اسم يستلطفه العراقيون وربما لا يدركون السبب في هذا الاستلطاف، فقد يكون من ناحية تضمن هذا الاسم شيئاً من الحنان، وحاجتنا إلى الحنان وجدانية. وقد تكون من ناحية التنحنح المتضمن إشعار المقابل بقدوم المتنحنح ليأخذ في استقباله والترحيب به على أحسن ما يكون. ومع ذلك فهو لا يخلو من سالبة من ناحية ثالثة لتضمنه معنى التنحي، أي الطرد والإبعاد، والأقرب إلى ذوق أهل العرف من العراقيين هو الأول منضماً إلى الثالث؛ فهو حنيحن من اجل أن ينحّي غيره ويطردهم عن سعيه.
ومن هنا فهو على الدوام هادئ الروع، ساكن الكلمة، ثقيل الفعل، يربض على قلوب الآخرين كسباً لودهم بداعي التحنن لهم، والتغرير بتقديرهم، وإذا طُلب لملمه فهو على هدوئه، رابضاً على سعي واندفاع الآخرين.
ومنه نعرف السبب في تنحيه الآخرين لدخول الحاء في إطار الكلمة ولولاها لكان حنين، وهذه اللفظة تعطي حزمة من الحنان للآخرين، ولكن من دون تنحيهم وقتل اندفاعهم كما يفعل لفظ حنيحن.
وعلى هذا يمكن إطلاق القاعدة التالية إذا كان المضمون على ما هو ممكن أن يطلق عليه أو يبرز له اسم حنيحن، وإذا كان اللفظ على هذه الصورة فهو متضمن المعنى المذكور، وحيث يكون اللفظ إبراز للمعنى والمضمون فالأصل هو المضمون، ويبقى اللفظ مبرزاً له، والنتيجة انه يمكن إطلاق اللفظ لكل من يتضمن هذا المضمون وإن لم يكن اسمه حنيحن.
وتذكرني هذه اللفظة بقصة لطيفة كانت ترويها لنا أيام الطفولة والصبا إحدى قريباتنا تغمدها الله برحمته، وهي في قصصها التي نأنس لسماعها ونفرح لسردها نستخدم ألفاظاً من قبيل: حلبوص، حنيحن، مسعدة، وكاعد حظها..الخ. وما بقي من صفحة ذهني ومن أوراق ذاكرتي القديمة من هذه القصص قصة حنيحن وفيها عبرة لم استوعبها إلا مؤخراً بعد مرور أكثر من عشرين سنة على سماعي للقصة.
أنها تستعمل هذه الألفاظ للصغار وقصار الحجم والقامة لا مطلق الصغار بل لخصوص من يحمل شيطنة أو يُحمل شيطنة أو يتصف بالبلادة، والقصير الذي لا يرغب إلا أن يكون طويلا عندما توحي إليه نفسه بأنه أطول من غيره.
المهم إن حنيحن كان فقيراً ومعدماً ويستعطف غيره رغيف الخبز حتى وصل إلى سن الزواج والإنجاب فهو يقف على بيوت الآخرين ملتمساً قراهم وقد يبكي إذا لم يصل إليه شيء من موائدهم ونقودهم وهو يمني نفسه الصبر ويحثها على الكسب، وفجأة اختفى حنيحن، وأضل الطريق، فالتقطته حيتان الأرض، وبدلاً من أكله اكّلوه وهيئوه لغاية في أنفسهم وحاجة في سعيهم، وقد وصل سعيهم النجاح وعملهم التفوق، فكبر حجمه وسما نجمه، وبرز اسمه، وقد واجه أبطالاً قد أكلتهم المنية أو خذلتهم الرعية، وابتلعهم السلطان، ولكنه على هدوئه وتحنحنه تاركاً لهم تنحية الآخرين من طريقه فاستعان بتنحنحه لكسب ود الآخرين واستظهر بتنحية حيتان الأرض منافسيه وحينما استقر له الحال واستفرد بالقرار، جاؤوا له بعجل سمين يأكل ما قدموه له وينهش فيهم أقرانه وذويه وقد قاموا له بفرح كبير ليعرفه فيه الصغير قبل الكبير، ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يطبلون له ويزمرون، حتى غدا وحيد دهره وفريد زمانه وهو مستغرب من وصوله إلى هذا الحال، ومنبهر بما آلت إليه الأمور، حيث اتسقت له وراح يصول ويجول.
وغفل أن ما يقدمون له هو سم بطيء يقتل كل شيء في طريقه ثم يبتلعه بعد حين، ثم مهدوا له طريق التواصل والاستمرار مع أقران له وأتراب، يغررون بهم العامة ويشيعون بأنهم وحدهم من لهم الكلمة الفصل والرأي الحتم.
وذات مرة ابتلع طوفان كبير القرية فأخذ يهلك نسلها ويخرب حرثها بدعوى التفتيش عن خطر موهوم، وقد هبت القرية عن بكرة أبيها تسأل حنيحن عن ماذا تفعل، فأغلق بابه، واعرض بجنابه عنهم قائلاً لهم: القرية قريتكم ولست منكم. فرجعوا يقلبون أيديهم أسفاً على قلوبهم الضعيفة ويقول لسان حالهم، أعطيناك الموالاة والطاعة واحترمنا قولك في الجماعة، وردتّنا من ساعة، حيرى لا نعرف ماذا نفعل وقريتنا تأكلها المجاعة.
وعندما استقر الطوفان، وسيطر على مواقع القرية، واحكم قبضته عليها، راح يخطط لإفساد أبناءها وتدمير ممتلكاتها، والضرب بقساوة لتمزيق وحدتها، فأبدع خدعة شيطانية حينما كسر وتد سرادقها، فانتفض بعض أبناءها يقتلون البعض الأخر، وهو في هدوئه بديع وعلى اتزانه ضليع قد استوعب الدرس فإن موقعه مع الطوفان مضمون ولا يهمه احترقت القرية أو تعافت، ذهب الطوفان أو يبقى، لأن المهم عنده تربعه على عرش العامة مستغلاً تنحنحه، وكاسباً ود الخاصة بحنانه.
ولما رأى أصحاب الطوفان إن اهتزازاً قد يحصل في القرية في أية لحظة، فتشوا لهم عن شركاء يديرون شأن القرية من خلالهم على أن لا ينسوا اخذ البركة من حنيحن، وأمل القرويون خيراً في وضعهم الجديد، وتركوا الفأس يحرث أرضهم لوحده، ويستعطي الجيران لرفده وقد فاتهم إن لم تكتف فستُذل وأية ذل والهرج والمرج يعم القرية، وحنيحن يقف ضاحكاً وقائلاً سنأكل ما تقدمون ولنا فيء قريتكم، وهنا توقفت قريبتنا العجوز رحمها الله وقد أخذها التعب والنعاس، وقالت في نهاية القصة أمر مخوف، وعندما تكبرون ستعرفون وإذا عرفتم فستسكنون، وإذا سكنتم فستتحيرون وإذا تحيرتم فستفسدون وإذا فسدتم فستحرم

نشرة النهج العدد 70