مبادىء الحكـم على الآخر
من الأمور التي تحدّد طبيعة علاقة الإنسان بالإنسان الآخر، سواء كان قريباً في داخل العائلة أو بعيداً، هي أن على الإنسان أن لا يحكم على أيّ إنسان آخر إلا بعد أن يحرز الحجّة التامّة عليه، بحيث لو سُئِل أمام القضاء ما هي حجّتك في الحكم على هذا والحكم على ذاك، وفي تأكيد التهمة على هذا أو على ذاك، لأمكنه أن يقدم معطيات تقبل في القضاء، فتكون له حجة على ما يدّعيه وعلى ما يحكم به.
لأنّك إذا كنت تعرف أنه ليس بإمكان أحد أن ينسب إليك تهمة إلا بعد إقامة الدليل والحجة، وكنت تعلم أنك بريء، فلن تخاف من أية حالة من هذه الحالات، ففي العلاقات مثلاً، وهذه كثيراً ما تحصل، يمكن لإنسانٍ ما، قريب أو بعيد، أن يخبر الزوج عن زوجته بما يشكّل اتهاماً لها في شرفها وعرضها لأسباب شخصية قد تكون بعيدة كل البعد عن الواقع، ما يؤدي إلى خراب ذاك البيت الزوجي، وكل ذلك يعود إلى الأخذ بالتهمة دون التحقق من الدليل. لذلك على الإنسان أن يتأكّد من الحجة، لأنه سوف يحاسب عليها يوم القيامة، وذلك عندما يأتي بمفرده ليدافع عن نفسه أمام الله: {يوم تأتي كلُّ نفس تجادل عن نفسها} [النحل:111]، من دون أن يكون هناك أحد. وهكذا في ما يلتزمه الإنسان من خط، سواء كان خطاً سياسياً أو اجتماعياً ليتحرك على أساسه في الحياة.
أيضاً على الإنسان عندما يلتزم بأي التزام فكري يحدد من خلاله خطه الإيماني والعقيدي، أن لا يسير في هذا الخط إلا بعد أن يتأكد من أن هذا الأمر هو حقٌ يُعذر فيه أمام الله سبحانه وتعالى، وليس باطلاً، لأن الإنسان في كثير من الحالات في الانتماءات السياسية أو الاجتماعية قد يخضع للعاطفة، أي أنه قد يكون للإنسان صديق، والصديق يرتبط بصديقه عادةً من خلال العاطفة، فربما يوحي إليه صديقه بشيء أو يطلب منه أن ينتمي إلى الجهة التي ينتمي هو إليها، أو أن يؤمن بما يؤمن به، وصديقه ليس من الأشخاص الذين يملكون علماً أو خبرةً حتى يطمئن الإنسان لعلمه أو خبرته، لكن من المعروف أن الصديق يترك تأثيره على صديقه.
ولعلّنا في هذا الشرق نلاحظ أن الكثير من الانتماءات الحزبية والاجتماعية تنطلق من خلال تأثير الأصدقاء على بعضهم بعضاً أو تأثير الأقرباء على بعضهم بعضاً، وينشأ هذا التأثير من العاطفة التي تربط بينهم، كأن تتبع الزوجة زوجها في موقفه وانتمائه، أو الزوج قد يتبع الزوجة في هذا إذا كان لها تأثير عليه، ولكن كل هذا لا يمثّل حجةً يوم القيامة.
فمسألة الحجة من الأمور التي لا بد للإنسان أن يركزها في حياته، والسبب أن على كل إنسان أن يحترم عقله في ما يلتزم به، لأن العقل هو أساس الشخصية، وبقدر ما يملك الإنسان من عقل بقدر ما يكبر في شخصيته، واحترام العقل هو أن لا يُدخل الإنسان في عقله إلا ما يقابل الإنسان بها ربّه لا يقتنع به العقل على أساس الخط الفكري، بحيث يفكّر في الشيء في نفسه أو مع أصحاب الفكر ليقنع عقله بذلك وليلتزم به. وإذا خضع الإنسان للعاطفة، فمعنى ذلك أنه يصادر عقله ولا يحترمه، وأنه بذلك لا يحترم شخصيته.
لذلك إذا احترم الإنسان عقله باحترام انتمائه إلى خط من خطوط الإيمان والاعتقاد والالتزام، فإنه يحترم نفسه، وإلا فمعناه أنه يجعل نفسه في مهبّ الريح.
ومن الأمور التي ركّز عليها القرآن الكريم أيضاً، مسألة الانطباعات التي تحصل لدى الناس في تصوراتهم للناس الآخرين، فمثلاً أنت تحمل انطباعاً نتيجة حالة طارئة، أن فلاناً ليس جيداً أو أن فلاناً يكرهك وما أشبه ذلك.
يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات:12]، والظن يمثل الحالة النفسية التي لا ترتكز على أساس، وإنما تنطلق من خلال العناصر الشعورية والإحساسية التي تحدث في النفس نتيجة نظرة عابرة أو نتيجة حالة تلاحظها عن ذلك الشخص، قد تحتمل خيراً وقد تحتمل شراً، فتُغلِّب جانب الشر على جانب الخير، ومن الممكن أن تكون بعض الظنون صحيحة، ولكنها أيضاً في أكثر الأحيان قد تكون غير صحيحة.
لذلك اجتنبوا كثيراً من الظن، أي لا تعقدوا عقولكم وقلوبكم على بعض ما تظنونه بقدر ما يتعلق الأمر بانطباعاتكم بالأشخاص الآخرين، لأن بعض الظنون غير واقعية، وإذا تحوّلت إلى حكم، فإن هذا الحكم يكون ظالماً ويكون إثماً بالنسبة للإنسان، لأننا عندما ندرس انطباعاتنا عن الأشخاص، سواء كانت انطباعات سلبية أو إيجابية، نلاحظ أن كثيراً من الانطباعات هوائية، تنشأ على خلفية نظرة عابرة أو حالة طارئة أو نتيجة كلمة نسمعها تحتمل الخير والشر، وهذا يكون فيه ظلم للإنسان الآخر.
هناك تركيز في التربية الإسلامية على أنه إذا لم يكن لدى الإنسان تأكيد تام على موضوعٍ ما، فإنّ عليه أن يرجّح جانب الخير في الموضوع على جانب الشرّ فيه، فإذا حدثت أمام الإنسان حادثة ويصح حملها على الوجهين الخير والشر، فلا بد من حملها على الخير ما دام هناك محمل للخير، ولا يجوز الحمل على الشر إلا إذا تيقّن من ذلك، وهناك كلمة وردت عن الإمام علي(ع): "ضع أمر أخيك على أحسنه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً".
ومثال على ذلك، لو فرضنا أن شخصاً مرّ عليك وتكلّم بكلمة لم تفهم معناها، وهذه الكلمة يمكن أن تكون السلام عليكم، ويمكن أن يكون قد سبّك، عندها عليك أن تعتبره لم يسب ولكن ليس واجباً عليك أن ترد السلام، وهذه تنطلق من القاعدة الإنسانية الحضارية التي يرتكز العدل عليها، وهي "أنّ المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، يعني أنا لا أحكم على إنسان بأنه قتل فلاناً أو قتله عمداً إلا بعد أن يثبت القتل ببيّنة شرعية وبحجّة.
ولذلك عندما نرى شخصاً يحمل بيده سلاحاً ونرى شخصاً قتيلاً، فلا نجزم بأنّ فلاناً قتل فلاناً، لأنه يحتمل أن يكون شخص آخر قد قتله، وهذا أخذ السلاح من ذاك الشخص، أو كان في مقام الدفاع عن هذا، لنفرض أنه احتمال بنسبة 10%، فهذا الاحتمال يفترض أن لا تقول إنه قتله، لأنك لم ترَ أنه قتله، فإذا كان هناك احتمال نصبر حتى تقدَّم الحجج والبيّنات الشرعية، فيعرف هل أنه هو القاتل أو أن غيره القاتل. ولذا الآن لا يقولون "مجرم" إلا بعد الحكم، بل يقولون "متهم"، ولكن الذهنية العامة عندنا أننا نحكم على الإنسان بأنه مثلاً قتل أو زنى أو كذا، بمجرد بعض المظاهر.
الإسلام، أيُّها الأحبة، يريد أن يركِّز حياة المجتمع المسلم على أساس العدالة، والعدالة ترتكز على أساس أن لا يشهد الإنسان إلا على مثل ضوء الشمس، ولا يحكم إلا على مستوى ضوء الشمس. ومما يروى، أن شخصاً جاء إلى النبي(ص) وقال له: يا رسول الله، قد أُدعى إلى الشهادة على أي قضية، على ماذا أشهد؟ يقال إن النبي(ص) رفع رأسه إلى السماء في وقت الضحى وقت إشراق الشمس، قال(ص): "على مثل هذا فاشهد أو دع"، إذا لم يكن عندك وضوح بمستوى وضوح ضوء الشمس، فلا تشهد، اتركه، كم شخص منا يشهد على مثل ضوء الشمس، خصوصاً عندنا بعض الناس يأتي إلى صديقه أو قريبه، فيقول له إن القاضي يريد مني شهوداً، والصديق للصديق وقت الضيق، وأنت قريبـي وصديقي، تعال، لا أريد منك سوى كلمتين تنطق بهما أمام القاضي، وهو لم يرَ ولم يشاهد، فهذه الشهادة تعتبر شهادة زور، وشهادة الزور لا تبقي في البيت أحداً.
إنّ الله يعاقب على هذا، والله تعالى يقول: {والذين لا يشهدون الزور} [الفرقان:72] {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} [الحج:30]، والشارع يقول لك، لو فرضنا أنك شهدت وعلى أساس شهادتك حكم على هذا الإنسان بجزاء لا يستحقُّ الحكم عليه، أو أبْطل حقه، فإنّه إذا ما انكشفت المسألة، فإنّ الحكم الشرعي يخسرك كل ما خسره هذا الإنسان الذي شهدت ضده زوراً. الالتزام الإسلامي ليس فقط أن نصلي ونصوم وغيرها من العبادات، بل هو الخطوط التي تتصل بالعدل والاستقامة على الخط في العلاقات الإنسانية، لأننا سنرى نتائج ذلك مستقبلاً، عندما تعرض صحف الأعمال التي لا تترك كبيرة ولا صغيرة {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره} [الزلزلة:7-8]، والحمد لله رب العالمين .