{ الطور الصبي* أنموذجاً }
{ هو الذي سكن عيون زرقاء اليمامة وتذكر عري عشتار وغناء المندائي روحي }

نعيم عبد مهلهل


1 ـ في الأديم البعيد . البعيد حتى نهاية الجفن تقع قريتنا في حافة الخارطة الرطبة من جنوب بلاد سومر حيث أول ما أعطانا الله : الأنبياء والشهداء . وبهم فزنا بالموت العظيم والفقر العظيم والأغنية العظيمة ..
في ذلك الأديم الغريني الذي يشبه قبلة عصفور لخد حبة الرز زرع المندائيون الروح المتفقهة والنقطة المتصوفة وأقاموا حدائق من كرستال النجوم وزرعوها على قراءاتنا الخلدونية *.
هم بظفائرهم الطويلة مثل حبال الضوء في الشمس الشتائية يصنعون بنظراتهم خلجات الروح ويبيعونها قلائد عطر في أسواق الحب
وما اشترينا لأننا فقراء!
الذين اشتروا فقط هم المستشرقون وقناصل الدول الكبرى ورئيس شركة الهند الشرقية
كان تراثهم عذبا كناقوط* الحب ..وشفافا كدمعة سيدة مندائية فقدت ولدها في الحرب
قراءناه بتفاصيل مشفوعة بتخيل أن الله صنع النور أولاً وبعده صنع أمهاتنا ..
أننا نراهن الآن يسبحن بجرف الشط ويغنين بطور الصبي أويلاه ..أويلاه
عمري شذرة خاتم
تذكرني زرقتها بحبيب الغائب في طرق الهجرة وحجابات الموت وصدر عشيقته
أويلاه ..أويلاه ..
هذا الطور التوراتي المنسوج بخيوط الذهب المعير‘ بلهفة شوق ورد النرجس للفراشة البيضاء
يدرك في ديمومته الروحية الشغل الشاغل من معاناة النفس وهي تبحث عن سرها بين أغاني البوب وغيتارات البيتلز وما تنطقه تينا جارلس بزنوجة قهر المذبوحين بسكاكين كولمبس
فأتذكر ضحكة رجل المارينيز
وأستغفر ربي ..واغني بالطور الصبي
{ أويلاه ..أويلاه .. على الحجي أويلاه
يلبسني قلائد
وينزعني قلائد
وفمه عندما أشمه ..
أشم الآه وياه
أويلاه على الحجي أويلاه ..}*
هذا شيء من عطر الأغنية وهي تصبغ روح الكون برداء الموسيقى
طور مندائي
وقف عند حدود التأمل في عيون إبراهيم
وانتهى بطور سيناء في مقدمة عصا موسى
يسحبني بلذته وجمال روحه
ويقودني إلى عذوبة السفر وأنا جالس في بيتي
حيث سقط المطر وخرت صريفتنا *
غير أن عباءة أمي وحنانها صارت لرجفتي بمظلة
وتحت هذه المظلة أسير الآن في شوارع باريس
وأنا في صريفة بيتي
أصافح خيال شيراك وأزور اللوفر واتحسس بنطال رامبو واهدي صبغا أسودا لشيب المتعجرفة باردو وأرمي لقططها سمكا من هور سوق الشيوخ.. ثم أعود مشيا إلى وطني
ولم أحفل بليلة سرير مع امرأة جميلة
أويلاه ..أويلاه
عذب هذا الطور ..
من شجن القصب أتى ومن صوت الناعور
عذب كقيامة شوق التأريخ لضحكة نابليون وفقه علي ونظرة حب يطلقها كاهننا الكنزفرا جبار
عذب حين تخلقه مداولات الصالونات واستوديوهات الموسيقى وقاعات اليونسكو
عذب حين يطل على وجد الذكرى ويصير كتابا أو قاموسا أو رسالة حب نبعثها من ليل فرات العشق الروحاني إلى كل فقراء العالم
وأولهم ضحايا توسينامي..
أو أولئك الذين قتلهم إرهاب السيف ببغداد
هكذا أتصور الأمر ويتصورني
أضعه عند حدود الأمل بإشراقة دمعة
ثم أصوغه شهقة فراش
وبعد ذلك أدخل غرفة إنعاش
وأنا تحت مخدر طور صبي يبدا ب : أويلاه ..أويلاه
هكذا ولدت تلك الأغنية الطينة وبرقت في ليل الهور كعيون زرقاء اليمامة
ومنها تخيل بيكاسو للسلام حمامة ..
وربما هي التي دفعت شاعرا عذبا كالنواب ليكتب الريل وحمد*
وربما بسببها أستشهد عبد الصمد
وهو ليس له في الكارون* نخله ..
هي أغنية مصنوعة بديالكتيك خاص..
أو انه طور نوراني وصوراني أتى من دهاليز الزمن
ليقول لكم أن بعض أشواق الله أغنية ..
وإلا لماذا أبتسم النبي حين أنشد أهل يثرب : طلع البدر علينا
هذا يعني أن في النشيد روحا عذبة ..
وهذا يعني أن الله يحب الأطوار الروحانية ومنها ما جعلنا نشتاق إلى رقص البط وأذان الجامع وصوت تراتيل المندي* ..
ونحن نسير بمساء ماطر في شتاء باريسي
يوم خرت علينا الصريفة
وكعصافير بللها القطر لذنا بعباءة والدتنا عفيفة
ألألألألألألألألألألألألألألألألألألألألألألألألأل ألألألألألألألألألألألألألألألأه
ــــــــــــــــ
الهوامش :
ــــــــ
* الطور الصبي : ضمة على الصاد وينسب إلى الطائفة الصابئية ـ المندائية وهو من أشهر الأطوار الغنائية الشعبية العراقية وولد كما في التأريخ وفق الرواية التالية : أن ناصر السعدون رئيس عشائر المنتفك وهو أمر متصرف لمدينة الناصرية والمسماة على أسمه والتي بناها الوالي العثماني مدحت باشا في عام 1873 م .قد أرسل على { روحي شعلان } وهو صابئي يسكن قضاء سوق الشيوخ في الناصرية جنوب العراق وكان حدادا وطلب منه أن يغني بيتا من الأبوذية وبسرعة وإلا قطع رأسه ..وشهر سيفه عليه فأرتجف { روحي شعلان } خوفا وقال : { أيا ويلي }..فنظم بيتا وغناه خوفا من قطع رأسه والبيت يقول :
{ جلد لاجن جفاني النوم جلداي
وحل اليوم بين الخلك جلداي
أغني لو يذر الشيخ جلداي
لو أمشي وتظل داري خليه }
ومن هذه الحادثة نشأ الطور الصبي والذي يبدأ { بيا ويلي } وقد غناه بإجادة تامة مطرب في الناصرية هو { جبار ونيسة } وكذلك المطرب حسين نعمة .