النتائج 1 إلى 4 من 4
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    4,251

    افتراضي من تقاليد الشعوب

    جنازة الشاب غير المتزوج


    كان المجتمع الريفي التقليدي يعتبر موت أي شاب غير متزوج انقطاعا مفاجئا و غير طبيعي لدورة حياة الإنسان على الأرض التي تبدأ بالولادة وتتواصل بالزواج والإنجاب وتنتهي بالموت ... لذلك كان نبأ موت أحد الشبان ينقض كالصاعقة على أهل القرية ويغرقهم في أسى شديد .. ليس لأن المنية حصت روحه وهو في عنفوان شبابخ جاء فحسب بل وأيضا لأنها منعتهمن مواصلة دورة الحياة من خلال الزواج حالت دون أدائه المهمة الأساسية لوجوده الدنيوي ألا وهي الإنجاب ..فمثل هذه الحادثة لا يمكن إلا أن تكون نذير شؤم في نظرة المجتمع الريفي الشديد الالتزام بنظام الحياة الطبيعي سرعان ما حاول إعادة الأمور لى مسارها الطبيعي ولو بشكل رمزي فقط . ارتأى أن أمثل السبيل إلى ذلك هو أن يعتبر أن جنازة الشباب غير المتزوجين هي مبمثابة حفل زفافه وذلك أصبح يستعد لجنازة أولئك كما لو أنه يستعدو لحضور حفل زفافهم
    بعد موت أحد الشبان كانت نساء أسرته يخرجن من مخزن الملابس الأزياء التي كان الشاب يرتديها في أيام العيد و في الاحتفالات الشعبية و التي كانت والدته وأخواته قد صنعنها له ليوم زفافه .. وكن يخترن من بينها قميصا جديدا مطرزا ويحرصن على أن يكون بالجمال الذي يستحقه أي عريس في يوم زواجه وكن يلبسنه إياه ثم كن يضعن على رأسه القبعة المزينة بزهور أو بريش طاووس كقبعة العريس تماما .. أما الفتاة غير المتزوجة فكن يلبسنها أزياء التي ترتيدها أية فتاة في يوم زواجها كما كن يفككن ضفائر شعرها و يزينه بزهور و يضعن على رأسها تاجا من الزهور أو من أوراق اللبلاب ثم كن يغطين رأسها بحجاب رقيق و يلبسنها القميص الأبيض المطرز الطويل و التنورة المزركشة . وأخيرا كن يزينها بكل حليها و يضعن حول عنقه سلسلة النقود التي تتيزن بها الفتيات في يوم زفافهن .. أثناء حضوره جنازة فتاة عير متزوجة في إحدى القرى التي زارها في مطلع القرن العشرين اندهش الباحث سيميون من كثرة الأشياء الثمينة و الحلي التي كانت الفقيدة تدفن بها و سأل أحد القرويين لماذا يفعلون ذلك فقال له إن الأشياء الثمينة والحلي هي المهر الذي كان مخصوصا لها لتأخذه معها إلى بيت الزوجية فلتأخذه معها الآن إلى حيث هي ذاهبة ..
    في تشييع جنازة الشباب غير المتزوجين تزين شجرة الصنوبر التي تعد للفقيد كشجرة الزفاف التي يحملها أحد مساعدي العريس أو وكيله في الأعراس وهي مزينة بمناديل مطرزة و أشرطة من القماش الملون و قطع الخبز المضفر. ويقول الخبراء إن شجرة الصنوبر تصبح في الطقوس الجنائزية رمزا إلى شريك الحياة التي لم يتح للفقيد الزواج منه .. فبعد وفاة الشاب أو الشابة يشكل أصدقاءه وصديقاته من شباب القرية موكبا مثل موكب مساعدي العريس أو العروس ويذهبون إلى الغابة في الصباح الباكر ليجلبوا الشجرة وبعد قطعها يحملها أربعة شبان على أكتافهم بينما تصطف الفتيات خلفهم و في طريق العودة إلى القرية يترنمن أغنية تقول كلماتها أيتها الشجرة لا تحزن لأن هؤلاء الشبان سيغرسونك عند رأس شاب وسيم وأن دموع والدته لن تدعك تجفي . وبعد وصولهن إلى البيت يدخلن الغرفة التي يرقد فيها صيدقهم ويترنمن أغنية رثاء عميقة الدلالة لأنها تعبر نيابة عنه عن عدم إعجابه بالزوجة التي جاءوا له بها من الغابة لأنها كما تقول كلمات الأغنية طويلة و هزيلة و لان ثوبها مصنوع من قماش خشبي خشن .
    وفي مجالس العزاء يجتمع أصدقاء الفقيد الشاب من الشبان والفتيات في مواكب ولو كأنهم يجتمعون لتشكيل مواكب العريس و العروس ويذهبون إلى بيته حيث تبدأ الفتيات بالندب و البكاء عليه . وهن يفعلن ذلك يؤدين أيضا بعض الأغاني التي تختلف تماما عن تلك التي تؤدى رثاء للمتزوجين أو المسنين لأنها توجه إلى القيد الشاب الدعوة للاستعداد لعرسه وتقول كلمات إحدى الأغاني التي سمعها سيميون ماريان في مراسم جنازة شاب غير متزوج : انهض يا صديقي لا ترقد فهذا عرسك وقد جاءك أصدقاؤك .. انهض و اخرج لتختار من بينهم وكيلك .. وهذه طبعا إشارة إلى الوكيل الذي يختاره العريس من بين أصدقائه ليساعده على القيام بجميع الاستعدادات اللازمة لحفل الزفاف
    و في يوم تشييع الجنازة يرتدي شباب القرية من الفتيان و الفتيات أزياء العيد لكن الشبان لا يضعون قبعاتهم على رؤوسهم في حين أن الفتيات يفككن ضفائرهن و يتركن شعرهن ينسدل على أكتافهن ثم يجتمعون في بيت صديقهم الراحل لمرافقته إلى المقبرة .. فيمشي الشبان في مقدمة موكب المشيعين بجانب العربة التي تقله إلى المقبرة كما لو أنهم يرافقون عريسا إلى الكنيسة لعقد زواجه إذ يحمل أحدهم شجرة الصنوبر المزينة كشجرة العرس ويحمل كل واحد منهم منديلا مطرزا مثله مثل مساعد العريس تماما ولكن الكآبة والأسى يرتسمان على وجوههم بينما يؤدي العازفون الذين يصاحبونهم ألحانا حزينة ..في أيامنا هذه لا تزال جنازة الشباب غير المتزوجين تجري وفقا للطريقة التقليدية لاسيما في الأرياف
    إن نظرة المجتمع الريفي التقليدي إلى موت أحد الشبان على أنه عرسه تتجلى أيضا في الأدب الشعبي الذي يصفه مجازيا بأنه حفل زواجه من ملكة العالم . في قصيدة النعجة راعي غنم شابا يعلم أن رفاقه يريدون قتله للاستحواذ على قطعانه ويطلب من نعجته الساحرة القادرة على النطق بلغة البشر أن تخفي حقيقة موته عن والدته المسنة وأن تخبرها بأن ابنها تزوج من ملكة العالم و أن القمر كان اشبينه في حفل زواجه وأن الشمس كانت وصيفته وأن الجبال الشامخة كانت ضيوفه و أن أشجار الصنوبر الخضراء عزفت ألحان العرس له ..

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    4,251

    افتراضي

    [align=center] عصيدة القمح في مراسم التشييع[/align]


    تعرفنا في الحلقة السابقة على الممارسات التي تقام أثناء نقل جثمان الفقيد من منزله إلى الكنيسة .. وهاهم المشيعون في الكنيسة يحضرون قداس الجنازة قبل أن يذهبوا بالجثمان إلى المقبرة الواقعة عادة قرب الكنيسة .. أثناء القداس توزع على الحاضرين شموع و مناشف صغيرة .وكانت عائلة الفقيد قد أعدت جثمانه للدفن قبل بداية مجالس العزاء فكانت قد غسلته و ألبسته أجمل ملابسه وضعت في النعش بعض الأشياء البسيطة لعله يحتاجها في الآخرة ومنها مشط صغير و منشف ليمسح به وجهه إن تصبب عرقا أثناء رحلته المشاقة إلى الآخرة وكذلك بعض النقود ليدفع بها الفديات لحراس المعابر الذين سيوقفونه في الطريق .. وحال انتهاء قداس الجنازة ينقل الجثمان إلى القبر لدفنه .. وتنتهي مراسم الجنازة بدعوة توجهها أسرة الفقيد إلى المشيعين من الأقارب و الجيران و الأصدقاء لتناول الطعام في منزلها ولكن أول ما يفعله المشيعون فور خروجهم من المقبرة هو أن يغسلوا أيديهم و وجوههم بماء أول بئر يصادفونها في الطريق فيما يعتبره علماء التراث طقوسا تطهيريا للتخلص من الشر و الشؤم ..
    فور انتهاء مراسم الدفن توزع نساء عائلة الفقيد على الحاضرين حصصا من عصيدة القمح المحضرة خصيصا للجنازة .. توضع حصص الحصيدة في صحون من الفخار و توزع معها أيضا الملاعق اللازمة لتناولها .. كما يرسلن حصصا منها إلى أصدقاء الأسرة من أهل القرية الذين تعذر عليهم حضور الجنازة .. ما هي عصيدة القمح ولماذا تقدم في الجنازة ..
    يرتبط تاريخها ببداية العهد المسيحي إذ أن أول إشارة إلى تحضيرها و تناولها ظهرت بحدود عام 361 الميلادي تقريبا عندما يقال إن إمبراطور روما أراد إذلال المسيحيين و أمر محافظ القسطنطينية بتلطيخ كل الأطعمة الموجودة في الأسواق بدماء الحيوانات التي تم ذبحها فدى للآلهة الوثنية ولكن أحد الشفيعين نبه المسيحيين إلى ذلك ونصحهم بألا يشتروا أي شيء من السوق وأن يكتفوا بتناول القمح المسلوق و المحلى بالعسل . مع مرور الزمن تحولت عصيدة القمح إلى طعام طقوسي يقدم صدقة على أرواح الأموات في مناسبات عدة ابتداء بتشييع الجنازات و انتهاء بمختلف الأديان الدينية و الشعبية مرورا بالمواعيد المحددة في التقويمين الديني و الشعبي لإحياء ذكرى الأموات .. تحضر العصيدة من القمح المسلوق بالماء ثم تحلى بالعسل و السكر و تصب في صينية وتنثر عليها الجوز المفروم و قطع السكر الصغيرة .. يقول الخبراء إن عصيدة القمح ترمز إلى الإيمان بالحياة الدائمة و الخلود و القيامة فكما أن القمح الذي يحضر منه لا ينبت إلا بعد دفنه و تعفنه في التربة فإن الإنسان لا ينعم بالحياة الخالدة إلا بعد دفنه و تعفنه في التربة . نقل سيميون ماريان عن سكان القرى الواقعة في وسط وشرق البلاد التي زارها فير مطلع القرن العشرين أثناء بحوثه الميدانية اعتقادهم بأن حصيدة القمح تفتدي خطايا الفقيد وأن عدد حبات القمح فيها يساوي عدد خطاياه .. لذلك فعلى كل من يتسلم حصة من العصيدة أن يصلي راجيا الرب أن يغفر له كل خطاياه ..
    في شرح لمغزى حضور الأطعمة المحضرة من القمح أو دقيقه في مراسم الجنازة قال عالم التراث الأستاذ يون غينويو يشير في أحد بحوثه إن الإنسان كان يساوي قديما بين دورة حياة القمح من البذرة المزروعة في التربة إلى البذرة المحصودة بالمنجل وبين دورة حياة الإنسان من الولادة إلى الموت وكان يساوي أيضا بين دفن بذرة القمح في التربة أثناء زرعها وبين دفن الإنسان أثناء جنازته .. وفي تصور قديم كانت دورة حياة القمح من بين البذرة المزروعة والبذرة المحصودة رمزا لحياة الإنسان في الدنيا في حين أن دورة حياة البذرة بين حصادها بالمنجل و زرعها في التربة مجددا ترمز إلى حياة الإنسان في الآخرة ..ولذلك فإن المأكولات المحضرة من حبات القمح أو دقيقه كالعصيدة و الخبز المضفر تحولت على مدار العصور إلى أطعمة طقوسية و هي حاضرة في اللحظات الرئيسية في حياة الإنسان من الولادة إلى الموت
    بعد الجنازة تعود نساء أسرة الفقيد إلى المقبرة لزيارة القبر والاعتناء . إذا كانت عائلة الفقيد ميسورة تستبدل الصليب الخشبي البسيط الذي تم نصبه على القبر بعد انتهاء مراسم الدفن بآخر من الحجر ..و الحقيقة أن النصب المقام على القبر يعتبر مؤشرا على الحالة المادية للعائلة ومقامها في المجتمع .... و لكن الزائر للمقبرة يلاحظ أن كل القبور سواء كانت لأثرياء أو لفقراء مزينة بنبات دائم الخضرة كاللبلاب وبأشجار مثمرة و زهور .. إذا كان الهدف من زرع النباتات و الزهور على القبر جماليا بحتا إلا أن الأشجار المثمرة تساهم بثمارها في زيادة الصدقات المقدمة على روح الفقيد لزوار المقبرة .. ففي الماضي كانت النساء يذهبن إلى المقبرة في كل ليلة من الليالي الثلاث الأولى بعد الدفن وطيلة الأربعين يوما بعد موت قريبهن .. وفي كل مرة كن يحرقن البخور لطرد الأرواح الشريرة و كن يتركن على القبر خبزا ليأخذه أحد الفقراء ويأكله .. وأما في يومنا هذا فتعتاد عائلة الميت على زيارة القبر بعد أربعين يوما من الوفاة و كذلك في ذكرى الرحيل السنوية .. وفي كل هذه المناسبات تطلب من القس أن يقيم قداسا تأبينيا وتوزع صدقات على روح الميت وتدعو الأقارب و الأصدقاء إلى بيتها لتناول الطعام ..

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    4,251

    افتراضي

    [align=center]السهر بجانب الفقيد
    [/align]


    [align=center]
    مع حلول الليل تتحول مجالس العزاء إلى جلسات سهر بجانب الفقيد . تبدأ هذه الجلسات عند الغروب و تستمر حتى انبلاج الفجر . وقد صنفها الخبراء ضمن الممارسة الطقوسة المتأصلة في الاعتقادات الوثنية حول الموت و مصير الإنسان بعد مفارقته الحياة ..سنتعرف في الدقائق التالية على الطريقة التقليدية للسهر بجانب الفقيد وعلى المعتقدات السحيقة القدم التي حملت الناس غلى إقامتها.. تعتبر جلسات السهر بجانب الفقيد امتدادا ليليا لمجالس العزاء .. لعلكم تتساءلون لماذا شعر الناس بضرورة مواصلة تلك المجالس ليلا ..لقد بحث الخبراء في شؤون التراث هذه الممارسة في محاولة منهم لإيجاب تفسير لها. وأحدهم الباحث سيميون ماريان الذي حضر بنفسه مثل هذه السهرات في مختلف المناطق الرومانية ووجد لها أكثر من تفسير . فكان الناس من جهة يخشون اندلاع الحرائق أثناء الليل من الشموع المشتعلة حول النعش في حال ترك الفقيد وحيدا .ومن جهة أخرى كانوا لم يكونوا يقبلون أن تنطفي الشموع أثناء الليل ويبقى الفقيد في الظلام لذلك ضلوا يراقبونها طوال الليل ويشعلونها مجددا إن لزم ذلك .وأخيرا شاع بين الناس اعتقاد أن الفقيد لا يزال يرى ويسمع كل ما يحدث وإنه مسرور أن يرى الناس مجتمعين حوله في الأيام الأخيرة التي يمضيها في بيته الدنيوي . و ما يدل علىوجود مثل هذا الاعتقاد هو أن الفقيد كان يوضع في مكان يمكنه من الطلال على المعزين و الساهرين كما لو أنه جليس لهم في تلك المجالس والسهرات . ألا أن سيميون ماريان أبصر خلف كل هذه الأسباب الظاهرية دوافع أخرى مخفية في معتقدات وثنية مفادها أن الجثمان يصبح في الليلتين السابقتين لدفنه غنيمة سهلة المنال على الأرواح الشريرة التي تخيم على البيت وتحاول اختطافه أو حتى السكن فيه وكل هذه الأشياء يخشاه الناس لدرجة أنهم يتوافدون إلى بيت الفقيد لقضاء الليل بجانبه .. إذا كان الميت مسنا فإن السهر بجانبه كان يجري وسط أجواء خارجة عن المألوف و عارمة بالبهجة و الحيوية ..بخلاف مجالس العزاء التي كان يسودها الحزن و الأسى و الورع . فكان فناء البيت يمتلئ بعد الغروب بالشبان الذين كانوا يحضرون خصيصا للرقص و ممارسة مختلف الألعاب الشعبية طيلة الليل بينما كان المسنون يجلسون في البيت مع أسرة الفقيد وسائر المعزين و الساهرين .. وقد شهد سيميون ماريان تلك الألعاب ووصفها بالتفصيل في بحثه حيث قال إن أغلبيها تحاكي مشاهد من الحياة اليومية مركزة على المهن التقليدية لأهل القرية . وكانت تلك الألعاب تصور أيضا اللحظات الرئيسية في حياة الإنسان وخاصة الولادة و الزواج . أما في إحدى الرقصات فكان أحد الشبان يتقمص المنية و يدخل إلى الساهرين ويتظاهر بأنه يختار من بينهم غنيمته القادمة.. .. ومن خلال تلك الألعاب و الرقصات و ما تضمنته من عناصر طقوس الولادة و الزواج كان المجتمع الريفي يؤكد على أن الفقيد مر بجميع المراحل الطبيعية للحياة مجتازا كافة العتبات الفاصلة بينهما و أن وفاته ليس إلا واحدة من مراحلها و عتباتها وكلما أسلم مسن روحه كان الناس يقولون : لقد عاش عمره واستوفى رزقه .. وقد زار الباحث يون كونيا بعض القرى في جبال أبوسيني غرب رومانيا في ثلاثينات القرن الماضي وحضر فيها جلسات السهر بجانب الفقيد قوله إن الساهرين كانوا يرقصون و يمزحون و يضحكون كما لو أنهم في حفل زفاف . وفي رأي الأستاذ غينويو فإن هذا السلوك الذي قد يجده البعض بدائيا وغير معقول يعبر عن يقين الناس قديما من أن الموت يمهد لولادة جديدة و أن المجتمع سيرزق قريبا بمولود جديد عوضا عن الفقيد .. هنا لا بد من الإشارة إلى وجود تشابه كبير بين طقوس السهر بجانب الميت و طقوس تجدد الزمن التي كان تقام قديما احتفاء ببداية العام الجديد و التي تحولت على مدار الزمن إلى ما هي عليه سهرة رأس السنة في يومنا هذا .. وليس هذا التشابه إلا انعكاسا لرؤية القديمة التي تساوي تجدد الزمن في نهاية كل عام بحلول عام جديد بتجدد الحياة بعد موت كل إنسان بولادة مولود جديد .. ولا لم يفت الخبراء أن ما يجمع جلسات السهر بجانب الفقيد و سهرات رأس السنة هو أن كلتيهما تجريان في جنح الليل لأن الظلام هو الخلفية المناسبة لأية تحولات كبرى كما هي نهاية العام وبداية عام جيد أو نهاية الحياة و بداية حياة جديدة .. كما أن الأقنعة التي يتنكر بها الراقصون في طقوس رأس السنة تستخدم أيضا في الرقصات المؤداة أثناء السهر بجانب الفقيد . فقد وصف الباحث فكتور توفيسكو في الفترة ما بين الحربين العالميتين مثل هذه الرقصة التي قام بأدائها مجموعة من الشبان المتنكرين .. فكانت رؤوسهم مغطاة بأقنعة تمثل رؤوس الحيوانات البرية وكانت أجسادهم مكسوة بالفراء مثل الراقصين في مواكب لمعايدين في ليلة رأس السنة تماما ..ووكانت معهم فرقة من العازفين وكانوابتبادلون الحوارات الهزلية والاستجان من الحاضرين وحتى من الفقيد نفسه . وبحسب الأستاذ غينويو فلا تزال جلسات السهر بجانب الفقيد تقام على الطريقة التقليدية مع الرقص و الألعاب الشعبية في بعض المناطق الريفية في غرب و وسط رومانيا .. لكن هذه الرؤية التي تساوي الموت ببادرة حياة جديدة لا تنطبق سوى على رحيل المسنين من أفراد المجتمع باعتبار أن دورهم الدنيوي انتهى مع نضوجهم و إنجابهم وأنه حان الأوان لهم ليفسحوا المجال للشبان لمواصلة دورة الحياة .. وفقا لتصور قديم كانت مهمة الفرد تنتهي بإنجابه أبناء وكان بقاؤه قيد الحياة بعد ذلك الحين أمر لا فائدة منه لأن الحياة لا يمكن أن تستمر وتتجد إلا بالتعاقب المتواصل للولادة و الموت هاتين الظاهرتين المتناقضتين و المتقابلتين فيآن واحد .. ولكن الأمور كانت مختلفة تماما في حال وفاة شبان و فتيات قبل أن يتاح لهم الزواج و الإنجاب إذ كان المجتمع التقليدي يعتبر رحيلهم السابق لأوانه انقطاعا مفاجئا و غير طبيعي لدورة الحياة قبل استكمالهم مهمتهم الدنيوية .. ولذلك فإن طقوس جنازة الشباب من أعزاب و عذارى تختلف كثيرا عن طقوس جنازة البالغين المتزوجين و المسنين بما يتناسب مع اختلاف نظرة المجتمع التقليدي لرحيلهم المبكر عن الدنيا .. [/align]

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    4,251

    افتراضي

    [align=center]العزاء و الرثاء و الندب[/align]


    وفي أثناء ذلك تقوم نساء العائلة قد أنهين من إعداد الفقيد لمجاس العزاء .. فيلبسنه أجمل ملابسه و يغطينه بقماش ناعم منسوج في المنزل ويضعن الزهور و الشموع المشتعلة حول نعشه ..وطيلة الأيام الثلاثة التي تستغرقها مراسم العزاء كانت نساء العائلة أن يبكين على الفقيد ويلقين قصائد النبد عليه ويؤدينا أغاني الرثاء له.. وفقا للعرف السائد فإن البكاء على الفقيد واجب لا يغتفر لأحد التملص منه أو التهاون فيه لأن إظهار الحزن يعتبر دليلا على احترام الأحياء للفقيد وإكراما لذكراه .ولكن ماذا لو كانت نساء العائلة غير ماهرات في إلقاء قصائد الرثاء على نحو يعكس عمق أساهن وباقي أفراد الأسرة لرحيله .. في مثل هذه الحالة اقتضى الأمر أن تستعين نساء العائلة بمن هن أقدر و أعلم بفن الندب .. وهكذا ظهرت في القرى الرومانية الندابات المحترفات وبات الندب مهنة من المهن التقليدية في الأرياف . كان حضور الندابات الأسى وقعة ويشحن أجواء مجالس العزاء بالحزن .وإذا كانت أشعار الرثاء التي تلقينا نساء العائلة و القريبات في تلك المراسم مقتضبة إلا أن قصائد الرثاء التي يلقيها النادبات هي ثمرة إبداع في غاية البراعة إذ أنهن غالبا يكن بارع إذ أن الندابات غالبا كن مسنات حاذقات في نظم و إلقاء قصائد الرثاء.
    كانت الندابات يحضرن إلى منزل الفقيد بعيد زفاته ويصطحبن إحدى الفتيات الراغبات في تعلم فن الندب ..وكن أثناء إلقاء القصيدة يتلزمن بعدة محاور ففي ال بداية كن يمتدحن الفقيد و يثنين على ما عمله من خير في حياته و وفقا مقامه في المجتمع الريفي كن يثنين عليه أيضا على سعة علمه و رصانة نصيحته و عمق حكمته .. وهن يقلن ذلك كن يظهرن من الحزن و الأسى ما يجعل الحاضرين ينخرطون في البكاء حتى وإن لم يكونوا من أقارب الفقيد - على حد قول الباحث سيميون ماريان الذي شهد مراسم الرثاء أثناء جولاته في مختلف الأرياف الرومانية ..ثم كن يعربن عن تعاطفهن مع أفراد أسرته و أقاربه .. وفي حال كانت مكانة الفقيد في المجتمع مختلفة عما تتحدث عنه أغاني الرثاء المعروفة لديهن فلم تتوان الندابات في إبداع ما يتناسب مع مقامه أو عمره أو حالته المدنية و المادية .. وفي الختام كن يلمن المنية التي جاءت لتنتزع الفقيد من أحضان أحبته .. مما لا شك فيه مستمعينا الكرام أن أداء الندابات كان عرضا للغناء و الشعر الشعبيين امتزجت فيه العناصر المتوارثة مع المقاطع المقتضبة و المرتجلة التي كانت تضمن لأغاني الرثاء التجدد المستمر ..
    وكانت الندابات يؤدين أيضا أغاني رثاء ذات وظيفة تعويذية سحرية متميزة الهدف منها مساعدة الفقيد على القيام برحلته إلى الآخرة و الوصول إليها بكل أمان ..ويقول المؤرخ نياغو جوفارا في أحد بحوثه إن هذا النوع من أغاني الرثاء تتضمن مشاهد من الأساطير الوثنية القديمة التي تصف رحلة الإنسان بعد موته من الدنيا إلى الآخرة و وصوله عند العتبة بين العالمين التي عليه ازتيازها للمضي قدما إلى مقصده . ونجد بين أغاني الرثاء التي جمعها سيميون ماريان في مجالس العزاء ما يعكس هذه الرؤية بالذات فتقول أغنية إن رجلا قطع بعد موته أبعد المسافات قاصدا الآخرة فعبر غابة كثيفة والتقى في الطريق بالحيوانات المفترسة التي ساعدته على مواصلة الرحلة حتى وصل إلى ضفة نهر كبير هو العتبة الفاصلة بين العالمين ولكن مياه النهر كانت تبتلع أي كائن و تخفيه في أمواجها فخشي الرجل طوفانها لكنه عقد العزيمة على عبور النهر إلى العالم اآخر . فرأى شجرة صنوبر كبيرة على الضفة وقال لها :أيتها الشجرة كوني كشقيقتي و مدي لي أغصانك لأمشي عليها و أعبر النهر إلى الآخرة ..فقالت له : بين أغصاني تزحف الأفاعي لو مددتها غصني و حملتك لانهالت عليك الأفاعي الجائعة .. فقال لها الرجل : سأبعث إليك بشقيقي و رفاقه فيقطعونك و ينقشون جذعك و يجعلونه جسرا إلى الآخرة للأرواح التعبة .. ولما سمعته مالت الشجرة بأغصانها المتشابكة فوق النهر فعبره الرجل إلى مأواه الأخير ..
    اقتضى العرف السائد في المجتمع الريفي أن تلقى نساء العائلة و الندابات أشعار الرثاء ثلاث مرات في اليوم و في كل مرة لمدة نصف ساعة . كلما سمعنا الناقوس يقرع تكريما للفقيد خرجن إلى فناء البيت و واصلنا البكاء هذه المرة ليسمعهن الجيران ويفهموا أن الفقيد يلقى حقه من الندب و الرثاء ...في الغالب كانت مهمة الندابات تنتهي في يوم تشييع الجنازة إذ كن يرافقن موكب المشيعين من بيت الفقيد إلى المقبرة و هن ماضيات في الندب إلى أن يوضع النعش في القبر .. وكن يستلمن من عائلة الفقيد بالمقابل بعض الملابس التي كانت في حوزته ومناديل الرأس الجديدة
    ورغم أن الندابات المحترفات اختفين في القرى الرومانية إلا أن الندب لا يزال قائما ضمن مراسم تشييع الجنازة في الأرياف حيث فنلاحظ أن نساء عائلة الفقيد لا زلن يظهرن أساهن بلا قيد أو تحفظ و يندبن و يرثين بصوت عال و أن أقوالهن مستوحاة من أشعار الرثاء القديمة ..

المواضيع المتشابهه

  1. تقاليد التعارف قبل الزواج
    بواسطة احمد14 في المنتدى واحة التربية والتعليم والاسرة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-05-2009, 06:35
  2. شهر رمضان في السويد ، تقاليد شرقية ومحال مكتضة بالمتبضعين
    بواسطة إبن جبل عامل في المنتدى واحة الحوار العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-09-2008, 19:44
  3. امثال الشعوب
    بواسطة جنات القمر في المنتدى واحة الحوار العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02-02-2006, 20:15
  4. الحلم في حياة الشعوب
    بواسطة دجلة الخير في المنتدى واحة الحوار العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25-01-2004, 11:59
  5. من تقاليد وأعراف قبيلة شمَّر الأصيلة
    بواسطة جاسم الشمَّري في المنتدى واحة المضيف والتراث الشعبي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-10-2003, 21:01

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني