لقد بهرتني رؤية آية الله العظمى علي الحسيني السيستاني التي حددت الطريق الاخر، فتجاوز بها صدام حسين، وهزم جورج بوش على الارض نفسها، وبين الناس انفسهم، حيث تبقى الارض والناس، اما الاحوال فمتغيره، بعد سقطة السادات كان العراق بتراثه وثرائه وعنفوانه مؤهلا لاقالة العرب من عثرتهم، ولكن صدام حسين، كان بلا رؤية وان اتقن ضبط بيئة الحكم بارهاب الدولة، فلقد فشل في مؤاخاة العرب، واستنكف عن مشاركة شعبه، ومن لم يستطع تخويفه حاول شراءه، ولكنه انتهى مثل كل اساتذة التكتيك الذين يعيشون لساعاتهم، ولا يتركون خلفهم غير فراغ يحتار التاريخ في تصنيفه.
عندما قرعت الادارة الامريكية، ممثلة في الرئيس بوش ونائبه تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد وتابعهم مسلوب الارادة باول، طبول الحرب كانت الاسباب المعلنة لهذه الحرب عبارة عن مجموعة من الاكاذيب شكلت اهانة تاريخية للشعب الامريكي نفسه قبل الآخرين، لان حكومة بلاده قد استهانت به عندما استغفلته وخدعته بأنه قاب قوسين او ادنى من المحق والفناء بأسلحة الدمار الشامل العراقية التي لا وجود لها، ولعل العار الذي لحق بوزير الخارجية الاميركي كولن باول من جراء خطابه في مجلس الامن 5/2/2003القائم على مجموعة من التلفيقات والاكاذيب حول اسلحة الدمار الشامل العراقية، يقتضي منه ان يعتزل منصبه وينزوي عن الملأ.
ان كل الاسباب التي ساقها بوش لتبرير الحرب على العراق، والتي كررتها طعمة الادارة الاميركية ليل نهار، كاذبة، اما الدوافع الحقيقية لهذه الحرب فتتمثل في مجموعة من المصالح الامبريالية الضخمة، والمنافع الرخيصة التي يسعى الرئيس بوش وطغمته الى تحقيقها. اما المصالح الضخمة فهي احكام السيطرة السياسية والاقتصادية عن طريق الحرب او التهديد بها على منطقة الشرق الاوسط ومن ضمنها الاقطار العربية، لهدفين: الاول هو السيطرة على اضخم احتياطي للنفط في العالم، والثاني لضمان امن اسرائيل وتمكينها من تحقيق مطامعها التي لا حدود لها.
مع ان الولايات المتحدة لا تعتمد الا جزئيا على نفط الشرق الاوسط، الا ان سيطرتها على هذا النفط من حيث الانتاج والتحكم في سعره عبر اصدقائها في المنطقة، تأتي لدعم الاقتصاد الاميركي في وجه المنافسة الاوروبية واليابانية التي تعتمد صناعتها كليا على نفط الشرق الاوسط الذي اذا ما ارتفع سعره ارتفعت كلفة المنتوجات الصناعية في اوروبا واليابان، مما يفسح المجال لأميركا لتسويق انتاجها الصناعي، اما رشوة اسرائيل ويهود امريكا فتأتي في اطار سعي الرئيس بوش للفوز بفترة رئاسية ثانية بمساعدة اليهود.
وكما فعلت الغزوات الصليبية الاولى عندما تسترت بأهداف دينية مسيحية، وكانت في حقيقتها غزوا استعماريا للمنافذ التجارية في شرق البحر المتوسط، فان بوش يأبى الا ان يجعل من غزوه الامبريالي الذي مد حدود الامبراطورية الاميركية الى قلب اسيا، حرب صليبية ثانية باستهدافه للثقافة الاسلامية التي ترفض الغزو الصهيوني - الاميركي كأي حركة وطنية في العالم لا علاقة لها بالاسلام او بأي دين آخر.
اما المنافع الرخيصة (في معايير السلوك) والضخمة في عوائدها المالية فتتمثل في ارباح الشركات والمؤسسات الاميركية العملاقة ذات الصلة بنائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، من امثال شركات (هاليبورتون) و (بكتيل جروب) و (فلور كوربوريشن) و (بارسونز كوربوريشن) و (لويس بيرجر جروب) التي تحظى بعقود بمليارات الدولارات لاعادة الاعمار في العراق، بالاضافة الى شركات صنع الاسلحة التي تلتهم الميزانية العملاقة لوزارة الدفاع، وان العلاقة بين ادارة بوش الجمهورية والشركات العملاقة تقوم على المنافع المتبادلة فان الشركات تسهم في الانفاق على الحملات الانتخابية للحزب الجمهوري مقابل حصولها على معاملة تفضيلية من الادارة الاميركية.
عندما غزا جورج بوش العراق، لم يقل انه قادم لاقامة دعائم امبراطورية اميركية كونية، بل زعم بأنه رسول الديمقراطية جاء بها ليهبها للمحرومين، الذين استبد بهم حكامهم.
وحمل بوش رسالته الديمقراطية الى العراق على رؤوس الصواريخ الارضية والبحرية والجوية، وعلى ظهور الدبابات انها ديمقراطية على اسنة الرماح واشفار السيوف، وقال بوش للاميركيين بأن الديمقراطية التي سيجنيها الغزو والاحتلال في العراق سوف تحقق الامن لاميركا، وتقضي على الارهاب وتنشر السلام في الارض.
ولكن كل ما تجسد على الارض يقول بأن بوش قد حدث فكذب، ووعد فأخلف، لقد عم القتل والدمار في العراق، وازدادت كراهية اميركا بين شعوب العالم، وها هي الحكومة الاميركية تحذر رعاياها من السفر الى معظم اقطار العالم، وكلما مرّ يوم جديد تكبر اكاذيب بوش وتصبح اكثر وضوحا، فلا اسلحة دمار شامل في العراق، ولا علاقة خبيئة او مكشوفة بين صدام حسين واسامة بن لادن.
ان صدام حسين لم يغز الولايات المتحدة بأسلحة الدمار الشامل، ولكن الذي غزاها هو اية الله العظمى علي الحسيني السيستاني بالديمقراطية الحقيقية، ولسان الحال يقول من فمك ادنيك يا بوش، ان بوش الذي عصف بمجلس الامن وهو يقرع طبول الحرب، ولم يعر التفافا الى روسيا والصين، وحقّر حلفاءه الالمان والفرنسيين، وقف مرتبكا اما السيستاني الذي قال: المجلس المقبل يجب ان يكون من ابناء الشعب المنتخب، وفي تلميح للتوليفة الاميركية المرفوضة للعراق، قال المرجع الشيعي الاعلى خلال استقباله للناس في مقره في النجف، ان السلطة لكم لا لمن جاء من الخارج، لقد خرج عشرات الالاف من العراقيين الشيعة وغير الشيعة الى الشوارع لتأييد السيستاني في مطالبته بتشكيل حكومة عراقية عن طريق الانتخاب المباشر حتى تتصف بديمقراطية اكثر صدقا و شفافية.
ليس لدى السيستاني ما كان لدى صدام حسين من قوة وبطش وليس لدى ما لدى بوش من قوة السلاح واغراء المال وغواية المناصب، وانما هو الوثاق الطوعي الذي يربط الناس بالقائد، حيث يطالب لهم بالديمقراطية فيمنحونه التأييد: يا سيستاني سير .. سير .. نحن جنودك للتحرير. انها البصيرة النافذة ونبل المقصد، هذا كل ما لدى هذا الشيخ الجليل، فليس لديه اجهزة المخابرات وامن الدولة، ولا الاعلام الموجه، ولا المال العام الذي يبدده ليعزّ من شأنه ويذلّ من يشاء بغير حق، فما اسهل درس السيستاني لو نستوعبه، وما اعجب ان يفر الطاغوت الاميركي الى الامم المتحدة.

بقلم: محمد جلال عناية - صحيفة القدس تصدر في فلسطين
http://www.alquds.com/inside.php?opt=1&id=6720