هم بموقع السلطة ما قاله لي المالكي، قد اقام امامي /عقبة الموافقة /اكثر مما لو كان قد قال لي كلا.

حق المعارضة

ماذا كنا نطلب من الرجل؟ اؤكد باننا لم نعترف له بالعبقرية، او البراعة، غير اننا صادقنا على حقيقة كونه قد تحسس اتجاه التغيير الصاعد من الاسفل، وتطابق معه، وسعى عمليا الى التعبير عن جوهره عمليا. وهذا كان سبب ومبرر انتصاره الذي حصده، غير انني حين دخلت مع الوفد المرافق الى مكتبه، قلت ' الوصول اليكم صعب جدا' وهذا كان استهلالا موترا بعض الشيء، استدعى منه شروحات، وتبريرا موثقا عن مسارات قضية الامن وابعادها، وتطورها. الى ان بادرت وقلبت اتجاهات الحديث. ولعله اليوم سيفكر باسباب ذلك الاستهلال، وسيجد انني قصدت ما هو ابعد، لقد ابلغني بالتاريخ الذي ستنتهي عنده 'المنطقة الخضراء' وتفتح بواباتها، غير ان هذا الوعد، القائم على حسابات امنية وعسكرية، كان بالنسبة لنا مجرد مسألة اجرائية جافة، ويمكن ان تتحقق او لاتتحقق، وانها تحتاج الى ضمانة سياسية، تسير بذات الاتجاه الذي قررته مسارات الانتخابات الاخيرة. نحن نريد انتهاء وجود المحتلين، واستعادة السيادة الوطنية كاملة وباسرع وقت ممكن، وهذا شأن يتحقق فقط عبر النصاب الوطني، وعبر فعل منظم وفعلي وشامل للطاقة الوطنية العراقية، وهذه لها مصادر، بعضها لا بل اهمها موجودة في الشارع، والبعض الآخر، لا بد ان يستخلص عبر الطاقات السياسية والفكرية للعراق، والتفاعلات بين هذين المصدرين، متوقعة، فالمالكي ليس لوحده الذي يملك الحساسية للمتغيرات، وللحقائق المستجدة والناهضة الان. ولابد من ان تظهر الوان اخرى ومناسبات اخرى من التعبير المطابق، على المستوى الوطني، تدفع باعادة بناء الحركة الوطنية الى الامام. وتؤكد ماكان مطروحا من قبل المعارضة الوطنية، بعد عام 1990 فللعراق نهج مطابق واحد، تتلازم فيه الديمقراطية بالتحرر من الاحتلال، وبوحدة المجتمع، وبدولة مركزية، وبمفاهيم تحاكي المستقبل والعصر، وهذا ما كنا نريده بعد عام 1990 وما اثبتت الوقائع وسنوات الفوضى والاحتراب والاحتلال بعد عام 2003 ضرورته وحتميته التي لا تعاند.

جئنا نطالب بحق المعارضة، والقوى المناهضة لـ'العملية السياسية الامريكية' بان تعمل على ارض العراق، لابل وان تعقد مؤتمراً لها على الارض العراقية، وان تبلور تصوراتها وشعاراتها، بناء على الشروط التي يتهيأ لها العراق ويحتاجها، من هنا وصاعدا، وهنا نأتي، وقد اتينا على جانب المسؤولية الوطنية، وتوجيه النداء الان الى المعارضة العراقية، من اجل العودة، والعمل في الداخل يقتضي تجاوزات وانتقالات، على الوطنيين ان يضعوها امامهم، اذا هم ارادوا ان يواكبوا مصير بلادهم، ويكونون متوافقين مع مقتضيات مستقبلها، لقد انتهت عمليا بالتجربة، موضوعات واساليب وتوجهات القوى والتيارات، التي تنتمي الى ماضي الحركة الوطنية العراقية وليدة الثلاثينات من القرن الماضي، كما انتهت ايضا، موضوعات القوى التي ظهرت خلال السنوات الخمس الاخيرة، وسط ظروف الغزو والاحتلال وانهيار الدولة.

نحن نعيش اليوم حقبة اعادة تشكل المنظور الوطني، المؤسس على دواعي الاستجابة الحدية لمجتمع ينهض بالضد من مسارات، كادت تأخذه الى الفناء. وهو اليوم يبلور اتجاهاته عبر الوسيلة التي اكتشفها من معاناته ومأساوية تجربته، وبادر الى انتزاعها من يد من وضعوها، فصناديق الاقتراع، ودعاوى الديمقراطية التي اطرها من شكلوا قوام 'العملية السياسية الامريكية ' بالمحاصصة والطائفية والفيدراليات، حولها المجتمع اليوم الى ما يناقض تلك المفاهيم، وهو ينتقي الان الاشخاص والقوى والتيارات، بناء على آليات جديدة، تسير صعدا نحو اعادة وجه العراق، ومكانه ونموذجه التاريخي، وهذه قضية لا يرى الكثيرون في الداخل، والجميع في الخارج، ابعادها وافاق تحققها في العراق، وفي المنطقة والعالم. وماقد لا يعيه اليوم الكثيرون، هو هذا الايقاع وقوة حضوره الحاسمة، مقارنة بالافكار والمواقف التي قد تستمد من مفاهيم عمومية، او مقرة بصورة مبدئية عامة، او مستمدة من تجارب سابقة، ولدت وهي تعاني من قصور، والاكثر خطورة هنا، هي مفاهيم احزاب وقوى، تعود الى مراحل تاريخية انتهت، بينما هي تصرعلى فرض تصوراتها، او من مواقف تيارات ذهنية، لا تملك حس التفاعل مع اللحظة، ولا مع تجليات الحقيقة الوطنية، والمشكلة التي ستواجه الموقف الوطني، هي احتمال عدم توافق هذه القوى، مع جوهر الايقاع الوطني الراهن. والاخطر هنا ان تستمر هذه القوى على ديدنها، وتصر على فرض تصوراتها وقناعاتها على الواقع، بدل ان تتعلم الاستجابة للحقائق التي يصنعها المجتمع اليوم، بحيث تصر على مفاهيم مبدئية وعمومية بما يخص، خيارات مثل المقاومة المسلحة بمفهومها العمومي، من دون ان تحاول مطابقة هذا المفهوم مع الواقع، ومع طبيعة العراق وخصائص وآليات مقاومته الشاملة، المتعددة الوجوه تاريخيا.

الوحدة الوطنية

والاكيد اليوم، ان المجتمع العراقي قد تجاوز قطعيا كل اشكال المقاومة التي تفتح ثغرات في الوحدة الوطنية يمكن ان يستغلها الاحتلال، اي كل صور المقاومة الجزئية، وهو بالمقابل يصنع انماطا من المقاومة وزخمها، مستندة الى الطاقات التي تطلقها قوة الوحدة الوطنية التي وجدناها هنا حية، في الشوارع والطرقات، في سهولة سيرنا في الطرقات في الواحدة صباحا، في التهذيب المبالغ به، والذي يجعلك تشك في صدقه، وتتساءل اذا كان مفتعلا ام انه نابع من اخوة مابعد طغيان الدماء والحقد الاهوج، كانت النفوس هادئة هدوء جلال الموت، لكنها ليست صامتة، وعلى ابي نؤاس، ظهرا سمعت شبانا يسيرون واحدهم يغني بصوت رخيم ومجروح وعال، كانه يتقصد اسماع الآخرين، عبر دجلة الهادئ المتطامن مابين الخضرة ولون السماء الازرق.

المقاومة اليوم تعني العودة الى العراق، والعمل على تكريس مفاهيم الديمقراطية التي تحقق متطلبات الوطنية، واولها السيادة الوطنية الكاملة، وتكريس مبادئ التعددية، وهذا طريق لايجب ان تمارس اية قوة خروجا عليه الان، نحن ندعو وسنباشر الدعوة الى عودة القوى الوطنية في الخارج الى العراق، كي تمارس دورها من موقع ' المعارضة ' فهذا هو الطريق الوحيد للمقاومة اليوم وفق الايقاع الوطني، لاحسب ما تقرره الاجندات الاقليمية، ولايوجد اليوم من طريق آخر، تستعاد به قوة العراق الوطنية، غير استعمال الديمقراطية من قبل المجتمع والقوى الحية من اجل احياء العراق، ولاسبيل لذلك غير الايمان العميق بمبدأ المشاركة، ونبذ مفاهيم الاحادية والجزئية، قبل الغزو رفعنا شعار ' التغيير من دون حرب '، وقلنا بأن الحرب سوف تؤدي الى الكارثة، وها هي الكارثة قد مرت، والجميع اكتشفوا الحقائق التاريخية الثابتة، والعراقيون استطاعوا الانتقال من الدكتاتورية والاحتلال، الى الافق الجديد نحو عراق الديمقراطية المكرسة للوحدة الوطنية، والطريق طويل، ومن يملك شرف الانتماء للمستقبل هو من يملك التوافق مع نبض العراق الحالي، ويؤسس بما يستطيع، للتطلعات البعيدة، لبلاد تطلعاتها لا يحدها حد، ولا يتعبها مسارها الصعب.

هل هذه حقبة اخرى من حقبات الصراع داخل العمل الوطني؟ نعم نحن نفتح اليوم بابا اخرى، ونافذة متواضعة، البعض قال لنا بانها خطرة، وانها سوف تثير ضدنا الكثيرين، ولكن ما هو دور القوى التي تعرف نفسها بانها حية، ولها مكان في عالم الحقيقة والتاريخ، خصوصا عندما تمر بلادها بلحظات مصيرية، لا بل موحية بالذهاب الى نهايات كارثية؟ الا ينبغي ان نجازف، وان نقرر مواجهة القضايا الحساسة من اجل المستقبل، نعم والا كيف نستحق ان نكون ابناء هذه البلاد المصطرعة مع ذاتها ابدا، والتي لاتعرف النكوص في دروب التاريخ، كيف نثبت انسجامنا، مع ما يقتضيه واجب صدم العقل السائد من اجل تغييره، كيف نذهب من عالم الكتابة الممل والانشائي، والسلوك المتوارث نحو ابداعية تليق بحالة بلادنا وتطلعات من ندعي الانتساب اليهم.

خلال اللقاء مع رئيس الوزراء المالكي، شردت للحظة متصورا الافاق الصعبة، التي ساضطر مع اخواني لان نواجهها منذ اليوم. فاكتشفت ورطة العمر، وتساءلت هل ما زالت الروح والجسد قادران على تحمل هذا الشوط؟ نظرت الى من هم معي بعطف ابوي، وفي اليوم التالي حين كنت اسير في قلب بغداد التي فارقتها منذ ثمانية عشر عاما، اكتشفت الوان الوجوه المعصورة من وقع الكوارث، وتشربت روح مبان متهالكة وخربة، لكنني احسست بين طيات هذا الخراب قوة لا مثيل لها، وتوثبا يحكي قصة المستحيل الازلية في قلب التاريخ، ومع ارتفاع اصوات المؤذنين في الظهيرة تذكرت نغما قديما، سقط من ايقاعات روحي بمرور السنين وصمت الظهيرة في الغربة، رفعت يدي ووضعتها على كتف احد الاخوة الذين جاءوا معي كانني احتمي به او احميه وقلت: هذه ارض تستحق ان نعود كي ننغرس فيها، وانعطفنا نحو الجسر ونحن نداري دموعنا، فطالعنا في الافق رف من الحمام، وانفتح دجلة نحو افق لا يعرفه الا العراقيون، نحن سنصعد مرة اخرى الى الذرى.

كاتب عراقي

القدس العربي