الشعر الشعبي ) بين السمو والانحطاط

حميد العقابي


مرة كنتُ أرقب عن قرب مشهد نسوة يستمعن في يوم العاشر من محرم إلى المقرئ عبد الزهرة الكعبي وهو يقرأ قصة مقتل الحسين ، وكان المقرئ يصف دخول علي الأكبر إلى ساحة المعركة ويذكر على لسان أبيه حديثاً مع الله حول الشبه ما بين ولده وبين رسول الله وكيف كانوا كلما اشتاقوا إلى رؤية رسول الله تطلعوا إلى وجه علي الأكبر بلغة مهذبة تخرج من روح ملتاعة ، فكانت النسوة يصرخن بهستيرية عجيبة ويبكين بمرارة ، علما بأن علي الأكبر لم يمت حتى تلك اللحظة بل كان يصول في أرض المعركة شامخاً يجندل العشرات من الأعداء ، وما أن قُتلَ وصرخ المقرئ مختنقاً بصوته واصفاً مشهد الحسين وهو يضع جثة ولده إلى جانب جثث آل بيته الأخرى ، كانت المفاجأة لي كبيرة حيث أن النسوة توقفن عن البكاء وكنت أتوقع العكس . بعد لحظات من التأمل وجدت أن تفسير الحالة لم يكن صعباً حتى بالنسبة إلى ذهن صبي كنته ، وهو تفسير فني له علاقة مباشرة باللغة ، فالفارق كان كبيراً ما بين لغة الحسين وهو يناجي الله في مشهد تراجيدي عميق تعرض المأساة بشكل غير مباشر ( بمعنى آخر لغة الفن ) وبين لغة المقرئ وهو يصف وضع جثة علي الأكبر بين جثث أخوته بعبارة مباشرة ركيكة ( جابه ومدده ما بين أخوته ) . كانت هذه الحادثة هي السبب في إقلاعي ( فطرياً ) عن كتابة الشعر الشعبي الذي مارست كتابته كحال أغلب شعراء جيلي في بداية طريقهم .

ذكرت هذه الحادثة لأشير ولا أضيف شيئاً جديداً حين أقول إن العلاقة وثيقة جداً بين اللغة والوعي ، ومن هنا تأتي خطورة ما يسمى بـ ( الشعر الشعبي ) .

لو تساهلنا قليلاً في دقة المصطلح وتواطأنا مع الشائع من المصطلحات الأدبية الأخرى ، لوجدنا أن الشعر الشعبي له مواصفات صارمة لا تقبل المساومة فبدونها لن تبقى له من قيمة ( فنية وجماهيرية ) بل لن يبقى له مبرر وجود وأهم هذه المواصفات ( غير اللغة المحكية والإيقاع والقافية ) هو قربه من المتلقي ( المستمع غالباً ) ، ويتعزز هذا القرب بعاملين جوهريين هما :

أولاً : الحسية ، وأعني أن المتلقي يتلقاه بحاسة السمع ( غالباً ) ويتسرب إلى شعوره سلساً فتنطلق كلمة ( اللــــــــه ) إعجاباً وترتفع وتستطيل ( كلمة الإعجاب ) كلما ارتفعت درجة استحسانه لقصيدة أو صورة فنية تستفز أو تلامس حواسه بعمق وهنا تبرز القصيدة العظيمة حينما تكون نابعة من مشاعر صادقة لشاعر أهيفَ الروح ، عذب اللسان ، دمث الأخلاق ، ولا تأتي هذه الصفات للشاعر اعتباطاً بل إنها تعتمد على ثقافة الشاعر وعمق تجربته الحياتية ( الإنسانية ) إضافة إلى الموهبة الأصيلة ، ولا وجود ( إطلاقاً ) للصور الذهنية أو التي تعتمد على اللعب اللغوي .

في فترة الستينات ظهر في العراق ( شعراء شعبيون ! ) أرادوا أن يقلدوا زملاءهم الشعراء الستينيين ببهلوانياتهم الطليعية وألعابهم اللغوية فأغرقوا شعرهم بصور ذهنية وسريالية صعبة ليس على حساسية المتلقي العادي بل إنها عصية حتى على القارئ ذي المران والخبرة على التلقي ، فبين يدي الآن مجموعة شعرية لشاعر ستيني له شهرة واسعة بين أوساط قراء الشعر الشعبي ، وجدت في هذه المجموعة عشرات الصور المغلقة التي تدعي القول ولا تقول غير الخواء مثل :

( عمري سيف معرّس يسافر بليل الصهيل )

فلو نظرنا إلى هذه الهلوسة الفظة وحاولنا أن نفكك صورها الثانوية ضمن الصورة الواحدة سنجد :

عمره سيف / كيف ؟ لا ندري . وما هو وجه التشابه أو العلاقة بين العمر والسيف ؟.

سيف معرّس / هل أراد أن يربط الشاعر بين الدم الذي يقطر من السيف ودم البكارة ؟ هنا تصبح الصورة مقرفة بهذا الربط .

سيف معرس يسافر / لماذا ؟ وإلى أين ؟

بليل الصهيل / ما هو ليل الصهيل ؟

في هذا المثال الذي ذكرته يهدم الشاعر بيده ركناً أساسياً من الأركان التي يستند عليها الشعر الشعبي ، فلم يعد شعبياً ، هذا إذا افترضنا أنه شعر .

ثانياً : الضمير


ولأن المتلقي ( أو الجمهور ) يشكل الضفة الثانية من نهر الشعر الشعبي ( وإلا لماذا سمي شعبياً ؟ ) لذا فأن الضمير لابد أن يكون ضمير الجمع وليس المفرد فينطلق من وإلى ذوات الآخرين معبراً عن أحاسيسهم كما هو الحال في الأغنية فعلى الرغم من أنها تنطق بضمير الفرد إلا أنها تعبر عن ضمير الجمع في الوقت نفسه ، وهنا أذكر مثالاً آخر لشاعر شعبي ستيني أراد أن يقلد أدونيس الذي أعلن أنه قادر على أن يخلق للأفعى أثداء أو أنه يمضي كالطوفان فجاء تقليد الشاعر الشعبي مثيراً للسخرية بل صارت قصيدته تذكر كنكتةٍ في المجالس ، حيث أن هذا الشاعر ( رحمه الله ) أعلن في مرحلة تتسم بالعجز والسوداوية بأنه قادر على أن يجعل من الجسر دبوساً :

( أقدر أسوي من الجسر دنبوس )

ذكرت هذين المثالين من شعر شاعرين لم يمدحا النظام العراقي الساقط ليس لأن أولئك المطبلين هم بلا ذوات أصلاً فحسب وإنما لأنهم سحقوا ضمير الفرد والجمع تحت حذاء الطاغية الفرد فلم يعد ما يتقيؤونه شعراً ولا شعبياً وإنما كلام يقال في ماخور :

( قول يا عزّ العرب

قول امشوا نمشي فوق المستحيل

قول موتوا نموت مانرد لك طلب )



********



صعد ( شاعر شعبي ! ) بجسد ضخم وشارب يغطي فتحة فمه ، أسند كوعيه على المنصة ماسكاً المايكرفون بكلتا يديه ، أدار عجيزته ربع دورة باتجاه الجمهور وسيده الذي كان حاضراً ، حرك عجيزته حركة تثير التقزز ثم انطلق صوته ذليلاً عاهراً :

" صدام فحل الزلم "

كنتُ أتوقع أن تثير هذه الحركة الاستهجان بل الغضب من بدوي تشكل الفحولة بمفهومها البدوي كل تفكيره ، خاصة وأنه يخطط لشن حرب تكون فيها مفردات البطولة والرجولة والشرف والشهامة ركائز يستند عليها الإعلام التعبوي لما تثيره هذه المفردات من وحشية في الكائن الغريزي ، لكن ما حدث العكس فقد أهدى السيد مسدساً لعبده ، وهنا لابد أن يتساءل المرء لماذا المسدس ؟ وهنا يجب أن نشير إلى الدهاء الكبير الذي امتاز به صدام حسين فلقد أبلى جميع الشعراء الشعبيين المهدى إليهم مسدسات بلاء ( ليس حسناً بالتأكيد ) ، وهنا السؤال لماذا تحول الشعراء الشعبيون إلى شرطة ومخبرين وقتلة ؟

هل للغة علاقة بالأخلاق ؟

لقد أدرك النظام العراقي الساقط ومنذ مجيئه للحكم بخطورة الأدب الشعبي ، لأنه كان يدرك خطورة الشعب أولاً ويدرك عزلته ثانياً ، لذلك أول ما سعى إليه هو تحجيم دور الأدب الشعبي الذي يعبر بصدق عن العمق الإنساني والثقافي للمجتمع العراقي وتشويهه لأنه يشكل دليلاً واضحاً على عزلة العصابة البدوية بأفرادها الذين ( جاءوا من الأطراف ، من تلك القرى الملقاة بالحرف الكبير على خرائط عسكريي العالم القاسي ، العواصم عبر بحر الروم كانت تُحكم الساعات ، والأجلافُ يندفعون من تلك القرى المتوحشات إليكِ ، أنتِ البنتُ في تلك الجرار السومرية . أنتِ ، أنتِ ، النبتةُ الخزف الجميلة في الجداريات . أنتِ الماء والأسماء .. لكنّ العواصمَ أحكمت توقيتها ... وأتى البُداة ) كما يقول شاعرنا سعدي يوسف في قصيدة ( إعلان سياحي عن حاج عمران ) .

أذكر هنا حادثتين كنت شاهداً عليهما :

في منتصف السبعينات حدث أمرٌ في أروقة المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون وامتدّ ليشمل مقاهي منطقة الصالحية حيث يلتقي المطربون وكتاب الأغاني وارتبك الموظفون والمسؤولون حينما جاءت مكالمة تلفونية غاضبة من مجلس قيادة الثورة بسبب أغنية بعنوان ( شضحيلك ) انتشرت في تلك الفترة ، تقول في إحدى مقاطعها :

( قلْ لي يا شباج أهزلك وأندعيلك

وشاندعيلك ؟ )

أحضر المطرب وكاتب الأغنية سريعاً وتم إعادة تسجيلها بحضور رئيس المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون ليتغير المقطع أعلاه إلى ( قل لي يا بيبان أدق لك واندعيلك ) وحينما بقي المقطع السابق هو الثابت في ذاكرة الناس منعت الأغنية .

بسهولة يدرك السامع الفارق ما بين المقطعين فالمقطع الأول له مدلول اجتماعي متجذر في ضمير الغالبية من المجتمع العراقي ، أشعرَ النظام البدوي القادم ( من الأطراف ، من تلك القرى الملقاة بالحرف الكبير على خرائط عسكريي العالم القاسي ) بعزلته .

أما الحادثة الثانية فهي سؤالي إلى مطرب ( أعدم لاحقاً ) عن سبب اتجاهه للغناء باللهجة البدوية وهو ابن مدينة الشطرة فأجابني بأنه غنى أغنية بدوية لغرض التنويع فاستدعي إلى مجلس قيادة الثورة وأمر بأن يتخذ من الغناء البدوي لوناً خاصاً به .

لقد كان يدرك النظام العراقي الساقط مبكراً بأن الأدب الشعبي هو المنفذ لتغيير جغرافية الروح العراقية وتشويهها ، كما فعل مع طوبوغرافية المكان من تعريب المناطق الكردية وتهجير مئات الألوف من العراقيين بحجة انتمائهم غير العراقي .

من هنا أقول (مع قليل من المبالغة ) إن أي حاكم لا يحفظ شيئاً من زهيريات الحاج زاير الدويج ولا يطرب لناصر حكيم وحضيري أبو عزيز ومحمد القبنجي لا يصلح أن يحكم العراق في المرحلة الحالية .

حميد العقابي
من مواليد عام 1956 الكــوت (العراق). غادر العراق نهايــة عام 1982 صدر له: "أقول احترس ايها الليلك" (1986)، "واقف بين يدي" (1987)، "بم التعلل" (1988)، " تضاريس الداخل" (1992)، "حديقـة جورج" (1994)، "وحدي سافرت غدا" (بالدنماركيـة1996)، "كمائن منتعظة" (ضمن كتاب "خمسة شعراء عراقيين" -1998)، "أصغي الى رمادي" (فصول من سيرة ذاتية - ‏2002) يقيم في الدنمارك
منذ عام 1985