محاكمة صدام نموذجاً على سجال غائب
حازم صاغيّة
الحياة
2003/12/16

يقع السجال الافتراضي (هل يخوض فيه العرب؟) حول محاكمة صدام بين حدين:

- حد أول: أية محاكمة تبقى أفضل من اللامحاكمة في العهد الصدامي. مجرد أن يُفسح لصدام المجال للدفاع عن رأيه يعني ان حكم الاحتلال أقل سوءاً من حكمه.

الذين يرفضون الاحتلال تبقى صدقيتهم منقوصة إن لم يقولوا هذه الحقيقة بكل صراحة ووضوح. الكلام الخطابي عن "الشرف" و"الكرامة" و"العار" لن يخفف مأزقهم, خصوصاً وقد انتهى أحد أرباب هذا الكلام فأراً في حفرة!

- حد ثانٍ: ما ينبغي الدفاع عنه هو المحاكمة الدولية في الهايغ. الأسباب ثلاثة على الأقل:

إيكال الأمر إلى العدالة الدولية لأن صدام مجرم بحق الإنسانية.

تحرير مجرياتها ونتائجها من التدخل الأميركي واحتمالات الضغط لطمس ما قد يقوله صدام.

وتجنب حكم الإعدام الذي لن يمكن تجنبه إذا ما تُرك الأمر للعدالتين الأميركية والعراقية.

من لا يدفع بهذا الاتجاه (وهو, على الأرجح, اتجاه خاسر) يكون ولاؤه لأميركا أكبر من ولائه للعالم, وتكون رغبته في الثأر من صدام أعلى من حبه للعراق.

هذان الحدّان يوفّران مادة سجالية لن تظهر, في أغلب الظن, عربياً. لماذا؟ لقد سقط صدام, وحل الإحتلال, واكتُشفت المقابر الجماعية, وتبدّى الكذب في خصوص أسلحة الدمار الشامل, كما تبدّت الصعوبات التي يواجهها الأميركان, ومعها انكشفت مكامن ضعف النسيج الوطني العراقي. مع هذا لم ينشأ سجال واحد جدي يحاول أن يشرح أياً من هذه الظاهرات ويناقشها ويحدد المسؤولية عنها ويدعو الى منع تكرارها, أو الى مراكمة الخبرة التي تحول دون ذلك.

هذا ما تفعله الثقافات الحية. أما عندنا, فسمعنا صوتين: صوت العداء للأميركان وصوت التهليل لهم.

الصوت الأول يكاد ينفي المقابر الجماعية, ويكاد يشكك باستبدادية صدام, ويزعجه أن يُقال إن وضع الحريات في العراق أفضل بما لا يُقاس من قبل, كما يشعر "بالعار" لمعاملة رئيس عربي على النحو الذي عومل به صدام على أيدي الأميركان, ولا يشعر "بالعار" لأن صدام حكم شعباً عربياً من 25 مليوناً 11 سنة كنائب رئيس و24 سنة كرئيس.

والصوت الثاني لا يطيق الإشارة إلى أكاذيب الحرب, ولا الى صعوبات الاحتلال, كما لا يريد أن يسمع شيئاً عن مخاطر الوجود الأميركي في العراق على ثروة العراقيين, أو على الأوضاع الاقليمية التي يمكن أن تتأثّر بما يجري في ذاك البلد. وبالطبع, ففرضيته الدائمة أن العرب والمسلمين يُؤخذون كلاً بوصفهم مرشحين دائمين الى مكبّ النفايات, فيما الأميركان يؤخذون كلاً بوصفهم جسراً معبّداً إلى مستقبل منير للبشرية جمعاء.

إنها ثقافة قبائل متناحرة, تغرف كلها من بحر واحد. ثقافة تستعيض بالخطابة عن التحليل, وبمفاهيم "الشرف" و"العار" والإنشاء الأخلاقي عن السياسة والقانون. ومطالبة ثقافة كهذه بالسجال كمطالبة القبور بالربيع.